صيدا ودولة المماليك

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


صيدا ودولة المماليك:

وفيه:

1- التحرير من الصليبيين

2- صيدا في عهد المماليك


التحرير من الصليبيين:

( أ ) صيدا في السنين الأخيرة من عهدها الصليبي.

(ب) الأشرف خليل يسترد صيدا ويدمر أسوارها وتحصيناتها في 690 هـ.


صيدا في السنوات الأخيرة من عهدها الصليبي:

انتصرت جيوش المماليك انتصاراً حاسماً على جيوش المغول وحلفائهم من الأرمن وفرنج أنطاكية في موقعة عين جالوت المشهورة التي جرت في 26 من رمضان سنة 658 ه / 3 سبتمبر سنة 1260 م. وفي نفس هذا العام ارتقى الأمير المملوكي ركن الدين بيبرس البندقداري عرش السلطنة في مصر والشام باسم السلطان الملك الظاهر، بعد أن وثب على السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز بطل وقعة عين جالوت.

واتبع بيبرس مع الصليبيين سياسة تقوم على العنف والصرامة مستهدفاً إخراجهم نهائياً من أراضي الشام، إذ لم يكن قد نسي بعد الدور الذي لعبه بوهمند السادس ومن حذا حذوه من الصليبيين لمساندة المغول، ورأى أن يبدأ بتوجيه أولى ضرباته إلى إمارة أنطاكية، لمعاقبة أميرها على محالفته للمغول، فلقد كان بيبرس يعتبر بوهمند العدو الأعظم له من بين جميع أمراء الإفرنج، ومنذ سنة 660 ه / 1362 م بدأ بيبرس عملياته الحربية في أنطاكية، فغزاها الأمير شمس الدين سنقر الرومي في هذه السنة، وهاجم ميناءها، وعاد ومعه ما يزيد على ثلاثمائة أسير. وفي سنة 663 ه / 1265 م استولى بيبرس على مدينة قيسارية وأرسوف، وفي العام التالي 664 ه هاجم قلعة صفد وتمكن من الاستيلاء عليها. وفي الجبهة الشمالية هاجمت قواته مدينة طرابلس وبلاد السواحل وحصن الأكراد واستولت عليه، كما استولت على قلعة حلبا والقليعات. ويذكر صالح بن يحيى أن الأمير جمال الدين حجي عهد إلى بدر الدين بن رحال بالمرابطة في قبالة فرنج صيدا وبيروت والمثاغرة لهم، كذلك أورد صالح بن يحيى نص كتاب زي الدين آقوش النجيبي نائب الشام إلى زين الدين صالح بن علي بن بحتر أمير الغرب في زمن الظاهر بيبرس، وإلى جمال الدين حجي يأمرهما فيه بعدم تفريق جموعهما وإعادة جمعها وتوجيهها إلى جهة صيدا، والاجتهاد في المساعدة على حفظ هذا الثغر، كذلك كتب بيبرس إلى زين الدين وجمال الدين حجي كتاباً يأمرهما فيه بالاستمرار في الخدمة والنصح لدولته ويعدهما بالمكافأة لقاء إطلاعه على الأخبار والمتجددات، وهو بذلك يهدف إلى اتخاذهما عينين له يتجسسان له أخبار الإفرنج وأن يكونا مثاغرين على صيدا وبيروت.

وهكذا بدأ بيبرس يطبق سياسة من الصرامة تجاه الصليبيين، وعندما أيقن هؤلاء بتحول ميزان القوى إلى جانب المماليك طلبوا منه الصلح، ووصلت رسلهم إلى السلطان في سنة 665 ه يعرضون عليه المناصفة في صيدا وهدم الشقيف. وتردد السلطان بيبرس بادئ ذي بدء في إجابتهم إلى طلبهم، ولكنه لم يلبث في العام التالي أن قبل عرضهم، وأبرمت معاهدة للصلح مدتها عشر سنوات، في أول سنة 667 ه / 1269 م بينه وبين صاحب عكا، اتفق فيها على أن بلاد صيدا الوطأة أي السواحل للإفرنج والجبليات للسلطان.

وظلت صيدا بمنأى عن الغزوات الإسلامية المدمرة في السنين الأخيرة من الصراع بين الإفرنج والمسلمين، ومع ذلك فقد اتخذت جانباً في النزاع الخطير الذي نشب بين بوهمند السابع صاحب أنطاكية وطرابلس 1275 – 1287 م ومقدم الداوية في صيدا جيوم دي بوجيه ومعه جاي الثاني المعروف بسيركي صاحب جبيل في سنة 677 ه / 1278 م، وتعرضت صيدا إبان هذا النزاع لهجوم شنته 15 سفينة سيرها بوهمند السابع، ونزلت قواته عند قلعة البحر حيث وقعوا أسرى في أيدي الداوية، وقد تعرضت صيدا بسبب هذه الغارة لأضرار فادحة.

واستمر الصراع قائماً بين بوهمند السابع ومقدم الداوية ومعه صاحب جبيل حتى سنة 681 ه / 1282 م، فقد حاول جي في هذه السنة الاستيلاء على طرابلس عن طريق المفاجأة، فخرج في ثلاث حمّالات تحمل فرقة من العسكر عدتهم 25 من الخيالة، و400 من الرجّالة كلهم من مواطنيه الجنويين، ولكن بوهمند حاصره هو ورجاله، وألقى القبض عليه، وعاقب الجنويين بأن أمر بسمل أعينهم، أما مصير جي فكان أبشع، إذ دفن هو وأخواه وابن أخته أحياء في حفرة في آخر فبراير سنة 1282 م. وفي نفس الوقت قام صراع بين هيو الثالث ملك قبرص وبيت المقدس وبين الداوية، وساعدت هذه الخلافات والحروب الأهلية على زيادة اضمحلال إمارات الإفرنج، ومهدت السبيل أمام سلاطين المماليك منذ أيام المنصور سيف الدين قلاوون للتغلب عليهم وطردهم نهائياً من بلاد الشام.

وكان قلاوون منذ توليه السلطنة يحرص على مهادنة الصليبيين حتى يؤمن ظهره عندما يتفرغ لرد العدوان المغولي على الشام، ولذلك لم يتردد في الموافقة على تجديد الهدنة بينه وبين فرسان الإسبتارية بعكا في 22 من المحرم سنة 680 ه / 3 مايو سنة 1281 م، وبينه وبين بوهمند السابع لمدة عشرة سنوات كاملة. وفي 5 ربيع الأول سنة 682 ه / 3 يوليو 1283 م عقدت الهدنة بين قلاوون وولده الصالح علاء الدين علي بين حكام مملكة عكا وصيدا وعثليث ولبلادها وهم كفيل المملكة بعكا السنجال أودو وكان يحكم نيابة عن الملك شارل الأنجوي المقدم إفرير كليام ديباجوك مقدم بيت الديوية, والمقدم إفرير نيكول للورن مقدم بيت الاسبتار والمرشان إفرير كورات نائب مقدم الإسبتا.

ونصت الهدنة على أن صيدا القلعة والمدينة والكروم وضواحيها وجميع ما ينسب إليها يكون خاصاً للإفرنج ويكون لها من البلاد خاصاً خمس عشرة ناحية، وما في الوطأة من أنهار ومياه وعيون وبساتين وطواحين ومنى ومياه جارية وسكور لهم بها عادة قديمة تسقي أراضيهم يكون خاصاً لهم وما عدا ذلك من البلاد الجبلية جميعها تكون لمولانا السلطان ولولده بكمالها. واشترط قلاوون في الهدنة على ألا يقوم الإفرنج بتجديد سور ولا قلعة ولا برج ولا حصن قديم ولا مستجد في غير عكا وعثليث وصيدا مما هو خارج عن الأسوار في هذه الجهات الثلاث. وفي سنة 1289 تجددت الهدنة بين قلاوون ومملكة بيت المقدس وقبرص بعد أن اعتذر هنري لاشتراك المنظمات الدينية العسكرية في نقض الهدنة، ولكن إفرنج عكا نكثوا الهدنة عندما قتلوا جماعة من تجار المسلمين كانوا قد قدموا إلى عكا بمتاجر تمسكاً بالهدنة والعهد ومن جملتهم تجار قدموا في البحر ومعهم طائفة من المماليك أرسلوا هدية إلى السلطان. ويذكر رنسيمان أن تجديد الهدنة بين الملك هنري وقلاوون أعاد بعض الثقة في عكا، فعاد التجار المسلمون يمارسون تجارتهم في اطمئنان، وبدأ تجار دمشق يرسلون قوافلهم من جديد إلى الساحل، كما توافد المزارعون المسلمون بمنتجاتهم إلى أسواق عكا. وحدث أن وصل في هذه الآونة محاربون صليبيون جدد في صيف عام 1290 م يمثلون شراذم من رعاع الفلاحين والمتعطلين قدموا من لمبارديا وتسكانيا ممن تطلعوا إلى المغامرة وعرفوا بالعربدة والإخلال بالنظام. فأثاروا بمقدمهم الارتباك والفوضى في عكا، وأخذوا يهاجمون تجار المسلمين، وانطلقوا في الشوارع يذبحون كل من وجدوه منهم، وعندما بلغت أنباء هذه المذابح الوحشية مسامع السلطان، غضب وصمم على القضاء نهائياً على إمارات الإفرنج في الشام، ثم أصدر أمره بتجهيز الجيوش وآلات الحصار، ولكنه توفي في سنة 1290 وخلفه ابنه الأشرف خليل الذي وعد بإنفاذ الحملة التي أعدها أبوه.


الأشرف خليل يسترد صيدا ويدمر تحصيناتها في سنة 690 ه / 1291 م:

ولكن الصليبيين نقضوا الهدنة ورفضوا أن يسلموا المتسببين في ذلك الأمر الذي حمل السلطان المنصور قلاوون على القيام بتعبئة جيوشه بهدف القضاء على بقايا الإمارات الصليبية في الشام، ولكنه توفي قبل أن يشرع في إنفاذ الحملة، وعندما اعتلى ابنه الأشرف خليل دست السلطنة قضى الشهرين الأولين في توطيد ملكه ثم تحرك على رأس حشوده في مارس 1291 وقد زودها بكل آلات الحصار والقتال، ووصلت قواته أمام أسوار عكا في 5 أبريل التي وجه إليها أولى ضرباته، ونجح في الاستيلاء عليها في 17 جمادى الآخر سنة 690 ه / 18 مايو سنة 1291 م. ويسجل سقوط عكا المركز اللاتيني المنيع نهاية استعمار الإفرنج للشام، وقاتل فرسان الداوية والاسبتارية قتالاً ضارياً، ولكن مواقعهم الأخيرة لم تلبث أن سقطت في أيدي المسلمين في أقل من ثلاثة أشهر، وفكر الداوية في نقل مركز المقاومة إلى صيدا حيث لجأ إليها نفر من الداوية نجوا من مذابح عكا مع قائدهم ثيبوت جودان وطائفة قليلة من المدنيين، وحمل ثيبوت معه كنوز الداوية وأموالهم وذخائرهم. واختير ثيبوت في صيدا مقدماً لجماعة الداوية بدلاً من المقدم جيوم دي بوجيه الذي سقط صريعاً في الهجوم الأخير الذي شنه المسلمون على عكا في 18 مايو. 

وبينما كان المماليك يدمرون عكا ويخربون أسوارها وتخصيناتها ويسوونها بالأرض، كانت قوات الأشرف خليل بقيادة الأمير علم الدين سنجر الشجاعي تسير نحو صيدا، وفكر الداوية بادئ ذي بدء في الدفاع عن صيدا التي كانت جزءاً من أملاكهم، وكان المقدم الجديد ثيبوت جودان قد تحصن فيها ومعه كنوز الداوية، وتجمع فيها الناجون من مذابح عكا. وعندما وصلت طلائع القوات المملوكية خرج الأهالي من المدينة وتحصنوا مع الداوية في قلعة البحر، ومن هناك ركب ثيبوت جودان سفينة حملته إلى قبرص بعد أن وعد إخوانه والأهالي المحاصرين بأنه سيعود بإمدادات تعينهم على الصمود، وطال انتظار المدافعين عن القلعة لهذه الإمدادات دون جدوى، في الوقت الذي أخذ علم الدين سنجر يقيم رصيفاً بين البر والقلعة للوصول إليهم، وعندئذ يئس المدافعون عن القلعة والحامون لها من الداوية والأهالي من قدوم أي مدد، وركبوا في ليلة حالكة الظلام سفنهم إلى قبرص، وعلى أثر ذلك استولى المماليك على قلعة البحر المهجورة في 15 رجب سنة 690 ه / 14 يوليو 1291 ودمروا تحصيناتها.

وفي فتح صيدا على أيدي المماليك يقول المقريزي: وفتحت صور وحيفا وعثليث وبعض صيدا بغير قتال، وفر أهلها خوفاً على أنفسهم، فتسلمها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في بقية جمادى الأول، فقدمت البشائر بتسليم مدينة صور في 19 جمادى الأول، وبتسليم صيدا في العشرين منه، وأن طائفة من الإفرنج عصوا في برج منها والمقصود به قلعة البحر فأمر السلطان بهدم صور وصيدا وعثليث وحيفا. وفي موضع آخر يقول: وكان الأمير سنجر الشجاعي نائب الشام قد سار في رابع رجب إلى صيدا، وحاصر البرج حتى فتحه في 15، وعاد إلى دمشق يوم رحيل السلطان منها.

ويشير شيخ الربوة الدمشقي إلى أن فتوح الأشرف خليل لعكار وعثليث وحيفا واسكندرونة وصور وصيدا وبيروت وجبيل وأنفة والبترون وصرفند استغرقت 47 يوماً. ويجمع مؤرخو العرب على أن السلطان الملك الأشرف خليل أمر بهدم هذه المدن جميعاً بعد أن دخلتها جيوش المسلمين، فهدمت. وهكذا تحولت صيدا مرة أخرى إلى خرائب، وقد سبق للملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق أن أرسل الحجارين والنقابين إلى القدس، فخرب أسوارها خوفاً من أن يقصدها الإفرنج فلا يقدر على منعهم. كذلك خرب المسلمون أسوار دمياط في شعبان سنة 648 ه لما حصل للمسلمين عليها من الشدة مرة بعد أخرى وأسسوا مدينة في البر سموها المنشية. وعندما افتتح قلاوون مدينة طرابلس أمر بها فهدمت ودكت إلى الأرض سنة 688، ونلاحظ أن مدينة صيدا خربت أكثر من مرة في العصر الأيوبي منذ أن استولت عليها قوات صلاح الدين في سنة 582، ومن المعروف أن سلاطين الأيوبيين والمماليك كانوا يحرصون على تدمير التحصينات الساحلية بوجه خاص حتى لا يهيئوا المجال بتركها سليمة دون هدم للصليبيين معاودة الاستيلاء عليها والتحصن فيها من جديد، وهو تقليد بدأه عمرو بن العاص عندما خرب سور الإسكندرية بعد أن عانى كثيراً من الصعاب في استردادها سنة 25 ه من أيدي الروم الذين كانوا قد انتقضوا على المسلمين وتحصنوا فيها. 

وكان الأشرف خليل إذ أمر بهدم أسوار هذه المدن مدفوعاً بخوفه من أن يعاود الصليبيون الذين فروا إلى جزيرتي قبرص ورودس وضع أقدامهم على الساحل. وعندما أعيد بناء مدينة طرابلس في نيابة أسندمر كرجي اختيرت المدينة الجديدة في موضع داخلي لتصبح مدينة ذات حامية، وحدث نفس الشيء بالنسبة لصيدا، فقد وكل الأشرف بحراسة الساحل من زاوية طرابلس حتى صيدا إلى بعض عشائر التركمان والمسلمين تحوطاً من عودة الإفرنج إلى هذه الجهة واستئناسهم نصارى لبنان، فتكون تلك العشائر فاصلة بين الإفرنج والنصارى الوطنيين.

وأول من تولى على صيدا وبيروت في أول الفتوحات الأشرفية والٍ يقال له الدمياطي، ثم توالى عليها الولاة بعد ذلك.


صيدا في عهد المماليك:

( أ ) الوضع الإداري.

(ب) إضمحلال العمران في صيدا.

(ج) الوضع الاقتصادي.

(د) غارات القبارصة على صيدا.

(ه) غارات الجنوية على صيدا.

(و) إهتمام المماليك بإعادة تحصين صيدا.


الوضع الإداري:

أصبحت صيدا منذ أن دخلتها جيوش المماليك ولاية جليلة يتولاها أمير طبلخاناه أحياناً، وأمير عشرة أحياناً أخرى، وكان بقلعتها بحرية وخيالة وكشافة وطوائف من المستخدمين. وكانت ولاية صيدا من أعمال نيابة دمشق، شأنها في ذلك شأن بيروت، وكانت ولاية صيدا نفسها تضم أعمالاً واسعة، وقد أشار غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري إلى أهمية صيدا في عصره عصر المماليك الشراكسة، فذكر أن مدينة صيدا ميناء دمشق وهي مدينة لطيفة على شاطئ البحر المحيط، ترد إليها المراكب، ولها إقليم به ما ينوف عن مائتي قرية، وهي أيضاً من معاملة دمشق.

وكان والي صيدا يتولى منصبه بموجب توقيع بولايته يصدر من نائب السلطنة بدمشق، وقد أورد القلقشندي نص نسخة منه تضمنت أسباب اختياره لذلك المنصب والأعباء والمهام الملقاة على عاتقه، كالتمسك بالعدالة والحرص الزائد في تلقف الأخبار، وتفقد أحوال إقليم صيدا بره وبحره، واعتماد مصالح السكان، وإدارة الشؤون المالية والديوان، والجمع في المعاملة بين سياسة اللين والشدة. وفيما يلي نص هذه النسخة: رسم بالأمر العالي – أنفذه الله في الأقطار، ونجم بولاته أيام الأوطان والأمطار، وأجرى بشكره سفن الركائب وركائب السفن إذا سف وإذا طار، أن يستقر فلان… ركوناً إلى عزمه وحزمه، وسكوناً إلى اهتمامه الذي حكم فيه، والاختبار بعلمه، وعلماً أن للولايات به الانتفاع، ولحصونها الامتناع والارتفاع، وأنه إذا ولي رعى، وإذا أقوي كان أعصم راع، وإذا فكر في الرأي ووقب في المهم كان نعم الشجاع. فليباشر ولاية عمله، ناهضاً بأعبائه، رافعاً بالعدل لأرجائه ورجائه، حريصاً على طيب الأخبار المنتشرة من كافور صبحه ومسك مسائه، وليتفقد أحوال بره وبحره، ويتيقظ لذلك البر وجهره، وذلك البحر وسره حتى يتحدث البحر عن عزمه ولا حرج، ويسير ذكره كنسيم الروض لا ضائع الصنع ولكن صنائع الأرج، ويعتمد مصالح النواحي وسكانها، والأموال وديوانها، والجهات وضمانها، ونجوم التقسيطات في البلدة، وتحرير ميزانها، ويجمع بين اللين والشدة لسياسة لا يخرج بها الرأي عن إبانها، وتقوى الله تعالى هي العمدة فعليها يعتمد، وعلى ركنها يستند، حتى تجعل له على المصالح أيداً، وحتى تثني نحو الثناء عليه عمراً وزيداً، وحتى تجعل له بأساً في الأعداء يكيد كيداً، وحسن ذكر في البلد يصيد صيداً.

ولم يصلنا من أسماء ولاة صيدا في العصر المملوكي إلا عدد قليل جاء ذكرهم عرضاً في صفحات المصادر، على أن ولاة صيدا كان معظمهم من أمراء الغرب من بني بحتر، وكانوا يجمعون عادة بين ولاية بيروت وصيدا، وفيما يلي بعض أسماء هؤلاء الولاة:

1- الدمياطي: وقد تولى بيروت وصيدا بعد فتح صيدا على يد الأشرف خليل في سنة 690 ه، ويبدو من اسمه أنه ينتسب إلى مدينة دمياط التي كانت على اتصال وثيق بصيدا في العصر الإسلامي، وقد عهد إليه الأمير علم الدين سنجر الشجاعي بعمارة الجسر الخراب القائم على نهر الدامور أثناء مروره ببيروت. ولكن هذا الجسر سرعان ما تخرب بعد عمارته بثلاث سنوات على أثر سيل جارف، وظل خرباً إلى أن قام الأمير سيف الدين تنكز بعمارته، فعمر، ثم تخرب من جديد بسبب السيول التي جرفت مياهها معظم حجارته إلى البحر، كما انهار جانبه القبلي. وعمد والي صيدا ناصر الدين الحسين في سنة 745 ه إلى الاستعانة في ترميم وإعادة بنائه بمهندس طرابلس المشهور في الأعمال الساحلية أبي بكر بن البصيص البعلبكي.

2- سيف الدين تنكز: وقد سبق أن رأيناه يتولى ترميم جسر نهر الدامور فيما يقرب من سنة 694 ه / 1294 م.

3- الأمير ناصر الدين الحسين بن سعد الدين خضر: كان والياً على الغرب بما فيه صيدا، وقد اشترك ناصر الدين في الحملة التي توجهت إلى الكرك في سنة 743 ه / 1342 م لمحاصرة السلطان الناصر أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون.

4- الأمير بهاء الدين داود بن علم الدين سليمان ت803: اشترك مع تنكز بغا نائب بعلبك وكاشف على صيدا وبيروت في الحملة التي جردها السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق لمحاربة تيمورلنك عندما غزا بلاد الشام في سنة 803 ه / 1400م، وقد فقد الأمير بهاء الدين داود في جملة المفقودين عندما فرت جيوش السلطان قبل لقاء جيوش تيمورلنك.

5- الأمير عساف الحبشي: كان نائباً على بيروت وصيدا في زمن السلطان محمد بن قايتباي وقد قتل في 15 ذي الحجة سنة 901 ه في نفس العام الذي ارتقى فيه السلطان الناصر محمد أبو السعادات ابن قايتباي على دست السلطنة، وكان الأمير عساف المذكور من مشاهير الولاة.

6- ناصر الدين محمد بن الحنش: كان والياً على صيدا والبقاعين في زمن السلطان قانصوه الغوري منذ سنة 917 ه / 1511 م حتى سنة 922 ه / 1516 م، وتسجل هذه السنة خروجه على السلطان العثماني سليم الأول ونيذه لطاعته، فاستولى جان بردي الغزالي نائب الشام على صيدا، وفر ابن الحنش. وتمكن جان بردي من القبض على العصاة أتباع ابن الحنش وعلى رأسهم الأمير زين الدين وأمير قرقماس والأمير علم الدين سليمان ثم أرسلهم إلى صور، فقلعة صفد فقلعة دمشق ومنها إلى قلعة حلب. ولما قتل ابن الحنش بعد ذلك أطلقهم الغزالي.

7- محمد ابن قرقماس: تولى على بيروت وصيدا والتقدمة على البقاع من قبل السلطان سليم.

وكانت صيدا من الناحية الإدارية أيضاً، رغم كونها مجرد ولاية، من أهم مراكز نقل الثلج من دمشق إلى دمياط بحراً في العصر المملوكي، وكان الثلج ينقل بعد وصوله إلى دمياط من مراكب بحر الملح إلى مراكب بحر النيل، ثم يأتي به إلى بولاق، ثم ينقل على البغال إلى الشرابخاناه الشريفة، وتخزن في صهريج، وظلت صيدا مركزاً رئيسياً لشحن الثلوج إلى مصر حتى أيام السلطان الملك الظاهر برقوق، وفي عهده استخدم الطريق البري بدلاً من البحري، وأصبح الثلج يحمل من دمشق براً على الهجن في الفترة ما بين حزيران إلى آخر تشرين الثاني ما يقرب من إحدى وسبعين نقلة، وكان يجهز مع كل نقلة بريدي بيده تذكرة وبرفقته ثلاّج خبير بحمله ومداراته.

كذلك كانت صيدا مركزاً هاماً من مراكز بطائق الأبراج الخاصة بالحمام في العصر المملوكي، وكان الخلفاء الفاطميون أول من اعتنوا من حكام مصر بالحمام الزاجل، وبالغوا في ذلك حتى أفردوا له ديواناً وجرائد بأنساب الحمام، ثم نهج نور الدين زنكي نهجهم في سنة 565 ه / 1169 م، وكانت بصيدا عدة أبراج ومراكز حمام لها برّاجة وخدام متخصصون، وأقفاص وبغال للتدريج، ومرتبات وأرزاق، لتصدير الأخبار متصلة ساعة بساعة، مع دمشق من جهة وبيروت وتربلة وطرابلس من جهة ثانية.

ولما كانت صيدا مركزاً لبطائق الأبراج الخاصة بالحمام، كانت أيضاً مركزاً بريدياً هاماً، فكانت تمتد من دمشق عدة طرق بريدية تصل إلى صفد وجزين وصيدا وبعلبك. أما طريق صيدا فكان ينتهي إلى بيروت، في حين كان طريق بعلبك يمر بالزبداني وبورا وينتهي ببعلبك، وفي كل من هذه المواضع كانت تقام محطات لا تعدو أن تكون خانات ونزل للبريديين. ومن أمثلة الخانات الباقية خان دنون الواقع بين دمشق ودرعة، ويتوسط الخان صحن فسيح تدور به بائكة تنفتح على الصحن، وتطل عليها أروقة ذات قبوات متصلة، ويكتنف جدران الخان في الأركان أبراج نصف أسطوانية بينما يتوسط الجانب الغربي برج نصف دائري. ويرجع إنشاء هذا الخان إلى السلطان الملك الأشرف شعبان الذي أقامه في سنة 778 ه، وباشر البناء فيه علي بن البدري مهندس الشام.


اضمحلال العمران في صيدا:

اضمحلت صيدا في عصر المماليك اضمحلالاً يشهد به الرحالة والجغرافيون الذين كتبوا عنها في هذا العصر، وترجع أسباب هذا الاضمحلال إلى ما يأتي:

1- الضربات الشديدة التي تعرض لها العمران الصيداوي منذ أن استردها صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 583 ه حتى بداية العصر المملوكي، ومن المعروف أن هذه الضربات كان يوجهها إليها إما المسلمون في الفترة التي خضعت فيها صيدا للصليبيين، أو الصليبيون في الفترة التي خضعت فيها صيدا للمسلمين، وفي حالة واحدة تعرضت المدينة لغارة تأديبية انتقامية شنها المغول بقيادة كيتبغا نويان، وقد أدت هذه الضربات المتتالية إلى تدمير الأسوار وانحسار العمران وتقلصه بسبب نزوح كثير من سكان المدينة عنها إلى مدن ساحلية أكثر حصانة ومنعة مثل صور وعكا، أو إلى مدن داخلية أكثر أمناً مثل دمشق وبعلبك.

2- غارات الجنوية والقبارصة على ساحل صيدا منذ طليعة القرن الثامن الهجري، وسنتحدث عن هذه الغارات بالتفصيل عندما نتعرض لدراسة الأحداث الهامة في صيدا في العصر المملوكي.

3- الفناء الكبير الذي نكب به العالم فيما بين عامي 742 ، 751 ه / 1341،1350 م ، وبلغ ذروته في الأقطار الإسلامية في سنة 749 ه / 1348 م ،وقد كانت صيدا وسائر مدن الساحل بوجه خاص من أكثر المدن الشامية تعرضاً لهذا الوباء، ويشير ابن الوردي إلى ذلك بقوله: ثم طوى الوباء المراحل، ونوي أن يحلق الساحل، فصاد صيدا وبغت بيروت كيدا.

4- عدم صلاحية مينائها الشمالي لإرساء السفن الكبيرة بسبب كثرة الرواسب الرملية، وعدم اهتمام الولاة بتطهير هذا الميناء وتوسعته، وقصر استخدامه على سفن الصيد والمراكب التجارية الصغيرة الأمر الذي أدى إلى حصر النشاط التجاري الخارجي في صيدا إلى أضيق نطاق، واقتصاره على المجال الداخلي.

وهكذا تضامنت هذه العوامل جميعاً فيما بينها على اضمحلال صيدا عمرانياً وبالتالي اقتصادياً، وكان وصف الإدريسي لها في سنة 548 ه / 1154 م آخر وصف لها يعبر عن عظمتها، إذ أن ما وصفها به الرحالة والجغرافيون في الفترات اللاحقة كان يعبر عن طبيعة هذا الاضمحلال الذي شملها كما شمل غيرها من مدن الساحل، في الوقت الذي ظهرت فيه بيروت بصفة خاصة كميناء رئيسي لبلاد الشام: فأبو الفداء الذي وصف صيدا في سنة 721 ه / 1321 م يقول: تقع على البحر وهي مدينة صغيرة حصينة، ووصفها ابن بطوطة بعد ذلك بعدة سنين بقوله: وهي على ساحل البحر حسنة كثيرة الفواكه، يحمل منها التين والزبيب والزيت إلى مصر. وذكر الرحالة لودولف السدهيمي الذي زارها فيما يقرب من هذه الفترة، بأنها مدينة ساحلية تحيط بها أبراج وأسوار مرتفعة ولكنها مهجورة. وذكر القلقشندي أنها مدينة تقع على ساحل بحر الروم ومزودة بقلعة منيعة لا ترام. أما جون بولونر الذي زار الأراضي المقدسة في عام 1421 – 1422، فقد أشار إلى أنها مدينة فينيقية تشهد خرائبها في الوقت الحاضر بعظمتها، وخارج أطلالها بنيت مدينة أخرى صغيرة حقاً ولكنها حصينة، وينقصها الرجال للدفاع عنها. وعندما زار طافور مدن الساحل اللبناني لم يذكر اسم صيدا وإنما ذكر الرملة ويافا وبيروت وصور وعسقلان وعكا.

ونستنتج مما سبق ذكره أن صيدا لم تبق طويلاً بدون أسوار منذ أن افتتحها المسلمون في سنة 690 ه وخرب الأمير علم الدين سنجر الشجاعي أسوارها وتحصيناتها، فقد أعيد بناؤها من جديد وجددت تحصيناتها، وأضيف إليها في زمن لاحق، وهو أمر أشار إليه أبو الفداء وابن بطوطة ولودولف والقلقشندي وجون بولونر ضمناً في وصفهم للمدينة، وسنتحدث عن آثار التحصينات الإسلامية عند تعرضنا فيما بعد لدراسة مظاهر اهتمام المماليك بتحصين صيدا.

وظلت صيدا على الرغم من تجديد بناء حصونها وأسوارها مدينة قليلة الأهمية، وعندما زارها سنديس في سنة 1610 / 1611 م كانت تبدو مدينة فقيرة، ولم تنتعش صيدا وتتألق من جديد إلا منذ أن اتخذها الأمير فخر الدين المعني الثاني قاعدة لإمارته على النحو الذي سنشير إليه بعد ذلك.


الوضع الاقتصادي:

كانت صيدا في العصر الفاطمي مدينة زاهرة عمرانياً واقتصادياً، وكان أهلها من اليسار والثراء بحيث كان في إمكانهم شراء حرياتهم واستقلالهم بالأموال التي يبذلونها سواء لطغتكين أو لبلدوين، وليس من شك في أن هذه الثروات الطائلة التي كانت تتدفق على مدينة ذات ميناء أو بمعنى أصح ذات موانئ ثلاث لا بد أن يكون مصدرها قيام نشاط تجاري واسع النطاق. غير أن حياة صيدا الاقتصادية لم تلبث أن مرت بتجربة قاسية إذ تأثرت بالنكسة العمرانية التي أصابتها منذ أن أخذت قوات المسلمين والصليبيين تتناوب حكمها أكثر من ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت أسوار المدينة ومنشآتها تتعرض للتدمير والتخريب الأمر الذي أثر على الوضع الاقتصادي في المدينة، فساعد على تدهور التجارة والزراعة والصناعة منذ العهد الصليبي حتى الفتح العثماني. ومع ذلك فإن اضمحلال عمران صيدا لم يتضح تماماً في زمن ابن بطوطة الذي يذكر أنها كانت تصدر التين والعنب وزيت الزيتون. ونستنتج مما كتبه جاك دي فتري في القرن الثالث عشر الميلادي أنه كانت تتوافر في صيدا أشجار الفاكهة والكروم وغابات وحقول وأرض محروثة. ويحدثنا بولونر عن زراعة قصب السكر والكروم الجيد. ولا شك أن الفاكهة ولاسيما الحمضيات كانت وما تزال تشكل الثروة الزراعية الرئيسية في صيدا المملوكية، وكانت هذه الفواكه تصدر عادة إلى مصر. وبالإضافة إلى هذه المنتجات الزراعية المحلية لعبت صيدا دور الوسيط التجاري-ولكن في نطاق محدود-بين الشام ومصر، فكانت تقوم بتصدير منتجات المناطق السورية الداخلية، فمن دمشق نفسها كانت ترد إلى صيدا الأواني الخزفية والتحف الزجاجية والمعادن والحلل الموشية والمنسوجات الحريرية الفاخرة والشموع وبعض الدواب كالغنم والخيول.

أما الصناعات فقد تدهورت نتيجة لتدهور التجارة، واقتصرت الصناعات فيها على صناعة السكر، كذلك استمرت صيدا في إنتاج الزجاج والخزف وهما صناعتان تقليديتان اشتهرت بهما عبر التاريخ. على أن أهم صناعات صيدا التي اشتهرت بها في العصر الوسيط هي صناعة المنسوجات الحريرية، ولكن جارتها صور فاقتها في هذا المجال، وعرفت أوروبا المنسوجات الحريرية المصبوغة بالأرجوان الصوري التي كانت تصدرها صور في العهد الصليبي إلى الآفاق، وكانت سفن الجنوية والبنادقة التي تحمل حجاج المسيحية من أوروبا إلى الأراضي المقدسة تعود موسقة بالمنسوجات الحريرية والتفتا الدقيقة التي كان الغرب يشتد في طلبها من صور وصيدا، وطغى استعمالها إلى دور البورجوازية والمصليات الكنسية، وكانت الملونات الحريرية تغطي جدران المصليات، وأخذت أعلاماً وأغطية للأسرة، أو شطفات تتدلى على النوافذ في أيام الاحتفالات والأعياد. ومع ذلك فقد كسدت هذه الصناعة نتيجة لهجوم المغول على صيدا، وتخريب قلاوون لطرابلس وتدمير الأشرف خليل لكل من صيدا وصور، وتوقف نشاط هذه المدن اللبنانية في هذا المجال قرابة قرن من الزمان.


غارات القبارصة على صيدا:

لم يؤد نجاح الأشرف خليل في طرد الإفرنج نهائياً من أراضي الشام إلى توقف الصراع الحربي بين المسلمين والصليبيين، بل كان ذلك الحدث من العوامل التي أججت نيران هذا الصراع وقوت من حدته، فإن قوى الصليبيين بارتكازها في قبرص ورودس وأرواد باتت تشكل خطراً متواصلاً على السواحل المصرية والشامية. وكانت الاعتداءات الصليبية على سواحل الشام من العوامل الرئيسية التي دفعت نواب السلطنة في الشام إلى تدمير أسوار المدن الساحلية وتخريبها حتى لا يتمكن المعتدون من احتلالها والتحصن فيها، واتخاذها مراكز لتوجيه عدوانهم على بلاد الشام بغية تأسيس مستعمرات صليبية جديدة. وعلى الرغم من نجاح سيف الدين كهرداش الزراق المنصوري في استرداد جزيرة أرواد في سنة 702 ه / 1302 م بعد أن فتحها عنوة، فقد ظل فرسان الاسبتارية الذين انتقلوا إلى جزيرة قبرص بعد قيام الأشرف خليل بتحرير الأراضي الشامية من المستعمرات الإفرنجية يهددون السواحل الشامية تهديداً مباشراً بغاراتهم المتواصلة منذ سنة 702 ه التي سقطت فيها أرواد في أيدي المسلمين، وساعد موقع قبرص الاستراتيجي الهام في قبالة الساحل السوري على تزايد الغارات الصليبية على موانئ لبنان بوجه خاص. وإذا كانت طرابلس الشام هي أول مدن الساحل الشامي التي تعرضت لغارات الإفرنج في شعبان سنة 698 ه / 1298 م فإن مدينة صيدا هي الأخرى كانت هدفاً رئيسياً للغارات البحرية القبرصية، وكانت هذه الغارات أشبه بغارات القراصنة القصد منها السلب والنهب واختطاف الأهالي بغية المطالبة بفدياتهم.

وأول هذه الغارات التي شنها القبارصة غارة قام بها هؤلاء الإفرنج على الدامور الواقعة إلى الشمال من صيدا في سنة 702 ه / 1302 م في نفس العام الذي فتح فيه المماليك جزيرة أرواد، ففي 8 جمادى الأول من هذه السنة نزلت جماعات مسلحة من الإفرنج على نهر الدامور، فاشتبك معها الأمير فخر الدين عبد الحميد بن جمال الدين التنوخي وأخوه الأمير شمس الدين عبد الله مع عسكر المسلمين في معركة انتهت بتغلب الإفرنج وسقط الأمير فخر الدين صريعاً في حين وقع أخوه شمس الدين أسيراً في أيدي القبارصة، فاستبقوه خمسة أيام ثم افتداه الأمير ناصر الدين الحسين ابن خضر متولي الغرب بمبلغ من المال قدره ثلاثة آلاف دينار صورية.

ولم يمض على هذه الغارة أربعة أعوام حتى تعرضت مدينة صيدا نفسها لغارة بحرية عنيفة. ويذكر صالح بن يحيى أنه في العشر الأخير من جمادى الأول جاز على بيروت تعميرة للإفرنج، ولم يتعرضوا لها وتوجهوا إلى صيدا، فأخذوها وقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة، ونهبوا منها شيئاً كثيراً، وكذلك المسلمين قتلوا من الإفرنج جماعة وبعثوا برؤوسهم إلى دمشق وعلقوا على القلعة، فكانت بضع وثلاثين رأساً. وبادر الأمير شهاب الدين بن صبح نائب صفد بالسير إلى صيدا سابقاً عسكر دمشق، ولكنه أدرك السفن الصليبية وهي راسية على جزيرة صيدا بعد انتهائها من الغارة، فافتدى جميع الأسرى من أموال ديوان الأسرى وقدرها ثلاثون ألف درهم افتدى بها ستين أسيراً.

ويروي الدويهي ت1699 م عن ابن سباط أن مراكب الإفرنج قصدت صيدا في سنة 756 ه / 1355 م وهاجموا المدينة وقتلوا طائفة من أهلها وأسروا طائفة أخرى، فقاتلهم أهل صيدا قتالاً شديداً وقتلوا منهم عدداً كبيراً، ودمروا مركباً من مراكبهم، واستنجد أهل صيدا بنائب دمشق، فاحتشدت الأجناد من دمشق وصفد ووصلت بعد انتهاء المعركة، وبادر المسلمون بافتداء الأسرى على أساس 500 درهم لكل أسير، وأنفقوا في ذلك مبلغاً قدره 30 ألف درهم من مال ديوان الأسرى.

ويذكر النويري الإسكندري في مخطوطة الإلمام بما قضت به الأحكام أن ثلاثة أغربة قبرصية قدمت إلى ميناء أبي قير الواقعة إلى الشرق من مدينة الإسكندرية في فجر يوم 27 شعبان سنة 765 ه / 1363 م، وأسر أصحابها من قصور البساتين 76 من المسلمين ما بين رجال ونساء وصبيان، ومضوا بهم إلى ساحل صيدا، ففاداهم أهل صيدا بمال وردوهم إلى أوطانهم.

ثم توالت غارات القبارصة على صيدا منذ سنة 769 ه / 1367 م على نحو يكاد يكون متواصلاً: ففي هذه السنة أغار إبراهيم بن الخبازة القبرصي أحد قواد القبارصة البحريين في غيبة صاحب قبرص بغرابين وشيطي على بلدة الصرفند الواقعة على بعد 15 ك.م. جنوبي صيدا، بنية خطف نسائها ونهبها، ولكنه لم يخرج من هذه الغارة التي قتل فيها ثلاثين نفراً من أهل الصرفند إلا بعدد قليل من الأسرى يصل إلى 13 أسيراً. وقد أورد النويري تفصيلات عن هذه الغزوة نقلها عن الشيخ عبد الله ابن نجم الصرفندي الذي رحل إلى الإسكندرية بعد الوقعة المذكورة، فذكر أن رجلين من أهل الصرفند تخاصما، فمضى أحدهما يشتكي الآخر من عند والي صيدا، فلما كان في الليل ضرب البوق والزمر، فظن أهل البلد أن الرجل أتى بكبس الصرفند، فخرج أهل البلد منه هاربين، فبينما هم خارجين من البلد وإذا بالناس يصيحوا ارجعوا إلى بلدكم، وقاتلوا عدوكم، فإنما هم إفرنج. فرجعت الناس، فهربت الإفرنج بعد أن قتلوا من المسلمين ثلاثين نفراً ممن أدركوه في أزقة البلد وأسروا ثلاثة عشر منهم ثلاث نسوة وأربع صبيان وأربع بنات وطفلين على أكتاف أمهاتهما، ولم ينالوا من البلد شيئاً غير المأسورين المذكورين.

وفي أواخر هذا العام خرج سنجوان دمرف القبرصي عم بطرس الثاني دي لوزنيان بن هيو الرابع ملك قبرص 1369 – 1382 والوصي عليه، في أربع بطسات وأغار على سواحل صيدا والبترون وأنطرطوس واللاذقية.

ثم انقطعت غارات القبارصة على صيدا فترة طويلة استمرت نحواً من ستة وأربعين سنة من 1367 حتى 1413 م، وذلك بعد أن عقدوا الصلح مع السلطان المملوكي المنصور علاء الدين علي بن شعبان في سنة 772 ه / أكتوبر 1370 م. ثم عاودوا الغزو في سلطنة المؤيد شيخ 815 – 824 ه رداً على غارات المماليك على قبرص في عامي 813 ، 814 ه. ففي سنة 816 ه / 1413 م أغار القبارصة على بلدة الدامور الواقعة إلى الشمال من صيدا في منتصف الطريق إلى بيروت، فبادر الملك داود الجركسي بالنهوض إليهم من دمشق، وانضم إليه الأمير قاسم بن محمد بن أبي بكر بن حسين الشهابي أمير وادي التيم ولبنان برجاله، والأمير سيف الدين أبي المكارم يحيى بن نور الدين صالح أمير الغرب، وبادر لنجدتهم السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي نائب السلطنة بدمشق، وكان على مدينة بعلبك، فركب من وقته ووصل إلى بلدة الناعمة التي تقع في الطريق بيروت – الدامور – صيدا على مسافة غير بعيدة من خلدة حيث يقع معسكر أمير الغرب، وقاتل هو والأمراء الآخرين الإفرنج بعد أن دخلوا في بلاد صيدا وبيروت وعاثوا فيها فساداً، فتغلب عليهم وقتل منهم سبعين شخصاً، وأجلاهم في شوانيهم عن الساحل، وفي ذلك يقول العيني:

له غزوات مع فرنج بساحل بصيدا وبيروت بعز تشيد

وقد أدت هذه الغارة وغارات أخرى قام بها الكتيلان والقبارصة على سواحل يافا والإسكندرية في سنة 819 ه / 1417 م، واعتدائهم على الإسكندرية من جديد في شعبان سنة 825 ه / 1422 م وفي العام التالي، إلى قيام السلطان الملك الأشرف برسباي 825 – 841 ه بالرد على هذه السياسة العدوانية رداً حاسماً، ففكر جدياً في فتح جزيرة قبرص، وبدأ في سنة 827 ه / 1423 م بتسيير حملة استطلاعية تمهيداً لافتتاح الجزيرة المذكورة سماها العيني الغزوة الصغرى، ثم سير في العام التالي أسطولاً يتألف من 40 سفينة بقيادة الأمير جرباش الكريمي، اشتركت فيه قوة تونسية من قبل السطلان الحفصي أبي فارس ت 1434، وأرست الحملة بالماغوصة، وهزم المماليك القبارصة في عدة مواقع، وعادت السفن المصرية إلى قواعدها وهي تحمل ما يزيد على ألف أسير.


غارات الجنوية على صيدا:

أدى احتكار البنادقة لمعظم النشاط التجاري في حوض البحر المتوسط إلى قيام نزاع بينهم وبين الجنوية منافسيهم في التجارة البحرية، وعمد الجنوية إلى وقف هذا النشاط وعرقلته عن طريق شن الغارات على سواحل الشام ومصر، وانضم إلى الجنوية في هذه الغارات طوائف من قراصنة الكتيلان والروادسة والقبارصة، وتعرض ثغر صيدا لاعتداءاتهم عدة مرات، أولها في جمادى الآخر سنة 784 ه / 1382 م وذلك عندما قام الجنوية بعملية إنزال على الساحل الصيداوي، واستولوا على المدينة، وعاثوا فيها فساداً، وتمكنوا من الاستيلاء على بضع مراكب صغار، ثم توجهت سفنهم بعد ذلك إلى بيروت. وبلغ سيف الدين بيدمر الخوارزمي نائب السلطنة في الشام نبأ نزولهم في صيدا ثم خروجهم عنها إلى بيروت فقال: صيدا ما بقينا نلحقها، نروح نلحق بيروت"، فسار في حشوده إلى بيروت في الوقت الذي وصلت فيه سفن الجنوية، فأحجم هؤلاء عن النزول، وعادت سفنهم إلى قبرص.

واستمر الصراع قائماً بين الجنوية والبنادقة حتى طليعة القرن التاسع الهجري، ففي 20 من المحرم سنة 806 ه / 1404 م أغار الجنوية على بيروت في 37 شيني و 9 مراكب صغار بقيادة أمير البحر الفرنسي بوسيكو، وتوجهوا في نفس الليلة إلى جهة صيدا، حيث نزلوا إلى البر على مسافة لا تزيد على ميل من المدينة، وكان قد اجتمع على صيدا العشران (العشران بمعنى الأحزاب مفردها عشير، وقد اشتهر من العشران عشير البقاع وعشير صيدا وبيروت) وغيرهم، ولم يجسر الجنوية على دخول صيدا لكثرة من احتشد فيها من جيوش المسلمين، وكان شيخ الخاصكي نائب السلطنة في دمشق قد خرج منها في دورته بالبقاع وبعلبك، فبلغه نبأ نزول الجنوية على طرابلس، فتوجه إليها، ولكنه وصل بعد فوات الأوان، ثم مضى إلى بيروت وقد خرج الجنوية منها إلى صيدا، فهاجمهم واشترك معه في الهجوم بنو بحتر أمراء الغرب، فرماهم الجنونية بالجروخ، وأصيب فرس الأمير شيخ، كما أصيب جماعة من المسلمين، واضطر الجنوية إلى التراجع نحو سفنهم التي انسحبت من الشاطئ إلى ميناء الجزيرة (الميناء الخارجي)، وأقام المسلمون يراقبونهم طوال الليل على الساحل، واستعد الأمير شيخ لتلقيهم في الصباح إذا أعادوا النزول إلى البر، وأمر بإحضار مصاريع الأبواب واتخاذها زحافات وستائر للزحف عليها عند نزولهم، ولكنهم إذ أدركوا تأهب المسلمين لتلقيهم ومنازلتهم أحجموا عن النزول إلى البر، واتجهوا بسفنهم إلى شمال بيروت قاصدين نهر الكلب بقصد أن يتزودوا بالمياه، ثم انسحبوا بعد ذلك إلى سفنهم، وعادوا من حيث أتوا إلى بلادهم .


اهتمام المماليك بإعادة تحصين صيدا:

كان من أثر الغارات سالفة الذكر على ثغر صيدا، أن وجه نواب السلطنة في دمشق وولاتهم على صيدا اهتماماً خاصاً بتحصين المدينة وترميم أسوارها وقلاعها تمكيناً للدفاع عنها ضد المغيرين من القبارصة أو الجنوية، وقد رأينا فيما زودنا به الرحالة العرب والغربيين ما يدل على أن المدينة زودت بتحصينات هامة في العصر المملوكي، ويتجلى الطابع الإسلامي المملوكي في بعض القبوات المتعارضة في بهو البرج الكبير بالقلعة البرية، وهي قبوات تقوم على دعامتين من البناء قطاعهما مربع الشكل. ونرى الأثر الإسلامي المملوكي واضحاً في الجانب الجنوبي الغربي من قلعة البحر، ويتجلى ذلك بصورة لا تخفى على الباحث في البرج الرئيسي، وهو برج كبير الحجم ذو طابقين ثم يعلوه سطح كان مشرف الذروة ثم فقدت هذه الشرفات مع ما تخرب من القلعة عندما تعرضت للمدافع الإنجليزية في سنة 1840.

ويبدو هذا البرج الضخم في وجهه القبلي المطل على المدينة مدوراً بينما يبدو في الجهات الأخرى مستطيل الشكل، وتنفتح في الطابق الأول منه في كل وجه من وجوهه نافذة معقودة بعقد منكسر الرأس ويتخلل وجوهه منافذ للسهام، ويمكن للمرء أن يصعد من هذا الطابق إلى الطابق الثاني عن طريق درج ضيق يدور في الجانب الشمالي منه. ويتمثل الأثر الإسلامي المملوكي في القبوات المتعارضة التي تكوّن سقوفه، ونجد لهذه القبوات نظائر في سائر منشآت المماليك الحربية والمدنية، كما يتمثل هذا الأثر الإسلامي في طابع منافذ السهام من الداخل، وفي العقود المدببة التي تعلو النوافذ المستطيلة الشكل لا سيما العقد ذي الوسائد المتصلة وهو المعروف بالمخدد الذي يطوق فتحة النافذة الشمالية من البرج المذكور، وهو عقد تشاهد نماذج منه في بوابة الفتوح في القاهرة، وفي مدخل جامع الظاهر بيبرس، ومدخل خانقاه بيبرس الجاشنكير ونافذة مئذنة سنجر الجاولي في القاهرة، وفي مئذنة جامع الأمير سيف الدين طينال بطرابلس ومنظرة المدرسة الشمسية المطلة على مدخل الجامع المنصوري الكبير بطرابلس. ويؤكد الأثر الإسلامي الواضح للبرج نقش تاريخي على لوحة من الرخام الأبيض صغيرة الحجم مثبتة بأعلى النافذة المذكورة بقلعة صيدا البحرية، يتضمن عدداً من السطور الكتابية بالخط النسخي قرأتها بصعوبة شديدة بسبب اختفاء ومحو كثير من الكلمات، وتآكل الكتابة في السطر الأخير كله، ونطالع في هذه اللوحة التذكارية النص الآتي: [ بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذا الحصن .. السعيد المقر الكريم العالي المولوي الإمامي العا.. دلي العالمي … جلبان الظاهري … أنصاره على نية الغزاة في سبيل الله تعالى في سنة اثنين (و) وخمسين (وسبعمائة) …].

ونستدل من الألقاب الواردة في النص المذكور على أن البناء أقيم في العصر المملوكي، وأن منشئ الحصن هو الأمير جلبان الظاهري الذي لا نعرف عنه شيئاً. وقد استطعنا أن نطالع بصعوبة بالغة الرقمين الأولين من تاريخ الإنشاء وهما اثنين وخمسين، أما الرقم الثالث الذي يدل على المئات، ويقع في السطر الأخير من النقش فقد محيت معالمه ومعالم ما بقي من كلمات النقش حتى نهاية السطر تماماً، ولذلك كان علينا أن نفترض لتكملة التاريخ الإنشائي ثلاث افتراضات نعني بها أرقام ستمائة وسبعمائة وثمانمائة. أما الافتراض الأول فنستبعده لأن صيدا كانت في التاريخ الذي يسجله هذا الافتراض الأول وهو 652 ه ما تزال خاضعة للصليبيين، ولهذا فإننا نحصر الاختيار بين 752، و852 ه. ويبدو لنا تاريخ 752 ه أكثر الافتراضين احتمالاً وذلك لعاملين: الأول، أن معظم الرحالة العرب والأوروبيين الذين زاروا صيدا في القرن الثامن الهجري أو الرابع عشر الميلادي يؤكدون أن المدينة كانت حصينة، بل أن القلقشندي المتوفي في سنة 821 ه يؤكد أن المدينة كانت مزودة بقلعة منيعة لا ترام/ والثاني، أن صيدا شهدت في هذا القرن الثامن الهجري عصر الغارات القبرصية والجنوية المتواصلة التي استهدفت نهب المدينة وتدمير منشآتها وقتل وأسر سكانها، واستلزم الأمر ضرورة ترميم القلاع والأسوار القديمة، لا سيما القلعة البحرية التي تحمي الساحل حتى تقوى المدينة على الصمود أمام الغزاة ورد المغيرين عليها. والرقم الثالث الذي افترضناه وهو ثمانمائة يجعل تاريخ إنشاء البرج في سنة 852 ه أي بعد انتهاء عصر الغارات. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الأشرف برسباي استولى على جزيرة قبرص، المركز الرئيسي للاعتداءات القبرصية والجنوية على سواحل مصر والشام، في سنة 829 ه، فيكون بناء البرج في سنة 852 ه قد جاء متأخراً للغاية.

وعلى هذا الأساس نرجح تاريخ سنة 752 ه ليكون تاريخ إنشاء البرج المذكور. وعلى أساس صحة افتراضنا يمكننا أن ننسب الأمير جلبان الظاهري الذي ورد اسمه في النقش إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس المتوفي سنة 676 ه.

أما الأسوار الباقية، فقد اتخذت جدراناً لصف من الدور تمتد من البوابة الفوقا حتى البوابة التحتا في الشمال، ويتجلى من آثار هذه الأسوار أنها أقيمت على عجل، وأنه لم يراع في بنائها النظم المعمارية الحربية المتبعة في التحصينات الضخمة التي أقيمت في عصر المماليك. ولم يتبق من البوابتين الفقيرتين المتبقيتين من بوابات صيدا سوى منبتا عقديهما بالإضافة إلى عضادتي كل منهما، ويحتاج الأمر إلى دراسة تفصيلية دقيقة لبقايا التحصينات المملوكية بصيدا.