صيدا والاحتلال الصليبي الاول

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


الفترة الأولى من الاحتلال الصليبي لصيدا: (504 – 583 ه / 1110 – 1187 م )

( أ ) مقدمات الاحتلال الصليبي.

(ب) سقوط صيدا في أيدي الصليبيين في سنة 504 هـ

(ج) صيدا في العهد الصليبي الأول 504 – 583 هـ


مقدمات الاحتلال الصليبي:

بعد أن استولى الصليبيون على أنطاكية في آخر جمادى الأول سنة 491 ه يونيو 1098 م، وعلى معرة النعمان في 11 نوفمبر من السنة ذاتها 14 محرم سنة 492 ه زحف ريمون كونت دي تولوز بجموع الصليبيين نحو بيت المقدس، فمروا بقلعة مصياف وبعرين ورفنية وحصي الأكراد ثم عرقة، وحاصرت معظم قوات الصليبيين مدينة عرقة، في حين هاجم فريق منهم أنطرطوس التي استسلمت في 17 فبراير سنة 1099. أما عرقة فلم يؤد حصارهم الطويل لها إلى أي نتيجة، فاضطر ريمون إلى رفع الحصار، وتابع الزحف إلى بيت المقدس بعد أن هاداه فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس بالهدايا والألطاف وقدم إليه قدراً كبيراً من المال، وأفرج عن ثلاثمائة من الأسرى البيزنطيين، ووجه مع الفرنج أدلاء لإرشادجهم إلى آمن الطرق المؤدية إلى بيروت. ثم سلك الصليبيون طريق الساحل المؤدية إلى بيروت حتى يمكنهم الاتصال في سهولة ويسر بالسفن الجنوية والبيزانية التي كانت تمدهم بما يحتاجون إليه من مؤن وأقوات، فمروا بالبترون وجبيل، ثم وصلوا إلى بيروت، وهناك بذل لهم أهل المدينة الهدايا الكثيرة، وتركوهم يعبرون من بلدهم نحو الجنوب بعد أن اشترطوا عليهم عدم التعرض لمزارعهم.

وعندما وصل الصليبيون أمام صيدا عسكروا على الضفة الجنوبية من نهر الأولي في 20 مايو سنة 1099، وتركوا عسكرهم ينتشرون دون خوف في نواحي المنطقة، فخرج رجال حامية صيدا الإسلامية الذين عرفوا بصلابتهم وشدة بأسهم، وهاجموا بعض أجناد الفرنج الذين وصلوا متفرقين إلى مشارف المدينة الأمر الذي دفع هؤلاء الصليبيين إلى مقابلة الاعتداء الإسلامي بالمثل، فأرسلوا لمعاقبة المعتدين فرقة أغارت على المزارع، فأتلفت الغروس والمحاصيل، ونهبت القرى المجاورة.

ثم رحل الصليبيون بعد ذلك إلى صور عبر الصرفند، ومن الجدير بالذكر أنهم لم يقابلوا أي نوع من المتاعب أثناء زحفهم الطويل من أنطاكية إلى بيت المقدس باستثناء صيدا وحدها، ويرجع السبب في ذلك إلى جنوح أمراء المسلمين في المدن التي مر بها الصليبيون إلى التفاوض السلمي وإلى ميلهم لموادعة الصليبيين حقناً للدماء وتفادياً لما يمكن أن يعود عليه أي صدام مسلح مع هذه الحشود المسلحة من أضرار على مدنهم، ولا ينبغي أن ننسى حرص هؤلاء الولاة الشديد على الاحتفاظ بولايتهم لهذه المدن، في حين مال الصيداويون إلى الخشونة والعنف كوسيلة لإرهاب المعتدين وردعهم.

وصلت حشود الصليبيين إلى صور، ومنها اتجهوا إلى عكا، حيث خرج للقائهم واليها زهر الدولة الجيوشي ووعدهم بأن يسلم لهم مدينته عندما يتحقق لهم الاستيلاء على بيت المقدس. فواصلوا سيرهم إلى قيسارية ورحلوا منها إلى أرسوف، وبالقرب من هذه المدينة انحرفوا شرقاً نحو بيت المقدس، وتمكنوا من الاستيلاء عليها عنوة في 22 شعبان سنة 492 ه - 14 يوليو سنة 1099م بعد حصار دام نحواً من أربعين يوماً، وتبع دخولهم المدينة مذبحة رهيبة استمرت ما يقرب من أسبوع سفكت خلاله دماء الألوف من أهل بيت المقدس.

ثم اختار الصليبيون جودفروي دي بويون ملكاً على بيت المقدس في 22 يوليو سنة 1099م، ولكن عهده كان قصيراً للغاية، فلم يلبث أن لقي مصرعه بسبب سهم أصابه أثناء قيامه بحصار عكا في سنة 494 ه / 18 يوليو 1100 م، وخلفه على مملكة بيت المقدس أخوه بلدوين أمير الرها، الذي قدم إلى بيت المقدس ماراً بأنطاكية واللاذقية وطرابلس، ولم يعترض المسلمون مسيره في بيروت وصيدا حتى وصل إلى بيت المقدس حيث نودي به ملكاً في 494 ه ديسمبر 1100 م. وفي هذه السنة أيضاً افتتح الصليبيون مدينة حيفا بالسيف، وأرسوف بالأمان في أبريل سنة 1101 م، كما أعانهم الجنوية على فتح قيسارية بالسيف في 17 مايو سنة 1101 ه.

وظل الفاطميون يحتفظون ببعض مدن الساحل مثل عسقلان وعكا وصور وصيدا وبيروت، وكانوا يسببون بذلك الكثير من المضايقات للصليبيين: ففي سنة 495 ه شتاء 1102 م وصلت مراكب للفرنج الحجاج يقدر عددها بنحو أربعين مركباً، دفعتها أمواج البحر العاتية إلى الساحل، فعطب أكثرها، ووقع هؤلاء الفرنج أسرى في أيدي المسلمين، وتعرض البعض منهم لسيوف الفاطميين في صيدا وعكا وعسقلان، وقد سبب ذلك أسوأ الأثر في نفس بلدوين. وفي ربيع سنة 1103 م جمادى الآخر سنة 495 ه عزم بلدوين على فتح عكا ومدن الساحل مستغلاً وجود عدد من السفن الإنجليزية يصل إلى 16 قطعة بحرية، فزحف على عكا وحاصرها وضيق عليها، ونصب المنجنيقات والأبراج، وكاد يستولي عليها لولا أن أرسلت إليها كل من صيدا وصور اثني عشر غراباً وحمالة ضخمة تحمل خمسمائة من مقاتلة المسلمين وآلات لقذف النار اليونانية، وتمكن المسلمون من إحراق منجنيقاتهم وأبراجهم وإحراق سفنهم أيضاً، وأرغموا بلدوين على فك الحصار والرحيل عن عكا. ولم ينس بلدوين في هذه المرة أيضاً الدور الذي قام به أهل صيدا لمساعدة عكا، ولذلك عقد العزم على الاستيلاء عليها.

ثم حاول بلدوين في نفس هذا العام الاستيلاء على بيروت، فنزل عليها وحاصرها طويلاً، ولكنه لم ير فيها مطمعاً، فاضطر إلى الرحيل عنها. غير أنه إذا كان قد أخفق في فتح بيروت في هذه السنة فإنه نجح في الاستيلاء على عكا في شعبان سنة 497 ه / 1105 م، فقد ساعده في افتتاحها في هذه المرة عدد كبير من السفن الجنوية يتجاوز التسعين، مشحونة بالتجار والأجناد والحجاج، وبفضل هذه المساعدة لازم المدينة التعسة بالقتال حتى ملكها بالسيف قهراً، وكان واليها الأمير زهر الدولة ابن الجيوشي قد خرج منها لعجزه عن حمايتها، وأرسل إلى بلدوين يطلب منه الأمان له ولأهل عكا، بعد أن يئس من وصول أي نجدة، فلم يوافق الصليبيون على طلبه، ولاذ زهر الدولة بدمشق، ومنها رحل إلى مصر. وفي سنة 499 ه / 1106 م وصل إلى يافا أسطول يحمل عدداً كبيراً من الحجاج الإنكليز والفلمنكيين والدانيين يتراوح ما بين 7000، 9000 حاج، فعمد بلدوين إلى انتهاز هذه الفرصة المواتية ليستخدمهم في حصار صيدا، وذلك بعد أن ينتهوا من أداء الحج. ولكن أهل صيدا تخلصوا من هذا الحصار بأن بذلوا له قدراً كبيراً من المال يبلغ 15 ألف دينار، وكانت الأنباء قد جاءت بوفاة هيو صاحب طبرية، فلم يسعه إلا قبول ما عرضه عليه أهل صيدا لحاجته إلى المال، وبادر برفع الحصار والسير إلى طبرية.

وفي سنة 501 ه / 1108 م هاجم بلدوين مدينة صور رداً على غارة مسبقة شنها والي صيدا على حصن تبنين في سنة 500 ه، فحاصرها وأقام يحاصرها شهراً، أنشأ خلاله حصناً على تل المعشوقة، فصانعه واليها عز الدين أنوشتكين الأفضلي على سبعة آلاف دينار، فرحل بلدوين عنها إلى صيدا، فنزل عليها وحاصرها من البر والبحر مستخدماً في حصارها أسطولاً يسيره ملاحون مغامرون قدموا من مدن إيطالية مختلفة من بيزة وجنوة والبندقية وأملفي إلى سواحل فلسطين، لعله نفس الأسطول البيزاني الذي كان قد وصل إلى اللاذقية لفتحها. فاستنجد والي صيدا بالتركمان في دمشق وعرض عليهم أن يبذل لهم مبلغاً قدره 30ألف دينار في مقابل مساعدتهم له. فلما نزل بلدوين على صيدا نصب عليها برجاً خشبياً، وتأهب لضربها واقتحام أسوارها عنوة، ولحسن طالع صيدا وصل الأسطول المصري في تلك الآونة للذب عنها ومدافعة الصليبيين، في قطع بحرية يزيد عددها على الخمسين، وتمكن هذا الأسطول من التغلب على سفن الجنوية وعلى عسكر الصليبيين في موقعة بحرية حدثت في مياه صيدا، وفي نفس الوقت بلغ بلدوين أن ظهير الدين اتابك صاحب دمشق سيّر عسكراً من التركمان إلى صيدا لحمايتها والدفاع عنها، فاضطر إلى رفع الحصار عنها، وأحرق آلاته وعاد إلى عكا. ويذكر المؤرخون أن أسوار صيدا وبرجين من أبراجها أصيبت إصابات بالغة أثناء الحصار الصليبي بسبب قذائف اللاتين، فلما رحل الصليبيون وصلت النجدة الدمشقية التي كان قد طلبها والي صيدا، فرفض أهل صيدا السماح للتركمان بدخول مدينتهم لما توافر لهم من دواعي الارتياب في نوايا طغتكين صاحب دمشق، كما امتنع والي صيدا عن بذل المبلغ الذي كان قد عرضه عليهم لقاء مساعدتهم، فهدد الأتراك باستدعاء بلدوين، وعندئذ اضطر والي صيدا إلى أن يدفع إليهم عشرة آلاف دينار تعويضاً.

وكان الصليبيون قد تضامنوا جميعاً في حصار مدينة طرابلس في الفترة الواقعة ما بين أول شعبان سنة 502 ه و11 ذي الحجة من نفس السنة، وقطعوا الاتصال عنها تماماً من البر والبحر، وكاتب أهل طرابلس الوزير الأفضل شاهنشاه يسألونه أن يمدهم بالأقوات والمؤن والسلاح والرجال، وأقاموا ينتظرون ورود السفن الفاطمية التي تحمل إليهم الإمدادات. ولكن الشهور مرت دون أن تصل الإمدادات في الوقت الذي استأسد فيه كلب العدو وفترت مقاومة الأهالي والحامية وانعدمت الأقوات في المدينة. ولما يئس والي طرابلس من وصول المدد عزم على التسليم، وتم استيلاء الصليبيين على طرابلس في 11 من ذي الحجة سنة 502 ه / 12 يوليو 1109. ثم وصل الأسطول الفاطمي قادماً من مصر بعد فوات الأوان، مشحوناً بالرجال والمال والغلال ما يكفي أهل طرابلس لمقاومة حصار سنة، وصل هذا الأسطول إلى صور بعد سقوط طرابلس في أيدي الصليبيين بنحو ثمانية أيام، فوزعت الغلال والذخائر في جهات صور وصيدا وبيروت، وتمسك أهل صيدا وصور وبيروت بهذا الأسطول وألحوا على استبقائه لحمايتهم والذب عنهم، وشكوا إلى قادته سوء أحوالهم وضعفهم عن محاربة الصليبيين، ولكن القادة لم يبالوا بذلك ولم يستجيبوا لندائهم، فأقلعوا به عائدين إلى مصر عند استقامة الريح، وكان في إمكان هذا الأسطول إنقاذ بيروت وصيدا من الحصار الصليبي الوشيك، وبعودته دون أداء هذه المهمة تكون السلطات الفاطمية في مصر قد أسهمت في ضياع مدن الساحل السوري كله.


سقوط صيدا في أيدي الصليبيين في سنة 504 ه:

أحدث سقوط طرابلس دوياً هائلاً في بلاد الشام، وأدى إلى انهيار مقاومة المسلمين في كثير من مدن الساحل التي طالما صمدت أمام الحصار الصليبي المتكرر واستعصت على الصليبيين. وقد استغل الصليبيون حالتي الذهول والانهيار اللتين أصابتا وأن يسلموا له حصن المنيطرة وحصن ابن عكار، وأن يقدم له أهالي مصياف وحصن الأكراد وحصن الطوفان قدراً معيناً من المال في كل عام. وفي 21 من شوال سنة 503 ه تمكن بلدوين بفضل مساعدة برتران الصنجيلي من دخول بيروت عنوة. والواقع أن بلدوين ملك بيت المقدس كان يشغله شاغل واحد منذ توج ملكاً على مملكة بيت المقدس الصليبية وهو استكمال فتح مدن الساحل الباقية في أيدي المسلمين وأهمها بيروت وصيدا وصور وعسقلان، حتى يقضي بذلك على الجيوب والثغرات التي تتخلل منطقة نفوذه. أما عسقلان وصور فكانتا من المدن المنيعة التي لا يسهل الاستيلاء عليها إلا إذا توفرت لديه إمكانيات ضخمة وقدرات واسعة ومساعدات تأتي إليه من الخارج، ولذلك أرجأ فتحها إلى حين، وآثر أن يبدأ ببيروت وصيدا. وكان بلدوين قد اشترك مع برتران في فتح طرابلس، ولذلك السبب لم يتردد برتران في تقديم العون لبلدوين عند شروعه في فتح بيروت ثم صيدا بعد ذلك. كذلك اشترك في فتح بيروت جوسلين صاحب تل باشر، وساعد قدوم بعض السفن الجنوية البيزانية وعددها أربعون سفينة، وعمل بلدوين على حصار بيروت من البحر وقطع الإمدادات التي تصل إليها من ذلك الطريق في الوقت الذي تطوقها قواته وقوات برتران من البر، كما سهل وجود قاعدة بحرية صليبية في طرابلس على الصليبيين مهمة إحكام الحصار حول بيروت. وحاولت السفن الصيداوية والصورية عبثاً الوصول إلى بيروت المحاصرة لإمداد سكنها بالعدد والأقوات، بسبب تطويق السفن الإيطالية لمدخل الميناء. واستغرق حصار الصليبيين لمدينة بيروت مدة شهرين ونصف "من آخر فبراير سنة 1110 حتى 13 مايو من نفس السنة" تمكنوا بعدها من دخول المدينة قهراً. ووجد الفرنج في غابات الصنوبر والأحراج التي كانت تمتد إلى الجنوب من مزرعة العرب ورأس النبع بين الطريق إلى صيدا والطريق إلى دمشق جميع الأخشاب اللازمة لصناعة آلات الحصار كالأبراج المتحركة والمنجنيقات والسلالم. ويذكر ابن القلانسي أن القتال اشتد بين الصليبيين والمسلمين، وأن مقدم الأسطول المصري الذي كان بداخل مياه بيروت قتل هو وعدد كبير من المسلمين، وأن الإفرنج لم يشهدوا قط حرباً في عنفها وضراوتها. ويذكر الشدياق أن الأمير عضد الدولة علي بن شجاع الدولة الأرسلاني وجماعة من أقاربه كانوا في بيروت في الوقت الذي هاجمها فيه الصليبيون، ولقي مصرعه عندما دخلوها هو وخمسة أفراد من أمراء بيته. وفي مايو انهارت مقاومة الحامية المصرية في بيروت، وفر والي المدينة إلى قبرص مع معظم قواده تاركاً الأهالي يجرون مفاوضات التسليم، ولكن الأب لامنس يذكر أن الوالي المذكور قبض عليه، وحمل إلى الإفرنج فقتل هو ومن كان معه وغنم الصليبيون ما كان قد حمله معه من أموال . ثم دخل بلدوين بيروت في 13 مايو سنة 1110 م / 21 من شوال سنة 503 ه عنوة بالسيف، فقتلوا ونهبوا وسبوا وفعلوا كما فعلوا بطرابلس، واستصفوا الأموال والذخائر، وبلغ عدد القتلى من أهل بيروت عشري ألفاً. ولم يكتف بلدوين بما اجترمه في بيروت، بل أخرج الأسرى جميعاً خارج المدينة، وضرب أعناقهم في اليوم التالي من سقوط بيروت.

ثم زحف بلدوين بعد ذلك إلى صيدا، وكان يتولاها وقتئذ الأمير مجد الدولة محمد بن عدي، ونزل عليها براً وبحراً، وأرسل إلى أهلها يطلب منهم تسليم مدينتهم، فاستمهلوه مدة عينوها، فأجابهم إلى طلبهم بعد أن قرر عليهم 6 آلاف دينار. وذكر الشدياق أن أمير صيدا وأهلها لما يئسوا من السلامة عقدوا مع الملك صلحاً ودفعوا له عشرين ألف دينار تحمل إليه مقاطعة، وكانت تصله منهم قبل ذلك ألفا دينا، ثم رحل عنها إلى بيت المقدس للحج.

وذكر ابن القلانسي أنه وصل إلى ثغر يافا بحراً ملك من ملوك الإفرنج في حشد كبير من الرجال يحملهم ما يزيد على سبعين مركباً بقصد الحج والغزو في بلاد الإسلام، وأنه قصد بيت المقدس حيث اجتمع به بلدوين وتقرر بينهما قصد البلاد الإسلامية وفي مقدمتها صيدا. ويشير مؤرخو الحروب الصليبية إلى أن هذا المدد الذي قدم إلى بيت المقدس من برجن من بلاد النرويج، وكان يتألف من عشرة آلاف مقاتل يقودهم الملك سيجورد جورسالا فاري بن ماجنوس الثالث الذي اشترك مع أخويه في حكم بلاد النرويج، وهو لذلك أول ملك متوج يقدم في أسطول كبير لزيارة مملكة بيت المقدس. وتصادف أن وصل هذا الأسطول النرويجي إلى يافا عند عودة بلدوين إليها بعد استيلائه على بيروت وفشله في دخول صيدا، ففرح بلدوين لوصوله واحتفى بمقدمه، وأوكب معه من يافا إلى القدس، وأتاح له زيارة الأماكن المقدسة، وغمره بالهدايا والألطاف بغية الإفادة منه ومن أصحابه الذين قدموا بقصد الحج في تنفيذ مآربه وأهدافه التوسعية في صيدا وصور. وتم الاتفاق بين الملكين على أن يشتركا معاً في فتح صيدا ويشترك معهما برتران كونت طرابلس. وفي 19 أكتوبر سنة 1110 م / 3 ربيع الثاني سنة 504 ه نزل الملكان بجحافلهما على ثغر صيدا، وقد ذكر السيد منير الخوري خطأً أن بلدوين أعد حملة كبيرة في سنة 1110 قادها بنفسه وترك الحكم في القدس إلى برترام بن سان جيل وتوجه إلى بيروت وحاصرها في أواخر شباط واستولى عليها، والحقيقة أن برترام اشترك مع بلدوين في فتح بيروت. كذلك ذكر السيد منير الخوري أن بلدوين تقدم إلى صيدا وحاصرها حصاراً شديداً لمدة أربعين يوماً دون نتيجة ولكن وصول قوات من جنوة والبندقية بالإضافة إلى 60 مركباً نرويجياً بقيادة الملك سيمون مع عشرة آلاف محارب، ومجيء الكونت برترام مع قواته عجل بسقوط صيدا. ولا ندري من أي مصدر استقى سيادته هذه المعلومات فالمصادر العربية واللاتينية تتفقان على أن الملك النرويجي والملك الصليبي اشتركا معاً في حصار المدينة من البر والبحر، كما أن الاسم الصحيح لملك النرويج هو سيجورد وليس سيمون. وبدأ الصليبيون يحاصرون المدينة من البر والبحر حتى لا تتمكن قوات طغتكين من الوصول إليها من البر ولا السفن المصرية من الوصول إليها من ثغر صور بحراً. ومع ذلك فقد حاولت هذه السفن اختراق الحصار النرويجي البحري، وضايقت السفن النرويجية، ولكنها عجزت عن إمداد أهل صيدا بما كانوا يحتاجون إليه من سلاح وأقوات ومقاتلة. وفي هذه الأثناء وصل أسطول للبنادقة يقوده الدوج أورديلافو فاليير بنفسه، ويؤكد هايد استناداً إلى ما جاء في المدونات الصليبية أن البنادقة أسهموا في حصار صيدا وفتحها بدليل أن الملك بلدوين تنازل لكنيسة سان ماركو بالبندقية وللدوج أورديلافو عن بعض الملكيات والحقوق في عكا.

ويذكر ابن القلانسي أن الصليبيين صنعوا برجاً وزحفوا به إلى أسوارها وقد زوّدوه بالماء والخل لإطفاء النار إذا ما اشتعلت فيه، وبآلات الحرب والقتال، ولبّسوه بحطب الكرم والبسط وجلود البقر الطرية ليمنع من الحجارة والنفط، ثم نقلوه على بكر رُكِّب تحته. فلما رأى المسلمون بصيدا ذلك ضعفت هممهم وأشفقوا على أنفسهم من عاقبة المطاولة وخافوا أن يصيبهم ما أصاب أهل بيروت. ويشير وليم الصوري إلى أن والي صيدا أعد خطة لاغتيال بلدوين عن طريق مسلم مرتد كان غلاماً لبلدوين يقوم بخدمته الخاصة وافق على أن يتولى مهمة اغتياله لقاء مبلغ كبير من المال، ولكن نصارى صيدا كتبوا إلى الملك المذكور رسالة يحذِّرونه فيها، أثبتوها في رأس سهم صوَّبوه إلى المعسكر الصليبي، فاتخذ الملك حذره من خادمه الخائن وأمر به فشنق تحت الأسوار.

ولم تطل مقاومة أهل صيدا إلى أكثر من ذلك، وقرروا التسليم على الأمان، فخرج قاضي المدينة ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج، وطلبوا من ملكهم الأمان، فتعهد بلدوين بتأمينهم على أنفسهم وأموالهم وعسكرهم، وترك للمسلمين حرية البقاء في صيدا في ظل الحكم الصليبي أو الخروج منها آمنين على أنفسهم وأموالهم وذخائرهم دون أن يتعرض لهم أحد بسوء، كما تعهد بتأمين حياة من أراد البقاء بها، فاستحلفه وفد المسلمين على ذلك وتوثقوا منه. وفي 23 من جمادى الأول سنة 504 ه / 5 ديسمبر سنة 1110 م خرج الوالي وكان يتولى صيدا وقتئذ الأمير مجد الدولة محمد بن عدي، والزمام وجماعة كبيرة من الأعيان وجميع الأجناد والعسكرية وعدد كبير من أهل صيدا يحملون معهم ما استطاعوا حمله من أموال ومتاع، وقدّر مؤرخو الحركة الصليبية عددهم بنحو خمسة آلاف، ولاذوا بدمشق وصور، بينما آثر الباقون من أهلها الحياة فيها في ظل مملكة بيت المقدس الصليبية. ثم دخلتها جيوش الصليبيين، فرتب بلدوين الأحوال بها والحافظين لها من رجالته، وعاد هو إلى بيت المقدس. ولم يلبث أن عاد إلى صيدا بعد عدة يسيرة، فنقض عهده للمسلمين، وقرر على من أقام بصيدا من المسلمين نيفاً وعشرين ألف دينار، فأفقرهم واستغرق أموالهم، وصادر من علم أن له بقية منهم، وأصبحت صيدا بارونية يتولاها إيوستاش جارنييه سيد قيسارية، الذي لم يلبث أن وطد مركزه بزواجه من إيما ابنة أخت البطريرك أرنولف.


صيدا في العهد الصليبي الأول 504 – 583 ه:

1- صيدا بارونية صليبية في ظل أسرة إيوستاش جارنييه:

بعد أن سقطت صيدا في أيدي الصليبيين أصبحت بارونية صليبية تابعة لمملكة بيت المقدس الصليبية، وكانت حدود هذه البارونية تمتد من نهر الليطاني جنوباً حتى نهر الدامور شمالاً، وتبسط سيادتها على عدلون والصرفند وأنحاء جزين وقسم من الشوف كالباروك وبعقلين والمختارة ودير القمر. وقد انحصرت سيادة البارونية في بيت الفارس إيوستاش جارنييه وقد تولى بعد إيوستاش عدد من البارونات هم: جيرارد بن إيوستاش 1124 – 1154 ، ثم أرناط سيد صيدا وشقيف أرنون 1154 – 1183 ، وباليان 1210 – 1239 وأخيراً جوليان الصيداوي الذي باع صيدا وشقيف أرنون في سنة 1260 للداوية سيد قيسارية الذي أصبح كفيلاً لمملكة بيت المقدس في سنة 1123 م في أثناء وقوع بلدوين الثاني دي بور أسيراً في أيدي المسلمين. ومن الجدير بالذكر أن سيادة هذه البارونية أسندت إلى إيوستاش بعد سقوط صيدا في أيدي الصليبيين سنة 1110. ولعبت بارونية صيدا في العهد الصليبي الأول دوراً هاماً في توجيه السياسة الصليبية، وفي تعزيز القوات الصليبية في بقية مناطق مملكة بيت المقدس كما ازدهرت من الناحية الاقتصادية بسبب ازدياد عدد سكانها ونمو مواردها، ومع ذلك فإن الدور الذي لعبته صيدا في العهد الصليبي كان أقل شأناً من الدور الذي لعبته الثغور الصليبية الأخرى مثل صور وعكا ويافا سواء من الناحية التجارية أو السياسية. على أنها كمدينة خاضعة للصليبيين لفتت بمينائيها أنظار الصليبيين الذين قدموا بسفنهم لزيارة الأراضي المقدسة.

وكان يسكن صيدا أخلاط غير منتظمة من السكان تتألف من عناصر متباينة غير متجانسة بعضها إسلامية وبعضها مسيحية وطنية أي من أهل البلد أو مستوطنة، وبعضها يهودية. أما المسلمون فكانوا يؤلفون أقلية سكانية، فمن المعروف أن معظم من آثر البقاء في صيدا بعد وقوعها في أيدي الفرنج في سنة 1110 م كانت لهم مصالح خاصة في البقاء بالمدينة، فقد كان بعضهم يمتلك أراض يعيشون على زراعتها معظمها تقع في نواحي صيدا ومعظمها أيضاً من نوع البساتين، وبعضهم كانوا ملاكاً للعقارات أو تجاراً لهم دراية بالأحوال الاقتصادية لإقليم صيدا. وقد تعرض المسلمون لاضطهاد الفرنج، وقد رأينا كيف فرض عليهم بلدوين مبلغاً ضخماً من المال حتى يجردهم من ثرواتهم، ويشير العماد الأصفهاني في الفتح إلى أن معظم أهل صيداء وبيروت وجبيل من المسلمين كانوا مساكنين لمساكنة الفرنج مستسلمين، وأنهم بعد أن حررهم صلاح الدين بعد موقعة حطين ذاقوا العزة بعد المذلة. أما النصارى البلديون وأعني بهم الوطنيين، فكانوا قبل الفتح الصليبي لصيدا يعطفون على الحركة الصليبية، ولما كان معظمهم من الأرثوذكس فقد رفضوا في العهد الصليبي الخضوع للكنيسة الكاثوليكية، ولذلك تعرضوا لاضطهاد الفرنج، وفرض عليهم هؤلاء ضرائب ثقيلة، ودفعوهم إلى الانتقال إلى داخل البلاد حيث يمكنهم الحياة في سلام في ظل المسلمين. وأما اليهود فكانوا قليلي العدد، ولكنهم على قلتهم كانوا يتحكمون إلى حد كبير في النشاط الاقتصادي بصيدا، وكان معظمهم يشتغل بالتجارة والصيرفة والصياغة، ولم يكن لهم دور هام سواء في العصر الإسلامي أم في العصر الصليبي.

وكان سيد صيدا أحد أمراء أربعة يندرجون في المرتبة بعد الملك، هم: أمراء يافا والجليل وصيدا والأردن، وكان لكل من هؤلاء الأمراء موظفوه وإداريوه، وهم عل هذا النحو يتشبهون بالملك ولكن على نطاق مصغر، وكان على سيد صيدا أن يقدم إلى الملك مائة وخمسين فارساً بكافة معداتهم وأسلحتهم.

2- صيدا قاعدة حربية للصليبيين أسهمت في فتح صور وعسقلان:

اتخذ الصليبيون من صيدا قاعدة بحرية ومركزاً رئيسياً للإمدادات وذلك عندما شرع بلدوين في حصار صور سنة 505 ه، وكانت مدينة صور على حد قول الإدريسي بلداً حصيناً، قد أحاط بها البحر من ثلاثة أركان. كذلك أشار المقدسي إلى حصانتها وذكر أنه يدخل إليها من باب واحد على جسر، وردد ابن حوقل نفس المعنى. وبالإضافة إلى هذه الحصانة كانت الصخرة التي بنيت عليها صور لا ترتبط بالبر إلا عن طريق لسان ضيق، وقد زاد ذلك من منعتها وصمودها أمام الغزاة، وكان عدد سكان صور قد ازداد زيادة واضحة بنمن بمن لجأ إليها من أهل صيدا وقيسارية وعكا وطرابلس، وساعدت هذه الزيادة السكانية في صور على صلابة الجبهة الإسلامية. وكان أهل صور يتوقعون قيام الفرنج بقصدهم عاجلاً كان ذلك أم آجلاً، بعد سقوط بيروت وصيدا، ولذلك كانوا يتأهبون لحصار طويل الأمد، ثم إنهم اتفقوا مع الدمشقيين على أن يبذلوا لهم العون العسكري إذا ما طلب منهم أهل صور ذلك، بدليل أنه ما كادت الأنباء تصل إلى عز الملك أنوشتكين والي صور بعزم بلدوين على قصد بلده عندما علم بأنباء هذه الاتفاقية حتى كتب إلى ظهير الدين طغتكين أمير دمشق يستصرخه ويستنجد به ويبذل له تسليم صور. وسأله في كتابه المبادرة والتعجيل، فبادر طغتكين بإنفاذ عسكر من الأتراك وأردفهم بطائفة من العرب. والظاهر أن النجدة الدمشقية وصلت قبل أن يعزم بلدوين على الخروج لحصار صور، فليس من المعقول أن يعلم بلدوين بخبرها دون أن تكون قد قدمت بالفعل بدليل أن الدمشقيين اشتركوا اشتراكاً فعلياً في القتال حسبما تشير المصادر العربية، وهو أمر يؤكده ألبير داكس من مؤرخي الحركة الصليبية، في حين يذكر ابن الأثير أن أهل صور استنجدوا بطغتكين بعد أن اشتد القتال وأن النجدة التي سيرها كانت تتألف من مائتي فارس دخلوا البلد، ولا يعقل أن يدخل هؤلاء الفرسان المدينة في الوقت الذي يحاصرها فيه الصليبيون وهو أمر يؤكده ابن تغري بردى إذ يذكر أن طغتكين جهز الخيالة والرجّالة إلى صور نجدة فلم يقدروا على الدخول إليها من الفرنج، ثم رحلت الفرنج عنها ونزلوا على الحبيس وهو حصن عظيم وحاصروه حتى فتحوه عنوة، وقتلوا كل من كان فيه، ثم عاد بلدوين إلى صور وشرع في عمل الأبراج.

لما بلغت أنباء الاتفاقية التي تمت بين والي صور وطغتكين صاحب دمشق بادر بالنزول إلى صور، فوصل إليها في 25 من جمادى الأول سنة 505 ه / 27 نوفمبر سنة 1111، واشترك معه في هذه الحملة إيوستاش جارنييه سد صيدا وقيسارية، ولكن لم يساعده في الحصار البحري حولها أي أسطول لاتيني كما حدث بالنسبة لبيروت وطرابلس وصيدا، ولكنه اعتمد على فرقة بيزنطية كان قد وعده بها الإمبراطور البيزنطي الكسيس كومنين، وقدمت هذه الفرقة فعلاً أمام صور في أسطول صغير يتكون من 12 سفينة بقيادة المبعوث البيزنطي بوتوميتس، ولكن هذه الفرقة البيزنطية لم تكن كافية. واشتد القتال، واستخدم الفرنج أبراجاً ثلاثة، وقيل برجين على صور، وزحفوا بهما عليها، فخرج أهل صور بالنفط والقطران والحطب وأحرقوا برجاً، وامتدت النار إلى الآخر. وذكر ابن القلانسي أن أهل صور ألقوا النار قريباً من البرج الصغير ولم يتمكن الفرنج من دفعها فهبت ريح وألقت النار على البرج الصغير فاحترق بعد المحاربة الشديدة عليه ونهب منه زرديات كثيرة وطوارق، ثم اتصلت النار بالبرج الكبير، ولكن الفرنج تمكنوا من إطفاء ما علق به من نار. وكانت الميرة والمادة تصلان إلى بلدوين من صيداء في المراكب، وذكر ابن الأثير أن طغتكين كان يقطع عن الفرنج المحاصرين لصورة الميرة في البر، فكانوا يحصرونها في البحر، وخندقوا عليهم، فسار إلى صيدا وأغار على ظاهرها فقتل جماعة من البحرية وأحرق نحو عشرين مركباً على الساحل، وذكر سبط ابن الجوزي وابن تغري بردى أن طغتكين عمد إلى مهاجمة صيدا مركز الإمدادات للصليبيين أثناء حصارهم لصور، فركب السفن وسار إليها وقتل جماعة من الفرنج، وأغرق مراكبهم ثم أوصل مكاتبته إلى أهل صور، فقوى قلوبهم على الصمود. ويئس بلدوين من افتتاح صور، فرحل هو وقواته بعد أن أحرقوا ما كان لديهم من السفن على الساحل، وذلك في الأسبوع الأول من أبريل سنة 1112، خوفاً من أن يدمر طغتكين صاحب دمشق محصول أراضي الجليل بفلسطين.

وكما اشتركت صيدا بأسطولها في الحصار الصليبي لصور في سنة 505 ه اشتركت في مواجهة عساكر الفاطميين في يافا سنة 516 ه / 1122 م، كما اشتركت بأسطولها في حصار عسقلان في سنة 548 ه / 1154 م، فلقد كان لجيرار بن إيوستاش سيد صيدا إمرة أسطول مؤلف من 15 سفينة، أسهم في إحكام الحصار البحري الصليبي حول عسقلان زهاء شهرين انتهى بسقوط عسقلان، كذلك اشترك فرنج صيدا في سنة 543 ه / 1149 م مع فرنج صور وجميع الساحل في الهجوم الذي شنه الفرنج على مدينة دمشق، وأحرقوا فيه الربوة والقبة الممدودية، وكثر فساد هؤلاء الفرنح في الأعمال الدمشقية بعد رحيلهم عن دمشق إلى حد اضطر معين الدين أنر مملوك طغتكين معه إلى الإغارة على أعمالهم. كذلك أسهم أسطول صيدا مع أسطول عكا في فك حصار المسلمين البحري حول ميناء بيروت في سنة 578 ه/ 1182 م، ففي هذه السنة سار صلاح الدين من دمشق إلى بيروت فنهبها، ونهب إقليمها من البر في حين حاصرها الأسطول المصري من البحر، ولذلك أمر بلدوين الرابع ملك بيت المقدس يومئذ بإعداد الأسطول الصليبي في عكا وصيدا لتخليص بيروت منت الحصار الإسلامي،فاضطر صلاح الدين إزاء ذلك إلى القفول عنها إلى دمشق مؤثراً السلامة، وعاد الأسطول الأيوبي إلى مصر.

3- الأحداث الهامة في صيدا في العهد الصليبي الأول:

غارات المسلمين على صيدا:

تعرضت صيدا لعدد من الغارات والغزوات شنها المسلمون عليها في البر والبحر: ففي سنة 512 ه / 1118 م أمر الخليفة الآمر بأحكام الله عندما بلغه نبأ وفاة بلدوين الأول ملك بيت المقدس بتسيير السفن المصرية إلى جهة صيدا، وكتب إلى طغتكين صاحب دمشق بأن يقابله في العسكر الشامي عند عسقلان لاستخلاص المدن التي استولى عليها الفرنج، ولكن هذه الحركة لم تؤد إلى نتيجة.

وفي سنة 520 ه / 1126 م تعرضت صيدا لغارة بحرية قام بها الأسطول المصري الذي توجه بعد ذلك إلى بيروت حيث انهزم وعاد سريعاً إلى مصر دون أن يتعرض لمدن الساحل بعد ذلك. ثم تعرضت صيدا من جديد لغارة بحرية عنيفة في سنة 546 ه / 1159 م قام بها الأسطول المصري، ويروي ابن القلانسي خبر هذه الغارة فيقول: وفي هذه الأيام ورد الخبر بوصول الأسطول المصري إلى ثغور الساحل في غاية من القوة وكثرة العُدة والعِدة، وذكر أن عدة مراكبه سبعون مركباً حربية مشحونة بالرجال، ولم يخرج مثله في السنين الخالية، وقد أنفق عليه ما حكي وقرب ثلاثمائة ألف دينار، وقرُب من يافا من ثغور الإفرنج فقتلوا وأحرقوا ما ظفروا به، واستولوا على عدة وافرة من مراكب الروم والإفرنج، ثم قصدوا ثغر عكا، وفعلوا فيه مثل ذلك، وحصل في أيديهم عدة وافرة من المراكب الحربية الإفرنجية وقتلوا من حجاج وغيرهم خلقاً عظيماً، وأنفذوا ما أمكن إلى ناحية مصر. وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس وفعلوا فيها مثل ذلك.

كذلك تعرضت صيدا في العهد الصليبي لغارات برية قام بها المسلمون بوجه خاص في مرحلة المد الإسلامي عندما حمل نور الدين محمود بن زنكي لواء الجهاد، ففي 9 ربيع الآخر سنة 553 ه / 1158 م أغار المسلمون بقيادة أسد الدين شيركوه قائد نور الدين محمود في حشود من فرسان التركمان على أعمال صيدا وما قرب منها، فغنموا أحسن غنيمة وأوفرها، وخرج إليهم من كان بها من الخيالة والرجّالة، فكمن لهم المسلمون وفاجأوهم بالهجوم وقتلوا أكثرهم وأسروا الباقين، وكان من بين الأسرى ولد المقدم المتولي حصن حارم. وفي العام التالي أرسل نور الدين قائده أسد الدين شيركوه في فرقة من العسكر للإغارة على بلدة صيدا، فسار وسار معه أخوه نجم الدين أيوب وأولاده، "ولم يشعر الفرنج إلا وقد عاث في بلد صيدا وقتل وأسر عالماً عظيماً وغنم غنيمة جليلة، وعاد فاجتمع بنور الدين على جسر الخشب.

وفي سنة 560 ه / 1165 م وصلت قوات نور الدين إلى نواحي صيدا بقصد الاستيلاء على حصن شقيف تيرون الواقع على مقربة من قلعة نيحا التي تبعد عن جزين شمالاً بنحو 7 كيلومترات وعن صيدا شرقاً بنحو 23 كيلومبراً. وفي سنة 575 ه/ 1179 م قدم صلاح الدين لأول مرة في نواحي صيدا، ودمر الحقول المحيطة بها، وهزم الملك بلدوين الرابع بالقرب من بانياس عندما لاذ كثير من الصليبيين بصيدا، فاضطر بلدوين إلى عقد الهدنة مع صلاح الدين في مايو سنة 1180 م / 576 ه.