الاحوال الشخصية : التفريق بين الزوجين

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


التفريق بين الزوجين بواسطة القضاء:
 
وفيه:


الباب الأول: في التفريق لعدم الإنفاق

إذا لم تحصل الزوجة على نفقتها الواجبة بسبب من قبل الزوج كعسره أو امتناعه عن الإنفاق، فإن كان له مال ظاهر أو عند شخص آخر، وأثبتت الزوجة ذلك بأي وسيلة لم يكن لها طلب التفريق بهذا السبب لإمكان حصولها على حقها.

أما إذا لم تتمكن من الحصول عليه لعسره أو لغيبته التي لا يعلم معها مكان ماله، أو لامتناعه عن الإنفاق مع قدرته، فهل يكون لها حق طلب التفريق في هذه الحالة؟

اختلف الفقهاء في ثبوت هذا الحق لها،

ذهب الحنفية إلى عدم ثبوته، بل لها أن تطلب من القاضي الإذن لها بالاستدانة عليه إن كان معسراً أو غائباً، وجبره على الإنفاق إن كان ممتنعاً عن الإنفاق وتهديده بالحبس أو بالتعزيز إن لم يفعل.

وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أنَّ للزوجة حق طلب التفريق، وعلى القاضي إجابتها لطلبها متى ثبتت صحة دعواها، على اختلاف بينهم في التفصيلات.


الباب الثّاني: في التفريق للعيب

اتفق الفقهاء على أنَّه ليس كل عيب يصلح سبباً لطلب التفريق بل العيوب التي تخل بالمقصود الأصلي من الزواج، أو يترتب عليها ضرر لا يحتمله الطرف الآخر اختلفُوا في أمور:

الأول: من يثبت له هذا الخيار. أهو كل من الزوجين أم الزوجة وحدها؟

فذهب الحنفية إلى أنه يثبت للزوجة فقط، لأن الزوج يستطيع دفع الضرر عن نفسه بالطلاق الذي ملكه الله إياه، ولا داعي لرفع الأمر للقضاء لما فيه من التشهير بالمرأة أما الزوجة فلا تملك الطلاق فيتعين إعطاؤها حق طلب التفريق لتدفع به الضرر عن نفسها.

وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أن هذا الحق يثبت لكل من الزوجين فيجوز للزوج طلب التفريق إذا وجد بزوجته عيباً يمنع الاتصال الجنسي كالرتق والقرن والعفل والإفضاء(الرتق: انسداد موضع الاتصال الجنسي سواء كان الانسداد بعظم أو بغدة لحم، والقرن: شيء يبرز في هذا الموضع كقرن الشاة يمنع من الاستعمال، والعفل: لحم يبرز من موضع الاتصال يشبه الأدرة للرجل، والإفضاء: اختلاط المسلكين بالمرأة) أو وجدها مجنونة أو بها جذام أو برص، لأنه يتضرر بذلك ولا يستطيع معاشرتها مع وجود تلك العيوب كما يثبت لها هذا الحق إذا وجدت بزوجها عيباً.


الثاني: في عدد العيوب الموجبة للتفريق:

فذهب الحنفية في رواية إلى أنها العيوب التي تمنع التناسل وهي ثلاثة: أن يكون الرجل عنيناً أومجبوباً او خصياً(العنين: من له آلة صغيرة أو كبيرة لا يستطاع المخالطة بها، والمجبوب: مقطوع الذكر والخصيتين، والخصي: مقطوع الأنثيين فقط، وقيد الشافعية كونه عيباً بما إذا كان لا ينتصب). لأن الغاية من الزواج حفظ النسل، فإذا لم يكن الزوج صالحاً للتناسل استحال تحقيق المقصود من العقد أما غير هذه العيوب فهي لا تمنع تحقق هذا المقصود ويكفي تحققه في الجملة.

وزاد في رواية أخرى ثلاثة عيوب أخرى وهي : الجنون والجذام والبرص.

والأئمة الثلاثة وافقوا الحنفية وزادوا غيرها.

فعدها المالكية ثلاثة عشر بعضها خاص بالرجل وبعضها خاص بالمرأة، وبعضها مشترك بينهما.

وزاد الحنابلة عيوباً أخرى.

الثالث: في نوع التفريق الواقع بالعيب. هل هو فسخ أو طلاق؟

ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه طلاق بائن، لأن فعل القاضي يضاف إلى الزوج فكأنه طلقها بنفسه، وإنما جعل بائناً لأن المقصود منه دفع الضرر عن المرأة ولا يحصل ذلك إلا بالطلاق البائن.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه فسخ، لأن الفرقة جاءت من قبل الزوجة.

أما إذا كان العيب في الزوج فظاهر، وأما إذا كان فيها والزوج هو الذي طلب التفريق فقد كانت السبب في طلبه، والفرقة إذا جاءت من قبل الزوجة تعتبر فسخاً لا طلاقاً ويظهر أثر هذا الخلاف في نقصان عدد الطلاق به إذا جعل طلاقاً، وعدم نقصانه به إن كان فسخاً، وفي وجوب نصف المهر لها إذا كان قبل الدخول وعدم وجوبه.

الرابع: ذهب المالكية والشافعية إلى أن هذا الحق يثبت لصاحبه على الفور بمجرد العلم به فيسقط بسكوته عنه فترة من الزمن يستطيع فيها رفع الأمر إلى القاضي.

وذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه ثابت على التراخي فلا يسقط بمجرد السكوت بل لابد من الرضى به صراحة أو دلالة.

حتى لو رفعت الدعوى ثم تركتها مدة لا يسقط حقها ويكون لها رفعها من جديد إلا إذا خيرها القاضي بعد ثبوت حقها في التفريق وسكتت فإنه يسقط حقها لأن عليها الاختيار في مجلس التخيير.

الخامس: هل يشترط فيمن يطلب التفريق بالعيب أن يكون خالياً من العيوب أو لا يشترط ذلك؟

من الفقهاء من جعله شرطاً كالحنفية، ومنهم من لم يجعله شرطاً كالمالكية والشافعية.

ما يتبع في طلب التفريق والتأجيل:

إذا طلبت الزوجة التفريق بسبب العنة أو الخصاء فادعت أنه لم يصل إليها لهذا العيب فإن اعترف الزوج بما تدعيه وصدقها في دعواها أجله القاضي سنة سواء كانت المرأة عند الزواج بكراً أو ثيباً، فإن انتهت السنة وأصرت الزوجة على طلبها لأنه لم يصل إليها وصدقها الزوج في عدم الوصول أمره أن يطلقها فإن لم يفعل طلقها عليه، وإن أنكر دعواها فإن كانت الزوجة حين العقد عليها ثيباً فالقول قوله مع يمينه لأنه ينكر استحقاقها الفرقة وهي تدعيها والظاهر يشهد له، لأن الأصل في الإنسان السلامة من العيوب، فإن حلف رفضت دعواها، وإن نكل عن اليمين اعتبر مصدقاً لها في دعواها أجله سنة كما إذا اعترف من أول الأمر.

وإن كانت بكراً حين العقد عين القاضي امرأتين من الموثوق بهن للكشف عليها، فإن ثبت أنها ثيب فالقول قوله مع يمينه حتى لو ادعت أنه أزال بكارتها بغير المخالطة لما قلنا إن الظاهر يشهد له فيحلف أنه أزال بكارتها بالمخالطة.

وإن تبين أنها لا تزال بكراً أجله سنة، فإن مضت السنة وعادت تدعي عدم الوصول يعاد الكشف عليها فإن وجدت بكراً أمره بالطلاق فإن طلقها انتهت المسألة، وإن امتنع عن الطلاق طلقها القاضي عليه.

وإن وجدت ثيباً فالقول قوله مع اليمين فإن حلف رفضت دعواها، وإن نكل عن اليمين كان مصدقاً لها وخيرها القاضي بين البقاء معه أو التفريق فإن اختارت التفريق في المجلس طلب منه أن يطلقها فإن لم يفعل طلقها عليه.

ولو قامت بدون اختيار اعتبرت متنازلة عن دعواها حتى ولو أقامها أعوان القاضي من المجلس لأنه يمكنها الاختيار بكلمة بسيطة.

وإنما وجب التأجيل بهذين العيبين دون غيرهما، لأن عدم وصول الزوج إلى زوجته مع أحدهما يحتمل أن يكون لعيب مستحكم من أصل الخلقة فيكون سبباً للتفريق، ويحتمل أن يكون لأمر عارض يزول بمرور الزمن فلا يكون سبباً موجباً للتفريق، ولا يستطيع الأطباء القطع بأحدهما فيؤجل سنة للوقوف على حقيقته، لأن الأمر العارض قد يزول في فصل من فصول السنة، وإذا حكم القاضي بالتفريق بينهما بعيب من العيوب كان طلاقاً بائناً ووجب عليها العدة احتياطاً ويجب لها كل المهر في العنة والخصاء بإتفاق أئمة المذهب لأنه تفريق بعد خلوة صحيحة، أما إذا فرق بينهما بسبب الجب فيجب لها كمال المهر أيضاً عند الإمام ويجب لها نصف المهر في قول عند الحنفية، لأن الخلوة جعلت كالدخول في العنة والخصاء لاحتماله معهما، أما المجبوب فلا يتصور منه دخول فلا تكون خلوته موجبة تمام المهر.

والطلاق الواقع هنا طلاق بائن لأنه طلاق قبل الدخول حقيقة، ولأنه لا يرتفع الضرر عنها إلا به.


الباب الثَّالِث: في التفريق للضرر

يراد بالضرر هنا ما يلحقه الزوج بزوجته من أنواع الأذى التي لا تستقيم معها العشرة الزوجية كضربه إياها ضرباً مبرحاً وشتمها شتماً مقذعاً، وإكراهها على فعل ما حرم الله، وهجرها لغير التأديب مع إقامته في بلد واحد معها أو أخذ مالها وما شاكل ذلك.

فإذا حدث ذلك فهل للزوجة أن تطلب أو لا؟

اختلف الفقهاء في ذلك بناء عل اختلافهم في المراد بآية بعث الحكمين وصحة بعض الآثار عن فقهاء الصحابة.

فذهب الحنفية والشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أنه ليس لها طلب التفريق، لأن الحياة الزوجية لا تخلو من ذلك عادة، فعليها أن تطلب من القاضي زجره ليمتنع عن ذلك أو تعزيره بما يراه رادعاً له إن لم يمتنع، فإن اشتد النزاع وخيف وقوع الشقاق بينهما بعث القاضي حكمين ليقوما بالإصلاح بينهما عملاً بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35].

قالوا: إن هذه الآية قصرت عمل الحكمين على محاولة الإصلاح بين الزوجين ولم تجعل لهما حق التفريق، فيبقى هذا على الأصل للزوج وحده إلا إذا وكلهما بذلك حيث لا كتاب ولا سنة ولا أثر يدل على ثبوت هذا الحق لغيره.

وذهب المالكية والشافعي في قوله الآخر وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن لها الحق في طلب التفريق، وليس في الآية ما يمنع ذلك، بل من يمعن النظر فيها يجدها جعلت لهما هذا الحق، لأن الله سماهما حكمين وجعل حق بعثهما لغير الزوجين فليسا مجرد وكيلين إذ لو أراد ذلك لقال: " فابعثوا وكيلاً عنه ووكيلاً عنها، ولما قصرهما على أهله وأهلها، لأن الموكل له أن يوكل عنه من يشاء، وإذا كانا حكمين فهما بمعنى الحاكمين فيثبت لهما حق الحكم ولا حكم هنا إلا بالتفريق إذا تعذر الإصلاح، وقد ثبت أن عثمان أرسل حكمين وقال لهما: إن رأيتما أن تفرقا ففرقا.

وكذلك روي عن علي أنه بعث حكمين بين زوجين وقال لهما: عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا.

وروي عن ابن عباس أنه قال في الحكمين: فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز.
 

الباب الرَّابع: في التفريق لغيبة الزوج

إذا غاب الزوج عن زوجته مدة تتضرر بها وتخشى على نفسها الفتنة فطلبت من القاضي التفريق بينها وبين زوجها فهل تجاب إلى طلبها؟

ذهب الحنفية والشافعية إلى أنه لا يحق لها هذا الطلب ولا تجاب لطلبها لعدم وجود ما يصلح سبباً للتفريق في نظرهم.

وذهب المالكية والحنابلة إلى جواز التفريق بالغيبة إذا طالت حتى ولو ترك لها زوجها مالاً تنفق منه، ولكنهم اختلفوا في حدِّالغيبة الطويلة.

فحددها الحنابلة بستة أشهر استناداً إلى ما روي عن عمر في قصة المرأة التي تضررت من غياب زوجها في الغزو وسمعها عمر في إحدى الليالي تشكو منشدة بيتين من الشعر:
 
تطاول هذا الليل واسوَدَّ جانبه وطال عليَّ ألا خليلُ ألاعبــه
والله لولا خشية الله وحـــده لحرَّك من هذا السرير جوانبه
 
وسأل ابنته حفصة عن المدة التي تصبر فيها المرأة عن زوجها فوقت للناس في مغازيهم ستة أشهر.

وحددها المالكية في الراجح عندهم بسنة وقيل بثلاث سنين.

كما اختلفوا في تلك الغيبة هل هي التي تكون بغير عذر كما يرى الحنابلة أو مطلقاً بعذر وبغير عذر كما يرى المالكية، لأن المرأة تتضرر بها في الحالتين، والمقصود بالتفريق رفع الضرر عنها، واتفقوا على أن الغيبة إذا كانت بعيدة لا يمكن وصول الرسائل إليه أو يمكن بعد زمن طويل موجبة للتفريق في الحال بدون إعذار ولا إمهال.

وإن كانت قريبة فلا يصح التفريق إلا بعد الإعذار إليه بأن يقدم أو ينقل امرأته إليه أو يطلق فإن فعل وإلا فرق بينهما بعد أن يتريث مدة باجتهاده رجاء عودته.

ذهب مالك إلى أن هذا التفريق طلاق بائن.

وذهب الحنبلي إلى أنه فسخ لأنها لم تصدر من الزوج، ولا ينفويض منه.


الباب الخامِسْ: في التفريق لحبس الزوج

ذهب الحنفية والشافعية إلى أنه لا يفرق بين الزوج وزوجته بسبب حبسه مهما طال.

وذهب المالكية والحنابلة الذين يرون التفريق لغيبة الزوج إلى عدم التصريح بالتفريق لحبس الزوج.

ولم يصرح بذلك إلا بعضُ من الحنابلة في فتاويه، ولكن المذهب المالكي صرح بأن لزوجة الأسير الحق في طلب التفريق لأن مناط التفريق عندهم هوُ بعدُ الزوج عن زوجته سواء كان باختياره أو قهراً عنه كما في الأسير، لأن الضرر يلحق الزوجة من هذا البعد، وهذا المعنى متحقق في زوجة المحبوس.