الدولة العثمانية : السلطان بايزيد الثاني
السلطان الغازي بايزيد خان الثاني 886 - 918 هـ
لما توفى السلطان محمد الفاتح كان ابنه السلطان بايزيد في جهات أماسية حيث كان والياً فطار إليه الخبر ولما وصل إلى القسطنطينية وجد اليكجرية شقوا عصا الطاعة ونهبوا كثيراً من منازل الأغنياء وقتلوا الصدر الأعظم قرمانلي محمد باشا لأنه كان أخفى موت السلطان حتى يحضر ولي عهده ويجلس مكانه إلا أنه لم يحسن التدبير في ذلك، ويقال إنه كان أرسل أيضاً للأمير جم يعلمه سراً بموت أبيه لأنه كان يميل إليه فلما علم اليكجرية بذلك فعلوا ما فعلوا.
ومن حسن الطالع أن تمكن إسحاق باشا محافظ استانبول من تهدئة الخواطر بمبايعته الأمير قورقود من أولاد السلطان مبايعة وقتية حتى يحضر السلطان بايزيد ولما حضر السلطان بعد ثمانية أيام وجد الأحوال مضطربة فاجتهد في تسكينها ووعد اليكجرية بالعطايا والهبات ومن هذا الوقت وجدت عادة إعطاء الهبات والعطايا للجنود وضباطهم كلٌّ حسب مرتبته كلما جلس سلطان جديد وكانت هذه العادة سبباً لفتن كثيرة جلبت على الدولة مشاكل جمة ولقد كانت هذه الفعلة أوّل ظهور تمرد وطغيان الانكشارية.
وقائع الأمير جم:
أما الأمير جم وكان والي قونية فكان يطمع في السلطنة على انفراد أو يشارك أخاه فيها وكان كثير من أمراء الدولة وجنودها يميلون إليه ويرغبون له ذلك ولما عظمت عنده هذه الآمال شق عصا الطاعة على أخيه ثم التف عليه كثير من شيعته حتى صار له جيش عظيم وأخذ في شن الغارات وفتح القلاع فجهز السلطان عليه جيشاً تحت قيادة إياس باشا إلا أنه هزم هذه الجيش وأسر قائده وكثيراً من ضباطه ثم تقدم جم بجيشه وفتح بروسة واستقبلته سكانها بالترحاب وسلموه المدينة وبعد أن رتب أمورها استولى على البلاد المجاورة لها وكوّن من ذلك مملكة خطب له فيها على المنابر ورتب له وزراء وقواداً ولما علم السلطان بذلك خاف سوء العقبى واحتال وزراؤه لذلك بحيلة وهي أنهم اجتهدوا في استمالة مدير الأمير جم المدعو لالايعقوب ووعدوه ومنوه فنجحوا في قصدهم وبانحياز المدير المذكور ضعفت عساكر السلطان جم واستظهرت عليه جيوش السلطان بايزيد ثم هرب جم جريحاً إلى قونية ملتجئاً عند أولاد قرمان.
ولما علم أن الجيوش العثمانية تتعقبه أخذ اتباعه والتجأ إلى قايتباي ملك مصر إذ ذاك أما السلطان بايزيد فإن توجه إلى ديار القرمان واستولى عليها عقاباً لأمرائها على ما فعلوه من نصرة جم ثم عين ولده الأمير عبد لله والياً عليها ولما عاد إلى الإستانة عزل وزيره إسحاق باشا ونفاه إلى سلانيك وعين مكانه داود باشا صدراً أعظم وأخذ في ترتيب إدارة الدولة فنظم الباب العالي وعين للدولة أربعة وزراء.
وفي تلك الأثناء هاجم قاسم بك أمير قرمان السابق الأمير عبد الله الذي ولاه السلطان بلاده فأرسل السلطان عليه هرسك زاده أحمد باشا بجيش عظيم فاستظهر على قاسم بك المذكور وشتت شمله ولما عدم قاسم بك شيعته هرب إلى طرسوس وكان الأمير جم بعد التجائه إلى قايتباي ذهب إلى الحج وبعد عدوته سعى قايتباي في الصلح بينه وبين أخيه فلم يجد سعيه نفعاً ثم إن الأمير جم راسل قاسم بك المذكور واتفق معه على محاربة السلطان وتحزب معهما عدة أمراء فهزمهم السلطان بايزيد بقرب جبل طوروس بالجيش الذي أرسله صحبة كديك علي باشا ولما ضاقت الأرض في وجه الأمير جم أخذ يضرب في الأرض.
ثم ذهب أخيرأ إلى جزية رودس 1482م فتلقاه فرسانها بالترحاب وأنزلوه خير منزل وكان قبل ذلك سعى كثيراً في الصلح مع أخيه بشرط أن يمنحه بعض الاقطاعات فرفض هذا الطلب خوفاً من أن ذلك يؤدي إلى مالاً تحمد عاقبته ولما علم السلطان بالتجاء أخيه إلى فرسان رودس أرسل لهم رسولاً يطلب منهم إبقاء الأمير جم عندهم وعدم التصريح له بمبارحة الجزيرة المذكورة وفي مقابلة ذلك يتعهد لهم السلطان بعدم مس استقلالهم وأن يعطيهم سنوياً 45000 من الذهب فقبل رئيس الفرسان ذلك وقد وفى الفرسان بهذه الشروط ولم يصرحوا اللأمير جم بمبارحة الجزيرة وكذا لم يسلموا فيه حتى حينما طلبه ملك الجرو إمبراطور ألمانيا اللذان طلبا إطلاق سراحه للتشغيب به على الدولة العثمانية ولما خاف رئيس الفرسان من فراره أو أخذه منه بالقوة أرسله تحت الحفظ إلى مدينة نيس فأقام بها زمناً ثم نقل منها إلى مدينة سجري ومنها إلى غيرها مدّة سبع سنوات ثم إن رئيس الفرسان سلمه أخيراً 1489م إلى البابا أينوسان الثامن الذي خابر السلطان في ذلك وطلب منه أن يدفع إليه ما كان يدفعه لفرسان رودس بشرط أن يحافظ على الأمير جم فقبل السلطان منه ذلك وبقي الأمير جم عند هذا البابا حتى مات.
ومازال هذا الأمير جم مصاحباً الجيوش الفرنساوية حتى توفي في 21جمادى الآخرة سنة900 هـ 1495 م بمدينة نابولي ودفن ببلدة جابيت من أعمال إيطاليا وبعد ذلك نقلت جثته إلى بروسة ودفن في مقابر أجداده وكان سنة لما توفي36 سنة قضى منها نحو 13 في حالة تشبه الأسر وكان شاعراً لبيبا شهما ويقال إنه أصيب بالجنون في آخر حياته.
الوقائع في العهد المذكور:
لما حدثت الثورات والاضطرابات المتقدّمة بين مصر والاستانة انتهز البنادقة فرصة ذلك وأرسلوا أساطيلهم لمهاجمة سواحل الدولة العثمانية ولما تخلص السلطان من تلك المشاكل أصدر أمراً باستعداد العمارة وتجديد سفينتين طول كل واحدة منهما 180 قدماً وأن ينزل فيهما ألفا محارب خلاف ما بهما من الجنود البحرية لصدّ البنادقة عن تعدّياتهم ولما تمت المعدّات أقلعت الدوننمه 904هـ 1488م تحت قيادة القبودان داود باشا وكانت منقسمة إلى قسمين أحدهما تحت قيادة كمال رئيس والآخر تحت قيادة براق رئيس لطرد البنادقة من القلاع الباقية في يدهم بشبه جزيرة مورة ثم وصل المدد إلى قسم كمال رئيس حتى بلغت سفنه 300 سفينة مختلفة النوع والقدر وكانت عمارة البنادقة تحت إمارة أنطوني فريماني وكانت مركبة من 36 سفينة من نوع الغالي و 50 من نوع الغليون و 40 سفينة نقلية وبهذا كانت تفوق العمارة العثمانية قوّة وضخامة وعلى الأخص عندما انضم إليها أساطيل بعض الدول الأوروباوية البحرية التي صيرتها أعظم ما كانت عليه قبلا وكان رسوها أمام قلعة متون MODON الكائنة في شمال جزيرة سابيانجة بالجنوب الغربي من مورة وبقيت تلك العمارة في انتظار العمارة العثمانية حتى وصلت إلى تلك الجهة بعد مضي ثلاثة شهور من خروجها وعليها نيف و 2000 ألف مقاتل جميعهم قد تأهبوا للقتال وفاضت صدورهم بحب التشفي والانتقام من عدوّهم كما هو شأنهم وبعد وصولها بقيت عشرين يوماً بلا قتال ريثما أخذت كفايتها من المياه والذخائر ثم شكل كمال رئيس مجلساً حربياً من الأمراء للاتفاق على أحسن طريقة يمكن إتخاذها للقتال فتقرر بعد المداولة أن يحاربوا دوننما العدو قبل الدخول في جون أينه بختى L'EPANTES المدعو الآن بجون بتراس وبناء على ذلك تقدّمت الدوننما العثمانية وأخذت في إطلاق مدافعها على أساطيل البنادقة التي قابلتها بنيران قوية ثم حملت عليها والتحمت السفن ببعضها وكانت جيوش العثمانيين متشوقة للكفاح رغما عن التعب الذي صادفوه أثناء الطريق فما صدّقوا أن يروا رحى الحرب دائرة حتى انقضوا على عدوّهم انقضاضاً آذنه بالويل والدمار وبشره بسرعة الهزيمة والإنكسار.
وقد حدث أن بعض العثمانيين لم يستطع صبراً دون أن وثب داخلاً في سفن عمارة البنادقة والتصق بعساكرها وفتك فيهم فتكا شديداً فلم يكن إلا القليل من الزمن حتى لحق البنادقة ومساعديهم من العثمانيين ما لحقهم من الهزيمة وتمّ الانتصار لكمال رئيس واستولى على بعض سفنهم وأحرق البعض وأغرق البعض وانسحب الأميرال أنطوني فريماني بباقي سفن عمارته ورسا بها في فم جون أينه بختى فملم يشعر إلا والعمارة العثمانية مستعدة للحملة عليه ثانية ودخول الجون المذكور فلما رأى ذلك استعد لمقاومتها ولكن استعداده كان كحركة المذبوح فلم يجده نفعاً بل دخلت العمارة العثمانية الجون رغماً عنه وقام هو بمراكبه عائداً إلى عاصمة البنادقة خوفاً من ضياعها هي الأخرى فلما وصل العاصمة المذكورة وعرض لحكومته تقرير الواقعة عقدت له مجلساً حربياً لمحاكمته فحكم عليه بتجريده من رتبه ونزع العمارة من تحت قيادته وتسليمها لأميرال آخر يسمى تراويسانو.
وفي تلك الأثناء كان السلطان بايزيد تقدم بجيوشه براً إلى قلعة ابنه بختى فحاصرها وأمر العمارة بالحصار بحراً وبذلك سلمت القلعة ثم عادت الدوننما العثمانية بعد ذلك للاستانة لتمضية فصل الشتاء بها كالعادة السنوية وكان هرسك زاده أحمد باشا قائداً على الجيوش البرية ومعه مصطفى باشا وسنان باشا فعادوا بمعية السلطان إلى أدرنة وفي شتاء سنة905 هـ استوالت سفن البنادقة على جزيرة كفالونيا وهاجموا مينا برويزة واحرقوا بعض السفن العثمانية التي كانت راسية فيها.
ولما وصلت هذه الأخبار إلى الاستانة سير السلطان في سنة 906 هـ العمارة بحراً وأمرها بحصار قلعة متون السابق ذكرها ونهض هو بجيش عظيم براً من أدرنة إلى هذه القلعة وعند وصول العمارة إليها تلقاها الأميرال تراويسانو بأساطيل البنادقة فالتحم بينهما قتال عظيم جدّاً وأخيراً دارت الدائرة على الأميرال المذكور فعاد بالخيبة بعد أن خسر كثيراً من سفنه واستولت الدوننما العثمانية على سفينتين عظيمتين من سفن البنادقة أضافتهما إلى العمارة العثمانية واستولى العثمانيون أيضاً على قلعتي متون وقرون CORON ثم دخل السلطان مورة بجيوشه ولما رأى الأميرال تراويسانو ذلك قام فهجم على ميناناوارين واستولى عليها ومع ذلك فلم يمهله البطل كمال رئيس الشهير في الحروب الأندلسية بل تعقبه بثلاثين سفينة وحمل بها على أساطيله في ميناناوارين المذكورة وبعد فترة قصير من الزمن استولى على ثمان مراكب من أسطول البنادقة المذكور واسترد منها قلعة ناوارين فعاد الأميرال تراويسانو بعمارته منهزماً ومن شدة تأثره مما ناله من الخسران والانهزام أصيب بمرض شديد مات بسببه سيماو أن مثل هذا الانهزام كان السبب الوحيد في محاكمة سابقه وتجريده من رتبة وأن جمهورية البنادقة قد جعلته محل ثقتها وموضع الأمل بفوز عمارتها ونجاحها فلم يكن منه إلا خيبة المسعى وعكس ما كانت تأمله فيه.
وقد استمرت الدولة العثمانية في أيام بايزيد الثاني ملتزمة جانب السلم مع المالك المجاورة لها إلا أنها كانت لا تخلو عن فتن ومشاجرات داخلية لتعدد أجناس سكانها واختلاف نحلهم ومشاربهم ووجهتهم ولما كان هذا السلطان يميل إلى السلم والملاينة وديعاً يكره سفك الدماء بلا سبب استخف به جنوده وأولاده فكدرواصفو أيامه في آخر حياته وذلك أنه لما خاف منهم فرقهم في الولايات فعين الأمير قرقود بإحدى الولايات البعيدة والأمير أحمد على أماسيه والأمير سليمان وهو أصغرهم سناً على طرابزون وعين سليمان ابن ابنه سليم على كفة من بلاد القريم إلا أن سليمان لم يقبل بهذا المنصب لبعده عن مقر السلطنة وطلب من جدّه ولاية قريبة وبعد أخذ ورد عينه على مدينتي سمندرة وودين حقنا للدماء سنة 917هـ 1511 م .
ولما وصل خبر نجاح سليم لإخوته قاموا جهاراً على أبيهم فأرسل السلطان عليهم الجيوش فقمعتهم ولما كان الأمير سليم لم يكتف بمنصبه الجديد أيضاً سيما وأن اليكجرية كانوا يميلون إليه كثيراً قصد أردنة فاحتلها ونادوا به سلطاناً إلا أن والده لم يمهله بل جرد عليه حتى ألجأه إلى الفرار إلى بلاد القريم ثم سعى اليكجرية لدى السلطان حتى عفا عنه رضي برجوعه إلى سمندرة وبينما هو عائد إليها قابله اليكجرية وهونوا عليه الجلوس على تخت السلطانة فقبل منهم وساروا به إلى والده الذي لم يقدر في هذه المرة على المقاومة لتقدمه في السن وميل وكلاء الدولة عموماً إلى ولده بل التزم أن يتنازل له عن الملك وخلع نفسه وطلب أن يذهب إلى ديمتوقة ليمضي بها بقية أيامه وقد شيعه ابنه وسار بجانب عربته ماشياً مسافة طويلة إلا أنه لم يطل إليها بل مات في الطريق سنة 918هـ 1512م ويقال أنه مات مسموماً وسنهُ 67 سنة فنقلت جثته إلى الإستانة ودفن في تربته المخصوصة داخل جامعه وكان السلطان بايزيد لما ألح عليه وكلاء الدولة بانتخاب أحد أولاده للسلطنة لعدم مقدرته على تحمل مشاق الحروب ولتفاقم أخطار الشاه إسماعيل الصفوي الذي كان يهدد الدولة بالهجوم وقع اختياره على ولده الأمير أحمد ووافقه بعض الوكلاء على ذلك إلا أن اليكجرية هاجوا وماجوا وطلبوا تعيين السلطان سليم لاتصافه بعلو الهمة والجسارة وهجموا بعض بيوت الوزراء ونهبوها وعتد ذلك ألح الوكلاء على السلطان حتى قبل بتعيين ولده السلطان سليم.