الدولة العثمانية : السلطان عبد الحميد الاول
السلطان عبد الحميد خان الأول ابن السلطان أحمد الثالث 1187 - 1203 هـ
جلس على تخت الخلافة العثمانية بعد أخيه وعمره خمسون سنة ولم ينعم بعطايا الجلوس عقب تقليده السيف كالمعتاد لعسر المالية واحتياج الدولة للأموال لتصرفها في حرب الروسيا وأبقى الصدر والوزراء في مراكزهم وقد انتهزت الروسيا فرصة موت السلطان وجلوس أخيه هذا وأرسلت الجنرال سواروف (SOUWAROW) مع جيش عرمرم إمداداً لجيش القائد العام المارشال رومانزوف ليزحف به على تخت الخلافة فأمر السلطان عند ذلك بتيسير الجيوش وتقدّم بها الصدر الأعظم محسن زاده محمد باشا وكانت الروس اجتازت نهر الطونة وقصدت وارنة فتلاقت مع الطليعة التي أرسلها الصدر من شمنى مع أغاة اليكجرية يكن محمد باشا ورئيس الكتاب عبد الرزاق باهر أفندي في جهة يقال لها قوزليجه.
وبعد حرب طويل انهزمت الطليعة المذكورة فاضطرب الجيش الذي مع الصدر وداخله الخوف ثم بعد قليل ظهرت طلائع جيش رومانزوف وكان استولى على كافة المواقع المهمة التي في طريق وارنة وتقهقرت جميع الجيوش العثمانية مظهرة التمرد والعصيان حتى لم يبق بمعسكر الصدر سوى اثني عشر ألف مقاتل ولما كان لا يصح القتال بجنود هذه صفتهم التزم الصدر الأعظم عند ذلك أن يطلب من المارشال رومانزوف (ROMANZOFF) توقيف القتال للمكالمة في الصلح وأرسل من جانبه مرخصين وهماً أحمد رسمي أفندي من الديوان الهمايوني ورئيس الكتاب إبراهيم أفندي إلى قصبة كوجك قينارجه من بلاد البلغار وفي ظرف ثمان ساعات تقررت شروط الصلح وأمضيت المعاهدة سنة 1188هـ - 1774م
وشروطها استقلال تاتار القريم وقوبان وبوجاق وبقاء ما يتعلق بامور الدين من خصائص الخلافة وترك يكي قلعة وقلعة كيرج وقلعة أزاق وأراضيها والبلاد الواقعة بين أوزي (DNIEPER) وآق صو (BUG) وقلعة كلبورن (KILBURN) للروسيا وينجلي الروس عن بلاد كرجستان ومكريليه (MINGLIE) والمملكتين وبوجاق (BESSARABIE) وتكون الحدود بين المملكتين نهر آق صو المذكور وإن تطلق للروسيا حربة الملاحة والتجارة بالبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط وأن تدفع الدولة العثمانية 15000 كيسة تضمينات حربية وتخرج الروسيا أساطيلها الموجودة بالبحر الأبيض المتوسط وتعيد للدولة الجزائر التي استولت عليها.
وأن يزاد امتياز بلاد المملكتين ويتأكد ويصير مبادلة الأسرى بين الطرفين وقد فتح البند السابع من هذه المصالحة ميداناً واسعاً للدسائس الروسية حيث منحهم حق حماية الدين النصراني وكنائسه ومن ذلك نتجت حرب سنة 1854م كما سيأتي وأن تعترف الدولة أيضاً بتقسيم بولونيا.
وقد التزمت الدولة بقبول ذلك اتباعاً لقاعدة الحكم لمن غلب وانتهت الحرب ونالت الروسيا أمانيها ولما كانت هذه الحروب وغيرها سببها مملكة اللهستان اتفقت مملكة بروسيا والروسيا والنمسا على تجزئتها بينهم 1186هـ-1772م وهذا هو التقسيم الأول الذي أعلن لملك بولونيا في 18 سبتمبر من السنة المذكورة.
محاربة الدولة لروسيا والنمسا 1201هـ:
لما استولت الروسيا على بلاد القريم عدت الدولة ذلك تعدياً عليها لمخالفته معاهدة فينارجه القاضية باستقلال القريم استقلالاً تاماً وهاجت عليها الأمة وكبر عليها الأمر فأخذت تخابر باقي الدول الأوروباوية لإيقاف الروسيا عند حدها وفي تلك الأثناء عزل سبعة صدور وأخيراً وجهت الصدارة لقوجه يوسف باشا الشهير 1201هـ وكان من أصحاب الحمية والغيرة والإقدام وهو وإن كان أمياً إلا أنه كان يستعين بأفكار أصحاب الآراء السديدة ويميل إليها وكان من الذين يريدون محاربة الروسيا التي لم تكتف بالاستيلاء على بلاد القريم بل إنها أرسلت سنة 1197هـ جيشاً وفتحت بعض جهات وتقاسمت بولونيا 1782م مع النمسا وبروسيا.
ثم استمرت المخابرات السياسية بين الدول الأوروباوية والدولة العثمانية لحل الخلاف بصورة سلمية ثم سعت فرانسا وكانت مشتغلة وقتئذ بالحرب مع إنكلترة بخصوص استقلال أمريكا بواسطة سفيرها بالآستانة لمنع الدولة من التوسط في الحرب لأنها لاتعود عليها إلا بالخسائر لأن كترينه كانت تستعد للحرب من زمن سيما وإنها أبرمت مع النمسا معاهدة سرية عند مقابلتها مع الإمبراطور يوسف الثاني في مدينة كرسون (KHERSON) 1784م وكان من مقتضاها الاتفاق على محاربة الدولة العلية وإن تساعد النمسا الروسيا على إنشاء مملكة في حدودها تكون حاجزاً بينها وبين الدولة العثمانية وتكون هذه المملكة من أقاليم الإفلاق والبغدان وبسارابيا وتعين لها حكمدارا أورثودوكسيا.
ثم تقسم بلاد الدولة بينهما في أوروبا وقد تأكدت أخبار الاتفاقية المذكورة في المحافل السياسية واستفحل أمر تعدي الروسيا خصوصاً عندما أخذت تحصن ميناسواتبول وتبنى دار صناعة عظيمة في ثغر كرسون وتشكل عمارة بحرية بما شيدته من السفن الحربية الجديدة الطرز في البحر الأسود ورأى الصدر الأعظم إن هذه الإجراآت هي تهديد واضح للسلطنة العثمانية وأخذ السفير الإنكليزي يحرض الدولة على إعلان الحرب على الروسيا ويؤكد لها استعداد دولته لمساعدتها بجميع سفنها وإنها تسعى لدى بولونيا والسويد حتى تجعلهما يعلنان الحرب على الروسيا.
فأرسلت الدولة بلاغاً إلى سفير الروسيا بالآستانة المسيو بولجاقوف تطلب منه مخابرة دولته في تسليم موروكرداتو أمير الإفلاق الذي التجأ إليها بعد أن شق عصا الطاعة وأن تتنازل عن حماية بلاد الكرج لأنها معدودة من أملاك الدولة وأن تعزل بعض القناصل الذين يهيجون الأهالي وأن يكون للدولة قناصل في ثغور البحر الأسود وأن يكون لها فيما بعد الحق في تفتيش السفن التجارية الروسية التي تمر من البوسفور والدردنيل.
ولما رفض السفير هذه الطلبات بأمر دولته قبضت الدولة عليه حسب المعتاد وسجنته في يدي قلة 1201هـ-1787م وأعلنت الحرب على الروسيا وكانت فرانسا تميل لسياسة الروسيا سراً أما دولة الأسوج وأهالي بولونيا وبروسيا فإنهم تعاهدوا مع الدولة لمساعدتها فكان غوستاف الثالث ملك السويد يريد انتهاز فرصة وقوع الحرب بين العثمانيين والروسيا ليعيد لبلاده ما أخذته الروسيا منها.
ولما كان مقام الجنرال بوتمكين غير متين في القريم أشار على الإمبراطورة كترينه بترك هذه البلاد خوفاً من سوء العاقبة لقلة المعدات الحربية والجنود لديه فلم تقبل الإمبراطورة ما عرضه الجنرال بل أمرته بالتقدّم نحو مدينتي بندرو أوزي لأخذهما فسار وحاصر أوزي ولما كانت النمسا حليفة للروسيا كما سبق أعلنت الحرب على الدولة أيضاً ولما حضر الغازي حسين باشا الجزائري القبودان العام من مأموريته إلى استانبول خطأ الصدر لإعلانه الحرب في هذا الوقت وقبح رأيه لأن الدولة كانت في حالة لا يمكنها معها مباشرة محاربة عظيمة كهذه سيما وأنه قد اشتهر اتفاق الدولتين معاً وهما الروسيا والنمسا على منازلتها.
ثم إن الصدر قاد الجيش بنفسه وتقدم لملاقاة جيوش الروسيا والنمسا 1202هـ-1787م وفي خلال ذلك أتت الإمبراطورة كترينة بذاتها إلى القريم مع جيشها وأتى الإمبراطور يوسف الثاني بجيش إلى حدود الدولة من جهة بلغراد ثم دارت رحى الحرب واستلم القبودان حسين باشا الجزائري قيادة الدوننما العثمانية ولما لم يكن لديه الوقت الكافي لمداركة النقص الموجود بالسفن جمع إليه كافة ربابين المراكب حتى غص بهم المكان وقام فيهم خطيباً مشجعاً منهضاً هممهم واعداً متوعداً ثم فرقهم على السفن.
محاربة أوزي البحرية:
لما صدر الأمر للأساطيل العثمانية سافرت قاصدة أوزي فوصلتها في السنة المذكورة واستقبلت أمامها ثم وجه القبودان باشا مراكبه الصغيرة الحربية القادرة على إجراء حركاتها البحرية بين الشعاب الصخرية وفي المياه القليلة العمق لمحاربة دوننما الروسيا المشكلة من صالات ومراكب صغيرة وكانت واقفة أمام رأس قيل ولما وقعت الحرب بينهما غرق للروسيين صال فيه مائة جندي وغرقت شالوية صغيرة للعثمانيين وكان بها سبعة عشر جندياً ثم بعد مضى أيام حملت العمارتان المذكورتان على بعضها فارتدت العمارة الروسية بعد أن تكبدت خسائر جسيمة بخلاف العمارة العثمانية فإنه لم يصبها ضرر يذكر.
ثم حصل هجوم ثالث وكانت سفن الروسيا اقتربت من الساحل بعد أن وضعت بين الشعاب الصخرية علامات لسهولة مرور سفنها الباقية وحملت المراكب العثمانية عليها وبينما كان العثمانيون يهتمون بطرد عساكر الروس من رأس قيل المذكور هجم عليهم الجنرال سواروف (SOUVAROF)بجيشه وبعد مقاومة شديدة ارتدت العساكر العثمانية بخسائر عظيمة ونزلت إلى السفن وسلطت القلعة التي أنشأها الروسيون برأس قيل نيرانها على العثمانيين الذين عند عودتهم وجدوا أن الروسيين نزعوا تلك العلامات من فوق الصخور وبهذه المكيدة لم يمكن للسفن العثمانية الاهتداء للطريق فشحطت فوق تلك الشعاب الصخرية وانهالت عليها نيران القلعة فدمرت غالبها.
ثم أتى البرنس ناسوسجن (NASSAU - SIEGEN) من نيقولايف ببعض سفن صغيرة من نوع البومبات والغامبوت والصنادل وهاجم بها المراكب العثمانية الصغيرة المذكورة ووقعت محاربة قوية قتل فيها كثير من العثمانيين وغرق فيها بعض مراكب للروسيين وقد تمكنت بعض شالويات العمارة العثمانية من إنقاذ كثير من بحارة الصنادل المرتطمة وضاع للعثمانيين بالمكان المذكور جميع مراكب الأسطول الخفيفة ولما شاهد القبودان باشا ذلك أمر بإبقاء الخمسة مراكب الصغيرة التي نجت وقام بالدوننما إلى جزيرة بيره زن ليبعث من هناك من يوصل الأخبار إلى استانبول.
محاربة بيلان اطه البحرية:
إنه بعد الواقعة المذكورة حضرت في العاشر من شهر ذي القعدة من السنة المذكورة مركب من مراكب القره قول العثماني وأخبرت القبودان باشا أن دوننما الروسيا قامت من مينا سواستوبول قاصدة جزيرة بيلان فأقلع في الحال لمقابلة هذه الدوننما التي لم يسبق لها الظهور في البحر الأسود مطلقاً وسبب ذلك أن البرنس ناسوسجن لما تولى قيادة أساطيل الروسيا بعد واقعة أوزى البسابقة أحب منازلة العثمانيين.
ولما رأى القبودان الغازي حسين باشا مجيء الدوننما الروسية أخذ يصف أساطيله وأرسل البطرونه باشا وسفن الصناجيق وخمسة غلالايين لمقابلة العدوّ بجوار ثييلان اطه SERPENT المذكورة ورتب سفنه ترتيباً حربياً وضع ثمانية غلايين تحت قيادة كل رئيس من رؤساء سفن الصناجق وأمرهم أن لا يفارق بعضهم بعضاً ثم تقدم الطرفان ولم تفتر همة القبودان العثماني عن الضرب والنزال بل تقدم بشجاعته وبسالته المعلومتين وأطلق مدافعه على سفائن العدوّ فأتلفت منها كثير من فرقاطات العدوّ من مدافع العثمانيين وظهر على الروس والعجز والخذلان كل ذلك قبل وصول ما تأخر من سفن العثمانيين.
ولما رأى الأميرال الروسي قوة العثمانيين ومهارتهم فر بما بقي معه من السفن فتعقبه العثمانيون حتى سواستبول والتجأ إلى ميناها محتميا بقلاعها وبعد أن حاصرت العمارة العثمانية سواحل تلك الجهات عدّة أيام عاد بها القبودان باشا إلى مينا سنه SULINA عند مدخل نهر الطونة وعند وصوله شكل مجلساً حربياً لمحاكمة الذين أظهروا الجبن والخيانة في هذه المحاربة فحكم عليهم بجزاآت قوية عقوبة لهم وعبرة لأقرانهم وطلب من الدولة مكافأة من أحسنوا الخدمة وسمى الغليون الذي أخذ من الروس في هذه الواقعة باسم خداويريد أي عطية الله.
ثم حاكم عمر قبودان الكريدلي وحكم عليه بالصلب على طرف سران مركبه السران طرف عود الشراع القائم على السارية .
والخلاصة أن القيودان باشا وأن اكان فقد سفن الدوننما الخفيفة في واقعة أوزي كما سبق إلا أنه انتصر على دوننما الروسية الجسيمة وعطل قواها بحيث اضطرها لأن لا تتصدّى بعد لمقابلة العثمانيين وبعد محاربة جزيرة بيلان هذه اهتم الغازي حسين باشا بإصلاح ما أصابه التلف من سفن العمارة وطلب إرسال عساكر بدل الذين ماتوا أو جرحوا وبعض مراكب حربية خفيفة أما الجنرال سواروف فكان شيد في خلال ذلك جملة استحكامات من جهة قيل برون وهاجمت الدوننما الروسية الخفيفة التي حضرت من نيقولايف تحت قيادة البرنس ناسو سجن قلعة أوزي وكانت تحت يد العثمانيين وكتب حسين باشا المذكور لاستانبول بأن ليس في إمكانه إمداد القلعة المذكورة قبل أن تصله السفن الخفيفة.
ولما قرب فصل الشتاء وكان معظم سفن الدوننما محتاجاً للإصلاح عاد إلى استانبول بعد أن تمكن من إمداد القلعة المذكورة بخمسة آلاف جندي بمهماتهم الحربية وذخائرهم السفرية وبينما كان القبودان باشا مشتغلاً بمحاربات الروسية تقدّم الصدر الأعظم بالجيوش إلى أدرنة وأحيل أمر الدفاع عن جهات الطونة على سر عسكر مدينة إسماعيل الصدر السابق شاهين علي باشا ولما تعذر تقدّم جيش الصدر الأعظم إلى ودين أرسل بعض الفرق لإمداد قومندانات أوزي وخوتين وبندر.
وكانت النمسا قد شيدت استحكامات في مضيق مهادية لمحاصرة بلغراد ثم عبر الصدر قوجه يوسف باشا بجيوشه الظنونة من جهتي ودين وبلغراد واستولى على بوغاز مهادية بعد أن قهر جيوش الإمبراطور وكاد يأخذه أسيراً وأخضع جميع جهات يانجوه واستولى على نحو ثمانين مدفعاً وعلى كثير من الآلات والأدوات الحربية 1203 هـ .
ولما رأى الإمبراطور هزيمة جنوده عاود ترك على جيشه الجنرال لورين وبينما كانت الجيوش العثمانية منصورة على النمسا كانت الروسيا منصورة على العمارة العثمانية كما تقدم ثم تقدّمت بجيوشها واستولت على بلاد بغدان وعلى كثير من القلاع والحصون كل ذلك ولم تبد دولة من دول أوروبا التي وعدت الدولة بالمساعدة اعتراضاً أو مساعدة وتكدر عموم الأهالي من المسلمين وتأثر السلطان جدّاً حتى أنه لم يمكث بعد ذلك طويلاً حيث توفي 12يوم رجب سنة 1203هـ-1789م .
وجلس بعهد ابن أخيه السلطان سليم خان الثالث وكان رحمه الله متصفاً بالتقوى والورع شفوقاً على الرعية ميالاً إلى إصلاح أمور الدولة حتى أنه كثيراً ما كان يحرض الوزراء على ذلك ويساعدهم بما يصل إليه الإمكان إذ ذاك.