الدولة العباسية : الظاهر بأمر الله
ترجمته:
هو أبو نصر محمد الظاهر بأمر اللَّه بن الناصر بويع بالخلافة عقب موت أبيه وكان ولي عهده واستمر خليفة إلى 14 رجب سنة 623 فكانت خلافته تسعة أشهر و 14يوماً.
ولما ولي أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين قال ابن الأثير فلو قيل إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً فإنه أعاد من الأموال المغصوبة في أيام أبيه وقبله شيئاً كثيراً وأطلق المكوس في البلاد جميعها وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق وأن يسقط جميع ما جدده أبوه وكان كثيراً لا يحصى.
ولما أمر بأخذ الخراج الأول من جميع البلاد حضر كثير من أهل العراق وذكروا أن الأملاك التي كان يؤخذ منها الخراج قديماً قد يبس أكثر أشجارها وخربت ومتى طولبوا بالخرج الأول لا يفي دخل الباقي بالخراج فأمر ألا يأخذ الخرج إلا من كل شجرة سليمة وأما الذاهب فلا يؤخذ منه شيء ومن أعماله أن المخزن كان له صنجة الذهب تزيد على صنجة البلد نصف قيراط يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي للبلد يتعامل بها الناس فسمع بذلك فخرج خطه إلى الوزير وأوله {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} قد بلغنا كذا وكذا فتعاد صنجة المخزن إلى الصنجة التي يتعامل بها المسلمون واليهود والنصارى فكتب بعض النواب إليه يقول إن هذا مبلغ كبير وقد حسبناه فوجدنا في السنة الماضية 35 ألف دينار فأعاد الجواب ينكر على القائل ويقول لو أنه 350 ألف دينار يطلق وكذلك أيضاً فعل في إطلاق زيادة الصنجة التي للديوان وهي في كل دينار حبة وتقدم إلى القاضي كل من عرض عليه كتاباً صحيحاً بملك يعيده إليه من غير إذن ومنها أن العادة كانت في بغداد أن الحارس بكل درب يبكر ويكتب مطالعة في الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع الأصدقاء ببعض كل نزهة أو سماع أو غير ذلك ويكتب ما سوى ذلك من كبير وصغير فكان الناس من هذا في حجر عظيم فلما ولي الظاهر أتته المطالعات على العادة فأمر بقطعها وقال أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم فلا يكتب أحد لنا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا فقيل له إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها قال إنا ندعو اللَّه أن يصلحهم ومنها أنه لما ولي الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط وكان قد سار إليها أيام الناصر لتحصيل الأموال فأصعد ومعه ما يزيد على مائة ألف دينار وكتب مطالعة تتضمن ذكر ما معه ويستخرج الأمر في حمله فأعاد الجواب بأن يعاد إلى أربابه فلا حاجة لنا إليه فأعيد عليهم.
ومنها أنه أخرج كل من كان في السجون وأمر بإعادة ما أخذ منهم وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليعطيها عن كل من هو محبوس في حبس الشرع وليس له مال.
ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية فجدد من العدل ما كان دارساً وأذكر من الإحسان ما كان منسياً.
وقبل وفاته أخرج توقيعاً إلى الوزير بخطه عن أرباب الدولة وقال الرسول: أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم أو نفذ مثال ثم لا يبين له أثر بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال. وقد قرىء التوقيع فإذا في أوله بعد البسملة (اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً ولاإغضاؤنا إغفالاً ولكن لنبولك أيكم أحسن عملاً وقد عفونا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستداراً كالأغراض التي انتهزتم فرصها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم وتمزجون باطلكم بحقه فيعطيكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن قد بدل اللَّه سبحانه بخوفكم أمناً وبفقركم غنى وبباطلكم حقً ورزقكم سلطاناً يقيل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصر ولا ينتقم إلا ممن استمر يأمركم بالعدل وهو يريده منكم وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم يخاف اللَّه ويخوفكم مكره ويرجو اللَّه تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك نواب خلفاء اللَّه في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام ).
ولم تتمتع الأمة بهذا الخليفة طويلاً فإنه لحق بربه قبل أن تمر سنة على خلافته.