الدولة العثمانية : السلطان محمد رشاد الخامس
السلطان محمَّد رَشَاد خَان الخامِس 1327 - 1336 هـ
ولد جلالته سنة 1844م وقد قضى أغلب عمره في قصر زنجيرلي كوي محوطاً بالجواسيس الذين يرصدون حركاته ويقدمون التقارير المشوهة عنه.
اجتمع المجلس العمومي اجتماعاً سرياً وخلع عبد الحميد بموجب فتوى من شيخ الإسلام هذا نصها.
إذا اعتاد زيد الذي هو إمام المسلمين أن يرفع من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمة الشرعية، وأن يمنع بعض هذه الكتب ويمزق بعضها ويحرق بعضها، وأن يبذر ويسرف في بيت المال ويتصرف فيه بغير مسوغ شرعي، وأن يقتل الرعية ويحبسهم وينفيهم ويغربهم بغير سبب شرعي وسائر أنواع المظالم، ثم ادعى أنه تاب وعاهد الله وحلف أن يصلح حاله، ثم حنث وأحدث فتنة عظيمة جعلت أمور المسلمين كلها مختلة وأصر على المقاتل، وتمكن منعة المسلمين من إزالة تغلب زيد المذكور ووردت أخبار متوالية من جوانب بلاد المسلمين انهم يعتبرونه مخلوعاً وأصبح بقاؤه محقق الضرر وزواله محتمل الصلاح. فهل يجب أحد الأمرين خلعه أو تكليفه بالتنازل عن الإمامة والسلطنة على حسب ما يختاره أهل الحل والعقد وأولي الأمر من هذين الوجهين ؟
الجواب : يجب كتبه الفقير
السيّد محمد ضياء الدين عفي عنه.
فلما قرئت هذه الفتوى الجليلة على الأعيان والمبعوثين سألهم سعيد باشا رئيس الأعيان الذي كان يراس الجلسة اتختارون خلعه أم تكليفه بالتنازل فأجابوا بصوت واحد : الخلع الخلع.
وهذه ترجمة قرار هذا المجلس العمومي (المؤلف من الأعيان والمبعوثين" :
"يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر سنة 1327 و 14 نيسان سنة 1325 (27 ابريل سنة 1909م) الساعة السادسة ونصف (عربي) (الواحدة بعد الظهر زوالي) قرئت الفتوى الشرعية الموقع عليها بتوقيع شيخ الإسلام محمد ضياء الدين افندي في المجلس العمومي المؤلف من المبعوثين والأعيان ورجح بالاتفاق وجه الخلع الذي هو أحد الوجهين المخير بينهما فأسقط السلطان عبد الحميد خان من الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية وأصعد ولي العهد محمد رشاد أفندي باسم السلطان محمد خان الخامس إلى مقام الخلافة والسلطنة".
خلع عبد الحميد سنة 1909م فبويع بالخلافة الإسلامية الخليفة الشوري العادل أمير المؤمنين محمد رشاد الخامس.
فلما ولي الخلافة أعاد إليها عهد عمر بن عبد العزيز، إذ سار في المؤمنين سيرته، فكان من كل قلب قاب قوسين أو أدنى. وعمل على خدمة الأمة فأعزته وأخذ بيدها فاحبته وأجلها فأجلته وكانت الكلمة التي امتاز بها عهده السعيد تلك التي قالها على مسمع من وزرائه "إننا جميعاً خدام الشعب".
ولم يمض على توليته الخلافة إلا قليل حتى ألف بين قلوب الأمة في ظل الدستور، فكان لعناصر هذه الأمة أباً رحيماً وراعياً حكيماً. ولقد رأى العثمانيون جميعاً من حكيم تدبيره وسياسته ما ملأ قلوبهم ثقة وتعلقاً به وحباً وإقداراً له، فكان عهده فاتحة لرقي الممالك العثمانية وإصلاحها.
ومنذ ارتقاء جلالته على العرش تسلم حزب الاتحاد والترقي إدارة الحكومة العثمانية، وإنا لنذكر الاصلاحات التي تمت منذ الثلاث السنين الماضية والاتحاديون يديرون الحكومة العثمانية.
الاصلاحات الداخلية:
تسلم حزب الاتحاد والترقي ادارة الحكومة واعداؤه من رجال العهد الماضي يعدون بالمئات، أولئك المنافقون الذين ارتكبوا من الأعمال المضرة في العهد البائد ما تقشعر منه الأبدان. وكانت الحكومة في اختلال تام والأمة قد فقدت أسباب الأمن والموظفون لا يتقاضون مرتباتهم والديون الخارجية لا تدفع اقساطها في أوقاتها واشتعلت في الولايات نيران الفتن والمشاغبات.
تلك هي حال الحكومة عندما تسلمها حزب الاتحاد والترقي. أما حال العناصر العثمانية المختلفة فكان على أسوأ ما يكون وكل عنصر كان يتأهب للفتك بأخيه. وكان بين المبعوثين لأول مرة من لم يفهم معنى الحرية ولا يعرف واجباته نحو الأمة ولا الفائدة من الاجتماع بمجلس المبعوثين.
تسلم حزب الاتحاد والترقي الحكومة في ذلك الوقت وبدأ في أعماله واصلاحاته بهمة لا تعرف الكلل ولا الملل.
كان أول ما ابتدأ في تنفيذه من الوسائل النافعة تعميم المساواة بين أفراد الأمة بوضعهم جميعاً في مستوى واحد إمام قانون واحد.
ولقد وفقت الحكومة لجمع الأسلحة من الأشقياء الذين يلجأون إلى الجبال في الروم ايلي. فأثار أولئك من أجل ذلك ثورات جديدة قاومتها الحكومة وأخمدتها، فعادت السكينة في انجاء الدولة العليا وعمَّ الأمن وانتشرت الطمأنينة.
الاصلاحات المالية:
قبض حزب الاتحاد والترقي على ادارة الحكومة العثمانية والخزانة خاوية على عروشها فبدأ في إصلاحها، وتمكن من وضع ميزاني لمالية الحكومة العثمانية فكانت عبارة عن خمسة وعشرين مليوناً واردات وثلاثين مليوناً مصروفات. وكانت قد تراكمت الديون من جهة ولم تحصل الضرائب منذ سنين من جهة أخرى. فلما وضعت الميزانية المذكورة لم يكن أحد يعتقد إمكان تحصيل 25 مليوناً من بلاد الدولة، ولكن كان المتحصل عقب اعلان الدستور لأول مرة 26 مليوناً ونصفاً سنة 1910م.
وفي سنة 1911م بلغ المتحصل ثلاثين مليوناً.
ولقد زادت واردات جميع مصالح الحكومة، وبالجملة فان المواد الأساسية لايرادات الحكومة نمت وازدادت إلى درجة كبيرة.
وكانت ايرادات الجمارك سنة 1910م ثلاثة ملايين ونصفاً فوصلت إلى خمسة ملايين سنة 1911م وكانت واردات العشور سنة 1910م ستة ملايين فأصبحت سبعة ملايين ونصفاً.
وبالجملة فإن حزب الاتحاد قد عرف أدواءالأمة وعلاجها فنجح في تقليل الهجرة وعدد المهاجرين في الروم ايلي وقلل من العثور في الأناضول، وقصارى القول إن الحزب قد نجح في مداواة هذه الأمراض نجاحاً باهراً.
ولقد وزع حزب الاتحاد المبالغ الجسيمة على سكان الجزيرة والموصل والاناضول لاحياء أراضيهم وتعميم الزراعة بينهم بعد الموات.
فلا عجب إذا ابتهج المسلمون في شرق الأرض وغربها بارتقاء جلالة مولانا السلطان الاعظم محمد الخامس عرش الخلافة العثمانية.
ولم يمضِ على جلوس محمد رشاد على العرش ثلاث سنوات حتى اعتدت إيطاليا سنة 1911م، بتحريض من الدول المسيحية وبالاتفاق معها وبمعاونتها، على طرابلس الغرب - ليبيا - وانتزعتها منها بعد حرب دامت سنة بذلت فيها الدولة كل جهد وطاقة ومال ورجال حتى لم يبق ما تبذله، ثم جاءت حرب البلقان التي تولى كبرها كل من الصرب والبلغار والرومان مدفوعين بأيدي الدول الغربية المسيحية عامة وروسيا، التي كانت ولا تزال عدوة الإسلام والمسلمين، خاصة. ثم جاءت ثالثة الاسافي واعني بها الحرب العالمية الأولى التي اضطرت الدولة العثمانية على خوضها مرغمة.
وعلى الرغم من أن كفة الدولة العثمانية وحلفائها، المانيا والنمسا والبلغار، لم تكن لتعادل كفة الانكليز والافرنسيين والطليان والروس، في بادئ الأمر، ثم الولايات المتحدة، بعد ذلك، فقد استطاع العثمانيون أن يقاوموا أربع سنوات هلك فيها الزرع والضرع، فقد رأيت الجندي التركي يحارب وهو جوعان وعريان والأمراض تفتك به ولكنه كان يحارب بقوة الإيمان وباسم الاسلام ولذا فقد كانت كل المصائب تهون لديه. ولكن كان لا بد لهذه المأساة، التي رصد لها الغرب كل امكاناته، من نهاية فخرت الدولة صريعة سنة 1918م واستسلمت لاعدائها تحت ضربات حقدهم. ولولا استسلام البلغار أولاً والنمسا بعد ذلك لما حصل ما حصل ولكنها إرادة الله.
لقد كان من حظ محمد رشاد الا يشهد مأتم سلطنته لأنه مات قبل الاستسلام بشهور ولكني اعتقد أنه كان يقدر حدوث هذه المأساة، لأن البلاد كانت على شفا جرف وعلى وشك الانهيار من كل جانب ونتائج مثل هذه الحال لم تكن لتخفى على محمد رشاد لاسيما وقد بلغني انه كان عالماً بالتاريخ.
الأمير يوسف عز الدين:
كانت ولاية العهد بعد محمد رشاد للأمير يوسف عز الدين، لأن ولاية العهد في الدولة العثمانية كانت من حق أكبر أفراد الأسرة المالكة سناً، بعد الجالس على العرش وليس من حق أكبر أولاد الجالس على العرش.
وكان يوسف عز الدين شخصية محبوبة من جميع الأوساط، وكان الناس يرجون منه الخير للبلاد، على الرغم من أنهم لم يروا منه خيراً ولا شراً، ولم يكن أولياء العهد يتدخلون في الأمور السياسية ولكنه كان محبوباً، ولعله كان من سوء حظ البلاد والعباد أن مات سنة 1916م وقد قيل، آنذاك، أنه مات مسموماً قتله الاتحاديون لأنه لم يكن يرى رأيهم ولا يوافقهم على سياستهم، وأشيع أنه مات منتحراً إثر نوبة جنون أصابته كالتي أصابت أباه عبد العزيز فانتحر.