مقام النبي يحيى في صيدا

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


مقام النبي يحيى:

هو يحيى بن زكريا وينتهي نسبه إلى يعقوب عليه السلام، وهو من أنبياء بني اسرائيل كأبيه زكريا عليهما السلام الذين بلغوا الناس ما أمرهم الله بتبليغه وجاهدوا في الله حق جهاده.

ذُكر اسم يحيى عليه السلام في القرآن الكريم في أربع آيات في كل من سورة آل عمران، والأنعام، ومريم، والأنبياء.

وُلِدَ نبي الله يحيى عليه السلام قبل مولد عيسى بثلاثة أشهر، وقيل: بثلاث سنين، وكان ابن خالته، وقد عاصره وعاش معه فترة طويلة ورافق مراحل دعوته عليهما الصلاة والسلام.

مات نبي الله يحيى عليه السلام مقتولاً، فقد قتله بنو اسرائيل ظلماً وعدواناً بأمر ملكهم حاكم فلسطين آنذاك "هيرودس".

وقيل في سبب قتله إن هذا الملك "هيرودس" كان يكرم يحيى ويدنيه من مجلسه ويستشيره في أمره وكان هذا الملك متزوجاً من امرأة كانت قد كبرُت وذهب جمالها وكانت لها بنت بارعة الجمال يقال لها "هيروديا" وكانت ربيبة هذا الملك وليست ابنته من صلبه، ثم أن هذا الملك أحبها وأراد الزواج بها، فقام الملك على أن يستفتي يحيى في أمر زواجه فقال عليه السلام أن ذلك حرام في شريعتهم فحقدت أم الفتاة على يحيى وجعلت الفتاة تتزين للملك وتدخل عليه، فإذا أرادها فعليه أولاً أن ينفذ رغبتها وهي قتل يحيى عليه السلام وإحضار رأسه في طست، فأبى أول الأمر ولكن الشيطان زيَّن له، ونفذ ما أمرت به تلك الفاجرة وبنتها وقتل نبي الله يحيى ذبحاً وهو يصلين فلعنة الله على القوم الكافرين.

وفي مكان دفن يحيى اختلاف كثير، فيقال أن رأسه دُفن في دمشق في المكان المعروف اليوم داخل المسجد الأموي، وقيل في حلب، وقيل يده دُفنت في صيدا، ويقال إن قسماً من جسده دُفن في بيروت في المكان المعروف اليوم داخل المسجد العمري، والله أعلم.

يقع مقام النبي يحيى شرقي صيدا قرب منطقة "حارة صيدا" على تلة مشرفة على المدينة تنُسب إليه فتدعى تلة النبي يحيى.

يقال أن المقام يعود إلى النبي يحيى بن زكريا عليهما السلام، ومع أن بعض المصادر التاريخية تذكر أن نبي الله يحيى عليه السلام دُفن في فلسطين، وبعض المصادر الأُخرى تقول أنه دفن في مصر.

ترجح كثرة المقامات التي تُنسب إلى النبي يحيى عليه السلام، على أنها مناطق مرّ بها، وأُقيم في المكان الذي مرّ فيه مقام للتبرك، أو أنه يُدفن في ذلك المقام رجل صالح يدعى يحيى.

وقد أكَّد هذه الفرضية الشيخ عبد الغني النابلسي: حين قال: "ثم رأينا قبة بعيدة على جبل عالٍ يُقال لذلك المدفون فيها سيدي حنين وهو مشهور بذلك عند العامة وأنه من أولاد يعقوب النبي عليه السلام. وذكر لنا بعض أهل البلاد أن اسمه "حنان" وهو المشار إليه بقوله تعالى: "وحناناً من لدنا". وذكر بعضهم أن المدفون هنا إنما هو جثة يحيى عليه السلام.

والسيد المسيح، عليه السلام حسب قول القديس مارك مر في صيدا وشفى فتاة كنعانية، وقد بنى بالقرب من المدينة إلى جهة الشرق في المكان نفسه الذي شفى فيه السيد المسيح عليه السلام الفتاة الكنعانية مسجد صغير.

ويرجع منير خوري في كتابه "صيدا عبر حقب التاريخ" عهده إلى المماليك، لكنه تعرض للهدم بفعل الزلازل. ثم بُني من جديد على شكل مزار على اسم النبي يحيى عليه السلام. والكتابات التي على الضريح تُشير إلى أن مجدد البناء هو أحمد باشا الجزار، حيث جاء في هذه الكتابات، "قد شاده البحر الهمام أخو الهنا أحمد جزار شرف بالوزارة". والمقام مُغطى بالقماش الأخضر كبقية المقامات الإسلامية في صيدا.

وقد أمر والي بيروت "بترميم المقام الذي كان آيلاً للسقوط وأضاف إليه غرفتين وذلك عند زيارته لصيدا عام 1895م، وشكل لجنة من عبد الحميد رمضان، وحسين خضر، ومحمد بكار، لجمع التبرعات لتسديد نفقات إصلاح المقام. ولما جمعت 3780 قرشاً ووجدت أنها غير كافية، شكلت لجنة من حسن بيهم، وعمر رمضان، لجمع التبرعات من أهالي بيروت.

وبالنسبة إلى مقام النبي يحيى فأهالي صيدا لم ينفكوا يتوجهون إلى هذا المقام وذلك لقضاء بعض الطقوس الدينية كالدعاء مثلاً لتحقيق هدف الصحة والشفاء وطلب الزواج وما إلى هنالك من قضايا أخرى تختلف من زائر إلى آخر.

كما وأن الزائر وبعد الإنتهاء من داخل المقام كان يتوجه إلى خارجه ليقضي بقية يومه في الأرض المحيطة به بحيث يركن إلى مشاهدة الطبيعة عن كثب ومن ثم يتناول الطعام مركزاً بصره على مدينة صيدا بأبنيتها البسيطة وببساتينها الخضراء وصولاً إلى صيدا القديمة وبحر صيدا الأخاذ.

وبغياب الشمس يتأبط الصيداوي حاجياته قافلاً ليعود إلى صيدا من جديد على أمل ورجاء من أن يتوجه في الأسبوع المقبل إلى المزار عينه، متنفس صيدا الوحيد، في تلك المدة من الزمن.

أقسام المقام:

يتميز هذا المقام بالنسبة لغيره من المقامات في مدينة صيدا بكونه، مؤلفاً من ثلاث غرف، الغرفة الأولى الأساسية تحتوي على ما يشبه التابوت القائم على مصطبة حجرية، ترتفع فوقها حواجز خشبية للفصل بين الزوار والضريح المرتفع عن سطح الأرض وتحتوي الغرفة أيضاً على محراب صغير في الجدار الجنوبي تفصله عن الضريح مساحة صغيرة يمكن أن تُقام عليها الصلاة من قبل الزوار.

والغرفة الثانية شمالي الضريح مخصصة للجلوس والراحة.

وإلى الجهة الغربية من الضريح تقوم غرفة ثالثة هي عبارة عن رواق مقبب يُشرف على مدينة صيدا ويمكن تأدية الصلاة فيه.

وقد تم تسقيف هذا الرواق بواسطة قبتين نصف دائريتين قائمتين على ستة أعمدة من الحجر الرملي وتتخللها ست قوصرات نصف دائرية تصل إلى السقف المقبب.

عند مدخل المقام من الباب الذي يفصله عن الرواق نجد نصاً كتابياً مؤلف من خمسة أسطر:

بسم الله الرحمن الرحيم

أشاد هذا الضريح المبارك

العبد الفقير إلى الله تعالى

الحاج أحمد ابن الحاج أحمد الأمين

وزوجته فاطمة في شهر رجب.

ومنذ زمن غير بعيد كان أهالي صيدا يزورون المقام ويتنزهون في السهول المحيطة به، غير أن هذه السهول اختفت بفعل العمران.

وعلى مقربة من مقام النبي يحيى، مقام يدعى (مار الياس)، يذهب إليه صعداً وهو واقع بمكان جميل جداً مشرف على البر والبحر وعلى مدينة صيدا، فهناك يرى الرائي منظراً من أبدع مناظر الدنيا ويُقال أنه كان هيكلاً أو مكاناً لألهة الشمس ثم جاء مار الياس إلى هناك وأبطل عبادة الشمس ودعا إلى عبادة الله فسمي المكان باسمه، وهو الذي يعتقد المسيحيون بأنه حي كما يعتقد المسلمون بأن الخضر حي أيضاً ولعلهما شخص واحد وللموارنة اعتقاد خاص بهذا المقام، فهم يدفنون بقربه موتاهم وكانوا يقدسون به مدة من الزمن قبل إيجاد كنيسة لهم.

ومما يذكر في هذا السياق أن متيل بنت الخواجه يوسف كونتي، المسيحية من أهالي صيدا وقفت جميع نصف قطعة بستان الكينا على عائلة مطر، فلما ماتت توقف على فقراء الطائفة المسيحية المارونية، وعلى مقام مار الياس في صيدا.