الاحوال الشخصية : حقوق الزوج والزوجة
أحكام عقد الزواج:
أحكام عقد الزواج، وفيه:
الباب الأول: أنواع الزواج غير اللازم
وفيه مباحث:
المبحث الأول: الزواج الباطل
وهو الذي اختل فيه أمر أساسي أو فقد شرطاً من شروط الانعقاد. كزواج فاقد الأهلية إذا باشر العقد بنفسه، وتزوج الرجل بمن هي محرمة عليه تحريماً لا يشتبه الأمر فيه على الناس وهو يعلم ذلك التحريم كالعقد على إحدى محارمه أو زوجة الغير، وتزوج غير المسلم بالمسلمة لعدم محلية المرأة فيها.
حكمه: الزواج الباطل لا يترتب عليه أي أثر من آثار الزواج، لأن وجوده كعدمه، فلا يحل به الدخول، ولا يجب به مهر ولا نفقة ولا طاعة، ولا يرد عليه طلاق، ولا يثبت به نسب، ولا عدة فيه بعد المفارقة، ولا يثبت به توارث ولا حرمة المصاهرة إلا عند من يثبتها بالزنى.
وإذا دخل الرجل بالمرأة بناء على هذا العقد كانت المخالطة بينهما حراماً، ويجب عليهما الافتراق، فإن لم يفترقا فرق القاضي بينهما، وعلى كل من يعلم بذلك الدخول أن يرفع الأمر إلى القاضي، وعلى القاضي أن يفرق بينهما لأن هذا الدخول زنى وهو معصية كبيرة يجب رفعها.
والفقهاء لم يختلفوا في أنه زنى ولكن اختلافهم في وجوب الحد به:
فذهب مالك والشافعي وابن حنبل إلى أنه موجب لحد الزنى متى كان الفاعل عاقلاً عالماً بالتحريم.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يوجب الحد، لأن صورة العقد شبهة تكفي لأن يدرأ بها الحد عنه، ومع ذلك لم يعفه من العقوبة بل قال: إنه يعزر أشد أنواع التعزير لقبح فعله.
وإذا سقط عنه الحد وجب عليه مهر المثل بالغاً ما بلغ، لأن الدخول بالمرأة في الإسلام لا يخلو من حد أو مهر وهو مراد الفقهاء بقولهم: الدخول لا يخلو من عَقر أو عُقر، ولا تجب العدة بعد التفريق، لأنه لا عدة في الزنى حيث إنها تجب محافظة على الأنساب من الاختلاط، ولا يثبت بهذا العقد نسب يحافظ عليه.
هذا وقد اتفق الفقهاء فيما إذا دخل بمن تزوجها وهو جاهل بأنها محرمة عليه على أنه لا يحد ولا يلزمه مهرها بهذا الدخول لأنه لابد من أحد أمرين الحد أو المهر وحيث لا حد وجب مهر المثل.
المبحث الثاني: الزواج الفاسد
وهو الذي تخلف فيه شرط من شروط الصحة بعد استيفائه لأركانه وشروط انعقاده. كالزواج بغير شهود عند من يشترط الشهادة، والزواج المؤقت، وزواج أخت مطلقته طلاقاً بائناً في عدتها لأنه مختلف في حرمته، وكتزوجه بامرأة محرمة عليه بسبب الرضاع وهو لا يعلم بحرمتها بناء على إخبار الناس بأنه لا يوجد بينهما صلة محرمة ثم ظهر بعد الدخول أنها محرمة عليه.
حكمه: أنه لا يحل به الدخول بالمرأة ولا يترتب عليه في ذاته شيء من آثار الزوجية. فإن حصل بعده دخول حقيقي بالمرأة كان معصية يجب رفعها بالتفريق بينهما جبراً إن لم يفترقا باختيارهما، ويترتب على ذلك الدخول الآثار الآتية:
-1 لا يقام على الرجل والمرأة حد الزنى بالاتفاق لوجود الشبهة الدارئة للحد عنهما.
-2 يجب على الرجل مهر المثل بالغاً ما بلغ إن لم يكن سمى للمرأة مهراً عند العقد أو بعده، فإن كان سمى لها مهراً وجب عليه الأقل من المسمى ومهر المثل.
-3 تثبت بهذا الدخول حرمة المصاهرة.
-4 تجب به العدة على المرأة من وقت افتراقهما أو وقت تفريق القاضي، وهذه العدة عدة طلاق تحتسب بالأقراء أو الأشهر إذا لم تكن حاملاً حتى في حالة وفاة الرجل، لأن عدة الوفاة المقدرة بأربعة أشهر وعشرة أيام لا تكون إلا بعد زواج صحيح، ولا تجب لها نفقة في هذه العدة.
-5 يثبت نسب الولد إن وجد محافظة عليه من الضياع.
أما غير ذلك من الأحكام فلا توارث فيه إذا مات أحدهما ولو قبل التفريق بينهما، ولا تجب به على الرجل نفقة ولا سكنى، كما لا تجب عليها الطاعة للزوج، ولا يقع به طلاق على المرأة.
المبحث الثالث: في الزواج الموقوف
هو ما فقد فيه شرط النفاد بأن باشره من ليست له ولاية شرعية على إنشائه بأن كان ناقص الأهلية أو كاملها ولم تكن له صفة تجيز له إنشاء العقد من أصالة أو ولاية أو وكالة.كتزوج الصغير المميز بدون إذن وليه فإنه صحيح موقوف على إجازة من له الولاية عليه إلا إذا استمر العقد بدون إجازة أو رد إلى حين بلوغه، فإن الإجازة تنتقل إليه إن أجازة نفذ وإن لم يجزه بطل، وكعقد الفضولي وهو من يعقد لغيره بدون ولاية أو وكالة.
حكمه: الزواج الموقوف -رغم صحته- لا يترتب عليه أي أثر مع آثار الزواج إلا بعد إجازته أو الدخول الحقيقي بعده.
فإذا أجيز ترتيب عليه جميع الآثار التي رتبها الشارع عليه، وإذا دخل بالمرأة قبل الإجازة ترتب عليه الآثار التي ترتب على العقد الفاسد دون غيرها، فلا يحل به دخول، ولا تجب به طاعة ولا مهر ولا نفقة ولا حرمة المصاهرة إلا على رأي من يثبتها بالزنى، ولا يقع فيه طلاق ولا توارث إذا مات أحدهما قبل الإجازة.
وبهذا يعلم أن حكم الزواج الموقوف قبل إجازته كحكم الزواج الفاسد في أن كلاً منهما لا يترتب عليه أي أثر قبل الدخول، وأما بعده فيترتب عليهما بعض الآثار.
ولا فرق بينهما إلا أن الفاسد لا يقر بحال من الأحوال ولا يلحقه تصحيح، أما الموقوف فتلحقه الإجازة ولو بعد الدخول فيصير نافذاً تترتب عليه كل آثار الزوجية من وقت ابتداء العقد، لأن الإجازة اللاحقة تنسحب على العقد من وقت إنشائه فينقلب نافذاً من وقت إنشائه، وإن لم يجزه من له الولاية كان ذلك إبطالاً له من مبدئه.
وهذا وليلاحظ أنه إذا دخل الرجل بالمرأة في العقد الموقوف بعد رده وبعد علمه بالرد يكون فعله زنى لا شبهة فيه فيترتب عليه ما يترتب على العقد الباطل.
المبحث الرابع: الزواج النافذ غير اللازم
هو العقد الذي استوفى أركانه وشروطه كلها مع بقاء حق الاعتراض لغير العاقد عليه وطلبه فسخه كتزويج البالغة العاقلة نفسها بغير كفء أو بأقل من مهر مثلها، فإن للولي العاصب حق الاعتراض على هذا الزواج بطلب فسخه.
وحكم هذا الزواج أنه يتريب عليه الآثار من حل الدخول، ووجوب النفقة والكسوة والسكنى للزوجة ما لم تمتنع عن الدخول في طاعته بغير حق. وتثبت به حرمة المصاهرة فيحرم على الزوجة أصول الزوج وفروعه كما يحرم على الزوج أصول الزوجة وفروعها ويثبت به حق التوارث إذا مات أحدهما قبل القضاء بفسخه ولو كان قبل الدخول، كما يثبت به نسب الأولاد للزوج.
ويجب به المهر ديناً في ذمة الزوج بمجرد العقد لكنه عرضة للتنصيف أو السقوط، فإذا فسخ قبل الدخول والخلوة الصحيحة لا يجب شيء من المهر سواء كان الفسخ من قبل الزوج أو الزوجة، لأن الفسخ هنا يكون نقضاً للعقد من أساسه، وحيث انتقض العقد لم يبق موجب للمهر، لأن الموجب له إما العقد أو الدخول أو الخلوة الصحيحة.
وإذا كان الفسخ بعد الدخول أو الخلوة الصحيحة فإنه يجب كل المهر وعليها العدة ولها النفقة وغيرها، وإذا طلقها قبل الفسخ والدخول كان لها نصف المهر المسمى.
الباب الثّاني: في الزواج اللازم وما يوجبه من حقوق غير مالية
تمهيد: الزواج اللازم هو المستوفي لأركانه وشروطه كلها بحيث لا يبقى لأحد حق الاعتراض عليه وطلب فسخه وحكمه يترتب عليه الآثار التي رتبها الشارع عليه بلا استثناء فهو كالنافذ في ذلك بل هو أقوى أنواع الزواج لأنه ليس لأحد حق الاعتراض عليه كما لا يملك أحد العاقدين فسخه.
وفيه مباحث:
المبحث الأول: في الحقوق المشتركة بين الزوجين
أولاً: حق الاستمتاع وهو أن يحل لكل واحد منهما أن يتمتع بالآخر في الحدود التي رسمها الشارع، فعلى كل منهما أن يجيب رغبة الآخر ولا يمتنع منه إلا إذا وجد مانع شرعي يمنع من ذلك كحيض لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ} [البقرة:222]، ويلحق به النفاس وكذلك المرض الشديد.
وقد اتفق الفقهاء على أنه يجب على الزوج أن يعف زوجته من الناحية الجنسية حتى لا تقع في الحرام متى كان قادراً على ذلك، وأن هذا الواجب من جهة الديانة أي فيما بينه وبين الله تعالى، فيحرم عليه أن يشتغل عنها بعمل أو عبادة كلً وقته لأنه يعرضها بذلك للفتنة.
فقد روى أن زوجة عبد الله بن عمرو بن العاص شكته إلى رسول الله بأنه يصوم النهار ويقوم الليل فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما حضر قال له: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل"؟ فقال: بلى يا رسول الله فقال له: "لا تفعل ذلك صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً".
ثانياً: حسن المعاشرة. فكل من الزوجين مطالب بإحسان العشرة على معنى أن يسعى كل منهما إلى ما يرضى الآخر من حسن المخاطبة واحترام الرأي والتسامح والتعاون على الخير ودفع الأذى والبعد عما يجلب الشقاق والنزاع لقوله تعالى :
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، فإذا فعلا ذلك تحقق بينهما السكن وتوفرت المودة، وكان الزواج رحمة لهما كما أخبر المولى سبحانه في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
ثالثاً: حرمة المصاهرة. فيحرم على الزوج التزوج بأصول زوجته وفروعها كما يحرم عليها التزويج بأصوله وفروعه.
وحرمة المصاهرة وإن كانت في ظاهرها حق الشارع، لأنها حكم من أحكامه إلا أن ثمرتها تعود على الزوجين على السواء، لأن ثبوتها يدفع الأذى عنهما فيما لو أبيح لكل منهما أن يتزوج بأقرب الناس إلى الآخر بعد فصم عرى الزوجية بينهما.
رابعاً: ثبوت التوارث بينهما بأن يرث كل منهما الآخر بعد وفاته ولو كانت قبل الدخول ما لم يوجد مانع يمنع منه، وذلك لأن عقد الزواج لما أحل المتعة والعشرة بينهما فقد أوجد صلة تربط بينهما كصلة القرابة فتبع ذلك ثبوت التوارث لهذه الصلة.
المبحث الثاني: في حقوق الزوج
يثبت للزوج أولاً: حق الطاعة على زوجته في كل ما هو من آثار الزواج إلا ما كان فيه معصية الله فمتى أوفى الزوج زوجته حقوقها الواجبة عليه بأن دفع إليها مهرها أو مقدار ما اتفقا على تعجيله منه وأعد لها المسكن اللائق بها وكان أميناً عليها وجب عليها الدخول في طاعته فتقيم معه حيث يعيش وتمكنه من نفسها، فإذا امتنعت بعد ذلك عن الدخول في طاعته كانت ناشزة وسقط حقها في النفقة كما سيأتي بيانه:
ووجوب الطاعة في الحقيقة من تتمة التعاون بين الزوجين، ذلك لأن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع فإن كانت سليمة كان المجتمع سليماً، ولا تستقيم حياة أي جماعة إلا إذا كان لها رئيس يدير شئونها ويحافظ على كيانها، ولا توجد هذه الرياسة إلا إذا كان الرئيس مطاعاً، وهذه الرياسة لم توضع بيد الرجل مجاناً، بل دفع ثمنها لأنه مكلف بالسعي على أرزاق الأسرة والجهاد من أجلها مع ما في تكوينه وطبيعته من الاستعداد لها، يقول سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
فهذا الجزء من الآية يثبت للزوج على زوجته حق الطاعة لأنه جعله فيما عليها ولا قوامة بدون طاعة من الطرف الآخر، وقد ورد عن رسول الله أحاديث كثيرة تحض المرأة على طاعة زوجها.
هذا وقوامة الرجل على المرأة فيما يتعلق بالحياة الزوجية فليس له الحق في التدخل في شئونها المالية، لأن الولاية لها في ذلك مادامت كاملة الأهلية، فإن كانت أهليتها قاصرة فالولاية لوليها المالي كأبيها أو جدها أو من يقوم مقامهما.
ويتبع حق الطاعة حق آخر وهو حق القرار في البيت لا تبرحه إلا بإذنه وليس قرارها في البيت حق غبناً لها أو سجناً لها كما فهمه قصار النظر، وإنما هو إعانة لها على أداء وظيفتها التي خلقت لها وهي التفرغ لتربية الأولاد في مبدأ حياتهم ليحيوا حياة سليمة، ومن قبل ذلك محافظة عليها من الفتنة والفساد، وليس معنى هذا أن تظل حبيسة البيت لا تخرج منه أبداً كما فهمه بعض الناس خطأ، لأنه ليس حقاً من حقوق الله حتى يكون لازماً، بل هو حق للزوج إن شاء تمسك به وإن شاء تنازل عنه وأذن لها بالخروج ما لم يترتب على خروجها مفسدة فيتحتم المنع محافظة على حرمات الله.
على أن حق المنع ثابت له بشرط أن يكون أوفاها حقوقها، وألا يكون لخروجها مسوغ شرعي كأداء فريضة الحج بشرط أن يكون سفرها مع ذوي رحم محرم منها، وزيارة أبويها ومحارمها من أخوتها وأعمامها وغيرهم.
فإن وجد المسوغ الشرعي لخروجها ولم يأذن لها، كان لها الخروج بدون إذنه فتزور والديها كل أسبوع مرة، ومحارمها كل سنة، وقيل كل شهر كما يقرره فقهاء الحنفية.
وعلى الزوجة بعد طاعة زوجها وقرارها في بيته، أن تكون أمينة على سره حافظة لماله وشرفه فتبتعد عن مواطن الشبهات، فلا تدخل بيتها من لا يرضى زوجها عنه، ولا تطيع فيه أحداً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تأذن في بيت زوجها وهو كاره، ولا تطيع فيه أحداً ولا تعتزل فراشه ولا تضربه".
ثانياً: ولاية التأديب:
إذا كانت الزوجة مطيعة لزوجها محافظة على حقوقه فلا سبيل له عليها، أما إذا خرجت عن الطاعة وخالفته فيما يجب عليها، كان له عليها ولاية التأديب لقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34]. فهذه الآية قسمت النساء إلى نوعين: النوع الأول: صالحات، وهؤلاء لسن في حاجة إلى تأديب لأنهن يقمن بما عليهن من حقوق الله وحقوق الزوج.
والنوع الثاني: الذي عبرت عنه الآية {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} وهن اللاتي شرع التأديب لهن، لأن تركهن على انحرافهن يسبب للبيت شقاء لا يستقيم معه الحياة الزوجية، وجعل التأديب للزوج دون غيره من الولي أو القاضي محافظة على كيان الأسرة بحفظ أسرارها من أن تذاع فيطلع الناس منها على ما لا يحسن الاطلاع عليه، ولأنه أعلم من غيره بما يقومها ويردها إلى صوابها، ولأن ضرر انحرافها يعود أولاً عليه وعلى بيته.
ثم إن الآية بينت طريق التأديب فجعلت له وسائل ثلاث: الموعظة الحسنة والهجر في المضاجع، والضرب، وجاءت بها مرتبة فإذا أراد التأديب بدأ بما بدأ الله به فيعظها فإن كفت الموعظة وقف عند ذلك، وإن لم تفد الموعظة هجرها في المضجع بأن يوليها ظهره أو ينام في فراش آخر داخل البيت، فإن لم يفد الهجر فله أن يضربها ضرباً غير مبرح ولا مشين.
وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع. "ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان(جمع عانية وهي الأسيرة. ومعناها أن النساء عند الرجال بمنزلة الأسرى فعليهم الإحسان إليهن) عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا".
ولقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حق المرأة على الزوج؟ قال: "تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت".
فإذا أساء الرجل استعمال حقه، وتجاوز القدر اللازم للإصلاح كان متعدياً، وللزوجة حينئذ أن ترفع أمرها إلى القاضي ليرده عن عدوانه، فإن ثبت لديه عدوان الزوج عزره بما يراه كافياً لزجره عن معاودته لما فعل، وليس له حق إيقاع الطلاق جبراً إذا طلبته الزوجة كما يرى الحنفية ويرى المالكية أن المرأة لو طلبت الطلاق للضرر في هذه الحالة كان للقاضي سلطة إيقاع الطلاق إذا امتنع الزوج عن التطليق وتكون طلقة بائنة.
وإذا عرفنا أن شريعة الله عامة لا تخص طائفة دون غيرها وليست قاصرة على زمن معين ولا بيئة خاصة، وعرفنا مع ذلك أن النساء تختلف طبائعهن، ففيهن من تردهن الكلمة عن غيها، ومنهن من لا يؤثر فيها الكلام ولا يردها إلا الهجر والحرمان، ومنهن من لا يفيد معها كلام ولا هجر لشراسة في خلقها وعناد لا يرده إلا الضرب، إذا عرفنا ذلك أدركنا سر تنوع وسائل التهذيب في كتاب الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والذي خلق المرأة وهو الخبير بأسرارها العليم بما يهذبها إذا ما التوى بها الأمر عن الجادة المستقيمة.
وبعد ذلك يكون من قصر النظر وسوء الفهم توجيه النقد على غير هدى كما قيل: إن الضرب وسيلة صحراوية لا تتفق مع عصر المدنية والتقدم، فكيف تبيح شريعة لزوج أن يضرب زوجة تدرجت في مدارج الثقافة حتى بلغت قمتها ؟.
ونحن نقول لهذا المفتري: ليس كل النساء كما وصفت، وليس الضرب هو الوسيلة الوحيدة المشروعة، بل إنها إحدى وسائل ثلاث، وكانت في المرتبة الثالثة لا يلجأ إليها إلا عند فشل الأولى والثانية.
إن القرآن يعالج انحراف المرأة من القمة، فيعالج من طريق العقل أولاً، ثم ينتقل إلى طريق العاطفة، ولم يبق بعد ذلك إلا طريق الجسد بالضرب، لأن من لا يستجيب بعقله ولا يتأثر بعاطفته ينزل إلى مرتبة الحيوان الأعجم، فبم تقوم اعوجاجه أيها الناقد الحاقد ؟.
ثم إن القرآن لم يقف بالعلاج عند هذه الوسائل الفردية التي وكلها إلى الزوج، بل جعل للزوج إذا لم يصل إلى نتيجة وأفلت الزمام من يده أن يرفع الأمر إلى القاضي ليعالج المشكلة بوسيلة أخرى على مستوى الجماعة، لأن الحياة الزوجية ليست ملكاً للزوجين خاصة، بل لها جانب اجتماعي من جهة أنهما عضوان في المجتمع الذي يسعد بسعادة أفراده ويشقى بشقائهم، فيبعث القاضي حكماً من أهل الزوج وحكماً من أهل الزوجة، ليتعرفا أسباب النزاع ويقوما بالإصلاح كما يقول سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35].
المبحث الثالث: في حقوق الزوجة غير المالية
أولاً: يثبت للزوجة على زوجها عدم الإضرار بها بأن يعدل في معاملتها فيعاملها بما يجب أن تعامله به فيحافظ على حقوقها من غير إفراط ولا تفريط، وإنما وجب عليه العدل وعدم الإضرار باعتبار ما له من السلطان والرياسة، فحيث وضعه الشارع في موضع القوامة، وأوجب له على زوجته الطاعة والقرار في البيت ومنحه سلطة التأديب، وهذه أمور لا تستقيم مع إطلاق يده في التصرف بل يجب تقييدها بالعدل من جانبه، حتى تسير الحياة الزوجية في طريق مستقيم لتحقق الغاية المقصودة منها.
ومن هنا جاءت عدة آيات وأحاديث تنبه الزوج إلى أن يعدل ولا يظلم وينفع ولا يضر ويرحم ولا يقسو، فيقول جل شأنه: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ويقول: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، ويقول: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وفي حديث آخر يقول: "ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت"، وفي خطبة الوداع يقول: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك" يريد أن يقول، إنكم لا تملكون منهن غير الاستمتاع، وهكذا يرسم الإسلام طريقه معاملة الأزواج لزوجاتهم، فمن سار في طريقه نجا، ومن حاد عنه وآذى زوجته بالقول أو بالفعل كان لها الحق أن ترفع الأمر إلى القاضي وهو بماله من الولاية العامة يستطيع زجر الزوج بالقول وتعزيره بما يراه رادعاً له من عداونه، كما يذهب إليه الحنفية. أو تطلب التفريق للضرر وللقاضي أن يأمره بتطليقها، فإن لم يفعل طلقها نيابة عنه وإن لم يرض بذلك الزوج كما يذهب إليه الإمام مالك.
ثانياً: إذا كان له أكثر من زوجة وجب عليه التسوية بينهن في المعاملة، سواء كان ذلك في البيات أو في النفقة بأنواعها، لأن الله شرط حل التعدد بالعدل في قوله جل شأنه: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة".
ويستوي في ذلك البكر والثيب والشابةوالعجوز والصحيحة والمريضة والأولى والأخيرة والمسلمة والكتابية، لأن رباط الزوجية واحد في الجميع، فلا يحل له أن يميز واحدة عن غرها في أي شيء من الأمور الظاهرة، فيبيت عند كل واحدة قدر ما يبيت عند الأخرى وتقدير النوبة مفوض إليه.
والمعتبر في المناوبة بين الزوجات الليل لا النهار، إلا إذا كان الزوج يعمل ليلاً فتكون المناوبة بالنهار، وإذا عين الزوج مقدار النوبة بدأ بمن شاء، وعليه أن يوفي كل زوجة نوبتها دون أن يزيد لواحدة على حساب الأخرى إلا إذا أذنت صاحبة الحق في ذلك،أو وجدت ضرورة تدعوه إلى ذلك كأن مرضت إحداهن وليس لها من يقوم بتمريضها غيره.
وإذا تنازلت إحدى الزوجات عن نوبتها أخرى صح ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر ذلك عندما تنازلت سودة بنت زمعة عن نوبتها لعائشة رضي الله عنهما، وللمتنازلة أن ترجع عن تنازلها متى شاءت لأنها أسقطت حقاً لم يجب بعد فلا يسقط.
يلزم الزوج هذا القسم حتى ولو كان مريضاً، لأن في وجوده عند زوجته إيناساً لها إلا إذا أَذِنَّ له في القرار في بيت إحداهن.
هذا ولا يسقط القسم عنه إلا في حالة السفر، فله أن يأخذ من يشاء منهن للسفر معه، وليس لغيرها عوض عن أيام السفر لتطالب به بعد العودة منه، ولا يجب عليه إجراء القرعة بينهن وإن كان من الأفضل أن يختار من يختارها للسفر بالقرعة بينهن تطييباً لخاطرهن، حتى لا تشعر الباقيات بمرارة التفضيل لمن اختارها، وهذا عند الحنفية. لأنه لا يجب عليه أن يصحب أحداً من نسائه معه في سفره.
وذهب الشافعية إلى أنه يجب عليه أن يقرع بينهن، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه وأيتهن خرجت قرعتها خرج بها، فإذا أقرع بينهن لا يقضي للباقيات، وإن سافر من غير قرعة فعليه أن يقضي للباقيات بقدر غيبته مع من سافر بها.
وأجيب على ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك تطييباً لقلوب نسائه، ولأن الزوج لا يجب عليه أن يصحب واحدة منهن، وليست كل زوجة تصلح رفيقة في السفر.
وكما يجب عليه التسوية في البيات، يجب عليه التسوية في النفقة حسب حالة من العسر واليسر على أحد الآراء من مذهب الحنفية، فيعطي الفقيرة والغنية سواء لقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
ويعتبر في النفقة حال الزوجين معاً. أخذاً بالراجح من مذهب الحنفية.
الباب الثالث: في الحق الثالث للزوجة وهو المهر
المهر، وفيه مباحث:
المبحث الأول: في التعريف به وسبب إيجابه ومم يكون؟
المهر: حق مالي أوجبه الشارع للمرأة على الرجل في عقد زواج صحيح، أو دخول بشبهة أو بعد عقد فاسد. وهذا التعريف يفيد أن المهر واجب، وأنه يجب على الرجل لا على المرأة، وأن وجوبه ثابت بأحد أمرين:
الأول: مجرد العقد ويكون في الزواج الصحيح لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، فهو يفيد أن طلب الزواج لا يكون إلا بالمال، وليس له معنى إلا وجوب المهر بمجرد العقد الصحيح، وإن كان هذا الوجوب لا يستقر إلا إذا تأكد بأمر من مؤكدات المهر، لأنه قبل تأكده عرضة لأن يسقط بعضه إلا إن طلقها قبل الدخول، أو يسقط كله لا إلى بدل إذا جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول، أو يسقط كله إلى بدل إذا فسدت التسمية فإنه يجب عليه المتعة.
الثاني: الدخول الحقيقي في الزواج الفاسد أو في المخالطة بشبهة، وفي هذا لا تبرأ ذمته منه إلا بالأداء أو الإبراء منه من جانب المرأة.
وبعد وجوبه، هل يشترط ذكره في العقد؟
عقد الزواج لا يتوقف وجوده ولا صحته شرعاً على ذكر المهر فيه بالاتفاق، لأنه ليس ركناً من أركانه ولا ذكره شرطاً لصحته بل يثبت المهر ديناً في ذمه الزوج بمجرد العقد الصحيح النافذ فهو حكم من أحكامه وأثر من آثاره، والدليل على صحته مع عدم تسمية المهر قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] فهذه الآية تدل على نفي الجناح عن المطلقين قبل الدخول وقبل فرض المهر، والطلاق لا يكون إلا بعد قيام الزوجية الصحيحة، ولو كانت تسمية المهر شرطاً لصحة الزواج لما صح العقد وبالتالي لم يكن طلاق مباح.
وما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن المرأة التي تزوجت ولم يسم لها زوجها مهراً ثم مات عنها قبل الدخول، فقال: بعد تردد طويل استمر شهراً من الزمان: لم أجد ذلك في كتاب ولا فيما سمعته من رسول الله ولكن أجتهد رأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، أرى لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط" أي لا نقص ولا زيادة، فقام رجل يقال له معقل بن سفان وقال: إنني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق الأشجعية مثل قضائك هذا، ثم قام أناس من أشجع وقالوا: إنا نشهد بمثل شهادته. ففرح ابن مسعود بذلك، وهذا يدل صراحة على أن العقد صحيح وإن لم يذكر المهر فيه، وأن الواجب عند عدم التسمية هو مهر المثل.
هل المهر عوض عن شيء؟
وإذا وجب المهر على الزوج بمجرد العقد فهل كان وجوبه عوضاً عن شيء ملكه في مقابلته أو كان عطاء لازماً وهدية قررها الشارع؟
اختلف نظر الفقهاء في ذلك. فمنهم من يذهب إلى أنه عوض عن ملك المتعة ومن هنا حكموا بفساد العقد إذا تزوجها على ألا مهر لها وقبلت ذلك قياساً له على البيع إذا نفى فيه الثمن.
وقالوا: إن القرآن سماه أجراً في مقابلة الاستمتاع في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} وفي الآية التي بعدها يقول: {وآتوهن أجورهن بالمعروف}.
وذهب آخرون إلى أنه وجب على أنه هدية لازمة وعطية مقررة من الشارع، لأن القرآن سماه نحلة في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، والنحلة تطلق على ما ينحله الإنسان ويعطيه هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض، وقيل نحلة تدينا والنحلة الديانة والملة.
ما يصلح أن يكون مهراً:
لا خلاف بين الفقهاء في الأشياء بالنسبة لصلاحيتها لأن تجعل مهراً تتنوع إلى نوعين:
نوع يتعين أن يكون المهر منه، وهو كل ما له قيمة شرعية سواء كان عينا من الذهب والفضة أو منفعة مباحة تقوم بالمال أو ديناً في الذمة.
ونوع لا يصلح أن يكون مهراً وهو كل ما ليس بمال أو كان مالاً غير متقوم شرعاً كالخمر والخنزير في حق المسلم أو منفعة غير مباحة أو مباحة ولكنها لا تقوم بمال، وإن اختلفوا في تطبيق هذين الأصلين على بعض الجزئيات لاختلاف وجهات النظر فيها، لأن المهر إما عوض كما يرى بعض الفقهاء أو هبة من الزوج لازمة وكل منهما لا يكون إلا من النوع الأول.
فلو سمى لها مقداراً معيناً من المال ذهباً أو فضة مضروبة أو غير مضروبة أو غير مصنوع أو ورقاً نقدياً أو قدراً معيناً من المكيلات أو الموزونات أو المنسوجات أو داراً معينة أو سكنى دار أو منفعة أرض أو خدمة يؤديها لا يكون فيها مهانة له، أو ديناً في ذمة الزوجة أو في ذمة شخص آخر وما شاكل ذلك صحت التسمية، وإن سمى لها غير ذلك مما ليس بمال متقوم أو منفعة غير مباحة أو لا تقوم بمال لا تصح التسمية.
المبحث الثاني: مقدار المهر
للفقهاء في مقدار المهر آراء: فمن الفقهاء من يذهب إلى عدم تحديده بمقدار لا في مبدئه ولا في نهايته وإنما هو موكول إلى تراضى الطرفين، ومنهم من يذهب إلى أن أقله محدد بمقدار لا يجوز بأقل منه وإن لم يكن محدد النهاية.
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا حدَّ له، بل يصح عندهم بكل ما يصدق عليه المال شرعاً ما دامت له قيمة يقوم بها وتراضى عليه الزوجان مستدلين بقوله تعالى: {أن تبتعوا بأموالكم} فهذه الآية شرطت أن يكون الزواج بالمال ولم تحدد مقداراً معيناً. فعلمنا من ذلك أن كل ما يسمى مالاً في العرف والشرع يصح تسميته مهراً، ثم جاءت الأحاديث مؤيدة لذلك.
ففي بعضها "التمس ولو خاتماً من حديد" وروى أحمد وأبو داود عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقاً ملء يديه طعاماً كانت له حلالاً" وما رواه الدارقطني بإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنكحوا الأيامى وأدوا العلائق" قيل ما العلائق يا رسول الله؟ قال: ما تراضى عليه الأهلون" ولأن المهر ثبت حقاً للزوجة بدليل أنها تملك التصرف فيه استيفاء وإسقاطاً فكان التقدير فيه إلى المتعاقدين.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن له حداً أدنى لا يصح بأقلَّ منه مستدلين بأحاديث وآثار عن الصحابة تفيد التحديد. فتكون الآية مقيدة لا مطلقة، ويحملون بعض الأحاديث السابقة على الخصوصية كحديث الخاتم، وبعضها الآخر على ما قبل شرعية التحديد. يريدون بذلك أن الزواج شرع أولاً من غير تحديد مقدار للمهر ثم جاء التحديد بعد هذا.
ثم قالوا: إن المهر وجب إظهاراً لشرف العقد وإبانة لخطر محله وهو المرأة الحرة فيجب أن يكون له قدر لا ينزل عنه حتى لا ينزل بشرف العقد.
وهذا القدر ربع دينار عند المالكية لأن هذا القدر له خطر حيث تقطع يد السارق بسرقته.
وعند الحنفية أنه عشرة دراهم لأن يد السارق لا تقطع في أقل منه. ولما روى عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر أنهم كانوا يقولون "لا يكون مهر أقل من عشرة دراهم" وهذا التحديد لا يعرف بالرأي والاجتهاد فلا بد أن يكونوا سمعوا فيه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قالوا إن الدارقطني روى عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا مهر أقل من عشرة دراهم"، وأما كون المهر حقاً للمرأة خالصاً فهذا مسلم أنه حقها في حالة البقاء بعد تمام العقد، وأما في الابتداء ففيه حق الشارع لإبانة خطر العقد وصيانة المرأة عن الابتذال، وحق للأولياء حيث ثبت لهم الاعتراض إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها بأقل من مهر المثل.
- أما أكثر المهر فقد اتفق الفقهاء على أنه لا حد له فللمتعاقدين أن يزيدا فيه حسب تراضيهما لعدم ورود دليل يدل على ذلك، والتحديد إنما يكون بالنص.
المبحث الثالث: في أنواع المهر والحالات التي يجب فيها كل نوع
المهر الواجب في الزواج نوعان:
الأول: المهر المسمى وهو الذي اتفق عليه عند العقد أو قدر بعده بتراضي الطرفين كما إذا عقدا العقد بدون تسمية للمهر ثم اتفقا بعده على قدر معين فإنه يكون المهر الواجب متى كانت تسميته صحيحة.
الثاني: مهر المثل، والمعتبر فيه مهر امرأة تماثلها وقت العقد من أسرة أبيها أو من غيرها، وتكون المماثلة فيما يعتد به من صفات الزوجة التي يرغب فيها من أجلها كالدين والأدب والعقل والتعليم والجمال والسن والبكارة والثيوبة، وكونها ولوداً أو عقيماً والبلد الذي تعيش فيه، فإذا لم يوجد من قوم أبيها من يماثلها من هذه الأوصاف فيعتبر من يماثلها من أسرة تماثل أسرة أبيها من أهل بلدها.
ومما ينبغي ملاحظته في تقدير مهر المثل عند الحنفية أن يلاحظ أن يكون زوج هذه الزوجة كأزواج أمثالها حسباً ونسباً وفضلاً لأن الرجل الفاضل يتسامح معه في مقدار المهر.
الاختلاف في مهر المثل:
إذا اتفق الطرفان على مقدار مهر المثل وجب هذا القدر، وإن اختلفا بأن ادعى الزوج أن مهر مثلها كذا وادعى أهل الزوجة أنه أكثر من ذلك. فمن أقام بينة على دعواه أخذ بقوله، وإن لم يوجد لهما بينة فالقول قول الزوج مع يمينه لأنه منكر للزيادة.
وإن أقام كل منهما البينة على دعواه أخذ ببينة الزوجة لأنها تدعي الزيادة والزوج ينكرها، والبينات شرعت لإثبات الدعاوى لا لدفعها "البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
الحالات التي يجب فيها مهر المثل:
يجب مهر المثل في الحالات الآتية:
الأول: إذا لم يسم في العقد بأن صدرت الصيغة مجردة من ذكره أو نفيه، كأن يقول لها : زوجيني نفسك، فتقول قبلت أو زوجتك نفسي دون أن تذكر مهراً.
وفي هذه الحالة تسمى المرأة بالمفوضة، لأنها بسكوتها تكون قد فوضت أمر تقدير المهر إلى زوجها، لذلك كان لها الحق في مطالبته بعد العقد بتقدير مهر لها، فإن فعل وتراضيا وجب ما تراضيا عليه، وإن لم يجبها إلى طلبها كان لها أن ترفع الأمر للقاضي ليأمره بالفرض فإن لم يمتثل قضى لها بمهر المثل، وإن سكتت عن المطالبة بالفرض حتى دخل بها أو مات عنها فلها مهر المثل، لأنه وجب بالعقد وتأكد بالدخول أو الموت. وهذا عند الحنفية ومن وافقهم.
الثانية: إذا اتفقا على نفي المهر بأن صدرت الصيغة مقرونة بالنفي أو كان هناك اتفاق سابق على الزواج بغير مهر وعقداً بناء على هذا الاتفاق ثم دخل بها.
وإنما وجب مهر المثل في هذه الحالة لأن المهر جعله الشارع حكماً من أحكام العقد فلا يملك العاقد نفيه، واشتراط نفيه لا يخرج عن كونه شرطاً فاسداً لمنافاته لمقتضى العقد، والشروط الفاسدة لا يفسد بها عقد الزواج بل يصح العقد ويلغى الشرط.
ولأن المهر فيه حق للشارع لأنه أوجبه إبانة لخطر العقد وإظهاراً لشرفه فلا يستطيع أحد العاقدين إسقاطه. نعم إنه يجب أولاً بإيجاب الله، وللزوجة بعد تقرره أن تسقطه لأنه في حالة بقاء الزواج خالص حقها. فلها أن ترده إلى الزوج إن كانت قبضته أو تبرئه منه إن لم تكن قبضته.
الثالثة: إذا سميا مهراً تسمية غير صحيحة بأن سميا ما لا يصلح أن يكون مهراً شرعاً. مثل تسمية ما ليس بمال كالطير في الهواء والسمك في الماء أو الأشياء التالفة التي لا ينتفع بها مثلاً، أو تسمية مال غير متقوم كالخمر والخنزير في زواج المسلم سواء كانت الزوجة مسلمة أو كتابية، أو تسمية مال متقوم لكنه مجهول جهالة فاحشة. كمجهول الجنس والنوع كأن يجعل مهرها حيواناً أو بيتاً أو حلياً أو قنطاراً أو أردباً مع عدم بيان نوعه. ففي هذه الصور تفسد التسمية ويجب مهر المثل لأنه الواجب الأصلي كما يقول أبو حنيفة، ولا يعدل عنه إلا إذا تراضيا على شيء معلوم يصح أن يكون مهراً شرعاً ولم يوجد.
ويلحق بهذه الصورة وهي التي فسدت فيها التسمية زواج الشغار وهو أن يزوج الرجل موليته كبنته أو أخته من رجل على أن يزوجه الآخر بنته أو أخته من غير صداق لكل منهما، بل على أن يكون زواج كل منهما صداقاً للأخرى، وهذا عند الحنفية الذين يصححون هذا العقد، وأما عند الجمهور وهم الشافعية والمالكية والحنابلة فهو فاسد. ومنشأ الخلاف بينهما أنه زواج جاهلي جاء الإسلام فنهى عنه بما رواه المحدثون عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الشغار" قال نافع: والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق.
وبما رواه مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا شغار في الإسلام" فذهب الجمهور إلى أنه زواج منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، ولأنه عقد زواجين في عقد واحد وهو منهي عنه أيضاً.
وذهب الحنفية إلى أنه ليس منهياً عنه لذاته بل لما اشتمل عليه من ظلم المرأة والإجحاف بحقها كما كان عليه أهل الجاهلية من تحكمهم في شئون النساء وإلحاق الضرر بهن.
ففي هذا الزواج كل من المرأتين وقع عليها الظلم بحرمانها من مهرها بينما انتفع كل من الوليين بحصوله على زوجة بدون مهر، وهذا المعنى لا يفسد العقد لأنه متعلق بالمهر وفساد المهر لا يرجع على العقد بالفساد بل يفسد وحده ويصح العقد، لأنه يصح مع عدم ذكر المهر وكأنه سمى شيئاً لا يصلح مهراً فيجب مهر المثل فآل الأمر إلى أنه زواج بمهر المثل.
الرابعة: إذا حصل الاختلاف في المهر المسمى ولم تثبت التسمية بالبينة فيجب مهر المثل فيما إذا ادعت الزوجة أكثر منه أو ادعى الزوج أقل منه، أما إذا كان الادعاء من طرف الزوجة وادعت أقل من مهر المثل فإنه يحكم بما تدعيه وكذلك إذا كان الادعاء من طرف الزوج وادعى أكثر منه فأنه يحكم بما يدعيه.
الخامسة: إذا تزوج الرجل في مرض موته بأكثر من مهر المثل فإنه يجب لها مهر المثل ويجري على الزيادة حكم الوصية للوارث على اختلاف المذاهب فيها.
متى يجب المهر المسمى؟
إذا صحت التسمية للمهر سواء كانت في العقد أو بعده وجب المهر المسمى لتراضيهما عليه، وصحة التسمية تتوقف على توافر الشروط الآتية:
-1 أن يكون المسمى مالاً متقوماً في نظر الشارع أو ما هو في حكم المال من المنافع التي تقوم بالمال.
-2 أن يكون معلوماً بأن يكون خالياً من الجهالة الفاحشة.
-3 أن يكون عقد الزواج صحيحاً فإن كان فاسداً لا يلتفت إلى المسمى. بل يجب مهر المثل، فإذا توفر في المسمى ذلك وجب بشرط ألا يكون أقل من المهر المقدر شرعاً فإن كان أقل منه وجب المسمى وما يكمل العشرة دراهم عند الحنفية. والمعتبر القيمة عند العقد لا وقت التسليم. فلو سمى لها ما قيمته عشرة دراهم عند العقد ثم نقصت قيمته عند التسليم لا يؤثر ذلك النقصان في صحة التسمية، وإن كان العكس وجب المسمى وما يكمل العشرة، لأن زيادة القيمة بعد العقد لا ترفع النقصان، ولا يضر بعد ذلك إن كان المسمى من الذهب أو الفضة مضروباً أو غير مضروب أو من غيرهما من الأموال المثلية القيمية عقاراً أو منقولاً فيصبح تسمية والقروش والدنانير والليرات وخاتم من الذهب أو من الماس أو عقار عليه بناء أو لا أو حيوان أو غير ذلك بشرط ألا يكون فيه جهالة فاحشة فإن وجدت فسدت التسمية.
والجهالة الفاحشة تكون بجهالة الجنس والنوع مثل أن يسمى لها حيواناً أو بيتاً أو قنطاراً أو إردباً أو ثوباً، فإن كان معلوم الجنس والنوع صحت التسمية ولا تضر جهالة الوصف لأنها يسيرة لا تؤدي إلى النزاع كما إذا سمى لها فرساً أو ثوباً من الحرير وهذا عند الحنفية والمالكية والحنابلة.
وخالف الشافعية فقالوا: إن جهالة الوصف تفسد التسمية، فلو سمى لها قنطاراً من القطن وبين نوعه ولم يبين درجته أو ثوباً من الحرير مثلاً فإن التسمية تكون فاسدة ويجب مهر المثل قياساً على المعاوضات المالية.
ويرد الجمهور على ذلك: بأن الجهالة اليسيرة تغتفر في عقد الزواج لأنه يتساهل فيه حيث إن المال غير مقصود فيه بخلاف المعاوضات المالية لأنها مبنية على المساومة فجهالة الوصف فيها مفضية إلى النزاع، ولأنه لو فسدت التسمية بجهالة الوصف وجب مهر المثل، والجهالة فيه أشد مما فيه أشد مما في مجهول الوصف.
وإذا صحت تسمية مجهول الوصف عندهم وجب الوسط من الصفات لا الأعلى ولا الأدنى ويخير الزوج بين دفع الوسط أو القيمة، لأن الوسط يعرف بالقيمة، ولأن مجهول الوصف لا يثبت في الذمة، بل الذي يثبت فيها هو القيمة، وحينئذ يكون الواجب هو الوسط باعتباره مذكوراً في العقد أو القيمة باعتبار ثبوتها في الذمة.
ما يجب في العقد الفاسد من المهر:
هذا هو المهر الواجب في العقد الصحيح، تارة يجب المسمى إذا صحت التسمية، وتارة يجب مهر المثل إذا لم توجد تسمية أو وجدت وكانت فاسدة، وتارة يجب أقل المهر شرعاً وهو عشرة دراهم عند الحنفية إذا سمى لها مالاً متقوماً أو منفعة تقوم بالمال لكنه أقل من العشرة.
وأما في العقد الفاسد فلا يجب فيه شيء قبل الدخول لأنه لا اعتبار له في نظر الشارع وإنما يجب المهر فيه بالدخول الحقيقي بها، لأن الدخول بالمرأة في نظر الإسلام لا يخلو من وجوب الحد أو المهر وحيث لا حد لوجود الشبهة المسقطة له فيجب المهر.
والمهر الواجب هنا هو مهر المثل إذا لم يسم لها مهراً أو سماه وكانت التسمية فاسدة، فإذا كانت التسمية صحيحة وجب الأقل من المسمى ومهر المثل، فإذا كان مهر مثلها مائة والمسمى ثمانون وجب المسمى، وإن كان العكس وجب مهر المثل.
وإنما وجب الأقل منهما لأن الواجب الأصلي هو مهر المثل وقد رضيت بالمسمى في حالة زيادة مهر مثلها عما سماه، وكأنها أسقطت حقها في الزيادة فتعامل بذلك، وهذا هو الراجح في المذهب الحنفي.
المبحث الرابع: في الزيادة في المهر والحط منه
معنى الزيادة في المهر: أن يضاف إليه شيء بعد تمام العقد والاتفاق على مهر معين سواء أكان ذلك الشيء من جنس المهر المسمى أم غير جنسه.
ومعنى الحط: إنقاص جزء من المهر أو إسقاطه كله بعد الاتفاق عليه، وظاهر أن الزيادة تكون من جانب الزوج، والحط من جانب الزوجة، وكل منهما جائز لكن بشروط، فإذا زاد الزوج شيئاً على المهر التحقت الزيادة بأصل المهر وصارت كجزء منه فتلزمه ويطالب بها ما يطالب بالأصل ويتأكد وجوبها بما يتأكد به وجوب المهر غير أنها لا تتنصف لو طلقها قبل الدخول عند الحنفية.
وتثبت لها تلك الأحكام إذا توفرت الشروط الآتية:
-1 أن يكون الزوج من أهل التبرع بأن يكون بالغاً عاقلاً رشيداً لأن هذه الزيادة نوع من التبرع فلا تصح إلا إذا كان فاعلها من أهل التبرع.
-2 أن تكون الزيادة معلومة كأن يزيد مقداراً من المال محدداً أو عيناً مالية معينة، فإن كانت مجهولة. كأن يقول لها: زدتك شيئاً على مهرك أو قدراً من المال لم يحدده لا تلتحق به لأن المجهول لا يصح أن يكون محلاً للعقد والتعامل.
-3 أن تكون الزوجية قائمة عند الزيادة ولو حكماً كما في عدة الطلاق الرجعي، أما لو كانت الزيادة بعد الطلاق البائن فلا تعتبر، لأن الزيادة تلتحق بأصل المهر المسمى وتستند إلى العقد فيجب أن يكون باقياً حتى يمكن التحاقها بالمهر واستنادها إلى العقد.
-4 أن تقبلها الزوجة إذا كانت أهلاً للقبول، أو وليها إذا لم تكن أهلاً في المجلس، لأنها هبة والملك لا يثبت فيها إلا بالقبول، فلو ردت من جانبها ارتدت حيث لا يدخل في ملك الإنسان شيء جبراً عنه إلا في الميراث.
وكما يجوز للزوج الرشيد الزيادة في المهر يجوز لولي القاصر إذا كان أباً أو جداً غير معروف بسوء الاختيار أن يزيد في مهر القاصر، لأن له أن يزوجه بأكثر من مهر المثل ابتداء عند أبي حنيفة، فله أن يزيد بعد التسمية، لأن مثل هذا الولي لا يفعل ذلك إلا لمصلحة تفوق الزيادة في المهر، ولأن عرف الناس جار بأن الهدايا تقدم من قبل الزوج وأوليائه، فتكون هذه الزيادة كالهدية فتجوز وتصبح لازمة وتلتحق بأصل المهر.
وكما تجوز الزيادة من جانب الزوج، يجوز الحط من قبل الزوجة وحدها إذا كانت أهلاً للتبرع بأن كانت بالغة عاقلة رشيدة، ولا يجوز ذلك من وليها إذا كانت قاصرة حتى ولو كان الولي أباها أو جدها، لأن الحط يكون بمثابة الهدية، ولم تجر العادة بأن أهل الزوجة يقدمون الهدايا للزوج بل لو فعلوا ذلك تعيروا به.
وأبو حنيفة وإن كان يصحح تزويج الولي لها بأقل من مهر المثل ابتداء لما يراه من المصلحة لكنه لا يجوز له الحط منه بعد تقرره، لأن المهر يتعلق به عند إنشاء العقد حقوق ثلاثة:
حق الشارع، ولهذا لا يصح بأقل من عشرة دراهم.
وحق الوالي العاصب ولذا كان له حق الاعتراض على تزويج البالغة العاقلة الرشيدة نفسها بأقل من مهر مثلها.
وحق للزوجة لأنها الممتلكة.
وبعد تقرره يصير حقاً خالصاً للزوجة، فحقها ثابت في الابتداء والبقاء وحق غيرها ثابت في الابتداء فقط.
ومن هذا يتبين أنه لا يملك الحط من المهر بعد تقرره إلا الزوجة صاحبة الحق فيه في البقاء، لأنه إن وجد المسوغ للنقص في الابتداء فلم يوجد بعده بل وجد المانع منه.
والحط منه يصح بشروط:
-1 أن تكون من أهل التبرع وهي الرشيدة كما قلنا.
-2 أن يقبله الزوج في المجلس إذا كان المهر مالاً من الأعيان كبيت معين أو حيوان معين، لأن حطها يكون هبة، والهبة لا بد فيها من القبول، فإذا لم يقبل الزوج صراحة لا يسقط حقها فيه، بل يبقى هذا القدر أمانة عنده تأخذه متى شاءت، فإذا هلك ذلك الجزء عند الزوج لا يكون مضموناً عليه، لأن الإبراء منها لا يفيد التمليك في الأعيان، فيحمل على نفي الضمان بخلاف باقي المهر فإنه مضمون عليه حق تقبضه.
وأما إذا كان المهر ديناً في الذمة كمبلغ من المال أو الأشياء التي تثبت في الذمة فلا يشترط لحطه عنه قبوله، بل يشترط عدم رده، لأن الحط هنا إبراء للذمة من بعض ما ثبت فيها وهو إسقاط لا يحتاج إلى القبول بل يرتد بالرد.
وإنما شرط الرد هنا لأن الإبراء منّة، ومن الناس من لا يحتمل المنة من الغير خصوصاً في مهر الزوجة، وإذا تم الحط بالهبة أو بالإبراء أصبح المهر هو الباقي لا يحق لها المطالبة إلا به لكن مع ملاحظة أن يكون حطها بمحض اختيارها لا يشوبه أي نوع من الإكراه ويجب التحري عند إثباته.
ومما تجب ملاحظته هنا أيضاً أن الزيادة في المهر والحط منه إذا كان في مرض الموت اعتبر وصية تطبق عليها أحكام الوصية، فمذهب الحنفية يعتبرها موقوفة كلها على إجازة الورثة لأنها وصية للوارث.
المبحث الخامس: في تعجيل المهر وتأجيله
لما كان المهر حكماً من أحكام العقد الصحيح فإنه يجب بتمام العقد ديناً في ذمة الزوج عند الحنفية ومن وافقهم يجب أداؤه للزوجة عند طلبها، ولها أن تمتنع عن الدخول في طاعته إذا لم يؤده لها بعد الطلب، وإذا كان أداؤه متوقفاً على طلب الزوجة فلا يلزم أن يكون حالاً وقت العقد بل يجوز تأجيله كله أو بعضه إذا اتفق الزوجان على ذلك.
وعلى هذا إذا اتفق الزوجان على شيء من ذلك عمل به وإن كان هناك عرف يخالفه لأن الاتفاق من قبيل الصريح والعرف من قبيل الدلالة، وإذا تعارض الصريح والدلالة يقدم الصريح، على أن من شروط العمل بالعرف ألا يكون تصريح بخلافه.
وإذا لم يوجد اتفاق بينهما على شيء من التعجيل والتأجيل حكم عرف البلدة التي جرى فيها العقد لأن سكوتهما عن التصريح دليل على قبولهما تحكيم العرف القائم وقت العقد، وإن لم يكن عرف وجب تقديم المهر كله، لأن الأصل أنه يجب بتمام العقد ولا يؤجل إلا بشرط صريح أو عرف قائم، فإذا كان المهر عاجلاً كله أو بعضه فإن قبضته الزوجة وجب عليها الانتقال إلى بيت الزوج والدخول في طاعته بمجرد طلبه، فإن امتنعت عن ذلك كانت ناشزة وأجبرت على تسليم نفسها إلا إذا كان هناك ما يحول دون ذلك كالمرض ونحوه.
وإن لم يوف لها ذلك المعجل كان لها الامتناع سواء كان الزوج موسراً أو معسراً ولا يعد هذا نشوزاً منها لأن امتناعها بحق شرعي. فإن سمحت له في هذه الحالة بالدخول أو الخلوة الصحيحة بها فهل يعد ذلك إسقاط لحقها في الطلب العاجل ومنع نفسها منه في أي وقت أو لا؟.
ذهب أبو حنفية إلى أنَّ هذا لا يسقط حقها فلها أن تمتنع منه لأن رضاها بالدخول أو الخلوة قبل قبض معجل المهر إسقاط لحقها في منع نفسها في الماضي لا في المستقبل لأن منافع الزواج مستمرة ولا تستوفي دفعة واحدة لاحتمال أن تكون فعلت ذلك لحمل الزوج على دفع المهر فلما لم يفعل رجع حقها في المنع إليها.
ونظير ذلك ما إذا رضيت بمعاشرة زوجها فترة من الزمن بدون اتفاق عليها فإن ذلك لا يكون إسقاط لحقها في طلب الاتفاق عليها في المستقبل، وهذا هو الرأي الراجح في مذهب الحنفية.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه لا حق لها في المنع لأنها لما رضيت بالدخول أو الخلوة قبل أن تقبض معجل صداقها فقد سلمت جميع المعقود عليه، ولهذا يتأكد جميع المهر بالمخالطة مرة واحدة، فكانت مسقطة لحقها في طلبه قبل الدخول فيسقط حقها في الامتناع، فلو امتنعت لم تجب لها نفقة لأنها تعتبر ناشزة.
وإذا عجز الزوج عن دفع معجل الصداق، فهل يقتصر أثره على منع الزوجة نفسها من الزوج وعدم طاعته، أو يتعدى ذلك إلى ثبوت الحق لها في طلب فسخ الزواج؟.
في ذلك رأيان:
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنَّه لا يتعدى إلى طلب الفسخ بأي حال.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة في رأي عندهم إلى أنَّ لها الحق في ذلك غير أن منهم من جعل لها هذا الحق مطلقاً سواء دخل بها أو لم يدخل، ومنهم من قيد هذا الحق بما قبل الدخول، أما بعده فلا يجوز لها هذا الطلب ولو فعلت لم تجب إلى ذلك.
وإذا اتفقا على تأجيل المهر كله إلى أجل محدد صح ذلك التأجيل، ويجب على الزوج أداؤه عند حلول الأجل المعين، فإذا طلقها قبل حلول الأجل فليس لها حق المطالبة حتى يحل الأجل، وإن مات قبل حلول الأجل فلها حق مطالبة الورثة بعد الموت دون انتظار الأجل، لأن التأجيل حق لا يورث.
وإذا لم يعينا أجلاً أو ذكرا أجلاً مجهولاً جهالة فاحشة بطل التأجيل، ولو أجلا نصفه من غير تعيين الأجل.
فبعض الفقهاء يرى أن التأجيل باطل فيجب تعجيله.
ومن الفقهاء من يرى أن التأجيل صحيح، ويعتبر مؤجلاً إلى الطلاق أو وفاة أحد الزوجين، لأن أحدهما آت لا محالة فيؤجل إلى أقربهما ما دام الزوجان قد ارتضيا التأجيل.
حالة تأجيل المهر إلى أجل معين: هل يؤثر ذلك في طاعة الزوجة لزوجها أو لا؟.
والمسألة فيها تفصيل بين ما إذا شرط الزوج الدخول قبل حلول الأجل ورضيت الزوجة، وبين ما لم يشرط ذلك، فإن شرطه فقد اتفق أئمة الحنفية على أنه لا حق لها في الامتناع لأنها برضاها بالشرط أسقطت حقها فيه.
أما إذا لم يشترط ذلك فأبو حنيفة يذهب إلى أنه لا حق لها في الامتناع لأنها لما رضيت بتأجيل المهر فقد رضيت بتسليم نفسها قبل قبضه وهو إسقاط لحقها في تعجيله، ولم يوجد من الزوج ما يدل على إسقاط حقه في الاستمتاع بزوجته الثابت له بمجرد العقد الصحيح، وبهذا يقول الإمام أحمد بن حنبل.
المبحث السادس: في مؤكدات المهر
المهر الذي وجب بالعقد الصحيح فإن وجوبه غير مستقر، لأنه عرضة لأن يسقط كله أو نصفه حتى يوجد ما يؤكده، فإذا وجد ذلك المؤكد استقر وجوبه ولا تبرأ ذمته إلا بالأداء أو الإبراء.
والمؤكدات للمهر أمور اتفق الفقهاء على بعضها واختلفوا في البعض الآخر.
فاتفقوا على أنه يتأكد بأحد أمرين:
أولاهما: الدخول الحقيقي بالزوجة، لأن الزوج بدخوله بزوجته يستوفي حقه منها فيتقرر حقها كاملاً في المهر سواء كان مسمى وقت العقد أو قدر بعده بالتراضي بينهما أو بقضاء القاضي أو لم يكن مسمى ووجب مهر المثل بقيت الزوجية أو حصلت الفرقة بينهما، وإذا تقرر حقها في المهر كاملاً فلا تبرأ ذمته إلا بأدائه لها أو إبرائها له منه.
غير أنه يشترط في ذلك الدخول الموجب لكل المهر أن يكون واقعاً من بالغ، وأن تكون المرأة صالحة للمخالطة الجنسية، فإن كانا صغيرين لا يتقرر بدخولهما كل المهر عند الحنفية والمالكية ولا يشترط في الدخول أن يكون حلالاً، بل إن حصوله مع وجود المانع الشرعي كالحيض أو النفاس أو كون أحدهما صائماً مثلاً يتأكد به المهر.
ثانيهما: موت أحد الزوجين باتفاق المذاهب الأربعة، وإن قصره المالكية على المهر المسمى حيث لا يوجبون لها شيئاً عند عدم التسمية.
وموت أحد الزوجين يوجب المهر كله قبل الدخول أو الخلوة بالزوجة حتى ولو كانا صغيرين أو أحدهما. وإنما وجب المهر كله بالموت لأنه وجب بالعقد وكان عرضة للسقوط بالفسخ من أحد الجانبين وبالموت تعذر الفسخ لانتهاء العقد به حيث إن الزواج للعمر وقد انتهى العمر بالموت فينتهي الزواج به، والشيء تتقرر أحكامه الممكنة بانتهائه، والمهر حكم من أحكامه التي يمكن تقريرها بالموت.
ولأن المهر لما وجب بنفس العقد صار ديناً في ذمة الزوج، والديون لا تسقط بالموت فلا يسقط به المهر، وإذا تقرر المهر فإن كانت الزوجة أخذت جزءاً منه قبل موت الزوج تقرر لها الباقي في تركته، وإذا لم تكن أخذت منه شيئاً أخذته كله من تركة الزوج.
وإذا كانت الزوجة هي التي ماتت أخذ ورثتها المهر كله أو باقيه من الزوج بعد خصم نصيبه منه لأنه يرثها فيما تركته ومنه المهر الذي لم تقبضه.
والفقهاء متفقون بعد ذلك على أن موت أحد الزوجين مؤكد لكل المهر إذا كان الموت طبيعياً أو بقتل أجنبي، أو كان بفعل الزوج بأن قتل نفسه أو قتل زوجته، واختلفوا فيما إذا قتلت نفسها أو قتلت زوجها عمداً.
وذهب الشافعية إلى أنها قتلت زوجها عمداً أنها لا تستحق صداقها لأنها أنهت الزواج بمعصية فوتت بها على الزوج حقه، وإنهاء الزواج بهذه الصورة من قبلها يسقط المهر متى كان قبل الدخول، كما إذا ارتدت بعد العقد وقبل الدخول.
وذهب المالكية إلى موافقة الشافعية بالجملة، حيث إنهم منعوا تكميل المهر لئلا يكون ذلك ذريعة لقتل النساء أزواجهن فتعامل بنقيض مقصودها.
وذهب جمهور الحنفية ومعهم الحنابلة إلى أن المهر لا يسقط بهذا القتل بل يتأكد المهر كله به، لأن القتل وإن كان جناية منها فله عقوبة مقررة وهي القصاص. فلو قلنا بسقوط مهرها لأوجبنا عليها عقوبة زائدة لم تقرر شرعاً وهو غير جائز، ولأن المهر في تلك الحالة للورثة لا لها فلا يحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها زوجها.
- وقد اختلفوا في تأكده بالخلوة بعد العقد الصحيح:
وذهب الشافعية إلى أنها في المشهور عندهم، إلى أنها لا تقوم مقام الدخول في تأكيد المهر، فإذا طلقها بعد الخلوة وجب لها نصف المهر المسمى، فإن لم يكن سمى لها مهراً وجبت لها المتعة.
غير أن المالكية قالوا: لو أقامت معه في بيته سنة، وكان بالغاً وهي تطيق المخالطة ولم يفعل شيئاً يجب كل المهر لو انفسخ العقد بعد ذلك.
وذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الخلوة بالزوجة يتأكد بها المهر كله، وتسمى عندهم بالدخول الحكمي.
غير أن الحنفية يشترطون في الخلوة أن تكون صحيحة، وأما الحنابلة فلا يشترطون ذلك بدليل أنهم قالوا: لو لمسها أو قبلها بشهوة ولو بحضرة الناس تأكد لها كل المهر ولا يسقط، ومثل ذلك لو نظر إلى ما لا يحل لغيره بالنظر إليه بشهوة، بل زادوا على ذلك وجعلوا الخلوة في الزواج الفاسد موجبة للمهر في إحدى الروايتين.
المبحث السابع: في الخلوة الصحيحة وأحكامها
وحد الخلوة الصحيحة عند الحنيفة أن يجتمع الزوجان بعد العقد الصحيح في مكان يأمنان فيه من دخول أحد عليهما بدون إذنهما أو يطلع عليهما، وليس هناك مانع يمنعهما من المخالطة الجنسية، فإذا لم يكن المكان آمناً لا تكون صحيحة، وإن كان آمناً ووجد المانع لا تكون صحيحة أيضاً.
والموانع - كما عّدها الفقهاء ثلاثة أنواع: حقيقي، وشرعي، وطبعي.
فالحقيقي: ويسميه بعض الفقهاء بالحسي كالمرض الذي يحول بينهما وبين التمتع الكامل، والعيب الخلقي بالمرأة كالقرن والرتق والصغر بأن يكون أحدهما صغيراً لا يمكن الاختلاط من مثله.
والشرعي: كأن يكون أحدهما صائماً في رمضان، أو محرماً بحجة فريضة أو نفل أو بعمرة، أو تكون المرأة حائضاً أو نفساء فكل ذلك مانع شرعاً، لأن المخالطة الجنسية محرمة فيها شرعاً، وفي الحيض والنفاس مانع طبعاً لأنه أذى والطبع ينفر عن استعمال الأذى.
والمانع الطبعي: كأن يكون معهما ثالث عاقل ولو كان صغيراً يستطيع التعبير عما وقع بينهما(أما إذا كان معهما صغير لا يميز أو مجنون أو مغمى عليه فلا يمنع الخلوة) لأن الإنسان يكره أن يقرب امرأته بحضرة ثالث ويستحي فينقبض عنه، وهذا تقسيم اعتباري، ولهذا سمى بعض الفقهاء هذا المانع بالحسي لأن الشخص الثالث محسوس.
فإذا صحت الخلوة تأكد بها المهر، فلو طلقها بعد ذلك أو انفسخ العقد بسبب من أسباب الفسخ ولو من جانبها وجب لها المهر كله متى كان العقد صحيحاً.
ولا تعتبر هذه الخلوة بعد الزواج الفاسد، لأن المخالطة الجنسية فيه حرام، فكان المانع الشرعي قائماً، ولأن الخلوة تؤكد المهر بعد وجوبه بالعقد، والعقد الفاسد لا يوجب المهر فلا يتصور تأكيد شيء لم يوجد.
وإذا كانت الخلوة الصحيحة يتأكد بها المهر بالدخول الحقيقي فهي لا تأخذ حكمة في كل شيء، بل تتفق معه في بعض الأحكام وتخالفه في بعضها الآخر وإليك البيان لمواضع التوافق والتخالف:
الأحكام التي يشتركان فيها:
-1 تأكيد المهر للزوجة.
-2 وجوب العدة على الزوجة إذا وقعت الفرقة بعد الخلوة الصحيحة.
كما تجب به بعد الدخول، لكن يلاحظ أنهما وإن اتفقا في وجوب العدة إلا أن وجوبها بالدخول وجوب ظاهراً وباطناً، أي قضاء وديانة لأنها حق الشارع وحق الولد الذي قد يأتي ثمرة لهذا الدخول. فيحرم عليها التزوج قبل انقضائها، أما في حالة الخلوة فوجوبها إنما هو في الظاهر فقط، أي في نظر القضاء. فلو رفع الأمر إلى القاضي وجب عليه الحكم بوجوبها على المختلي بها، لكن المرأة إذا كانت متيقنة بعدم مخالطة زوجها لها أثناء الخلوة فإنه يحل لها ديانة. أي بينها وبين الله أن تتزوج من غير أن تعتد بعد ذلك الطلاق، لأنه طلاق قبل الدخول حقيقة فلا يوجب العدة، كما ذهب إليه بعض فقهاء الحنفية، وإذا وجبت العدة على الزوجة بالفرقة بعد الخلوة الصحيحة ترتبت عليها أحكام العدة وهي:
-1 وجوب النفقة بأنواعها التي تثبت لكل معتدة.
-2 حرمة التزوج بامرأة أخرى تكون محرماً للمعتدة ما دامت في عدتها، لأنه يكون جامعاً بين محرمين.
-3 يحرم عليه التزوج بخامسة ما دامت العدة قائمة إذا كان له ثلاث زوجات غير تلك المطلقة، لأنه يكون جامعاً لأكثر من أربع زوجات.
بقي حكم أخير تشترك فيه الخلوة والدخول بالزوجة وهو ثبوت نسب الولد من الزوج إذا توافرت شروط ثبوت النسب، كما يثبت نسبه منه بعد الدخول.
وهذا في الواقع ليس حكماً للخلوة ولا للدخول، بل هو حكم لعقد الزواج الصحيح وإن لم يعقبه دخول ولا خلوة كما يذهب إليه الحنفية احتياطاً منهم وحرصاً على عدم ضياع الولد.
الأحكام التي يختلفان فيها:
تختلف الخلوة عن الدخول في الأحكام الآتية:
-1 حرمة بنات الزوجة تكون بالدخول الحقيقي بها، أما مجرد الخلوة الصحيحة فلا يترتب عليها حرمة البنات، فلو تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم طلقها فإنه حرم عليه التزوج بإحدى بناتها بعد ذلك، أما لو طلقها بعد الخلوة بها فيحل له التزويج بإحدى بناتها، لأن القرآن علق تحريم الربائب على الدخول. {وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.
-2 إحلال المطلقة ثلاثاً لمطلقها، فلو طلق الرجل زوجته ثلاثاً فإنها لا تحل له بعد ذلك حتى تتزوج زوجاً آخر، فإذا تزوجها الثاني ودخل بها دخولاً حقيقياً ثم طلقها وانقضت عدتها حلت للأول، أما لو طلقها بعد الخلوة الصحيحة فلا تحل له لحديث "لا حتى تذوقي عُسَيْلَتَهُ ويذوقَ عُسَيْلَتَكِ"، وهو كناية عن الدخول الحقيقي فبقي ما دونه على التحريم.
-3 الطلاق الواقع بعد أحدهما فإنه بعد الدخول الحقيقي يكون رجعياً وبائناً، أما بعد الخلوة الصحيحة فإنه لا يكون إلا بائناً على أي صورة وقع من الزوج، ويترتب على ذلك أن المطلق بعد الدخول يستطيع مراجعة زوجته بدون عقد جديد إذا كان طلاقه السابق رجعياً، أما المطلق بعد الخلوة فلا يستطيع إرجاعها إلا بعقد جديد.
-4 إن المدخول بها تزوج تزويج الثيبات من أنه لا بد في تحقق رضاها من أذنها الصريح، أما المختلى بها فقط فتتزوج زواج الأبكار لأنها لا زالت بكراً فيكتفي في رضاها بمجرد السكوت.
-5 الميراث، إذا طلق الرجل امرأته بعد الخلوة الصحيحة ومات أحدهما في أثناء العدة فلا يرث أحدهما الآخر، لأن الطلاق بعدها يكون بائناً على أي شكل وقع، ولا إرث في عدة البائن. يستوي في ذلك أن يكون طلاقه فراراً من الميراث وهو الطلاق في مرض الموت من غير رضاها أو لم يكن كذلك.
أما إذا طلقها بعد الدخول ومات أحدهما في العدة، فإنه يرث أحدهما الآخر إذا كان الطلاق رجعياً، بل إنه يثبت للزوجة في عدة الطلاق البائن إذا كان الطلاق في مرض موته، لأنه يعتبر فاراً من ميراثها فيعامل بنقيض مقصوده.
فالفرق بينهما فيما إذا كان الطلاق بائناً قصد به الفرار من الميراث، والميراث لا يثبت إلا بيقين بوجود سببه لأنه حق مالي لا يثبت احتياطاً.
-6 الإحصان، فإن الدخول يجعل كلاً من الزوج والزوجة محصنين بحيث تطبق عليهما عقوبة الرجم في الزنى، أما الخلوة الصحيحة فلا تجعلها محصنين فتطبق عليهما عقوبة الجلد عند الزنى إن لم يكن سبق لهما زواج ودخول.
المبحث الثامن: فيما يتأثر به المهر بعد وجوبه
عرفنا ما يتأكد به المهر فيتقرر بأكمله بالدخول والخلوة الصحيحة، وموت أحد الزوجين، فإذا حصلت الفرقة بعدها وجب المهر كاملاً سواء كان المسمى أو مهر المثل.
أما إذا حصلت الفرقة قبلها فلا يجب المهر كله، بل تارة يتنصف، وأخرى يسقط إلى بدل، وثالثة لا إلى بدل فتلك حالات ثلاث وإليك تفصيلها:
الحالة الأولى: حالة التنصيف وهي التي يجب فيها نصف المهر.
يجب نصف المهر إن كان مسمى تسمية صحيحة وكانت الفرقة من قبل الزوج سواء كانت طلاقاً أو فسخاً. كالفرقة بلفظ الطلاق أو التفريق بعيب فيه أو بسبب ارتداد الزوج عن الإسلام، أو إبائه عنه إذا كان غير مسلم وأسلمت زوجته أو ارتكابه ما يوجب حرمة المصاهرة.
ولا يستثنى من ذلك إلا صورة ما إذا كانت الفرقة بسبب خيار البلوغ، أو الإفاقة فيما لو زوج الصغير أو المجنون غير الأب والجد المعروفين بحسن الاختيار من الأولياء فإنه يثبت له الخيار في فسخ العقد عند البلوغ أو الإفاقة. فإذا اختار فسخ العقد لا يلزم بشيء من المهر، لأننا لو أوجبنا عليه نصف المهر كغيره لم يكن لهذا الخيار فائدة، لأنه حينئذ يستوي الفسخ والطلاق الذي يملكه كغيره فتنحصر فائدته في إعفائه من المهر عند اختياره الفسخ، وأيضاً إن فسخ العقد بالخيار رفع له من غير سبب موجب ولم يقل بذلك أحد.
والدليل على إيجاب نصف المهر في هذه الفرقة قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة : 237]. فهذه الآية توجب نصف المهر في الطلاق قبل الدخول إذا كان مفروضاً أي مقدراً فيقتصر التنصيف على المهر المسمى، ويلحق بالطلاق كل فرقة جاءت من جانب الزوج، أما مهر المثل الذي يجب عند عدم التسمية الصحيحة فلم يرد نص بتنصيفه، فيبقى وجوبه كاملاً في الصور التي يجب فيها كمال المهر، ويجب بدل نصفه المتعة، هذا قدر متفق عليه بين الفقهاء.
ولكن الفقهاء اختلفوا في المراد بالمهر المسمى الذي ينص أهو المسمى عند العقد فقط فلا يتناول المسمى بعده بتراضي الزوجين أو بقضاء القاضي عند اختلافهما فيه ولا الزيادة في المهر على المسمى بالعقد أو يتناول كل ذلك؟.
فذهب الحنفية في الراجح عندهم إلى أن المراد به المسمى وقت العقد فقط فلا ينصف ما سمى بعده ولا ما زيد عليه من جانب الزوج، فلو تزوجها بدون تسمية للمهر وقت العقد ثم سمى المهر بعد ذلك بالتراضي أو بالقضاء ثم طلقها قبل الدخول والخلوة فلا يجب لها إلا المتعة، ولو زاد على المسمى شيئاً وطلقها كذلك وجب لها نصف المسمى وتسقط الزيادة.
وذهب الجمهور إلى أن التنصيف يكون للكل في حالة الزيادة وفي حالة التسمية بعد العقد، وسبب الخلاف يرجع إلى اختلافهم في المراد بالمفروض الذي ينصف في الآية {فنصف ما فرضتم} فيقول الجمهور: إنه المفروض سواء كان وقت العقد أو بعده، لأن الفرض معناه التقدير وهو شامل لكل هذا.
ويقول الحنفية: إنه المفروض وقت العقد أو المتفق عليه قبله لأن في عرف الناس كذلك: وكلام الشارع يفسره العرف فيعمل بالمتعارف وإن كان مخالفاً للوضع اللغوي.
الحالة الثانية: التي يسقط فيها المهر إلى بدل. وهي التي يجب فيها المتعة.
المتعة: هي المال الذي يعطيه الرجل للمرأة بعد الفرقة بينهما بطلاق أو فسخ سواء كان هذا المال نقداً أو ثياباً أو غير ذلك. وهي نوعان. واجبة ومستحبة. فتجب للزوجة في كل فرقة قبل الدخول أو الخلوة الصحيحة من جهة الزوج إذا لم يكن لها مهر مسمى تسمية صحيحة وهي المفوضة، والدليل على وجوبها في هذه الحالة قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، ولأنها وجبت عوضاً عن نصف المهر وهو واجب فتأخذ حكمه لأن بدل الواجب واجب.
وذهب الحنفية إلى وجوبها في كل فرقة من جانبه قبل الدخول سواء اعتبرت طلاقاً أو فسخاً، لأن الحكمة في إيجابها التخفيف عن المرأة لما أصابها من الألم والوحشة بقطع وصلة النكاح من جانب الرجل دون أن يكون لها دخل في ذلك وتعويضها عما فاتها من نصف المهر لو كان لها مهر مقدر، ويستوي في ذلك أن تكون الفرقة طلاقاً أو فسخاً.
مقدار المتعة:
والمتعة الواجبة كسوة كاملة للمرأة مما تلبسه للخروج من المنزل عادة أو قيمة ذلك من نقود وغيرها، والمعتبر فيها عرف كل بلدة فيما تكتسي به المرأة خارج بيتها، وهو يختلف باختلاف أحوال الناس. فإن تراضيا عليها فذاك، وإلا فرضها القاضي.
وتحديد الفقهاء لها بالثياب من درع وخمار وملحفة(الدرع ما تلبسه المرأة فوق القميص، والخمار ما تغطى به الرأس والملحفة ما تلبس فوق ثيابها وبعض الفقهاء يعدها قميص وأزار وملحفة، والأزار ما يلبس فوق القميص وتحت الملحفة) كان باعتبار عرف زمانهم بدليل أنهم نصوا على أن المعتبر في المتعة عرف كل بلد فيما تكتسي به المرأة عند الخروج. كما نصوا على أن الزوج لو دفع لها قيمة المتعة أجبرت على القبول.
وهي على الإجمال لها حد أدنى وحد أعلى:
فحدها الأدنى عند الحنفية ألا تقل عن خمسة دراهم لأنها نصف أقل المهر الواجب شرعاً. وهي وجبت عوضاً عن نصف المهر المسمى، ولا تزيد عن نصف مهر المثل، لأن مهر المثل هو الواجب لها لو فارقها بعد الدخول في هذه الحالة.
ومعنى ذلك أنها لو قدرت لا تقل عن ذلك ولا تزيد عن هذا لكن الزوج لو تطوع بأكثر من هذا وأعطاها باختياره فلا بأس في ذلك، وعند تقديرها: يراعي حال الزوج من اليسار والإعسار لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} فهو صريح في أن تقدير المتعة يكون بحال الزوج من اليسر والعسر، ولأنه هو المكلف بدفعها فلو كلفناه وهو فقير وهي غنية بمثل ما تكسى به لكلفناه بما ليس في وسعه. {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.
أما المتعة المستحبة: فهي لكل مطلقة بعد الدخول سواء سمي لها مهراً أو لا، وللمطلقة قبل الدخول إذا كان لها مهر مسمى على الصحيح في المذهب الحنفي متى كانت الفرقة من جانب الرجل إلا إذا ارتد أو أبى الدخول في الإسلام فإن المتعة لا تستحب في حقه لأن الاستحباب فضيلة لا تطلب إلا من المسلم لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241].
ولأن إعطاء المتعة في تلك الحالات يكون من التسريح بإحسان المأمور به.
الحالة الثالثة التي يسقط فيها المهر كله إلى بدل:
يسقط المهر كله بعد ثبوته بالعقد الصحيح إذا طرأ عليه سبب من الأسباب الآتية:
-1 إذا وهبت الزوجة لزوجها كل المهر قبل الدخول أو بعده فإنه يسقط عنه متى كانت من أهل التبرع وقبل الزوج الهبة في المجلس، سواء كانت الهبة قبل قبض المهر أو بعده وكذلك إذا أبرأته منه وهي رشيدة وكان ديناً في ذمة الزوج سواء كان قبل الدخول أو بعده.
-2 إذا حصلت الفرقة بينهما بسبب من جانبها قبل الدخول أو الخلوة الصحيحة. سواء كان هذا السبب أمراً مشروعاً، كما إذا كان لها خيار البلوغ أو الإفاقة فيما إذا زوجها وليها غير الأب والجد وهي صغيرة أو مجنونة ثم بلغت أو أفاقت واختارت فسخ الزواج أو كان أمراً غير مشروع كارتدادها عن الإسلام أو إبائها عنه إذا أسلم زوجها ولم تكن كتابية أو ارتكبت ما يوجب حرمة المصاهرة فإن عقد الزواج في تلك الصور يفسخ ولا مهر لها، لأن إقدامها على ما يوجب الفسخ قبل أن يتأكد المهر دليل على تنازلها عنه، بخاصة إذا كان ما فعلته معصية، ومثل ذلك إذا كان الفسخ من قبل وليها، كما إذا زوجت نفسها بدون كفء أو بأقل من مهر المثل واعترض وليها العاصب على العقد وطلب فسخه وأجيب إلى طلبه، لأن فسخ العقد وإن كان من وليها مباشرة إلا أنها هي التي تسببت فيه بتزويجها بمن يعترض عليه وليها، فكأنها هي التي فسخته.
-3 إذا فسخ الزواج بسبب مشروع من جهة الزوج قبل الدخول أو الخلوة كاختياره الفسخ عند البلوغ أو الإفاقة، لأن هذا الفسخ نقض للعقد من أساسه، وإذا نقض العقد لم يبق سبب موجب للمهر.
-4 إذا خالعت الزوجة زوجها على المهر كله قبل الدخول أو بعده فإنه يسقط كله.
المبحث التاسع: في ولاية قبض المهر والتصرف فيه
قدمنا أن المهر حكم من أحكام العقد وأنه يثبت حقاً للزوجة بمجرد العقد الصحيح سواء كان مسمى في العقد أو لا، ولا تتوقف ملكيتها له على القبض حتى جاز لها التصرف فيه قبل قبضه.
وإذا تم العقد فلمن تثبت ولاية قبض المهر. أتثبت للعاقد ولياً كان أو وكيلاً أم للزوجة؟.
الأمر لا يخلو من أن تكون الزوجة كاملة الأهلية أولاً، فإن كانت كاملة الأهلية ثبت الحق لها سواء تولت هي العقد بنفسها أو تولاه غيرها وليس لأحد سواها ولاية قبضه إلا بإذنها الصريح أو الضمني.
فإذا قبضه غيرها بدون إذنها لا تبرأ ذمة الزوج منه وكان لها حق مطالبته به وهو يرجع على من أقبضه، وإن كان القبض بإذنها برئت ذمته، ولا يعتبر سكوتها عند القبض رضا منها بذلك إلا فيما إذا كانت بكراً وكان القابض أباها أو جدها لأبيها لجريان العادة بقبض الآباء والأجداد مهور الأبكار من بناتهم لاستحيائهن من المطالبة بالمهر، فاعتبر السكوت إذناً بالقبض دلالة بشرط ألا يوجد منها ما يدل صراحة على عدم رغبتها في قبض الولي له كأن تنهى الزوج عن دفعه إليه لسبب من الأسباب.
فإن وجد لا يعتبر قبضه صحيحاً فلا تبرأ ذمة الزوج منه، أما غير الأب والجد من الأولياء فليس لهم ولاية القبض إلا بالإذن الصريح، وكذلك الوكيل عنها في عقد الزواج لأنه مجرد سفير ومعبر عنها.
ويلاحظ هنا أن المأذون له في قبض المهر المسمى وإن كان أباً أو جداً ليس له قبض غيره، وإن كان مساوياً له في القيمة لأنه يكون استبدالاً وهو لا يملك ذلك بالنسبة لكاملة الأهلية، وقد سبق بيان حق الزوجة في الامتناع عن الزوج والدخول في طاعته حتى يوفيها مهرها المعجل.
وإن كانت الزوجة فاقدة الأهلية لصغرها أو جنونها أو كانت محجوراً عليها لسفه أو غفلة فصاحب الحق في قبض مهرها من له الولاية على أموالها وهو عند الحنفية واحد من ستة: الأب ثم وصيه فإن لم يكونا فالجد ثم وصيه فإن لم يكن أحد من هؤلاء فالقاضي ثم وصيه بهذا الترتيب.
وعلى هذا فقد تجتمع الولايتان "ولاية المال" لشخص واحد كالأب والجد، وقد تفترقان فيكون للزواج ولي وللمال ولي آخر كالعم ووصي الأب، فإنَّ أولهما ولي في الزواج والثاني ولي في المال. فإذا قبض واحد من أولياء المال المهر صح قبضه وبرئت ذمة الزوج منه لا تملك بعد زوال سبب الولاية مطالبة الزوج بالمهر مرة أخرى، بل تطالب وليها الذي قبضه.
وإذا قبضه واحد غير هؤلاء لا يعتبر قبضه وكان لها حق مطالبة الزوج به بعد البلوغ أو رفع الحجر، لأن ذمته لم تبرأ بالدفع إلى غير الولي المالي، ويرجع على من أقبضه إياه.
وعلى هذا إذا كان للصغيرة اليتيمة أو المجنونة أخ ووصي على مالها كان لأخيها ولاية تزويجها ولوصيها قبض مهرها لأن الأول ولي على النفس والثاني ولي على المال فيعمل كل منهما في دائرة اختصاصه لا يتعداها.
المبحث العاشر: في ضمان المهر
إذا كان المهر حقاً للزوجة فإن قبضته انتهت المسألة، وإن لم تقبضه صار ديناً في ذمة الزوج إذا كان من الأموال التي تثبت في الذمة كالنقود أو في ضمانه إن كان معيناً بذاته.
وكان لها أن تستوثق من استيفائه بأخذ رهن به أو كفيل يضمنه لها، فإن أخذت رهناً جرى عليه أحكام الرهن لكن العادة جرت بأن الناس يطلبون كفيلاً به.
فإذا كفل شخص لها هذا المهر صحت الكفالة إذا كان الكفيل من أهل الكفالة يستوى في ذلك أن يكون قريباً لأحد الزوجين أو أجنبياً عنهما وسواء أكان أحد الزوجين أو كلاهما فاقد الأهلية أو كاملة.
هلاك المهر واستهلاكه:
المهر إما أن يكون من الأموال التي تتعين بالتعيين أو من التي لا تتعين بالتعيين كالنقود وما في حكمها مما يثبت في الذمة.
فإن كان من النوع الثاني ورد عليه الضمان بالكفالة ولا يتصور فيه هلاك أو استهلاك قبل قبضه، لأنه لو جعل مهرها مائة دينار مشاراً إليها لزمه مائة دينار يدفعها إلى الزوجة سواء أكانت هي المشار إليها أم غيرها، لعدم تعلق حقها بمائة بعينها.
وإن كان من النوع الأول، كأن جعل مهرها حيواناً بذاته أو داراً محددة أو سيارة مشاراً إليها.
فإن حقها يتعلق بما عينه سواء كان من الأموال المثلية أو القيمية. وهذا هو الذي يرد عليه الهلاك والاستهلاك.
فإن هلك المهر من هذا النوع في يدها بعد قبضها له بآفة سماوية أو بفعلها فهلاكه عليها ولا ترجع على الزوج بشيء، لانتهاء عهدة الزوج بقبضها له.
وإن استهلكه غيرها سواء كان الزوج أو غيره لزمه ضمانه فترجع على المستهلك بمثله إن كان مثلياً وبقيمته إن كان قيمياً.
أما إذا هلك قبل قبضها له فإنه يكون مضموناً على الزوج سواء كان بفعله أو بآفة سماوية، لأن الزوج ملتزم به قبل قبضها فيضمنه.
أما إذا كان استهلاكه بفعل الزوجة فلا ترجع على الزوج بشيء لأنها استوفت حقها بإهلاكها له، وإن هلك بفعل أجنبي فالزوجة بالخيار إن شاءت رجعت على ذلك الأجنبي وإن شاءت رجعت على الزوج وهو يرجع على الأجنبي.
وإذا حصل الطلاق قبل الدخول فإن كان الهلاك قبل القبض وجب على الزوج نصف قيمة المهر يوم الهلاك، وإن هلك بعد القبض وجب عليها رد نصف قيمته يوم القبض للزوج.
استحقاق المهر للغير:
وهذا لا يكون إلا في المهر المعين، فإذا استحق المهر كله بأن ظهر أنه ملك لغير الزوج كان على الزوج ضمان مثله إن كان مثلياً وقيمته إن كان قيمياً، يستوي في ذلك ظهور استحقاقه قبل القبض وبعده.
فإن استحق بعضه وكان من الأموال المثلية أخذت الزوجة الباقي ورجعت على الزوج بمثل الجزء المستحق، وإن كان قيمياً كدار أو فرس تخيرت بين أخذ الباقي وتشارك الأجنبي فيه والرجوع على الزوج بقيمة الجزء المستحق وبين أن تأخذ القيمة كلها من الزوج وتترك له العين ليشترك فيها مع المستحق لجزئها، وإنما تخيرت هنا لأنها ملكت العين كلها بالعقد دون أن يكون لها شريك فيها، فإذا عرضت الشركة في تلك العين وهي عيب قد لا ترضى به ثبت لها التخيير.
هذا إذا استحقت الزوجة المهر كله، أما إذا استحقت نصفه فقط كأن طلقها قبل الدخول ثم ظهر مستحق لنصف العين التي جعلت مهراً لم يكن لها غير النصف الآخر، لأنها في هذه الحالة ستكون شريكة على كل حال، إما للزوج لو لم يظهر مستحق لنصف العين أو للآخر بعد استحقاقه.
المبحث الحادي عشر: في الاختلاف في المهر وقضاياه
مع وضوح حق المرأة وما يجب لها في كل حالة من الحالات إما تمام المهر المسمى أو نصفه، أو مهر المثل أو المتعة، لكن ذلك عند اتفاق الزوجين على ما وقع بينهما، وقد يختلفان، وقد يختلف أحدهما مع ورثة الآخر بعد موته. وقد يختلف ورثتهما بعد موتهما.
والاختلاف بينهما قد يكون في أصل تسمية المهر، بأن يدعي أحدهما تسمية المهر وينكر الآخر، وقد يكون في مقدار المسمى بعد اتفاقهما على التسمية، وقد يكون في قبض المعجل بعد اتفاقهما على التسمية ومقدار المسمى، وإليك تفصيل أحكام تلك الصور:
الصورة الأولى: إذا اختلف الزوجان في أصل التسمية بأن ادعى أحدهما تسمية المهر مع تعيين مقداره وأنكر الآخر.
والحكم في ذلك: أن على مدعي التسمية إثباتها بالبينة، فإن أقامها حكم بالمهر الذي ادعاه، وإن عجز عن إقامة البينة وطلب اليمين من المنكر وجهت اليمين إليه، فإن امتنع عن اليمين حكم عليه بما ادعاه الآخر، لأن ذلك بمثابة اعتراف منه بدعوى المدعي، وإن حلف بطلت التسمية وقضى بمهر المثل لأنه الواجب في كل زواج خال من التسمية الصحيحة عند الحنفية.
لكن يلاحظ أنه يشترط في مهر المثل الذي يقضى به هنا ألا يقل عما سماه الزوج إن كان هو المدعى، لأنه التزم هذا القدر المسمى بادعائه فلا ينقص عنه، وألا يزيد على ما ادعته المرأة إن كانت هي المدعية، لأنها رضيت بما سمته في دعواها.
فإذا كان الزوج هو المدعي وادعى أكثر من مهر المثل حكم بما ادعاه لا بمهر المثل، وإذا كانت الزوجة هي المدعية وادعت أقل منه حكم بما ادعته.
وهذا الحكم فيما إذا وقع الاختلاف بينهما حال قيام الزوجية أو بعد زوالها وتأكد المهر كله بأحد الأمور المؤكدة له.
أما إذا حصل الطلاق قبل أن يتأكد المهر فتستحق الزوجة نصف المسمى إن ثبتت التسمية، والمتعة إن لم تثبت لا تزيد على نصف ما عينته الزوجة إن كانت هي التي ادعت التسمية، ولا تنقص عن نصف ما عينه الزوج إن كانت دعوى التسمية من جانبه.
والحكم لا يختلف عن هذا فيما إذا حصل الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر باتفاق أئمة الحنفية، لأن ورثة أحدهما تقوم مقامه، ولأن المهر لا يسقط بالموت.
وكذلك إذا وقع الاختلاف بين ورثة الزوجين بعد موتهما عند الحنفية.
الصورة الثانية: إذا اختلفا في مقدار المهر بعد اتفاقهما على أصل التسمية، كما إذا ادعت الزوجة أن المسمى مائتا دينار، وقال الزوج: إنه مائة وخمسون.
وفي هذه الصورة يرى الحنفية: أن الزوجة تدعي الزيادة والزوج ينكرها فإن أقامت على دعواها حكم بمقتضاها، وإن عجزت يكون القول قول الزوج مع يمينه، فإن نكل عن اليمين حكم بما ادعته الزوجة، وإن حلف حكم بما ادعاه إلا أن يكون ما ادعاه شيئاً قليلاً لا يمكن أن يكون مهراً لمثلها فإنه يحكم بمهر المثل في هذه الحالة بشرط ألا يزيد على ما تدعيه لأن الظاهر يؤيدها فيما تدعيه.
والحكم لا يختلف عن هذا فيما إذا وقع الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر، أو اختلاف ورثة الزوجين بعد موتهما.
الحالة الثالثة: إذا اتفق الزوجان على أصل التسمية والمقدار المسمى واختلفا في قبض المعجل بأن ادعى الزوج أنه أوفاها المعجل كله وأنكرت الزوجة أنها قبضته كله أو أنها قبضت بعضه ولم تقبض باقيه.
والحكم في هذا الاختلاف يختلف باختلاف الوقت الذي حصل فيه:
فإن كان قبل أن تزف إليه كانت الزوجة متمسكة بالأصل والزوج يدعي خلافه، لأن المهر ثبت في ذمة الزوج ديناً بمجرد العقد والأصل بقاؤه حتى يقوم الدليل على خلافه، فإن أقام الزوج بينة على دعواه حكم بمقتضاها، وإن عجز كان القول للزوجة مع يمينها، فإن نكلت عن اليمين حكم للزوج لأن نكولها دليل على صدق دعواه.
وإن كان الخلاف وقع بعد أن زفت إليه فالحكم يختلف تبعاً لوجود عرف مطرد بلزوم تعجيل جزء من المهر قبل الزفاف أو عدم وجوده.
فإن لم يوجد عرف فالحكم لا يختلف عما إذا كان قبل الزفاف من أن على الزوج البينة والقول قول الزوجة مع يمينها، فإن أقام بينة حكم بها وإن لم تكن له بينة حكم لها إذا حلفت اليمين.
وإن كان هناك عرف مطرد بالتعجيل وادعى الزوج أنه أوفاها معجل الصداق وهي تنكر قبض شيء منه كان القول قول الزوج، لأن العرف يشهد له ويقوم مقام البينة على صدق دعواه ولا يلتفت إلى دعواها عدم القبض لأن الظاهر يكذبها.
وإن كان الخلاف بينهما في قبض بعض المعجل بأن اعترفت الزوجة بأنها قبضت بعضه دون باقيه والزوج ينكر ذلك مدعياً أنه أوفاها كل المعجل كان القول قولها مع اليمين حتى ولو جرى عرف الناس بقبض كل معجل الصداق، لأن بعض الناس يتساهلون عادة بعد قبض جزء من معجل الصداق في طلب الباقي فيتم الزفاف قبل قبضه، ولأن اعترافها بقبض البعض مع إمكانها إنكار قبضه أمارة واضحة على صدقها. فيؤخذ بقولها مع اليمين، إلا إذا أقام الزوج البينة على صدق دعواه فيحكم له، وهذه الأحكام كما تجري في اختلاف الزوجين تجري في اختلاف أحدهما مع ورثة الآخر، وفي اختلاف ورثتيهما.
الاختلاف في وصف المقبوض أهو هدية أم من المهر؟
إذا كان الزوج قد بعث إلى زوجته شيئاً من النقود، أو الحلي، أو الثياب وغيرها قبل الزفاف أو بعده، ولم يذكر عند إرساله أنه هدية أو من المهر ثم اختلفا بعد ذلك، فقالت: هو هدية حتى لا يرجع عليها بشيء منه لأن الزوجية مانعة من الرجوع فيها، وقال: هو من المهر حتى يحتسب له من المهر، فكل منهما مدعي ومنكر ما ادعاه الآخر، فأيهما أقام البينة على دعواه قضى بما يدعيه لثبوته بالبينة وعدم وجود معارض من الطرف الآخر.
وإن أقام كل منهما بينة على دعواه قبلت بيِّنَتُها لأنها تدعى خلاف الظاهر. والبينات شرعت لإثبات ما خالف الظاهر، وما يدعيه الزوج هنا يتفق مع الظاهر، لأن الشخص يسعى أولاً إلى أداء الواجب في ذمته وهو المهر ثم بعد ذلك يهدى.
وإذا عجزا عن إقامة البينة حكم العرف في الشيء المدفوع ويكون الحكم لمن يشهد له العرف، فيكون القول قول الزوج مع يمينه فيما لم يجر العرف بإهدائه، فإذا حلف أحدهما اليمين حكم له بدعواه، وإن امتنع عن اليمين حكم للآخر لأن النكول عن اليمين إقرار بدعوى الخصم.
وإن لم يوجد عرف أصلاً، أو اشتبه العرف وتعذر تحكيمه لاحتماله الأمرين فالقول قول الزوج مع يمينه، لأنه المعطي وهو أدرى ببيان الوجه الذي كان عليه الإعطاء ما لم يكن الذي أعطاه يستنكر في العادة كونه من المهر كالمأكولات مثلاً، فيكون القول قولها مع اليمين، لأن الظاهر يشهد لها فيعتبر دليلاً عند عدم البينة.
وإذا ثبت أن المدفوع من المهر وكان من جنس المهر وقعت المقاصة، وإن كان من غير جنسه وكان قائماً بيد الزوجة كانت بالخيار بين أن تحتسبه من المهر أو ترده إلى الزوج لترجع بكل المهر إن لم تكن قبضته، أو بباقيه إن كانت قبضت بعضه.
وإن كان قد هلك أو استهلك في يدها، فإن كان مثلياً فلها أن ترد مثله وتأخذ مهرها، وإن كان قيمياً احتسب من المهر بقيمته واستوفت الباقي من المهر.
وإذا ثبت أنه هدية لم يحتسب من المهر ولا يجوز استرداده، لأن الزوجية من موانع الرجوع في الهبة، وإذا كانت الزوجة قد قدمت لزوجها هدية بنفسها أو قدمها أبوها من مالها بإذنها، فإن كانت قدمته قبل تقديم الزوج ما تنازعا فيه لا ترجع عليه بشيء لأنها قدمته هدية، وهي هبة خالصة لم تقصد بها المعاوضة والزوجية مانعة من الرجوع في الهبة وإن كانت قائمة في يده.
وإن كانت قد قدمته له بعد أن قدم هداياه، فإن صرحت عند الإهداء أنه عوض عما قدمه ظانة أنه هدية أو كان عرف الناس يقضي بأنه عوض رجعت عليه بما أهدته لأنه تبين أنه لم يهب لها شيئاً حتى تعوضه عنه، حيث رجع عليها واعتبر ما قدمه من المهر.
أما إذا قدم أبو الزوجة هدية من ماله للزوج فإنه يرجع عليه بها إن كانت قائمة أو بقيمتها إن كانت هالكة إذا كان دفعها على أنها عوض عن هدية الزوج، فإن لم يقصد بها التعويض أخذت حكم الهبة من أنه يرجع عليه بها إن كانت قائمة فإن هلكت أو استهلكت لا رجوع لوجود المانع من الرجوع في الهبة، وهو الهلاك أو الاستهلاك.
المبحث الثاني عشر: في الجهاز ومتاع البيت والنزاع فيهما
الجهاز: ما يعد به بيت الزوجية من أثاث وأدوات منزلية عند زفاف الزوجة إلى زوجها. إذا كان بيت الزوجية يضم الزوجين لأول مرة بعد أن دفع الزوج لزوجته مهرها أو المعجل منه، بحيث لا تستجيب لطلبه إلا بعد قبضه وإعداد المسكن المناسب، فعلى من يكون جهاز البيت الذي يجمعهما؟.
اختلف الفقهاء في ذلك:
ذهبت الحنفية إلى أن المهر الذي تأخذه الزوجة ملك خالص لها وأن على الزوج أن يهيئ للزوجة المسكن الملائم لها قبل أن يطلبها للدخول في طاعته فلم يوجبوا على الزوجة جهازاً ولا غيره، بل جعلوا إعداد البيت فرشه وتأسيسه بكل ما يحتاج إليه على الزوج حتى يكون مسكناً لائقاً بحياة الزوجين.
وما المهر إلا عطاء لازم يدفعه تقديراً لهذا العقد وإبانة لخطره لتطمئن المرأة إلى هذه الحياة الجديدة.
الاختلاف بين الزوجين في متاع البيت:
يراد بمتاع البيت هنا كل ما يوجد في بيت الزوجية مما ينتفع به في المعيشة سواء كان من الجهاز، أو أدوات منزلية جدت بعد الزفاف.
قد يختلف الزوجان في أثاث البيت الذي يسكنان فيه أثناء الحياة الزوجية أو بعد حصول الفرقة بينهما فيدعي كل منهما ملكيته وفيه ما يصلح للرجال فقط كثيابه وأدوات الرسم والزوج رسام أو أدوات الهندسة أو الطب والزوج مهندس أو طبيب، وما يصلح للنساء فقط، كالحلي والملابس التي تلبسها المرأة وأدوات الزينة، وما يصلح لهما كالمفروشات والأسرة والكراسي والأواني.
ففي هذه الحالة يعتبر كل منهما مدعياً وعلى المدعي إقامة البينة على دعواه، فإن أقام أحدهما البينة حكم له بها لعدم المعارض.
وإن أقام كل منهما البينة رجحت بينة من يدعي خلاف الظاهر، والظاهر هنا أن ما يصلح للرجال فقط يكون للزوج، وما يصلح للنساء فقط يكون للزوجة.
وعلى ذلك ترجح بينة المرأة فيما يصلح للرجال فقط لأنها تثبت خلاف الظاهر، وترجح بينة الرجل فيما يصلح للنساء فقط، فيحكم بمقتضى البينتين، ويكون القول فيه لمن يشهد له الظاهر مع يمينه، والظاهر هنا يشهد للزوج لأنه صاحب البيت فيكون ما فيه ملك له.
فإن حلف حكم له، وإن امتنع عن اليمين حكم للزوجة، لأن امتناعه عن اليمين يعتبر إقراراً منه بدعواها أو تنازلاً منه لها.
وإذا عجزاً عن البينة يكون القول قول الزوج بيمينه فيما يصلح للرجال فقط، فإن حلف حكم له به ويكون القول قول الزوجة بيمينها فيما يصلح للنساء فقط، فإن حلفت حكم لها به، وإن نكل أحدهما أو كلاهما عن اليمين يكون إقراراً منه بدعوى الآخر فيحكم له.
وأما ما يصلح لهما ففي مذهب الحنفية رأيان:
أولاهما: أن القول للزوجة في مقدار ما يجهز به مثلها في العادة، لأن عرف الناس جرى على أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا بجهاز فيحكم لها منه بجهاز مثلها، وما زاد على ذلك يحكم به للزوج، لأن البيت بيته ويده هي المتصرفة فيه.
وثانيهما: أن القول للزوج بيمينه، لأنه صاحب البيت ويده صاحبة التصرف فيه، لكن هذا الرأي يترتب عليه إهدار العرف الجاري بين الناس من قديم الزمان.
الباب الرَابع: في الحق الرابع للزوجة وهو النفقة
وفيه مباحث:
المبحث الأول: في التعريف بها ووجوبها وشروط استحقاقها
يراد بالنفقة: ما تحتاج إليه الزوجة في معيشتها من طعام وكسوة ومسكن وخدمة وكل ما يلزم لها حسبما تعارفه الناس.
وقد ثبت وجوبها بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى في شأن المطلقات: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] أوجبت الآية على الأزواج إسكان المطلقات من حيث سكنوا حسب قدرتهم وطاقتهم، وإذا وجب إسكان المطلقة فإسكان الزوجة أولى بالوجوب، حيث إن زوجيتها قائمة حقيقة وحكماً، والمطلقة لم يبق لها منها إلا أحكامها أو بعضها فقط.
على أن الآية أوجبت الإنفاق عموماً للمطلقة الحامل {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
وقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] ففي الآية أمر بالإنفاق وهو مطلق يفيد الوجوب، حيث لا صارف له عنه.
وأما السنة فقد وردت عدة أحاديث تفيد هذا الوجوب.
منها ما رواه أبو داود عن معاوية القشيري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ما تقول في نسائنا ؟ قال " أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تكتسون، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن".
ومنها ما رواه مسلم وغيره من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
وما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن هنداً زوجة أبي سفيان قالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
فلو لم تكن النفقة للزوجة واجبة على زوجها لما أمرها بأن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها بدون علمه، لأنه لا يجوز أخذ شيء من أموال الناس بدون وجه حق.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في كل العصور على وجوب نفقة الزوجة على زوجها لم يخالف في ذلك أحد.
وأما المعقول: فإن عقد الزواج يوجب على الزوجة تخصيص نفسها لمنفعة زوجها وتفرغها للحياة الزوجية، فهي تقوم على البيت ورعايته والأولاد وتربيتهم. فهي محبوسة على الزوج وهذا يمنعها من التصرف والاكتساب فوجبت نفقتها عليه، ومن قواعد الشريعة، أن من حبس نفسه لحق مقصود لغيره ولمنفعته تكون نفقته واجبة على ذلك الغير.
ولهذا المعنى وجب على الدولة نفقات موظفيها الذين حبسوا أنفسهم لمنفعتها بقدر كفايتهم وكفاية من يعولونهم.
سبب استحقاق الزوجة للنفقة وشروط الاستحقاق:
سبب وجوب النفقة للزوجة : هو الزوجية الصحيحة غير أن الوجوب لا يثبت بمجرد العقد كما في وجوب المهر. بل بما يترتب عليه من احتباس الزوجة وقصرها نفسها على زوجها بحيث يتمكن من الانتفاع بثمرات الزواج بأن تسلم نفسها له حقيقة أو حكماً بدخولها في طاعته بالفعل أو باستعدادها لهذا الدخول ما لم يوجد مانع شرعي يمنعها من ذلك.
فلو عقد عليها وطلبها للدخول فلبت الطلب وجب لها النفقة، وإن امتنعت منه لعذر كعدم إيفائها معجل صداقها أو عدم إعداد المسكن اللائق بالزوجية وجب لها النفقة كذلك، وإن امتنعت بدون عذر فليس لها نفقة.
ويشترط لوجوب النفقة ثلاثة شروط:
أولها: أن يكون عقد الزواج صحيحاً شرعاً.
وثانيها: أن تكون الزوجة صالحة للمعاشرة الزوجية ليؤدي احتباسها إلى ثمرات الزواج المقصودة منه شرعاً.
وثالثها: ألا يفوت حق الزوج في احتباس الزوجة بغير عذر شرعي أو بسبب ليس من جهته، فإذا توفرت هذه الشروط وجبت النفقة لا فرق بين الزوجة المسلمة وغير المسلمة، وإن لم تتوفر كلها أو بعضها لم يجب لها شيء.
ومن هنا وجبت لها النفقة في حالات وسقطت في حالات أخرى.
المبحث الثاني: في أحوال النفقة وجوبها وسقوطها
تجب النفقة في حالات وتسقط في أخرى وإليك التفصيل:
الحالات التي تجب فيها النفقة:
-1 إذا كانت الزوجة صالحة للحياة الزوجية وانتقلت إلى بيت الزوج أو لم تنتقل بالفعل ولكنها لا تمانع فيه لأنه يكفي منها الاستعداد لتسليم نفسها.
-2 إذا فات على الزوج حقه بسبب منه كما لو كان صغيراً(المذهب المالكي لا يوجب النفقة إذا كان الزوج صغيراً فيشترط لوجوبها أن يكون الزوج بالغاً) لا يصلح للمعاشرة الجنسية مع صلاحيتها لذلك، أو كان مريضاً أو معيباً بعيب يمنعه من ذلك كالجب والعنة، أو كان محبوساً في جريمة أو دين عليه، وما شاكل ذلك.
-3 إذا فات عليه حقه بسبب مشروع من جهتها، كما لو امتنعت عن تسليمها نفسها لعدم إيفائها معجل صداقها أو عدم إعداده المسكن الشرعي لها، أو تركت له بيته بعد دخولها في طاعته لأنه غير أمين على نفسها أو مالها.
الحالات التي لا تجب فيها النفقة أو تسقط فيها بعد وجوبها:
-1 إذا كان العقد باطلاً أو فاسداً حتى ولو سلمت المرأة نفسها للرجل الذي عقد عليها، لأن هذا العقد واجب الفسخ فيكون التسليم بعده غير مشروع فيجب عليهما أن يفترقا من تلقاء أنفسهما، وإلا فرق القاضي بينهما.
ومثل ذلك إذا دخل بامرأة بشبهة من غير عقد عليها، لأن هذا الدخول غير مشروع فلا يحق للزوج احتباس المرأة فضلاً عن أنه لم يسبقه عقد صحيح.
ولهذا قرر فقهاء الحنفية: أن من عقد على امرأة ودخل بها ثم تبين فساد هذا العقد بأن ثبت أنها أخته من الرضاع مثلاً، كان له حق استرداد النفقة، إذا كانت بفرض القاضي لأنه تبين أن الاحتباس لم يكن مشروعاً حتى تستحق النفقة في نظيرة.
أما إذا كان سلمها النفقة بدون فرض القاضي فإنه لا يرجع عليها بشيء لاحتمال أنه متبرع بها فيرجح هذا الاحتمال لشبه النفقة بالصلة.
بخلاف صورة الفرض لأنه بالقضاء يكون ملزماً بدفع النفقة بناء على كونها مستحقة لها، فإذا ظهر عدم استحقاقها رجع بما أدى لانتقاء احتمال التبرع حيث لا يجتمع تبرع وإلزام.
-2إذا كانت الزوجة صغيرة لا يمكن الاستمتاع بها ولا تصلح لخدمة الزوج ولا مؤانسته لأن احتباسها وعدمه سواء باتفاق الحنفية.
وكذلك إذا كانت لا تصلح للمعاشرة الجنسية وإن صلحت للخدمة أو الائتناس بها عند أبي حنيفة لأن احتباسها ناقص، حيث لا يمكن استيفاء المقصود الأصلي من الزواج منها. ولو نقلها إلى بيته للائتناس بها وجبت عليه نفقتها، لأنه رضي بهذا الاحتباس الناقص لما نقلها إلى بيته، ولو لم ينقلها ما وجبت لها نفقة.
-3 إذا كانت الزوجة مريضة مرضاً يمنعها من الانتقال إلى بيت الزوج فلا نفقة لها باتفاق الحنفية، حيث لا يمكن احتباسها وهو المقابل للنفقة.
أما إذا كان المرض لا يمنعها من الانتقال إلى بيت الزوج فالمفتى به في المذهب الحنفي أنه يجب لها النفقة بعد انتقالها بالفعل إلى بيت الزوجة أو عدم ممانعتها في الانتقال وإن لم تنتقل إليه، لأن المرض طارئ يمكن زواله، وعقد الزواج عقد للدوام فلا يسقط الحق الدائم بعارض من العوارض لا دخل للزوجة فيه.
هذا إذا كان المرض سابقاً على الزفاف، فإن جاءها المرض بعده فلا تسقط نفقتها به سواء بقيت في بيت الزوجية أو انتقلت إلى بيت أهلها ما دامت لا تمانع في الرجوع إليه. لكنها إذا امتنعت من العودة وهي تستطيع ذلك على أي وجه سقطت نفقتها لتحقق النشوز منها في هذه الحالة.
- نفقات العلاج:
وإذا وجبت النفقة للزوجة المريضة غير الناشزة فهل يجب على الزوج نفقات علاجها أولاً؟ ذهب فقهاء الحنفية إلى أنها لا تجب عليه لأنها ليست من النفقة بل تجب في مالها إن كانت غنية وفي مال من تلزمه نفقتها إن كانت فقيرة إذا لم تكن متزوجة.
ذهب الشافعية والحنابلة والمالكية في المشهور إلى أنهم لا يوجبون على الزوج نفقات العلاج، وذهب بعض علماء المالكية إلى أنه يفترض عليه أن يعالجها بقيمة النفقة التي تفترض لها وهي سليمة من المرض.
-4 إذا تركت الزوجة بيت الزوجية وخرجت من الطاعة أو أبت أن تنتقل إليه بدون مبرر شرعي، لأنها تعتبر ناشزة، وبالنشوز تسقط النفقة، لأنه لا يتصور احتباس معه.
ومثل ذلك في الحكم ما إذا منعت زوجها من دخول بيتها الذي يقيم معها فيه دون سابق إنذار له بطلب نقلها إلى بيت له وترك هذا البيت لتنتفع به في غير السكن.
وهذا السقوط مغياً بمدة النشوز فإن عادت إلى الطاعة عاد حقها في النفقة ولا حق لها في المطالبة بنفقتها عن فترة نشوزها.
بل قرر فقهاء الحنفية أن نفقتها السابقة على النشوز التي لم تستوفها قبله تسقط بهذا النشوز ولو كانت مفروضة بأمر القاضي، ولا يستثنى من ذلك إلا مقدار ما استدانته فيها بإذن الزوج أو القاضي فإنه لا يسقط بنشوزها.
-5 إذا أخذها إنسان كرهاً وحال بينها وبين زوجها فترة من الزمان سقطت نفقتها لفوات الاحتباس على الزوج بأمر لا دخل له فيه.
-6 إذا حبست الزوجة ولو ظلماً بسبب ليس من جهة الزوج سقط حقها في النفقة لفوات حق الزوج بسبب ليس من جهته.
-7 إذا سافرت الزوجة وحدها أو مع غير محرم منها قبل الزفاف وبعده أي سفر كان ولو للحج فلا نفقة لها، لأنها فوتت حق الاحتباس على الزوج، ولأنها عاصية بهذا السفر الذي لم يصحبها محرم فيه.
أما إذا سافرت بعد الزفاف للحج مع محرم منها كأبيها أو أخيها فلا نفقة لها عند أبي حنيفة لتفويتها حق الزوج.
وذهب الحنابلة إلى أنها لا تسقط نفقتها، لأن أداء الفريضة ضرورة دينية يغتفر معها فوات الاحتباس.
وإذا سافر معها الزوج فلها النفقة بالاتفاق لتحقق حق الاحتباس في هذه الحالة، والنفقة الواجبة هنا نفقة الإقامة لا السفر إلا إذا كان الزوج هو الذي أراد السفر ابتداء ودعاها للسفر معه فإنه يجب لها نفقة السفر.
-8 الزوجة المحترفة: إذا كانت الزوجة تحترف عملاً يضطرها إلى أن تكون خارج بيت الزوجية طول النهار أو أكثره أو الليل كله أو أكثره ثم ترجع إليه بعد فراغها منه، كالموظفة أو المحامية أو الطبيبة فهل تسقط نفقتها بذلك؟.
إذا كان ذلك برضا الزوج فلا تسقط نفقتها، لأنه برضاه قد أسقط حقه في الاحتباس الكامل واكتفى منه بالناقص.
أما إذا كان بدون رضاه وموافقته بأن شرط عليها ترك عملها عند عقد الزواج ولم توف بهذا الشرط سقطت نفقتها، لأنها فوتت بذلك حقه في الاحتباس الكامل الذي تستحق النفقة في نظيره.
وكذلك لو رضي به أول الأمر ثم طلب منها الامتناع عن العمل لما يترتب عليه من اضطراب الحياة الزوجية ولم تجبه إلى طلبه سقطت نفقتها ما دام الزوج عنده القدرة على متطلبات الحياة، لأن رفضها طلبه يعتبر نشوزاً منها، والناشزة لا تستحق النفقة، أما إذا كان عملها في بيتها كالخياطة أو القراءة والتأليف مثلاً بحيث لا يعطلها عن القيام بواجبات الزوجية فلا يسقط حقها في النفقة.
-9 إذا ارتدت الزوجة بأن خرجت عن الإسلام سقطت نفقتها، لأن ردتها ترتب عليها فرقة جاءت من قبلها فأبطلت نفقتها.
فإذا تابت وأسلمت وهي في العدة فإن نفقتها لا تعود. بخلاف الناشزة، لأن بردتها بطلت نفقتها بالفرقة. ومتى بطلت لا تعود، أما النشوز فهو أمر عارض لا يبطل النفقة وإنما تسقط مؤقتاً فإن عادت عادت النفقة.
المبحث الثالث: في تقدير نفقة الزوجة وما يجب مراعاته فيه
يجب على القاضي عند التقدير مراعاة الأمور الآتية:
-1 أن يراعي حالة الزوج المالية يساراً وإعساراً بقطع النظر عن كون الزوجة غنية أو فقيرة. فإن كان الزوج موسراً فرض لها نفقة اليسار ولو كانت الزوجة فقيرة، وإن كان معسراً فرض لها نفقة بقدر ما يستطيعه ولو كانت الزوجة موسرة، وإن كان متوسط الحال فرض لها نفقة وسطاً بين نفقة الموسرين والمعسرين.
وهو الذي صرحت به النصوص الشرعية من قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأزواج "أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون" ولأن الزوجة الموسرة لما تزوجت المعسر أقدمت على ذلك وهي راضية بما يقدر عليه من النفقة.
-2 أن يراعي حالة الزوج من جهة قدرته على الدفع فيتبع ما هو أيسر عليه.
فان كان من أصحاب الدخل اليومي كعمال اليومية قدرها عليه يومياً، وإن كان ممن يأخذون أجرهم كل أسبوع قدرها عليه كل أسبوع، وإن كان من أصحاب المرتبات الشهرية كالموظفين فرضها عليه كل شهر، وإن كان من الزراع قدرها عليه حسب مواسم الحصاد.
-3 أن يراعي حالة الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً، لأن ما يفرض لها ما هو إلا ثمن لما يلزمها من حاجيات، فإذا لم يراع الأسعار وقت الفرض لحق الضرر بأحد الزوجين.
المبحث الرابع: تفصيل أنواع النفقة
النوع الأول "الطعام":
يجب للزوجة منه ما يكفيها وبما أنها تعيش مع زوجها في بيت واحد وهو يتولى الإنفاق عليها ويحضر لها ما تحتاجه، فإن قدم لها الطعام الكافي فلا داعي لتقديره وليس لها أن تطلب ذلك، فإن امتنع عن إطعامها أو قصر فيه فلها الحق في أن تطلب منه تقديراً معيناً لتقوم بنفسها بشراء ما تحتاجه، ويجب عليه إجابة طلبها، فإن امتنع رفعت أمرها إلي القاضي ليقدر لها كفايتها حسب حال الزوج المالية، وله أن يفرض لها أصنافاً من الطعام يكلف الزوج بإحضارها أو يقدر لها مقداراً من النقود لتشتري هي به ما تحتاج إليه. وهو أيسر وأضبط ولذلك تسير المحاكم عليه.
النوع الثاني "الكسوة":
يجب على الزوج كسوة زوجته بعد العقد الصحيح وتوفر شروط وجوب النفقة بتسليم الزوجة نفسها أو استعدادها لذلك.
فإذا أحضر لها ما تحتاج إليه من ثياب حسب حالته المالية والاجتماعية.
وإن امتنع أو قدم لها ما لا يليق بها في الحدود السابقة كان لها أن ترفع الأمر للقاضي وعليه أن يفرض لها مبلغاً من المال كل ستة أشهر أو كل شهر مع ما يفرضه من الطعام، كما يجب عليه أن يعيد التقدير من جديد إذا تبين خطؤه في التقدير الأول متى طلبه من وقع عليه الغبن منهما.
النوع الثالث "السكن":
إذا كانت النفقة لا تجب للزوجة إلا بدخولها في طاعة زوجها أو استعدادها لذلك فمن لوازم ذلك أن يعد لها مسكناً شرعياً للإقامة فيه.
فإن أعده وكان ملائماً أقامت الزوجة فيه، وإن امتنع أو أعد لها مسكناً غير لائق كان لها أن ترفع الأمر للقاضي ليأمره بإعداد المسكن اللائق أو يفرض لها مبلغاً من المال كل شهر مراعياً فيه ارتفاع الأسعار وانخفاضها.
والمسكن الشرعي هو ما يكون مشتملاً على كل ما يلزم للسكن من أثاث وفراش وآنية ومرافق وغيرها مما تحتاجه الأسرة، ويراعي في ذلك حالة الزوج المالية من يسار وإعسار ووضعه الاجتماعي.
والقول الأول هو الموافق لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، وأن تتوفر فيه بعد ذلك حياة الاستقرار والراحة، بأن يكون في مكان آهلٍ بالسكان وسط جيران صالحين مأمومنين، فلا يسكنها في مكان موحش لا جيران لها فيه، أو لها جيران لا تأمنهم على نفسها أو مالها.
فإن فعل ذلك كان لها الحق في طلب النقلة إلى مسكن آخر، وعلى الزوج إجابتها إلى طلبها وإلا أمره القاضي بذلك إذا رفعت أمرها إليه وتأكد من صحة دعواها.
وإذا كان المسكن مستوفياً للشروط السابقة لكنه يجاور مسكن زوجته الأخرى فلا يكون مسكناً شرعياً، لأن اجتماعها مع ضرتها في شقة واحدة إيذاء لها. وقربها منها إذا كانا في شقتين من دار واحدة مظنة إيذائها، وكلا الأمرين غير جائز شرعياً.
أما إذا كان يجاور مسكناً آخر لأقاربه كأمه أو أخته فإنه يكون مسكناً شرعياً إلا إذا ثبت أنهم يؤذونها بالقول أو بالفعل.
النوع الرابع "نفقة الخادم":
إذا كان الطعام والكسوة والمسكن أموراً واجبة لكل زوجة فإن الخادم يختلف عنها لأنه ليس كل زوجة تخدم، فيجب على الزوج في بعض الحالات ولا يجب في بعضها الآخر.
فإذا كان الزوج معسراً فلا يجب عليه إحضار خادم لزوجته ولا يكلف بنفقته، لأنه يجب عليه نفقة الضرورة والخادم ليس ضرورياً.
وكذلك إذا كانت الزوجة من قوم يخدمون أنفسهم فلا يجب عليه نفقة خادم. لكنه إذا تبرع به وهو يقدر كان حسناً.
أما إذا كان الزوج موسراً والزوجة ممن لا يخدمن أنفسهن فعليه إحضار خادم ويلزم بنفقته، لأن نفقة الخادم حينئذ من مكملات نفقات الزوجية، فإن امتنع عن ذلك فرض القاضي لها أجراً لخادمها.
وذهب الشافعية: إلى أنَّه يجب عليه أن يأتيها بخادم اذا كانت ممن لا يخدم نفسها ولو كان معسراً وإلا فلا يجب عليه إلا إذا كانت مريضة أو هرمة وإن لم تكن ممن يخدم عادة.
وذهب الحنابلة: يجب إذا كانت ممن لا يخدم نفسها ويلزمه نفقة الخادم بحسب ما يليق بالخدم.
وذهب المالكية: إذا كانت المرأة لا تخدم نفسها أو كان الزوج ذا جاه وقدر بحيث لا يصح لامرأته أن تخدم نفسها فإنه يفرض عليه خادم لها أو أكثر إذا كان يستطيع ذلك فإن لم يستطع وجب عليها خدمة المنزل، وعليه أن يساعدها بنفسه في أوقات فراغه من عمله.
المبحث الخامس: امتناع الزوج عن أداء النفقة وما يتخذ معه من إجراءات
إذا امتنع الزوج من أداء ما فرضه على نفسه أو فرضه القاضي عليه، فإن كان موسراً وله مال ظاهر باع القاضي من ماله ما يكفي للنفقة جبراً عنه وسلم للزوجة ثمنه لتنفق منه على نفسها، وإن لم يكن له مال ظاهر مع ثبوت يساره كان للقاضي أن ينذره ويؤنبه على مماطلته.
فإن طلبت الزوجة حبسه أجابها وقضى بحبسه عقوبة له على مطله، ولا يمنعه الحبس من أن يبيع ما ظهر من ماله ليوفي الزوجة حقها، لأنه ليس عوضاً عنها بل هو وسيلة لحمله على الإنفاق.
وفي حالة إعسار الزوج هل للزوجة الحق في طلب التفريق بينها وبين زوجها لعجزه عن الإنفاق؟.
مسألة اختلف الفقهاء فيها:
ذهب الحنفية إلى أنه ليس لها هذا الحق ولو طلبته لا يجيبها القاضي إلى ما طلبته لأن العجز عن النفقة أمر عارض يمكن زواله. وهو وإن فيه ضرر على الزوجة، إلا أنه يمكن تداركه بالإذن لها بالاستدانة عليه.
أما التفريق ففيه ضرر يلحق الزوج ولا يمكن تداركه أو علاجه. فهنا تعارض ضرران، والقاعدة المقررة أنه يرتكب أخفهما.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن للقاضي يفرق بينهما لهذا العجز والإعسار كماله أن يفرق بينهما لامتناعه عن الإنفاق مع قدرته عليه.
العجز عن النفقة هو العجز عن أقل الكفاية التي تقوم به الحياة من طعام وكسوة ومسكن لا العجز عن النفقة المفروضة. وأن يكون العجز عن النفقة الحالة والمستقبلة أما العجز عن النفقة المتجمدة فلا فسخ به بالاتفاق، وبعض المذاهب يشترط في جواز الفسخ ألا تكون عالمة بعجزه حين العقد، وبعضها لا يشترط ذلك لاحتمال أنها رضيت به على أمل أن يتكسب وتتيسر حاله.
المبحث السادس: نفقة زوجة الغائب
المراد بالغائب هنا من يتعذر إحضاره إلى مجلس القضاء لمخاصمته في النفقة التي تطالب بها زوجته سواء كان ذلك بسبب سفره أو باختفائه في البلد الذي تقيم فيه زوجته.
إذا غاب الزوج بهذه الصورة وطلبت زوجته من القاضي أن يفرض لها نفقة عليه.
فالحكم عند الحنفية يتلخص في أنه: إذا ترك مالاً ظاهراً من جنس ما تقدر به النفقة كالنقود والحبوب وكان تحت يد الزوجة كان لها أن تأخذ منه مقدار نفقتها بالمعروف من غير حاجة إلى قضاء القاضي، لأن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة امرأة أبي سفيان ماض إلى يوم القيامة.
وإن لم يكن تحت يدها بل كان عند غيرها وديعة أو ديناً في ذمته وطلبت الزوجة فرض النفقة فيه أجابها القاضي وأمر من عنده المال إبقاءها مقدار النفقة إذا كان من عنده المال معترفاً به وبالزوجية أو كان القاضي يعلم بهما بلا خلاف.
فإن لم يكن معترفاً بهما أو بأحدهما ولا علم للقاضي بهما فإن أثبتت المرأة زوجيتها بالبينة مع ملكيته لذلك المال أجابها القاضي إلى فرض النفقة فيه، لكنه قبل الحكم يستوثق من صدق المرأة في دعواها فيحلفها اليمين بأن زوجها لم يعجل لها النفقة وأنها ليست ناشزة ولا مطلقة انتهت من عدتها ثم يأخذ منها كفيلاً بالنفقة، حتى إذا تبين كذبها وعاد زوجها رجع عليه أو عليها بما أخذته.
فإذا امتنعت عن اليمين وتقديم الكفيل لا يحكم لها بالنفقة.
أما إذا كان ماله الظاهر ليس من جنس النفقة كالعقارات والحيوانات فإن القاضي يفرض لها النفقة ولا يبيع شيئاً من ماله ولكنه يأمرها باستيفائها من أجرة ما يؤجر من ذلك المال.
وإن لم يكن له مال أصلاً فرض لها النفقة وأذن لها بالاستدانة على الزوج بعد أن يحلفها اليمين السابقة ويأخذ منها كفيلاً بالنفقة المفروضة.
فإن لم تجد من يدينها أمر القاضي قريبها الذي تجب عليه نفقتها لو لم تكن متزوجة بإدانتها.
المبحث السابع: دين النفقة وأحكامه
متى تعتبر النفقة ديناً على الزوج؟
اتفق الفقهاء على أن نفقة الزوجة تجب على الزوج من وقت وجود سببها وهو العقد الصحيح مع تمكين الزوجة زوجها من نفسها، فإذا أداها سقط طلبها عنه.
وإذا لم يؤدها فترة من الزمن أنفقت الزوجة على نفسها من مالها أو من مال غيرها.
فهل تكون نفقتها في تلك المدة ديناً يثبت في ذمة الزوج في جميع الأحوال يحق لها أن ترجع به عليه أو لا تكون ديناً كذلك فلا ترجع عليه بشيء؟
اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين بناء على اختلافهم في هذه النفقة:
ذهب الأئمة الثلاثة -مالك والشافعي وابن حنبل- إلى أن النفقة هنا حق قوي ثبت للزوجة عوضاً عن احتباسها لمصلحة الزوج، وإذا كانت عوضاً فإنها تثبت ديناً قوياً في ذمة الزوج بمجرد إيفائها البدل وهو تمكينها الزوج من نفسها فلا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء كسائر الديون الأخرى، ولا أثر لمضي المدة في سقوطها كما لا تسقط عن مدة ماضية بنشوز الزوجة أو طلاقها أو موت أحدهما.
وعلى هذا لو امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته مدة أو عجز عنه لأي سبب كان لها الحق في مطالبتها بها طالت تلك المدة أو قصرت.
وذهب الحنفية إلى أن نفقة الزوجة لها شبهان:
شبه بالعوض وشبه بالصلة فليست عوضاً خالصاً.
أما شبهها بالعوض فمن جهة أنها جزاء احتباس الزوجة لحق زوجها وقيامها بشؤون بيته.
وأما شبهها بالصلة فمن جهة أن المنافع التي تترتب على الاحتباس لا تعود على الزوج وحده بل تعود عليهما معاً فيكون واجباً عليها.
ومراعاة للشبهين قالوا: إنها تأخذ حكماً وسطاً بينهما أي أنها لا تصير ديناً في حالة، وتصير ديناً ضعيفاً في حالة ثانية، وديناً قوياً في حالة ثالثة.
فإذا لم يتراضيا عليها ولم يحكم بها قاض لا تكون ديناً في ذمة الزوج بمضي المدة، فلو أنها أنفقت على نفسها من مالها أو من مال غيرها بالاستدانة بدون تراض منهما أو حكم قاض بها فلا يحق لها المطالبة بتلك النفقة لأنها لا تصير ديناً في ذمة الزوج إلا إذا كانت المدة التي مضت أقل من شهر فإن للزوجة أن تطالب بنفقتها، لأن هذه المدة القصيرة يصعب الاحتراز عنها حيث لابد من مضي مدة لكي تتمكن الزوجة من التراضي مع زوجها على النفقة أو مقاضاته فيها، فتركها المطالبة مدة كبيرة دليل على أنها متبرعة بها.
أما طلبها في حدود شهر فهو دليل على أنها لا تريد تركها فاغتفرت هذه المدة القليلة لأن الحكم بسقوطها في تلك الفترة إجحاف بالزوجة.
وإذا تراضى الزوجان على النفقة أو حكم بها القاضي ولم يوجد إذن من الزوج أو القاضي لها بالاستدانة ومضت مدة طويلة على ذلك فإن النفقة تصير ديناً في ذمة الزوج لها أن تطالب به مهما طالت المدة، لكنه دين ضعيف يسقط بالأداء أو الإبراء كالدين القوي كما يسقط بغيرها كموت أحد الزوجين ونشوز الزوجة، وطلاقها على رأي فإذا نشزت أو مات أحدهما سقطت النفقة المتجمدة.
أما إذا وجد مع التراضي أو القضاء إذن صريح من الزوج أو القاضي لها بالاستدانة واستدانت بالفعل ومضى على ذلك مدة فإنها تصير ديناً قوياً في ذمة الزوج لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، فيحق لها المطالبة بما تجمد منها في أي وقت، ولا يسقط حقها بمضي المدة، وإنما صارت ديناً قوياً في هذه الحالة لأن استدانتها بإذن الزوج تكون نيابة عنه، فيكون الدين في ذمته ابتداء لمن استدانت منه الزوجة، وكذلك إذا كانت الاستدانة بأمر القاضي، لأن أمره كأمر الزوج، إذ القاضي أقيم لرفع المظالم، فإذا تعينت الاستدانة طريقاً لرفع الظلم عن الزوجة ولم يأمر الزوج بها أمر القاضي بالنيابة عنه فيكون أمره كأمر الزوج فيستقر الدين في ذمته ابتداء.
تعجيل النفقة:
إذا عجل الزوج لزوجته النفقة عن مدة مستقبلة كشهر أو أكثر ثم حصل في تلك المدة ما يقتضي سقوط النفقة كنشوز الزوجة أو موت أحد الزوجين فليس للزوج ولا لورثته استرداد باقي النفقة المعجلة عند أبي حنيفة سواء كان باقياً أو مستهلكاً، لأن النفقة وإن كانت واجبة جزاء احتباس الزوجة وقد فات بهذا العارض إلا أن فيها شبهاً بالصلة، والصلات تملك بالقبض فتكون كالهبة، والزوجية مانع من موانع الرجوع في الهبة.
وذهب الشافعية وابن حنبل إلى أنه يجب على الزوجة أو ورثتها رد نفقة المدة الباقية سواء كانت باقية أو مستهلكة، لأن الزوجة تستحق النفقة جزاء احتباسها وقد فات بالموت أو النشوز فلا تستحق عوضه.
الإبراء من دين النفقة:
إذا كان الإبراء لا يكون إلا عن دين ثابت في ذمة المدين. فنفقة الزوجة لا يجوز الإبراء عنها إلا إذا صارت ديناً في ذمة الزوج، وقد علمت أن مذهب الحنفية لا يعتبرها ديناً إلا بعد تقديرها بالقضاء أو التراضي، وأن المذاهب الثلاثة يعتبرونها ديناً بمجرد الامتناع عن الإنفاق بعد ثبوت وجوبها.
وعلى ذلك إذا تجمد للزوجة على زوجها نفقة من مدة ماضية فلا يصح إبراء الزوجة عنها عند الحنفية إلا إذا كانت مقدرة بقضاء أو بتراضي الزوجين. فإذا لم تكن كذلك لا يصح الإبراء عنها لأنها لم تثبت ديناً.
والمذاهب الأخرى يصححون الإبراء عنها لأنها ثبتت ديناً في ذمة الزوج.
أما النفقة المستقبلة فلا يصح الإبراء عنها بالاتفاق لأنها لم تجب بعد والإبراء إسقاط لدين وجب الوفاء به.
واستثنى من ذلك النفقة المستقبلة عن مدة واحدة من المدد التي قررت فيها النفقة شهر أو أسبوع أو يوم بشرط أن تكون تلك المدة بدأت بالفعل، لأنه إذا بدأ الشهر مثلاُ فقد وجبت النفقة فيه فيصح الإبراء، لأنه يجب تنجيز النفقة في أول المدة، ولا يصح الإبراء عما بعدها، فلو أبرأته عن نفقة شهرين أو أكثر من المستقبلة وقد بدأ الشهر الأول صح الإبراء عن الشهر الأول وبطل الإبراء عما بعده.
كما استثنوا الإبراء عنها إذا كانت نفقة عدة في الخلع فيما إذا خالعها على أن تبرئه من نفقة العدة، لأن الإبراء هنا في مقابلة عوض. هو تخليص الزوجة من عقدة الزواج فيعتبر الإبراء استيفاء للنفقة قبل وجوبها، فلا يكون الإبراء إسقاطاً محضاً، بخلاف إبرائه لا في نظير عوض فإنه إسقاط للشيء قبل وجوبه فلا يصح.
الكفالة بالنفقة:
يحدث في بعض حالات الزواج أن تطلب الزوجة أو وكيلها من الزوج أن يعطيها كفيلاً بنفقتها وبخاصة عندما يكون الزوج لا مال له حيث يعيش مع أهله من مالهم.
كما يحدث بعد الزواج أن الزوج يريد السفر فتطلب الزوجة كفيلاً ليضمن لها نفقتها مدة غيبة زوجها. فهل تجاب الزوجة إلى ذلك وتكون الكفالة صحيحة أو لا؟
ذهب جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- الذين يعتبرون النفقة ديناً صحيحاً بمجرد وجود سببها دون توقف على القضاء أو التراضي إلى صحة الكفالة، فإذا كفلها إنسان جاز لها مطالبته بها إذا امتنع الزوج عن أدائها لا يفرقون في ذلك بين ما إذا طلبها عند العقد أو بعده كان الزوج مقيماً أو يريد السفر، وإن كان الشافعية يقولون: إن الكفالة حق بالنفقة الماضية أما المستقبلة فلا كفالة بها إلا على إحضار الزوج ليدفعها.
وذهب الحنفية إلى إجازة الكفالة بالنفقة مطلقاً قبل فرضها وبعده لما فيه من تسهيل أمر حصول الزوجة على نفقتها وهو المفتى به في المذهب.
المقاصة بدين النفقة:
يحدث في بعض الأحوال أن يكون للزوج دين على زوجته كثمن شيء باعه لها في الوقت الذي يكون للزوجة نفقة متجمدة، فإذا أراد أحدهما إسقاط ما عليه في نظير ماله عند الآخر بطريق المقاصة فهل يجاب إلى ذلك؟
من المتفق عليه بين الفقهاء أن الدينين المتساويين تقع المقاصة بينهما بطلب أحد الطرفين ولو لم يرض الطرف الآخر، وإذا لم يتساويا فإنه لا يجاب طلب صاحب الدين الضعيف إلا إذا رضي الطرف الآخر.
وإذا كان دين النفقة قد اختلف فيه الفقهاء:
فذهب الأئمة الثلاثة -المالكية والشافعية والحنفية- إلى أن دين النفقة دين صحيح فتقع المقاصة بين الدينين جبراً عند طلب أحدهما لا فرق بين أن يكون الطالب الزوج أو الزوجة لتساوي الدينين في القوة ولا يكون للآخر حق الامتناع، غير أن الحنابلة شرطوا لإيجاب طلب المقاصة فيما إذا كان الطلب من الزوج عن النفقة المستقبلة أن تكون الزوجة موسرة، فإن كانت معسرة لا يجاب إلى طلبه إلا إذا رضيت الزوجة بذلك، لأن قضاء الدين لا يكون إلا فيما يفضل عن القوت حيث إن إحياء النفس مقدم على وفاء الدين.
وذهب الحنفية إلى أنه يجاب طلب المقاصة من الجانبين إذا كانت النفقة ديناً قوياً بأن كانت بعد القضاء أو التراضي واستدانتها الزوجة بإذن سابق ولا يجوز للآخر الامتناع، أما إذا كانت غير ذلك فأنه يجاب طلب الزوج، وإن لم ترض الزوجة لأن دينه أقوى من دينها، أما طلب الزوجة فلا يجاب إلا إذا رضي الزوج بذلك.