الدولة العباسية : المستظهر بالله
ترجمته:
بويع بالخلافة بعده ولده أبو العباس أحمد المستظهر باللَّه واستمر خليفة إلى أن توفي في 11 ربيع الآخرة سنة 512 فكانت خلافته 24 سنة وثلاثة أشهر و 11 يوماً وكانت سنه حين توفي 41 سنة وستة أشهر وستة أيام.
حال الممالك الإسلامية في عهده:
وكان بالأندلس والمغرب الأقصى دولة الملثمين والقائم بأمرهم يوسف بن تاشفين إلى سنة ثم من بعد ابنه علي إلى سنة 537.
وبافريقية من آل زيري تميم بن المعز بن باديس إلى سنة501 ثم يحيى بن تميم إلى سنة 509 ثم علي بن يحيى إلى سنة 515.
وبمصر من الفاطميين المستعلي أبو القاسم أحمد بن المستنصر معد إلى سنة 495 ثم الآمر بأحكام اللَّه علي المنصور بن المستعلي إلى سنة 524.
وبزبيد من الدولة النجاحية الأمير جيش بن نجاح سنة 498 ثم فاتك بن جيش إلى سنة 503 ثم منصور بن فاتك إلى سنة 517.
وبصنعاء ومهرة ظهر الأمير حاتم بن غاشم الهمذاني من سنة 492 إلى سنة 502 ثم عبد اللَّه بن حاتم إلى سنة 504 ثم معن بن حاتم إلى سنة 510 ثم هشام بن قبيط وحاتم بن حماص.
وما عدا ذلك من البلدان الإسلامية في آسيا فهو محكوم بدولة السلاجقة، كان المستظهر باللَّه من خيار بني العباس لين الجانب كريم الأخلاق يحب الاصطناع ويفعل الخير ويسارع إلى أعمال البر والمثوبات مشكور المساعي لا يرد مكرمة تطلب منه وكان كثير الوثوق بمن يوليه غير مصغ إلى سعاية ساع ولا ملتفت إلى قوله ولم يعرف منه تلون وانحلال عزم بأقوال أصحاب الأغراض وكانت أيامه أيام سرور لرعيته وكان إذا بلغه ذلك فرح به وسره وإذا تعرض سلطان أو نائب له إلى أذى أحد بالغ في إنكار ذلك والزجر عنه وكان حسن الخط جيد التوقيعات لا يقاربه فيها أحد وله شعر رقيق.
خطر المغرب:
كما كان اختلاف آل سلجوق وتفرق كلمتهم سبباً لنكبتهم بالباطنية كذلك كان سبباً لنكبتهم من المغرب بالحروب الصليبية وليس غرضنا الآن أن نشرح هذه الحروب شرحاً وافياً فإنها حوادث أجيال إذ قد استمر أمرها من سنة 490 إلى سنة 690 أي قرنين كاملين اشترك فيها من الدول الإسلامية الفاطمية بمصر ودولة السلاجقة ودول الأتابكية التي تفرعت عن السلاجقة ودول الأيوبية ودولة المماليك البحرية بمصر ولما كنا الآن في اقتصاص أحوال آل سلجوق نسوق من أخبار هذه الحروب ما ارتبط بتاريخهم.
امتد سلطان السلاجقة إلى بلاد الروم ( أرمينية والأناضول) وتأسست هناك دولة سلجوقية عظيمة الشأن بقونية واقصرا وما إليهما وأخذا بمخنق الروم فقصدوا كل حيلة في استرداد ما أخذ منهم لقوة الهاجمين وخافوا على ما بقي لهم من الأملاك في آسيا، وكان ملك السلاجقة الروميين في أيام تلك الحوادث السلطان قليج أرسلان داود بن قتلمش (485-500).
وكذلك امتد على بلاد سوريا وتأسست لهم بها دولة حاضرتها دمشق وكان سلطانها في هذه الحوادث السلطان رضوان بن تتش بن ألب أرسلان بينه وبين أخيه دقاق بن تتش حروب سببها المنافسة في الملك.
وكان خليفة مصر الفاطمي هو المستعلي باللَّه أبو القاسم أحمد بن المستنصر (487-495).
كان بيت المقدس مما ملكه تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان مؤسس الدولة السلجوقية بسوريا فأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التركماني فاستمر في حوزته إلى سنة 489 وهي السنة التي سار فيها الصليبيون قاصدين في الظاهر الاستيلاء عليه وتخليصه من أيدي هؤلاء المغتصبين.
وقد اضطربت كلمة المؤرخين من العرب في السبب الذي حدا بأولئك المغيرين إلى الخروج من بلادهم بهذه الشدة والكثرة فقال فريق منهم إن هذه الحملة كانت في الأصل موجهة إلى شمال أفريقية وكانت إذ ذاك تحت يد الدولة الزيرية والقائم بالأمر فيها تميم بن المعز بن باديس (453-501) وكان رجار الصقلي قد قام في عهده واستولى على صقلية وحارب تميماً في عقر داره حروباً كانت بينهما سجالاً ولما بلغ رجار ما عزم عليه الصليبيون لم يعجبه لأنه قال إذا وصلوا إليّ احتاج إلى كلفة كثيرة ومراكب تحملهم إلى افريقية وعساكر من عندي أيضاً فإن فتحوا البلاد كانت لهم وصارت المؤنة لهم من صقلية وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي وتأذيت بهم ويقول تميم غدرت ونقضت عهدي وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا وبلاد افريقية باقية لنا متى وجدنا قوة أخذناها ومن أجل ذلك أشار على هؤلاء المتحمسين بقصد بيت المقدس لأن الجهاد في تخليصه أعظم أثراً وأبقى فخراً.
وقال فريق آخر إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم وقد دخل بعضهم فعلاً إلى بلاد مصر لما رأوا ذلك خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الشام ليملكوه ويكون بينهم وبين المسلمين.
وقال فريق من غيرهم إن ملك الروم هو الذي دعا الفرنج إلى ذلك لما خاف على دولته من السلاجقة فإنهم كما أخافوا المصريين أخافوا الروم فكل من الفريقين خائف وجل.
والذي عليه جمهور المؤرخين أن الغيرة الدينية التي أثارها في أوروبا بطرس الراهب بمساعدة الباب أوربانس الثاني هي التي هاجت أنفس الإفرنج لهذه الإغارة.
وكل هذه الأسباب لا يبعدها العقل ولا يبعد أن يكون بعضها قد ساعد بعضاً والافرنج يميلون إلى جعلها حرباً دينية لا سياسية أثار غبارها ما كان من حمية الجاهلية في ذلك العصر.
زار بطرس الراهب البيت المقدس فعز عليه ما رآه من ملك المسلمين لهذا البيت الذي فيه آثار المسيح عليه السلام فعاد إلى أوربا شاكياً باكياً مستغيثاً متضرعاً واستعان بسلطان البابا أوربانس الثاني الذي كان إذ ذاك صاحب الكلمة العليا في أوروبا فأعانه وعقد المؤتمرات لبث الحمية الدينية في قلوب المسيحيين فنجح في ذلك ولا سيما أنه أعطى امتيازات لها قيمة لمن يتطوع في هذه الحرب فتألفت جيوش عظيمة سارت إلى طلبتها في 25 أغسطس سنة 1096 يقدمها بطرس الراهب وغيره إلا أن هذه الحملة لم تنجح في مسيرها لأنها لم تكن ذات نظام عسكري فعاثت في الأرض فساداً فقاومها البلغاريون والهونفريون وأفنوا كثيراً منها والذين تخلصوا وجازوا البحر عند القسطنطينية إلى آسيا أخذتهم سيوف السلطان قليج أرسلان عند قونية فلم ينج منهم أحد وهذه هي الحملة الأولى من الحرب الصليبية الأولى قامت على أثرها حملة أخرى وهي الحملة الثانية يقدمها غودا فرودي بوليون دوق دي لورين السفلى ومعه عدد وافر من قواد فرنسا والنمسا وجيش آخر يقدمه هوكز أخو ملك فرنسا ومعه عدد من القواد وجيش ثالث يقدمه بوهيمند أمير تارنت الإيطالي.
سارت هذه الجيوش ومرت بالقسطنطينية بعد خطوب نالتهم من ملك الروم اليكسيوس ثم عبرت المجاز قاصدة مدينة قونية التي كانت من أعمال قليج أرسلان وعددهم عظيم جداً فلقيهم ذلك السلطان مدافعاً عن ملكه فتغلب عليه الصليبيون لكثرة عددهم ثم حصروا قونية نحو خمسين يوماً وفي نهاية سلمت حامية هذه المدينة لكنها لم تسلم للصليبيين بل سلمت لقائد ملك الروم الذي أرسل مع الصليبيين لهذه الغاية وكان هذا العمل سبباً لغيظ قوادهم، أصاب هذا الجيش بعد ذلك نكبات شديدة جداً في مسيرة ففي كثير منه بالحرب والجوع والتعب والأوبئة والاختلاف الكبير بين القواد الذين كان لكل منهم مقصد في العلو والرفعة وقد انفصل عنهم وهم سائرون أحد القواد وهو بودوين وسار إلى الجزيرة الفراتيةفامتلك مدينة الرها وكانت للروم إذ ذاك.
صار القوم إلى أنطاكية وكان حاكمها أحد قواد السلجوقية باغيسيان فحصروها تسعة أشهر وظهر من شجاعة باغيسيان وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره فهلك أكثر الفرنج وبعد هذا الحصر استولوا على المدينة بخيانة أحد المستحفظين للأبراج الذي بذل له الافرنج مالاً وأقطاعاً وكان الإفرنج قد كاتبوا صاحب حلب ودمشق إننا لا نقصد غير البلاد التي كانت للروم لا نطلب سواها وإنما فعلوا ذلك معهم حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية وقد كان ما أرادوا. سار الإفرنج بعد ذلك إلى معرة النعمان فامتلكوها.
كان البيت المقدس في تلك الأيام قد خرج من حوزة السلاجقة وامتلكه المصريون فإنهم لما علموا بما أصاب الأتراك على أنطاكية أرسلوا جيشاً يقدمه الأفضل بن بدر الجمالي فاستولى عليه من يد الأمير سقمان بن أرتق التركماني واستناب فيه رجلاً يعرف بافتخار الدولة وهو الذي تلقى حملة الصليبيين الذين حضروا إليه بعد أن حصروا عكا ولم يقدروا على فتحها.
حصروا بيت المقدس نيفاً وأربعين ليلة وأخيراً استولوا عليه في يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة 492 ولم يكن منهم ما يحمد عليه المحارب الشجاع بل أساؤوا معاملة أهليه وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وورد المستنفرون من الشام في رمضان إلى بغداد بصحبة القاضي أبي سعيد الهروي فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون وأوجع القلوب وقاموا بالجامع يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا وأبكوا والسلطانان السلجوقيان بركياروق ومحمد إذ ذاك يتطاحنان يريد كل منهما الانفراد بالملك وإقصاء أخيه عنه.
ولما تم للإفرنج ما طلبوا من الاستيلاء على البيت المقدس انتخبوا القائد غودافر ليكون ملكاً هناك ولكنه لم يرض أن يلقب بلقب ملك بل بحامي قبر المسيح وأقام معه بعض الجنود ورحل سائرهم إلى أوطانهم.
وضع غودافر قانوناً لإدارة مملكته الجديدة إلا أن زمنه لم يطل فإنه توفي في 18 يوليو سنة 1100 فأقيم مقامه بودوين ملك الرها وشقيق غودافر وأعلم بذلك فقبله وأقام بدله في ملك الرها ابن عمه بودوين دي بورغ ملكاً على الرها وسار هو إلى حاضرة ملكه وهو المعروف في التواريخ العربية باسم بردويل.
هكذا وجدت مملكة افرنجية في وسط أملاك المسلمين لأول مرة ولم يتركها المسلمون براحة بال ولا هي تركتهم بل كانت الحروب متصلة بين الطرفين المصريون يناوشونهم من الجنوب والأتراك من الشرق.
ولم تكن المملكة الإفرنجية واحدة في البلاد التي استولوا عليها بل كانت جملة ممالك مملكة القدس وانطاكية والرها وغير ذلك إلا أن المملكة الكبرى كانت مملكة القدس.
وسنتكلم في حوادثها عند ظهور الدولة الأتابكية والدولة الأيوبية اللتين أججتا نار الحرب مع هؤلاء الإفرنج.