صيدا والدولة الاموية والعباسية

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


صيدا في العصرين الأموي والعباسي الأول:

دخلت صيدا منذ أن افتتحها المسلمون حتى نهاية عصر المماليك في نطاق إقليم دمشق، وأصبحت كورة من إقليم دمشق الذي كان يضم إقليم سنير وكورة جبيل وبيروت وصيدا وبثنية حوران وجولان وظاهر البلقاء وجبرين الغور، وكورة مآب وكورة جبال وكورة الشراة وبصرى عمان والجابية والقريتان والحولة والبقاع، كما أن ساحلها كان من بين سواحل المدن الست التي تتبع دمشق وهي صيدا وبيروت وطرابلس وعرقة وصور. وذكر المقدسي من مدنها بانياس وصيدا وبيروت وطرابلس وعرقة وناحية البقاع ومدينتها بعلبك.

نزل صيدا منذ الفتح جماعة من قريش ومن اليمن، وهو أمر كان يحدث في معظم المدن التي افتتحها المسلمون عندما كانت تختط فيها القبائل العربية التي أسهمت في الفتح. أما البلديون من أهل صيدا القدامى فقد حرص معاوية على إجلائهم عن المدينة إلى مواضع أخرى عيّنها لهم، على أن يحل محلهم قوم من الفرس استقدمهم معاوية من فارس، وفي ذلك يقول اليعقوبي: " إن جبيل وصيدا وبيروت وأهل هذه الكور كلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان"، والظاهر أن صيدا لم تكن وحدها التي طبق فيها هذا التبديل السكاني، لأن البلاذري يشير إلى حركة تبديل سكاني أخرى حدثت وهو خليفة، إذ نقل " قوماً من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها سنة اثنتين وأربعين، ونقل من أساورة البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى أنطاكية في هذه السنة أو قبلها أو بعدها بسنة جماعة، فكان من قواد الفرس مسلم بن عبد الله، جد عبد الله بن حبيب بن النعمان ابن مسلم الأنطاكي".

ونستنتج من هذا النص أن بعلبك وحمص استوطنهما قبل سنة 42 ه أقوام من الفرس. والظاهر أيضاً أن معاوية حذا في سياسته السكانية، إذ أحل عناصر فارسية وعراقية محل عناصر وطنية، حذو أسرحدون الآشوري عندما افتتح صيدا بالسيف في سنة 678 ق.م ودمر منازلها، ونقل قسماً كبيراً من أهلها إلى بلاده، وأحل محلهم قوماً من الفرس استقدمهم من شرقي الإمبراطورية الآشورية.

ولعل معاوية كان يهدف من وراء هذه الحركة إلى تمييع الشعور القومي عند سكان هذه السواحل الموالين للبيزنطيين حتى لا ينتقضوا مجدداً على المسلمين كما حدث في الإسكندرية في سنة 25 ه/ 645م، وكما حدث في طرابلس في أول خلافة معاوية. مما اضطره إلى اصطناع سياسته السكانية التي أشرنا إليها، أو لعله كان يسعى إلى تمكين الدفاع البري عن السواحل أو لحراسة هذه السواحل من غزوات المردة الذين دفعهم أباطرة بيزنطة على غزو إقليم البقاع والتنغيص على المسلمين في بلاد الشام، ولهذا السبب استقدم جماعات الفرس والأساورة المذكورة وأنزلهم في السواحل، ومنهم الأمراء الإرسلانيون والتنوخيون الذين حكموا بيروت والساحل، وإن كان هناك من ينسب أعيان التنوخيين والأرسلانيين، وينتسب التنوخيون إلى تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذحج بن سعد بن طي ابن تميم بن النعمان بن المنذر ملك الحيرة، والإرسلانيون إلى أرسلان بن مالك بن بركات ابن المنذر التنوخي بن مسعود بن عون بن المنذر المغرور آخر ملوك الحيرة "الشدياق، وقد أسهم التنوخيون والأرسلانيون ومن قدم معهم من الجذاميين واللخميين في المعارك التي خاضها العرب في الشام، واشتركوا في فتح دمشق سنة 14 ه / 635 م وفي فتوح قيسارية ومصر إلى النعمان بن المنذر بن ماء السماء اللخمي، ويُرجعون تاريخ قدومهم من العراق في صحبة خالد بن الوليد إلى سنة 13 ه التي قدم فيها إلى بصرى لنجدة أبي عبيدة بن الجراح.

وقد يكون هدف معاوية من إنزال هؤلاء الفرس على السواحل مجرد الرغبة في إعادة تعمير هذه السواحل بسكان جدد بعد أن جلا عنها سكانها الأصليون عقب هزائم البيزنطيين في الشام، فأقطعهم الأخائذ التي خلت من سكانها، أو مجرد التشجيع على انتقال المسلمين إلى السواحل من كل ناحية بهدف الرباط ومدافعة البيزنطيين.

وليس هناك في المصادر العربية ما يؤكد أن معاوية أقام داراً لصناعة الأسطول في صيدا، وقد ذكر السيد منير خوري أنه ابتنى أسطولاً في صيدا وصور، وهو قول لا يستند على أي سند أو دليل تاريخي، على الرغم من أن صيدا كانت لها دار صناعتها البحرية في العصر القديم. وتشير النصوص العربية إلى أن معاوية عندما اضطر إلى اصطناع سياسة بحرية مجاراة للبيزنطيين عمل على إنشاء أسطول في دار الصناعة بعكا، وهي دار صناعة قديمة كانت قائمة منذ العصر السابق على الفتوحات العربية الإسلامية. ولا نشك في أنه استعان بملاحين من أهل صيدا وصور في تسيير السفن الإسلامية لسابق خبرتهم ودربتهم في ممارسة البحر، ولم تكن صناعة عكا وحدها كافية لإنتاج أسطول بحري يناهض القوى البحرية البيزنطية التي كان لها التفوق حتى ذلك الحين على المسلمين، ولذلك نراه يرسل أخشاب الأرز من لبنان في السفن إلى الإسكندرية لتصنيعها هناك سفناً. وظلت دار الصناعة في عكا المركز الوحيد في الشام لصناعة السفن إلى أن نقلها الخليفة هشام بن عبد الملك إلى صور، واتخذ بصور فندقاً ومستغلاً. ونخرج من ذلك بأن صيدا لم تكن دار صناعة في العصر الأموي، وإن كنا لا نستبعد قيامها بإنشاء سفن صغيرة وزوارق للصيد.

وعلى الرغم من أن ذكر صيدا لم يرد كثيراً خلال أحداث تاريخ الدولة الأموية إلا أنه يمكننا أن نستنتج من بعض الأخبار الثانوية التي وردت في المصادر العربية أن صيدا ازدهرت في العصر الأموي، وكانت مركزاً علمياً هاماً في بلاد الشام، فقد نسب إليها الفقيه العالم المحدث هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي الصيداوي المتوفي سنة 156 ه / 772 م وقد روي عن مكحول ونافع وابن المبارك ووكيع، والعالم بولس الأنطاكي الذي توفي في صيدا في سنة 154 ه / 770 م. ونستدل أيضاً من نقش كتابي أثري كشف عنه في صيدا أن الخليفة الأموي مروان بن محمد أمر بإصلاح ميناء صيدا وترميمه في سنة 132 ه، وأن ذلك تم على يدي زياد بن أبي الورد، وهذا النص له أهميته الخاصة لأنه يشير إلى أن ميناء صيدا أصبح محل اهتمام الخلفاء باعتباره قاعدة بحرية لأنه يشير إلى أن ميناء صيدا أصبح محل اهتمام الخلفاء باعتباره قاعدة بحرية هامة للسفن التجارية والغازية على السواء.

وقد ازداد اهتمام الخلفاء العباسيين بسواحل الشام: فقد اهتم أبو جعفر المنصور بتحصين سواحل الشام كلها بالحصون والمراقب وترميم ما يحتاج منها إلى المرمة، وأتم المهدي ما لم يستكمل في أيام المنصور منها وزاد في شحنها بالجند. وفي سنة 247 ه /862م أمر المتوكل على الله بترتيب المراكب بعكا وجميع السواحل وشحنها بالمقاتلة ومن جملتها صيدا بطبيعة الحال، وذلك كإجراء وقائي بعد الغارات البحرية المدمرة التي وجهها البيزنطيون على دمياط في سنة 238 ه / 852م عندما هاجمها أسطول من 300 من الشلنديات في غيبة وإليها بالفسطاط، فدخلوا المدينة ونهبوها، وقتلوا عدداً كبيراً من سكانها، وأحرقوا جامع دمياط وعدة كنائس. ومنذ هذه الغارة ازداد اهتمام المتوكل بأمر الأسطول، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر.

ويبدو أن الدولة العباسية كانت تسند ولاية صيدا إلى أفراد من البيت الأرسلاني أو التنوخي أمراء العرب استمراراً للسياسة التي جرى عليها الأمويون، ففي سنة 257 ه / 871م تولى الأمير النعمان بن عامر الأرسلاني الذي يرتفع نسبه إلى المنذر بن النعمان من ملوك الحيرة مدينة بيروت بالإضافة إلى صيدا وجبلهما بأمر أماجور التركي عامل دمشق وأعمالها من قبل الخليفة العباسي المعتمد على الله، ولقبه أمادور بأمير الدولة. وظل الأمير النعمان يتولاها إلى أن توفي أماجور في سنة 264 ه / 879م، فآلت إلى أحمد بن طولون والي مصر. والظاهر أن ابن طولون أقر الأمير النعمان على صيدا وبيروت لما اشتهر به من شجاعة وكياسة وفصاحة وعلم حتى وفاته في 325 ه / 936 م فخلفه عليها ابنه الأمير المنذر.