الاحوال الشخصية : عقد الزواج

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


أركان العقد وشروطه وطرق إثباته وأنواعه:

أركان العقد وشروطه وطرق إثباته وأنواعه، وفيه:

 
الباب الأولْ: في أركان الزواج
 
وفيه مباحث: 

المبحث الأول: في صيغة العقد والألفاظ التي تتحقق بها

عقد الزواج له ركنان: الإيجاب والقبول.

والإيجاب هو ما صدر من أحد العاقدين أولاً دالاً على ما يريده من إنشاء العقد. ويسمى الشخص الذي صدر منه الإيجاب موجباً.

والقبول هو ما صدر ثانياً من الطرف الآخر دليلا على موافقته على ما أوجبه الأول. ويسمى الشخص الذي صدر منه القبول قابلاً. فأول الكلامين إيجاب سواء صدر من جانب الزوج أو من جانب الزوجة وسمي إيجاباً لأنه أوجد الالتزام، وسمي الثاني قبولاً، لأنه رضا بما في الأول من التزام وإلزام، وما فيه من التزام بالنسبة للقابل كان نتيجة لرضاه بما تضمنه قول الأول من إلزام.

ما يتحقق به الإيجاب والقبول:

الأصل في تحقق الإيجاب والقبول في عقد الزواج أن يكون بالعبارة، وقد يوجد أحدهما أو كلاهما بالإشارة أو الكتابة في بعض صوره.

ولما كان الأصل فيه هو الألفاظ عني الفقهاء ببيان الألفاظ التي ينعقد بها من ناحية مادتها وناحية صورتها.

أما الأولى: فقد اتفق الفقهاء على أنه ينعقد بكل لفظ مأخوذ من مادتي الزواج والنكاح، لأنه أكثر النصوص الواردة فيه جاءت بهما، كما اتفقوا على عدم انعقاده بألفاظ الإباحة والإحلال والإيداع والإعارة والرهن، لأنها لا تفيد التحليل والزواج من عقود التحليل، لأنه يفيد ملك المتعة للزوج.

وكذلك لا ينعقد بلفظ الوصية، لأنها وإن أفادت التمليك إلا أنه تمليك مضاف لما بعد الموت، والزواج يفيد التمليك في الحال، فلم توجد علاقة مسوغة لاستعمال لفظ الوصية في الزواج.

وكذلك لفظ الإجارة، لأنها وان أفادت ملك المنفعة في الحال إلا أنها شرعت مؤقتة بوقت معين والزواج شرع على الدوام والتأبيد، وكل تأقيت فيه يلحق به الفساد على الأصح.

واختلف الفقهاء فيما عدا ذلك من الألفاظ كالهبة والتمليك والبيع والصدقة والجعل:

ذهب الشافعية والحنابلة إلى منع انعقاده بهذه الألفاظ كلها وقصوره على لفظي النكاح والتزويج وما اشتق منهما كأنا متزوج مثلاً. مستندين إلى أن الزواج عقد له خطره إذ به تحل المرأة بعد أن كانت حراماً، وتثبت به الأنساب، ففيه ناحية تعبدية تجعلنا نتقيد بما ورد عن الشارع فيه من ألفاظ، ولم يرد في مواضع تشريعه في القرآن إلا بهذين اللفظين جاء ذلك في أكثر من عشرين آية منها { {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء :3] {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور :22] {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب : 37].

ومن هنا قالوا: إن المراد بكلمة الله في الحديث "واستحللتم فروجهن بكلمة الله" الزواج والنكاح، لأنهما الواردتان في القرآن فلا يصح أن يقاس غيرهما عليهما.

على أن الزواج مشروط فيه الشهادة فلا بد أن يكون اللفظ الذي يعقد به صريحاً حتى يعرف الشهود ما شهدوا عليه، أما غيرهما من الألفاظ فإنها لا تدل عليه إلا بالنية والقرينة، وقد يخفى ذلك على الشهود فلا تصح شهادتهم.

وذهب الحنفية إلى تصحيح استعمال هذه الألفاظ مع القرينة الدالة على أن المتكلم أراد بها الزواج كذكر المهر معها وإحضار الشهود وما شابه ذلك، لأن هذه الألفاظ تفيد تمليك العين في الحال ولا تقبل التوقيت، فإذا قالت المرأة للرجل: وهبت لك نفسي بمهر كذا أو ملكت نفسي أو جعلت لك نفسي بمهر قدره كذا، أو قال وليها ذلك وقبل الرجل ينعقد الزواج، لأن القرينة تعين المراد منها، وأنه لا يقصد بها حقيقتها، بل يقصد بها الزواج، وأي شخص يفهم منها الزواج إذا ذكر المهر مع حضور الناس الحفل المعد للزواج.

أما دعوى أن النصوص الشرعية لم تذكر في معرض تشريعة إلا لفظي النكاح والزواج فغير مسلمة، لأن القرآن ذكر لفظ الهبة أيضاً في مقام تشريعه في قوله سبحانه: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] ودعوى الخصوصية بالنبي غير مسلمة، لأن الخصوصية الثابتة له في هذا هي الزواج بدون مهر لا في خصوص لفظ الهبة، لأن الله قد قال بعد ذلك: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} ونفى الحرج عن رسول الله لا يكون في اختصاصه بعقد الزواج بلفظ خاص.

وهو أفصح الخلق على الإطلاق، وإنما يكون في تزويجه بدون مهر وصدر الآية يقول:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ...} إلى أن قال:

{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وهذا يفيد بمجموعه، أنا أحللنا لك الزواج بمهر وبغير مهر لكي لا يكون عليك حرج.

وقد وردت السنة بلفظ التمليك في قصة المرأة التي جاءت تعرض نفسها على النبي فأعرض عنها إلى أن قال أحد أصحابه. يا رسول الله إن لم يكن بك حاجة إليها فزوجنيها فسأله عن مهر يعطيه لها واعتذر بأنه لا يجد شيئاً. حتى قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "قد ملكتكها بما معك من القرآن".

وإذا ورد النص بهذين اللفظين فيكون ما يفيد معناهما مثلهما فلا وجه لمنع الزواج بهذه الألفاظ.

وذهب المالكية إلى التوسط بين المذهبين فأجازوا التزويج بلفظ الهبة إذا ذكر معها الصداق. كأن يقول طالب الزواج: هب لي ابنتك بمهر كذا، أو يقول ولي المرأة: وهبت لك ابنتي بمهر كذا، ويقول الآخر: قبلت.

قد يقال: إن الحديث روي برواية أخرى بلفظ زوجتكها فتكون تلك الرواية بالمعنى وهي لا تثبت مدعاكم.

والجواب: إن الراوي الذي رواها لو لم يكن يعلم أن لفظ "التمليك" ينعقد به النكاح شرعاً ما جاز له التعبير به عن التزويج. والله أعلم.

ويرى بعض فقهاء المالكية أنه يصح بألفاظ أخرى من كل ما يدل على البقاء مدة الحياة كتصدقت ومنحت وبعت وملكت وأعطيت.

- هل يشترط في صيغة الزواج أن تكون باللغة العربية؟

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه ليس بشرط فينعقد بهذه الألفاظ بأي لغة كانت عربية، أو غير عربية سواء كان العاقدان قادرين على العربية أو عاجزين عنها، لأن المقصود هو التعبير الواضح عن إرادة العاقدين. وهو يصح بأي لغة.

وذهب الشافعية في قول إلى أنه شرط فلا يجوز للقادر على العربية أن يعقده بغيرها. لأن الزواج فيه ناحية تعبّد فأشبه الصلاة فكما أنها لا تصح بغير العربية للقادر عليها فكذلك الزواج، ولأنه لم يشرع إلا بلفظين ورد بهما القرآن فترك العربية إلى غيرها ترك المشروع إلى غيره فلا يصح، أما العاجز عنها فقد قام العذر في جانبه وصار كالأخرس.

وإذا كان أحد العاقدين يحسن العربية والآخر لا يحسنها. فمن جوز للقادر على العربية التعبير بغيرها يجوز هنا لهما التعبير بغير العربية، ومن منع يقول: إن من يحسن العربية يعبر بها لقدرته عليها ومن لا يحسنها يعبر بلغته لقيام العذر في جانبه فسقط عنه كالأخرس.

ثم يشترك في الشهود عند ذلك معرفة لغتيهما، فان كان كل منهما يجهل لغة الآخر ترجم بينهما مترجم يعرف لغتهما.

وبعد ذلك لا يشترط في اللغة التي ينعقد بها الزواج أن تكون هي الفصحى، بل يصح بها وبغيرها كالعامية فيصح أن يقول جوزني وجوزتك بدل زوجني وزوجتك.

صيغة العقد:

قرر فقهاء الحنفية أن عقد الزواج يكون بلفظين ماضين أو بلفظين أحدهما ماض والآخر للحال أو الاستقبال، لأن القرينة السابقة مانعة من احتمال معنى آخر غير إنشاء العقد.

على أن إحضار الشهود وإعداد الحفل ودعوة الناس غالباً قرينة أخرى تؤكد إرادة إنشاء العقد بقوله زوجني نفسك أو أتزوجك.

فلو قال الرجل لولي المرأة: تزوجني ابنتك بصيغة المضارع فقال له: زوجتكها تم العقد دون حاجة إلى عبارة أخرى، وكذلك لو قال بصيغة الأمر: كزوجني أختك إذا قصد بها إنشاء العقد لا مجرد طلب الوعد أو تعرف رغبته ومثل ذلك لو كان الباديء المرأة أو وليها.


المبحث الثاني: انعقاد الزواج بغير الكلام

إذا كان العاقدان في مجلس واحد وكانا قادرين على الكلام فلا ينعقد الزواج بينهما إلا به، فلا ينعقد بالكتابة، لأنه يشترط في صحته حضور الشهود وسماعهما كلام العاقدين عند جماهير الفقهاء، وهذا لا يتيسر في الكتابة، ولأن عقد الزواج أساسه العلنية دون السرية وبالكتابة يكون سراً، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإعلانه فيقول: "أعلنوا هذا النكاح".

وإذا لم ينعقد بالكتابة فأولى ألا ينعقد في هذه الحالة بالإشارة لأنها أضعف في بيانها من الكتابة.

وأما العاجز عن الكلام كالأخرس. فإن كان لا يحسن الكتابة ينعقد بإشارته المعروفة بالاتفاق بين الفقهاء، لأنه لا سبيل له في التعبير عن إرادته إلا بها، ولا يزوجه وليه إن كان بالغاً، لأن الخرس كالصمم لا يوجب الحجر عليه.

وإذا كان يحسن الكتابة فهل يصح عقده؟.

ذهب الحنفية إلى روايتين:

إحداهما: أنه ينعقد، لأن الأصل في العقد أن يكون بالكلام، فإذا عجز عنه طلب معرفة غرضه بأي وسيلة، ويستوي في ذلك الإشارة والكتابة لأنهما يدلان على مراده.

وثانيهما: أنه لا ينعقد بالإشارة بل لا بد من الكتابة، لأنها أقوى بياناً من الإشارة حيث يعرفها كل من يقرأ، بخلاف الإشارة فانه لا يعرفها إلا القليل، وإذا لم يتساويا اعتبر الأقوى.

وإذا لم يكن الطرفان في مكان واحد جاز أن يكون أحد شطري العقد بالكتابة وهو الإيجاب.كأن يكتب مريد الزواج إلى الطرف الآخر كتاباً يتضمن عبارة الإيجاب. مثل زوجيني نفسك أو تزوجتك، فإذا وصل الكتاب إليها قرأت الكتاب أمام شاهدين أو أخبرتهما بمضمونه. كأن تقول "إن فلاناً أرسل إلي يطلب الزواج مني وأنا أشهد كما أنني قبلت زواجه، فإذا سمع الشاهدان الإيجاب والقبول تم العقد، ولو سمعا قبولها فقط دون الإيجاب لا يصح العقد، لأن الشرط السماع للإيجاب والقبول.

ومثل الكتابة في هذا إرسال الرسول الذي يبلغ إيجاب الموجب، فلو أرسل شخص رسولاً لامرأة ليبلغها أنه يقول لها: تزوجتك أو زوجيني نفسك فتقول: قبلت زواجه أو زوجته نفسي تَمَّ العقد إذا كان أمام شاهدين سمعا كلام الرسول بالإيجاب وقبولها في مجلس تبليغ الرسالة.

ولا خلاف بين الفقهاء في أن الزواج لا ينعقد بالأفعال، كأن تقول امرأة لرجل زوجتك نفسي بمائة دينار مثلاً فيدفعها إليها الرجل من غير أن يتكلم، أو قام وسلم عليها مغتبطاً بما قالته لم ينعقد العقد حتى ولو كان أمام شهود، لأن الإسلام رسم له طريقة يعقد بها ليست هذه منها.

ولأن الناس كانوا يتزوجون في عهد رسول الله وفي عهد أصحابه بل وفي جميع العصور ولم يؤثر عنهم أنهم عقدوا الزواج بهذه الصورة، بخلاف العقود الأخرى فإن الكثير منها كانوا يعقدونه بالأفعال "التعاطي" فليس في هذه الصورة إلا الإيجاب، والزواج لا يتحقق بالإيجاب وحده.

وأما الإقرار بالزواج، كأن يقول الرجل هي امرأتي:

فذهب الحنفية إلى رأيين أحدهما: أنه لا ينعقد الزواج به، لأن الإقرار إظهار لما هو ثابت وليس بإنشاء. وهذا لا يتنافى مع ما صرحوا به من أن النكاح يثبت بالتصادق، لأن الإقرار لا يكون من صيغ العقد، والمراد بقولهم: إنه يثبت بالتصادق أن القاضي يثبت الزواج بالتصادق ويحكم به.

وثانيهما: أنه ينعقد به إن كان بمحضر من الشهود ويجعل الإقرار إنشاء. كما لو قالت: جعلت نفسي زوجة لك فإنه ينعقد به، وإن لم يكن بمحضر من الشهود لا ينعقد.

والحق انه تفصيل في المذهب فان الأول محمول على ما إذا قصدا مجرد الإخبار عن حصول عقد الزوجية بينهما في الماضي ولم يكن بينهما عقد أو كان العقد بغير شهود، والثاني على ما إذا قصدا بالإخبار إنشاء العقد فينعقد في الحال.

عقد الزواج بالهاتف:

ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الزواج لا ينعقد بواسطة "الهاتف" لأنه يشترط لصحته حضور شاهدين يسمعان كلام العاقدين ويفهمان المراد منه إجمالا عند جماهير الفقهاء.

وحضور الشهود وسماعهم ممكن في حال اجتماع العاقدين في مكان واحد وفي حالة إرسال الرسول أو الكتاب لأن السماع ممكن فيها.

أما في التكلم في الهاتف فان الشاهدين يسمعان كلام أحد العاقدين فقط وسماعهما الإيجاب وحده أو القبول وحده غير كاف في صحة العقد، وكذلك لو شهد اثنان على كلام أحدهما وآخران على كلام الآخر لأن الشهادة لم توجد على العقد. وأما عند من لم يشترط الشهادة فيمكن أن يقال إنه ينعقد متى تأكد كل من الطرفين من شخصية الآخر ووضوح عبارته والتأكد من ذلك عسير لاشتباه الأصوات وإمكان تقليدها.


الباب الثّاني: في شروط عقد الزواج
 
وفيه مباحث:


المبحث الأول: شروط الانعقاد

يشترط لانعقاد الزواج شروط. منها ما يرجع إلى العاقد، ومنها ما يرجع إلى الصيغة، ومنها ما يرجع إلى محل العقد.

أ- فأما ما يرجع إلى العاقد فشرطان:

أولهما: أن يكون كل من العاقدين أهلاً لمباشرة العقد بأن يكون مميزاً. سواء كان كامل الأهلية كالبالغ الرشيد أو ناقصها كالصبي المميز، غير أن كامل الأهلية عقده نافذ، وناقصها عقده موقوف.

فان كان أحد العاقدين فاقد التميز كالمجنون والصبي غير المميز فلا ينعقد الزواج، لأن فاقد التميز لا إرادة له، ومتى انعدمت الإرادة انعدم العقد.

وثانيهما: أن يعلم كل من العاقدين ما صدر من الآخر. بأن يسمع كلامه أو يرى إشارته ويعرف مراده منها. بأن يعرف أن هذه العبارة أو تلك الإشارة يقصد بها إنشاء العقد وإن لم يعرف معاني الكلمات اللغوية.

فلو لقنت امرأة غير عربية لفظ زوجتك نفسي فقالتها للرجل الذي يطلب زواجها وهي تعرف أن هذه الكلمة تقال لإنشاء عقد زواج انعقد العقد وإن لم تكن تعرف معناها اللغوي.

بـ- وأما ما يرجع إلى الصيغة "الإيجاب والقبول":

فأولاً: اتحاد مجلس الإيجاب والقبول. ومعنى الاتحاد هنا ألا يصدر من العاقدين أو أحدهما ما يلغي الإيجاب بعد صدوره. كأن يرجع الموجب عن إيجابه قبل القبول، أو يعرض الطرف الآخر فلا يجد ذلك القبول إيجاباً يرتبط به. فلا ينعقد العقد، لأن المكان وإن كان واحداً إلا أن وجود الفاصل بين الإيجاب والقبول بالعمل الأجنبي منع الاتحاد حكماً.

هذا ومجلس عقد الزواج بالنسبة للتعاقد بطريق الرسالة أو الكتاب هو مجلس تبليغ الرسالة أو قراءة الكتاب أمام الشهود، فلو بلغ الرسول الرسالة إلى المرأة ثم اشتغلت بشيء آخر ثم قبلت فلا ينعقد العقد، وكذلك لو قبلت في مجلس آخر لعدم اتحاد المجلس فيهما.

ولا يلزم من اشتراط اتحاد المجلس أن يكون القبول فور الإيجاب، لأن المراد كما قلنا . ألا يوجد منهما أو من أحدهما ما يلغيه، فلو صدر الإيجاب وطال الوقت والمجلس قائم ولم يوجد رجوع من الموجب، ولا اشتغال بشيء آخر ممن وجه إليه الإيجاب ثم صدر القبول انعقد العقد.

هذا إذا كان العقد بين حاضرين، فان كان بين غير حاضرين بكتاب مكتوب أو برسالة رسول فالقبول مقيد بمجلس تبليغ الرسالة أو قراءة الكتاب لأنه هو مجلس العقد في هذه الصورة كما قلنا.

وثانياً: أن يوافق القبول الإيجاب حتى يتلاقيا على شيء واحد، ويتحقق اتفاق الإرادتين، فإذا تخالفا مخالفة كلية أو جزئية لا ينعقد الزواج إلا في حالة ما إذا كانت المخالفة إلى خير للموجب فإنه ينعقد، لأنه التوافق موجود وإن لم يكن صريحاً، وتفصيل ذلك:

أن المخالفة إما أن تكون في محل العقد أو في مقدار المهر.

فإذا كانت في المحل. مثل أن يقول الراغب في الزواج: زوجني ابنتك عائشة فيرد عليه بقوله: زوجتك ابنتي فاطمة، وفي هذه الصورة لا ينعقد العقد.

وإن كانت في مقدار المهر بأن يقبل بأقل أو أكثر مما أوجبه الموجب فلا يخلو. إما أن تكون المخالفة فيها خير للموجب أو ليس فيها ذلك.

فان كانت ضارة مثل أن يقول الراغب في الزواج: زوجني ابنتك فلانة بمائة فيقول الآخر: زوجتكها بمائتين.

وفي هذه الحالة لا ينعقد العقد، لأن الإيجاب والقبول تخالفا في المهر، وهو وإن لم يكن ركناً في العقد إلا أنه عند ذكره بمقداره مع الإيجاب يلتحق به ويصير كجزء منه فيجب أن يكون القبول موافقاً لهذا المجموع.

وإن كانت المخالفة فيها خير للموجب مثل أن يقول الراغب في الزواج: زوجني أختك فلانة بألف ليرة، فيقول الآخر: زوجتكها بخمسمائة، أو يقول ولي المرأة: زوجتك أختي بألف ليرة، فيقول الآخر قبلت زواجها بألفين.

ففي هذه الحالة ينعقد العقد، لأن المخالفة هنا فيها موافقة ضمنية لإيجاب الموجب، والإرادتان متوافقتان، فإن من يلزم نفسه بالأكثر يقبل بالأقل، ومن يقبل أن يزوج بنته أو أخته بالقليل لا يمانع في زواجها بالكثير.

غاية الأمر أن الزيادة في المهر من قبل الزوج لا تستحقها الزوجة إلا إذا قبلتها، فلو لم تقبلها صراحة في المجلس لا يجوز لها بعد ذلك أن تطالب بها، لأن التمليك لا يكون بدون قبول إلا في الميراث بجعل الشارع، أما النقصان من جانب الزوجة فلا يشترط فيه قبول الزوج، لأنه إسقاط وحط عنه وهو لا يحتاج إلى قبول.

وثالثاً: أن تكون الصيغة منجزة. بأن تكون مفيدة لمعناها في الحال غير معلقة على أمر سيحدث في المستقبل.

أو مضافة إلى زمن مستقبل. كأن يقول الرجل للمرأة : تزوجتك فتقول قبلت فلا خلاف بين الفقهاء في ذلك.

فإن علقه كأن يقول: تزوجتك إن قدم فلان من سفره وقَبِلَت، أو قال لها: تزوجتك في أول العام القادم وتقول قبلت فلا ينعقد العقد. لأن الزواج من التمليكات وهي لا تقبل التعليق ولا الإضافة، لأن الشارع وضعه ليفيد حكمه في الحال بدون تأخير فتعلقيه على أمر سيحدث في المستقبل يخرجه عما وضعه الشارع له ويجعله محلاً للمقامرة واحتمال حصول آثاره أو عدم حصولها، وإضافته تعطيل لعمله في فترة الزمن ما بين صدور الصيغة إلى مجيء الوقت المضاف إليه.

فكان كل منهما منافياً لوضعه الشرعي فيبطل العقد معهما.

جـ- أما ما يرجع إلى المحل وهو المرأة المعقود عليها فيشترط فيها:

أولاً: أن تكون أنثى محققةالأنوثة، فلو عقد على غير الأنثى كالخنثى المشكل لا ينعقد العقد لعدم المحلية ويكون باطلاً، فإن زال الإشكال بأن غلبت فيه علامات النساء جاز العقد.

ثانياً: ألا تكون المرأة محرمة عليه تحريماً قطعياً لا شبهة فيه. لا يختلف في حرمتها سواء كان التحريم مؤبداً كالأم والبنت والأخت وباقي المحرمات، أو مؤقتاً كزوجة الغير والمسلمة بالنسبة لغير المسلم، والوثنية بالنسبة للمسلم وهو ما يعبر عنه بكون المرأة محلاً أصلياً للزواج.

فإن عقد على واحدة من هؤلاء كان العقد باطلاً، لأن هذه المرأة ليست محلاً أصلاً للزواج فيكون العقد خالياً من المحل والعقد لا يوجد بدون محله.


المبحث الثاني: شروط صحة الزواج

معنى صحة الزواج أن يكون العقد صالحاً لترتب الآثار الشرعية عليه، ولكي يكون الزواج صحيحاً بعد انعقاده لابد أن تتوافر فيه الشروط الآتية:

أولاً: ألا تكون المرأة محرمة على الرجل الذي يريد التزويج بها تحريماً ظنياً بأن كانت حرمتها ثابتة بدليل ظني أو مما يخفى تحريمها للاشتباه في أمره،كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها فإنه ثابت بدليل ظني، وتزوج المعتدة من طلاق بائن، وتزوج أخت زوجته التي طلقها في أثناء عدتها لخفاء كل منهما والاشتباه فيه.

فهذا الزواج يكون منعقداً، لأن المرأة محل للزواج في الجملة حيث يرى بعض الفقهاء صحته لكنه يكون فاسداً لعدم صلاحيته في ذاته لترتب الآثار عليه، وما يترتب عليه من بعض الآثار جاء نتيجة الدخول بتلك المرأة بعد العقد. فإن وقع العقد وجب التفريق بينهما إن لم يتفرقا باختيارهما، ولا يجب به شيء إن وقع التفريق قبل الدخول، فان أعقبه دخول ترتب عليه بعض الآثار من وجوب المهر والعدة وثبوت النسب إن أثمر هذا الزواج.

وبهذا يعلم أن الزواج بالمرأة المحرمة يختلف حكمه باختلاف نوع التحريم. فإن كان قطعياً متفقاً عليه جعل العقد باطلاً، وكان انتفاء هذه الحرمة شرطاً لانعقاد العقد.

وإن كان ظنياً أو مختلفاً فيه كان للعقد وجود، غير أنه لا يصلح في ذاته لترتب الآثار عليه، فان أعقبه دخول ترتب على هذا الدخول بعض آثار الزواج لوجود العقد صورة. وكان انتفاء هذه الحرمة شرطاً لصحة العقد بحيث إذا تخلف هذا الشرط كان العقد فاسداً.

وهذه التفرقة مبنية على التفرقة بين الباطل والفاسد في الزواج كما يرى أهل التحقيق من فقهاء الحنفية. وهي التي تتفق مع اختلاف صور الزواج غير الصحيح كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

وأما من لا يفرق بين الزواج الباطل والفاسد فقد سوى بين المحرمات كلها وجعل انتفاء المحرمية شرطاً لصحة العقد سواء كانت قطعية أو ظنية مختلفاً فيها أو مما يخفى أمرها للاشتباه فيها.

ثانياً: أن يتولى العقد ولي المرأة.

وهذا عند من لا يصحح الزواج بعبارة النساء وهم جمهور الفقهاء.

أما عند من يصحح الزواج بعبارتها وهم الحنفية فلا يشترطون هذا الشرط، لأن للمرأة البالغة الرشيدة أن تزوج نفسها عندهم.

أما غير البالغة الرشيدة كالصغيرة والمجنونة فلا بد من الولي عندهم لا لصحة العقد

فقط بل لوجود أيضاً، لأن عبارتهما ملغاة لا اعتبار لها.

ثالثاً: أن يكون العقد أمام شهود، وهذا الشرط غير متفق عليه بين الفقهاء بل اختلفوا في أصل اشتراطه كما اختلف القائلون به فيما تصح به الشهادة.

فالكلام عليه في موضعين: الأول في أصل الاشتراط، والثاني فيما يعتبر في الشهود عند الشارطين.

أما الأول فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين:

فذهب جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة، إلى أن الشهادة شرط لازم في عقد الزواج لا يعتبر صحيحاً بدونها، لأنه وان وردت النصوص به مطلقة في القرآن إلا أن السنة قيدت هذا الأطلاق.

فقد روى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة".

وروى الإمام أحمد عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".

كما روى الدارقطني عن عائشة قالت قال رسول الله: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".

فهذا الرويات يقوى بعضها بعضاً وقد اشتهرت فتصلح لتخصيص العام في القرآن {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وتقييد المطلق فيه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}.

وقد روى ذلك عن جميع من الصحابة منهم عمر وعلي وابن عباس وغيرهم.

وقد روى مالك في الموطأ عن أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب أتى بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال:" هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمت".

غير أنهم مع اتفاقهم على أن الزواج بدون شهود غير صحيح اختلفوا في وقت الشهادة: فذهب المالكية إلى أنه لا يلزم أن تكون الشهادة وقت العقد وإن كان ذلك مستحباً.

فلو دخل قبل أن يشهد كان عاصياً ويفرق بينهما، فالإشهاد شرط تمام.

وذهب الأئمة الثلاثة -أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل- إلى أن الأشهاد واجب وقت العقد، لأن الحديث نفى الزواج بغير شهود، والنفي مسلط هنا على الصحة، فإذا وجد العقد بدون شهود كان غير صحيح.

وبهذا يكون العقد بحضرة الشهود صحيحاً بالاتفاق، ولكن لو أوصى الزوج الشهود بالكتمان وعدم الإعلان هل يؤثر ذلك في العقد ويبطله أو لا؟.

ذهب المالكية إلى أنه يبطل العقد، لأنه يصير نكاح سر وهو باطل لأن المطلوب فيه الإعلان كما حض عليه رسول الله بقوله: " أعلنوا النكاح واضربوا عليه الدفوف".

وذهب غيرهم من الحنفية والشافعية إلى أن هذا لا يؤثر في العقد ولا يجعله سراً، وكيف يكون سراً وقد حضره أربعة وهم العاقدان والشاهدان.

وأما الموضع الثاني: فقد اشترط القائلون بوجوب الإشهاد في الشهود شروطاً اتفقوا في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر.

وأهم هذه الشروط. العقل والبلوغ والحرية والإسلام إذا كان الزوجان مسلمين، والتعدد، وسماع كل شاهد كلام العاقدين مع فهم المقصود منه إجمالاً.

أما اشتراط العقل: والبلوغ والحرية فلأن الشهادة فيها معنى الولاية، لأنها تلزم المشهود عليه بالمشهود به حيث ينبني عليها القضاء الملزم، ولولا الشهادة ما كان قضاء ولا إلزام، وليس لغير الأحرار البالغين العقلاء ولاية حتى على أنفسهم، فكيف تثبت لهم ولاية على غيرهم؟.

ومن ناحية أخرى أن المقصود من حضور الشهود إظهار خطر هذا العقد بإعلانه وتكريمه، وبحضور غير هؤلاء لا يتحقق شيء من ذلك، بل يكون عقده بحضور غيرهم استهانة به.

وعلى هذا لا يصح العقد بحضور الصغار ولو كانوا مميزين والمجانين والعبيد.

وأما اشتراط الإسلام فيما إذا كان الزوجان مسلمين، فلما في الشهادة من معنى الولاية على المشهود عليه كما قلنا ولا ولاية لغير المسلم لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141].

ولأن من أغراض الشهادة على هذا العقد إعلانه وتكريمه، وشهادة غير المسلمين على زواج المسلمين لا تكريم فيها، ولا يتحقق بها إشارة بين المسلمين.

ولأن لهذا العقد اعتباراً دينياً فلابد من أن يشهده من يدين بدين الزوجين.

وهذا الشرط في زواج المسلمين لم يخالف فيه أحد من الفقهاء الشارطين للشهادة.

ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان الزوج مسلماً والزوجة كتابية:

فذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يشترط إسلام الشهود، فيصح أن يشهد عليه كتابيان سواء اتفقا معها في دينها أو اختلفا معها فيه.

وذهب الأئمة الثلاثة -المالكية والشافعية والحنبلية- إلى أنه يشترط الإسلام، لأن الشهادة على العقد الصادر من جانب الرجل المسلم والزوجة غير المسلمة، فلو جوزنا هذه الشهادة للزم أن تكون شهادة غير المسلم على المسلم فيقع المحظور السابق وهو جعل لغير المسلم نوع ولاية على المسلم وهو ممنوع شرعاً.

مع أن هذه الشهادة وإن تحقق بها إشهار الزواج بين غير المسلمين فلا يتحقق بها إشهاره بين المسلمين، وليس فيها تكريم لهذا العقد الذي أحد طرفيه مسلم.

وأما اشتراط التعدد فلأن الأصل في الشهادة المثبته أن تكون من رجلين أو رجل وامرأتين لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]. فهذه الآية رسمت لنا طريق الشهادة وجعلت شهادة المرأتين مساوية لشهادة الرجل وبينت العلة في ذلك.

ذهب الحنفية إلى أن الشهادة في النكاح لا تكون إلا من رجلين أو رجل وامرأتين.

لأن الأصل في الشهود أن يكونوا من الرجال ولا تقبل شهادة النساء وحدهن في غير المواضع المستثناه، وهي التي لا يطلع عليها الرجال، فلا تكفي شهادة النساء منفردات في الزواج، لأن من أغراض حضور الشهود إعلان الزواج وهو لا يتحقق بوجودهن، لأنه يغلب عليهن - إذا كن مسلمات متأدبات بأدب الإسلام - الاستتار وعدم حضور مجالس الرجال، فإذا وجد معهن رجل تحقق الإعلان بين الرجال والنساء.

وهناك بعض الصور يظهر فيها صحة الزواج بشاهد واحد، مثل ما إذا وكلت المرأة رجلاً ليزوجها بحضورها وحضور شاهد واحد فإنه يصح، كما يصح في صورة ما إذا وكل ولي الزوجة وكيلاً لمباشرة العقد بحضوره وحضور شاهد واحد أيضاً.

والحقيقة أنهما شاهدان، لأن في الصورة الأولى اعتبرت المرأة هي المباشرة للعقد والوكيل سفير ومعبر عنها، وفي الصورة الثانية يعتبر المباشر للعقد شاهداً بالاعتبار السابق.

لكن يشترط في كل من الصورتين أن تكون المرأة بالغة ليمكن اعتبارها مباشرة للعقد في الصورتين وليصح توكيلها في الصورة الثانية، لأن القاعدة المقررة: أن الأصيل في العقد إذا كان حاضراً في المجلس يمكنه أن يباشر العقد بنفسه اعتبر هو العاقد حكماً ويعتبر الولي أو الوكيل شاهداً.

أما إذا كانت صغيرة وزوَّجها أبوها بحضرة رجل واحد فإنه لا يصح لأنه لا يمكن اعتبارها عاقدة لم يكن ثمة إلا شاهد واحد.

أما اشتراط سماع الشهود كلام العاقدين مع فهمهما المراد منه إجمالاً وإن لم يفهما معاني المفردات، لأن إعلان العقد لا يتحقق بدون السماع والفهم، فإذا عقدا بحضور من لا يسمع ولا يفهم المراد لا يصح العقد.

فلو كان الشاهدان أصمين أو نائمين أو سكرانين لا يعي الواحد منهما ما يسمعه ولا يتذكره بعد إفاقته لا يتحقق الغرض من الشهادة بوجودها.

واشتراط السماع إنما يكون في العقد بالكلام، فإذا كان بالإشارة كان الشرط رؤيتها وفهم المقصود منها، فلو لم ير الشهود تلك الإشارة بأن كانوا مكفوفي البصر أو رأوها ولم يفهموا المراد منها لا يصح العقد.

وأما عدالة الشهود:

فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى اشتراطها واستدلوا بحديث "وشاهدي عدل" ولأن من أغراض الشهادة هنا إظهار شأن العقد تكريمه، ولا يحصل هذا التكريم بشهادة الفسقة لأنهم ليسوا أهلاً للكرامة في أنفسهم فلا يكرم العقد بحضورهم. كما أن من أغراضها توثيق العقد والتمكن من إثباته عنه إنكاره والتنازع فيه، وشهادة الفسقة لا يثبت بها الزواج أما القضاء بالاتفاق.

غير أنهم يكتفون بالعدالة الظاهرة في الجملة، فيكفي أن يكون الشاهد مستور الحال لم يظهر فسقه، لأن النكاح يكون في القرى والبادية وبين عامة الناس ممن لا يعرف حقيقة العدالة فاعتبار العدالة في الواقع فيه مشقة على الناس فاكتفى بظاهر العدالة تخفيفاً عليهم.

فإن تبين بعد العقد أنه كان عند العقد فاسقاً لم يؤثر ذلك في العقد، لأن الشرط العدالة ظاهراً وقد تحقق ذلك.

وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط العدالة في الشهود فيجوز شهادة غير العدول في الزواج.

ووجهوا رأيهم بأن الفاسق له أهلية لإنشاء عقد الزواج لنفسه ولغيره بالولاية أو الوكالة بلا نزاع، فيكون أهلاً لأن يعقد الزواج بحضوره من باب فيصلح شاهداً فيه، وكونه لا تقبل شهادته لا يطعن في صحة تحمله لها لجواز أن يتحملها وهو فاسق ثم يزول عنه الفسق فتقبل شهادته. ومن هنا وضعوا ضابطاً لمن تقبل شهادته في الزواج فقالوا: كل من صلح أن يكون ولياً في الزواج بولاية نفسه يصلح شاهداً فيه وإلا فلا.

لأن الغرض من الشهادة على العقد ليس قاصراً على أدائها عند التنازع، بل من أغراضها إظهار العقد وإشهاره بين الناس وهذا يتحقق بشهادة غير العدل.

وأما الحديث الذي استدل به، فالمقصود منه مجرد الإرشاد إلى ما هو أفضل.

ولما كانت الشهادة في الزواج عند الحنفية ليس مقصودة لإثباته عند إنكاره والاختلاف فيه بل لإشهاره وإخراجه من السرية إلى العلنية صححوه بحضور من لا تقبل شهادتهم من فروع العاقدين أو أصولهما وإن كانوا يمنعون هذا الشهادة في غير هذا الموضع.

فيجوز أن يتزوج الرجل بشهادة ابنيه من غير الزوجة المعقود عليها أو بشهادة أبيها من غيره، كما يجوز أن يتزوجها بشهادة ابنية منها على ما هو المعتمد في المذهب.

والسبب في ذلك: أن هذا الموضع لا تهمة فيه ولا شبهة، بخلاف غيره فإن الشبهة قائمة والتهمة موجودة، لأن المقصود بها إثبات الحقوق.

ولذلك قالوا: إن شهادة هؤلاء وإن كان ينعقد بها النكاح إلا أنه لا يثبت بها عند الإنكار فشهادتهم تنفع في حل الزوجة ديانة لا قضاء.

فالزواج له حالتان حالة الانعقاد ويصح فيها شهادة الأعمى والفاسق والابن والأب، وحالة الإثبات عن الإنكار وهذه لا تصح شهادتهم فيها، بل يشترط في الشاهد على إثبات الزواج ما يشترط في غيره من العدالة وعدم التهمة.

ومن هنا قالوا: إذا كانت شهادة الابن عند اختلاف الزوجين على أحد أبويه تقبل لعدم التهمة وان كانت له لا تقبل لوجود التهمة.

رابعاً: أن تكون الصيغة من الإيجاب والقبول مؤبدة غير مؤقتة بمدة فإن صحبها توقيت كان العقد فاسداً عينت المدة أو لم تعين كانت المدة قصيرة أو طويلة. فلو قال رجل لامرأة: تزوجتك مدة عام مثلاً وقبلت الزوجة، أو قال لها: زوجيني نفسك مدة عشر سنوات أو فترة من الزمن إقامتي في هذا البلد وقبلت كان العقد فاسداً. لأن العقد بهذه الصورة يكشف عن الغرض المقصود منه وهو مجرد الاستمتاع المؤقت، والزواج لم يشرع لهذا الغرض بل شرع للاستقرار والسكن وتكوين الأسرة. وهذا لا يكون مع التوقيت وهو متفق على عدم صحته.


المبحث الثالث: شروط النفاذ

معنى نفاذ العقد: أن تترتب عليه آثاره الشرعية، فالعقد إذا كان مستوفياً لأركانه وشروط صحته لا تترتب عليه آثاره بالفعل إلا بشروط تسمى في عرف الفقهاء بشروط النفاذ. ويجمعها أن يكون لكل من العاقدين الحق في إنشاء عقد الزواج، ويتحقق ذلك بكمال أهليتهما مع وجود صفة شرعية تجيز لهما إنشاء هذا العقد. وكمال الأهلية بالحرية والبلوغ والعقل، والصفة هي الأصالة أو الولاية أو الوكالة.

وعلى هذا إذا تولاه الزوجان مع كمال أهليتهما نفذ العقد وترتبت عليه آثاره عند من يصحح الزواج بعبارة النساء وهم الحنفية.

وإذا كان أحدهما ناقص الأهلية كالصغير المميز والمعتوه انعقد صحيحاً موقوفاً على إجازة من له الإجازة، لأن وجود أصل الأهلية يجعله منعقداً صحيحاً ونقصانها يجعله موقوفاً على الإجازة ليمكن تلافي الضرر المحتمل من هذا العقد، أما إذا كان أحدهما فاقد الأهلية كالمجنون والصغير غير المميز فان العقد يكون باطلاً كما قدمنا.

وإذا تولاه غيرهما ممن كملت أهليتهم فإن كان ولياً أو وكيلاً نفذ العقد.

وإن كان مجرداً من هذه الصفة انعقد موقوفاً على الإجازة، لأن وجود الأهلية الكاملة يجعله منعقداً صحيحاً، وعدم الصفة المخولة لإنشاء العقد يجعله موقوفاً على الإجازة. ويسمى ذلك الشخص في عرف الفقهاء بالفضولي. ومثل الفضولي في هذا الوكيل إذا خالف مقتضى الوكالة. كأن يوكله في زواج امرأة معينة أو بمهر معين فيزوجه غيرها أو بمهر أكثر. فإن العقد يكون موقوفاً على إجازة الموكل.

وكذلك الولي البعيد إذا عقد الزواج مع وجود الولي القريب الكامل الأهلية، فإن عقده يكون موقوفاً على إجازة القريب.

وإذا زوج السفيه أو من عنده غفلة نفسه صح العقد ونفذ ولو كان محجوراً عليه، لأن عقد الزواج تصرف شخصي لا يرد عليه الحجر، وإنما الحجر على التصرفات المالية.

ولهذا لو تزوج امرأة بأكثر من مهر مثلها ثبت لها مهر المثل فقط، ولو كان السفه في جانبها ورضيت الزواج بالأقل ثبت لها مهر المثل، وإن سمي لها أكثر صحت التسمية إذا لم يكن سفيهاً وإلا فيقتصر على مقداره.


المبحث الرابع: في شروط اللزوم

معنى لزوم العقد: ألا يكون لأحد الزوجين أو لغيرهما ممن يتعدى إليه ضرر العقد حتى فسخه بعد تمامه، وعلى هذا يكون المراد بشروط اللزوم هي الشروط التي إذا تحققت كلها لم يكن لأحد الحق في فسخ العقد، فإن تخلفت تلك الشروط أو بعضها كان العقد غير لازم يجوز فسخه إذا طلب ذلك صاحب الشأن.

والأصل في عقد الزواج أن يكون لازماً لأنه شرع لمقاصد لا توجد إلا مع لزومه، ولذلك لا يصح فيه خيار الشرط ولا خيار الرؤية كما في البيع عند كثير من الفقهاء.

غير أن هذا اللزوم لا يكون إلا إذا توفر الرضا الكامل من الجانبين، فإذا وجد فيه ما ينقضه عند أحدهما ثبت له خيار الفسخ ويكون العقد غير لازم.

وعلى هذا يشترط للزوم عقد الزواج إجمالاً: أن يكون خالياً مما يوجب الفسخ.

ولما كان الموجب للفسخ يختلف باختلاف متولي العقد كان لابد من تفصيل ذلك الشرط المجمل إلى الشروط الآتية:

أولاً: أن يكون الزوج كفئاً للزوجة إذا زوجت نفسها وهي كاملة الأهلية، أي بالغة عاقلة رشيدة.

فإن لم يكن كفئاً لم يكن العقد لازماً إذا كان لها ولي عاصب ولم يرض بهذا الزواج، فله حق الاعتراض وطلب الفسخ، لأن الكفاءة حق مشترك بين الزوجة وأوليائها، فإذا أسقطت حقها بقي حق الأولياء. لكن هذا الحق ثابت ما لم يسكت حتى تلد أو تحبل حبلاً ظاهراً، فإن حدث ذلك سقط حق الاعتراض، لأن حق الولد هنا في المحافظة عليه وتربيته أقوى من حق الأولياء في الاعتراض.
الولي العاصب هو القريب للمرأة قرابة لا تتوسط فيها الأنثى وحدها كالأب والجد لأب وان علا والابن والأخ الشقيق أو لأب والعم الشقيق أو لأب وهكذا. فان لم يكن لها ولي عاصب وقع عقدها لازماً.
 
ثانياً: ألا يقل مهرها عن مهر أمثالها من قوم أبيها إذا زوجت نفسها ولو كان الزوج كفئاً لها، فلو زوجت نفسها من كفء بأقل من مهر مثلها ولها ولي عاصب لم يرض بهذا الزواج كان العقد غير لازم، وللولي حق الاعتراض وطلب الفسخ، لأن الأولياء - كما يجري به العرف بين الناس - يفتخرون بكثرة المهور ويتعيرون بنقصانها.

وهذا الحق ثابت ما لم يقبل الزوج زيادة المهر إلى مهر المثل أو تلد المرأة أو تحبل حبلاً ظاهراً، فإن حصل شيء من ذلك سقط حق الاعتراض عند أبي حنيفة.

ولو رضي أحد الأولياء دون الآخر بزواج غير الكفء أو بأقل من مهر المثل سقط حق الباقي في طلب الفسخ ولزم العقد على القول الراجح في مذهب الحنفية.

وإنما سقط حق الاعتراض في هذه الحالة لأنه ثبت بسبب مشترك لا يتجزأ وهو القرابة فلا يقبل التجزئ وإسقاط بعض ما لا يتجزأ إسقاط الكل.

ثالثاً: أن يكون المزوج لفاقد الأهلية أو ناقصها كالمجنون والمعتوه والصغير والصغيرة الأب أو الجد المعروفين بحسن التصرف والاختيار.

فلو زوج الأب أو الجد واحداً من هؤلاء كان العقد لازماً، ولو كان الزواج من غير كفء أو بأقل من مهر المثل. حتى لو بلغ الصغير أو أفاق المجنون وعقل لا يكون لهما الحق في الفسخ، لأن الشأن في الأب والجد المعروفين بحسن التصرف والاختيار أن يعملا على مصلحة من في ولايتهما، فإذا تساهلا وزوجا بغير الكفء أو بأقل من مهر المثل لا يكون ذلك إلا لمصلحة تفوق الكفاءة والمهر.

ومثلهما في ذلك ما إذا زوج الابن أمه التي سلب عقلها بغير كفء أو بأقل من مهر المثل فإن العقد يلزم وليس لها حق طلب الفسخ إذا ما عقلت.

أما إذا كان الأب أو الجد معروفاً بسوء التصرف فان عقدهما يكون غير لازم ويثبت حق الفسخ عند البلوغ إن كان المزوج صغيراً ويسمى خيار البلوغ أو عند الإفاقة إن كان مجنوناً أو معتوهاً ويسمى خيار الأفاقة.

وكذلك إذا زوج واحداً من هؤلاء غير الأب والجد، كالأخ والعم وابن العم فان العقد لا يكون لازماً حتى ولو كان الزوج بالكفء وبمهر المثل، لأن شفقة هؤلاء وحرصهم على مصلحة من في ولايتهم لا تبلغ درجة الكمال فلا تساوي شفقة الأب والجد، فلاحتمال ألا يكون في هذا الزواج مصلحة ثبت حق الفسخ لهؤلاء.

رابعاً: ألا يكون الزوج قد غرر في أمور تتعلق بكفاءته، كأن يدعي نسباً معيناً تم الزواج على أساسه ثم ظهر كذبه كان العقد غير لازم بالنسبة إلى طرف الزوجة فلها أو لوليها حق طلب الفسخ.

أما تغرير المرأة بالرجل فلا يمنع لزوم العقد، لأن الرجل يملك الطلاق فله أن يطلق إذا ما ظهر له تغريرها ولا حاجة به إلى طلب الفسخ.
 
 
الباب الثَّالِث: في طرق إثبات الزواج وتزويج الصغار

وفيه مباحث: 


المبحث الأول: طرق إثبات الزواج

يثبت الزواج شرعاً بإحدى طرق ثلاث: الإقرار والبينة والنكول عن اليمين أي الامتناع عنه.

فإذا ادعى أحد الزوجين الزواج أو أمراً يتعلق به كالمهر والنفقة مثلاً فإن أقر الطرف الآخر ثبت، لأن الإقرار حجة على المقر، ويكون الثبوت بتصادقهما عليه، فيكون تقريراً للواقع وإثباتاً لزوجية سابقة لا إنشاء لعقد الزواج وقت الإقرار، وإلا لاحتاج الأمر إلى إشهاد عليه ولم يقل أحد من الفقهاء ذلك.

وإن لم يقرَّ طولب المدعي بالبينة، فان أتى بشهود يشهدون على دعواه ثبت العقد، فإن عجز المدعي عن إقامة البينة وجهت اليمين إلى الطرف الآخر المنكر، فإن حلف على أن هذه الدعوى غير صحيحة، رفضت الدعوى، وليس معنى رفضها أنها لا تسمع بعد ذلك، بل يصح تجديدها إذا وجد المدعي شهوداً يشهدون له.

وذهب الحنفية إلى أنَّه إن امتنع المنكر عن اليمين قضى بثبوت الزواج، لأن النكول عن اليمين.

وذهب الشافعية أنه إذا امتنع المنكر عن اليمين ردت على المدعي فإن حلف قضى له، وإن امتنع ردت دعواه.


المبحث الثاني: تزويج الصغار

موقف الفقهاء منه:

ذهب الأئمة الأربعة إلى جواز تزويج الصغار وعدم اشتراط البلوغ في صحة الزواج، لأن القرآن اعتبره صحيحاً ورتب عليه بعض آثار الزواج في قوله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [ الطلاق: 4].

فقد جعل عدة الصغيرة التي لم تحض ثلاثة أشهر. ومعلوم أن هذه لا تكون إلا بعد زواج صحيح يعقبه طلاق، ولما ثبت من فعل رسول الله وأصحابه من بعده، ولما قد يكون فيه من تحقيق مصلحة في بعض الحالات، فقد يجيء الكفء يطلب زواج الصغيرة، والولي حريص على مصلحة ابنته الصغيرة فيزوجها حتى لا يفوت الكفء إذا ما انتظر بلوغها حيث لا يوجد في كل وقت.


الباب الرَّابع: في أنواع الزواج من حيث الإطلاق والتقييد في صيغته

وفيه مباحث:


المبحث الأول: في الزواج المعلق والمضاف

أ- المعلق: التعليق هو الربط بين جملتين بأن يجعل تحقيق مضمون إحداهما موقوفاً على تحقيق مضمون الأخرى بأداة من أدوات التعليق كإن وإذا.

والزواج المعلق: هو ما جعل تحقق الإيجاب والقبول أو أحدهما معلقاً على تحقق شيء آخر كأن يقول رجل لآخر : زوجتك ابنتي إن رضي أخي فيقول الآخر قبلت، أو يقول الرجل للمرأة زوجيني نفسك فتقول زوجتك نفسي إن رضي أبي.

ففي كل منهما تعليق على شيء آخر فيرتبط وجوده بوجوده.

وحكم هذا الزواج يختلف تبعاً لوجود الشيء المعلق عليه وعدمه وقت التعليق:

فإذا كان المعلق عليه معدوماً وقت التعليق لا ينعقد العقد سواء كان ذلك المعدوم محقق الوجود في المستقبل. مثل إذا جاء الشتاء زوجتك ابنتي، أو لم يكن محقق الوجود بأن كان يحتمل وجوده وعدمه مثل إن ربحت من تجارتك زوجتك، أو إن نجحت في الامتحان تزوجتك، فإن الربح والنجاح لا نقطع بوجودهما وكذلك لو كان مستحيل الوجود، كما لو قال لها : زوجيني نفسك فقالت : إن شربت ماء هذا البحر كله زوجتك نفسي. لأن عقد الزواج من عقود التمليكات وهي لا تقبل التعليق، ولأن الشارع وضعه ليفيد حكمه في الحال بدون تأخير، فتعليقه على أمر سيحدث في المستقبل يخرجه عما وضعه الشارع له ويجعله محلاً للمقامرة واحتمال حصول آثاره أو عدم حصولها، فكان تعليقه منافياً لوضعه الشرعي.

وإن كان الشرط المعلق عليه متحقق الوجود في الحال، كأن يقول الرجل للمرأة: إن نجحت في الامتحان تزوجتك وقبلت وكانت ناجحة بالفعل فإن العقد ينعقد في هذه الحالة ويكون صحيحاً، لأن التعليق هنا صوري فقط وهو تنجيز في الحقيقة لأن الشرط موجود وقت العقد.

ومثل ذلك لو قالت: زوجتك نفسي إن رضي أبي وكان أبوها حاضراً في المجلس وقال: رضيت، لأن رضاء الأب يجعل كأنه متحقق قبل العقد وقد أخبر عنه في مجلس العقد.

بـ- المضاف: وهو أن يضيف الموجب الصيغة إلى زمن مستقبل. كأن يقول لها زوجيني نفسك في أول العام القادم فتقول قبلت.

وهذا لا ينعقد أصلاً لا في وقت العقد ولا في الزمن الذي أضافه إليه، لأن الزواج مشروع ليفيد ملك المتعة في الحال، والإضافة إلى المستقبل مانعة من ترتيب آثاره في الحال، فتكون الإضافة منافية لمقتضى العقد فيلغو، ولأن الإضافة لا تخرج عن كونها وعداً بالزواج حين يجيء الوقت المذكور والوعد بالزواج ليس زواجاً.


المبحث الثاني: في المؤقت

التوقيت: أن يقيد الصيغة بمدة من الزمن محددة أو غير محددة. طويلة كانت أو قصيرة كأن يقول الرجل للمرأة: تزوجتك مدة سنة، أو مدة إقامتي في هذا البلد أو ما شابه ذلك. وهذا الزواج غير صحيح. يتنافى مع مقاصد الزواج حيث لم يقصد به إلا مجرد التمتع بها في تلك الفترة.


المبحث الثالث: في زواج المتعة

لا خلاف بين الفقهاء في أن هذا اللون من الزواج قد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وبعبارة أدق في بعض غزواته لأمر طارئ يدعو إليه.

ففي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الآية.

وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال:" إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة ثم نهى عنها بعد ذلك.

وروى أحمد ومسلم عن سبرة الجهني أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة قال: فأقمنا بها خمسة عشر فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء ... ثم قال فلم أخرج حتى حرمها رسول الله.

وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الإنسية زمن خيبر" متفق عليه.

فهذه الأحاديث- منها ما اقتصر على الأخبار بالترخيص، ومنها ما اقتصر على الأخبار بالتحريم، ومنها ما جمع بين الأمرين الترخيص والتحريم بعده. وكلها متفقة على أن الترخيص كان في حالات الغزو وليس فيها حديث واحد يفيد أنه رخص لهم فيها حالة الإقامة.

وهذا الحكم كان مباحاً مشروعاً في صدر الإسلام، وإنما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم لهم للسبب الذي ذكره ابن مسعود، وإنما ذلك يكون في أسفارهم ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحه لهم وهم في بيوتهم، ولهذا نهاهم عنه غير مرة ثم أباحه لهم في أوقات مختلفة حتى حرمه عليهم في آخر أيامه صلى الله عليه وسلم وذلك في حجة الوداع، وكان تحريم تأبيد لا توقيت فلم يبق اليوم في ذلك خلاف بين فقهاء الأمصار وأئمة الأمة إلا شيئاً ذهب إليه بعض الشيعة.


المبحث الرابع: في الزواج المقترن بشرط

المقترن بشرط: وهو ما صدرت فيه الصيغة مطلقة عن التعليق على الشرط أو الإضافة إلى المستقبل أو التقييد بوقت لكنها مقترنة بشرط. كأن يقول ولي المرأة للرجل: زوجتك ابنتي على ألا تنقلها من هذا البلد أو ألا تتزوج عليها أو تطلق امرأتك الأخرى فيقول: قبلت زواجها.

أو يقول الرجل للمرأة: زوجيني نفسك فتقول: قبلت بشرط أن تسكنني في بيت خاص أو بشرط أن تعجل لي المهر كله. وما شاكل ذلك من الشروط التي يرى أحد العاقدين أن فيها مصلحة له.

وقد اتفق الفقهاء على أن الشروط المقترنة بالعقد تتنوع إلى نوعين: شروط صحيحة وأخرى غير صحيحة. واختلفوا بعد ذلك في حد الشرط الصحيح الذي يجب الوفاء به ما هو؟ وفي ثبوت الخيار لشارطه في فسخ العقد إذا لم يوف به من التزمه، وفي تأثير الشرط غير الصحيح في العقد بالفساد مع الاتفاق على إلغائه.

مذهب الحنفية: الشرط الصحيح: هو الذي يقتضيه العقد ( بأن يكون موجبه حكماً من أحكام العقد )، أو يؤكد مقتضى العقد أو ورد به الشرع أو جرى به عرف.

كاشتراط الزوجة على زوجها أن ينفق عليها أو يعطيها مهراً أو يحسن معاشرتها، وكاشتراطه أن تدخل في طاعته فهذه كلها يقتضيها العقد وثابتة ولو لم يشرطها أحدهما.

وكاشتراط ولي المرأة أن يكون والد الزوج كفيلاً بالمهر والنفقة، فإن المهر والنفقة من مقتضيات العقد واشتراط الكفالة بهما يؤكد حصولهما.

وكاشتراط الزوج أن يكون له حق الطلاق إذا تعثرت الحياة الزوجية أو اشتراطها أن يكون أمرها بيدها لتطلق نفسها متى شاءت، فإن هذا الشرط مما ورد به الشرع وأجازه وإن لم يكن من مقتضى العقد ولا مؤكداً لمقتضاه.

والشرط غير الصحيح: ما ليس واحداً من تلك الأنواع وإن كان فيه مصلحة لأحد العاقدين، كاشتراط المرأة ألا يتزوج عليها أو لا يخرجها من البلد الذي تزوجها فيه، وكاشتراط الزوج ألا يدفع لها مهراً أو أن تقوم بالإنفاق على البيت، أو ألا يتوارثا إذا مات أحدهما وكانا مسلمين، أو أن يتوارثا والزوجة غير مسلمة، وحكم هذا الشرط أنه يلغو وحده ولا أثر له في العقد بل يبقى العقد معه صحيحاً، لأن القاعدة المقررة عندهم أن الزواج لا يبطل بالشروط الفاسدة.

مذهب الحنابلة: الشرط الصحيح: هو ما كان فيه منفعة لأحد العاقدين ما لم يكن مخلاً بالمقصود الأصلي من العقد، أو ورد من الشارع نهى عنه بخصوصه. سواء كان موافقاً لما يقتضيه العقد أو لا.

كاشتراط المرأة ألا يتزوج عليها أو ألا يخرجها من بلدها، واشتراطه ألا ينفق عليها أو أن تكون مثقفة أو بكراً وما شاكل ذلك من الصفات التي يرغب في المرأة من أجلها.

وحكم هذا الشرط أنه يجب الوفاء به، فان لم يوف به من التزمه ثبت الخيار لشارطه، لأنه ما رضي بالعقد إلا على أساس الوفاء بالشرط، فإذا لم يتحقق فات رضاه بالعقد ولا زواج مع عدم الرضا ابتداء أو بقاء.

والشرط غير الصحيح: هو الذي ورد النهي عنه بخصوصه أو كان مناقضاً لمقتضى العقد أو مخلاً بالمقصود الأصلي منه كاشتراط المرأة أن يطلق ضرتها، فإنه ورد النهي عنه في الحديث" لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها"، واشتراط أن يتوارثا مع اختلاف الدين. لحديث" لا يتوارث أهل ملتين".

وكاشراط ألا ينجبا أولاداً، أو اشتراطها ألا يتمتع بها فإن هذا الشرط مخل بالمقصود الأصلي من العقد.

وحكم هذا الشرط ألا يتقيد العقد به فلا يلزم الوفاء به ويلغي في كل حال، ولا يتأثر به العقد إلا إذا كان الشرط يجعله في معنى الزواج المؤقت كاشتراط الطلاق في وقت معين أو كانت طبيعة العقد لا تقبله كاشتراط الخيار.

اشتراط الخيار في الزواج:

الزواج لا يثبت فيه خيار الشرط بالاتفاق لم يخالف في ذلك من الفقهاء.

لأن هذا العقد وضع لإفادة حل التمتع في الحال، وخيار الشرط ينافيه، ولأن الحاجة غير داعية إليه فإنه لا يقع في الغالب إلا بعد ترو وفكر ومعرفة كل واحد من الزوجين صاحبه، ولأن ثبوت الخيار يقضي فسخه بعد العقد وفي هذا ضرر كبير بالمرأة وبخاصة إذا كان بعد الدخول.

وبعد اتفاقهم على فساد هذا الشرط اختلفوا في أثره في العقد:

ذهب الحنفية إلى أن الشروط الفاسدة لا تؤثر في عقد الزواج ويقولون بإلغاء الشرط وصحة العقد.

وذهب الحنابلة إلى أن العقد يفسد مع هذا الشرط لأن الزواج لا يقبل الإقالة فلا يقبل الفسخ فيكون هذا الشرط منافياً لطبيعته.

ولا يثبت في الزواج خيار الرؤية فيما لو تزوجا ولم يكن أحدهما رأى الآخر لأن الأصل في عقد الزواج أن يكون لازماً، وثبوت خيار الرؤية يجعله غير لازم.

على أننا لسنا في حاجة إلى إثباته ما دام الشارع قد أباح النظر عند الرؤية بل أمر به ورغب فيه.

ولا يثبت في الزواج خيار العيب حتى ولو اشترط كل منهما أو أحدهما سلامة الآخر من العيوب.

ذهب الحنفية إلى صحة العقد وإلغاء الشرط لكنهم جعلوا للزوجة الحق في رفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد إذا وجدت بزوجها بعض العيوب التي لا يتحقق معها أغراض الزواج كالجب والعنة ولم يجعلوا هذا الحق للزوج إذا وجد بها عيباً يمنع تحقق أغراض الزواج، لأنه يستطيع أن يتخلص منها بالطلاق.

وذهب الحنابلة إلى إثبات لكل من الزوجين الخيار إذا وجد عيباً بالآخر يمنع المخالطة الجنسية سواء كان العيب في محلها أو لا كالأمراض المنفرة كالجذام والبرص والجنون وغيرها.