الدولة العثمانية : السلطان مصطفى الثاني

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


السلطان مصطفى خان الثاني ابن السلطان محمد الرابع 1106 -  1115 هـ 
 
بويع له بالخلافة يوم وفاة السلطان أحمد وكان سنه 22 سنة وفي اليوم الثاني من جلوسه أصدر فرماناً شديد العبارة مضمونه إن الحالة التي وصلت إليها الدولة من الضعف مدة أسلافه الذين رقدوا على بساط الراحة والدعة أدت لحصول الخلل في النظامات والإدارة وإنه سيقبض بيده على زمام الأعمال مستطلعاً الحركات والسكنات وإنه ترأس بنفسه على الجنود في ميدان القتال وما مثال ذلك من الترتيبات والتدبيرات المفيدة ثم أمر بالتجهيزات الحربية براً وبحراً ولما طلبت اليكجرية منه إنعامات الجلوس كالعادة نبههم إلى عسر المالية وضنك الأحوال ووعدهم بمطلوبهم بعد النصر فقبلوا ثم ساق معظمهم إلى ميادين القتال وأمر بسرعة الحركة لإعادة جزيرة ساقز.
 
 
حرب ساقز: 
 
لا أشمر السلطان مصطفى الثاني عن ساعد الجدّ وعزم على السير في طريق الحزم ليرجع للدولة مقامها السابق وشرفها القديم ويسترد ما استولى عليه أعداؤها من أملاكها أمر العمارة فأقلعت من استانبول وكانت مركبة من عشرين غليوناً و 24 غراباً تحت قيادة عموجه زاده القبودان حسين باشا ومعه حسين باشا الجزائري الملقب عند الفرنج ميزه مورتو بوظيفة نائب عنه بطرونه ومعهما العدد الكافي من الجنود وبعد مضي ثلاثة أيام من خروج العمارة صادفت قرب جزيرة قيون أطه (SPALMATORI) عمارة البنادقة تقودها سفن السحب لسكون الريح وقتئذ وكانت مؤلفة من عشرين غليوناً وست ماعونات عند ذلك أمر القبودان باشا ستة عشر غليوناً بالحملة على غلايين البنادقة المذكورة وخصص الأربعة غلايين الباقية للهجوم على مواعينهم.
 
وأمر قوّاد السفن بدقة الملاحظة والانتباه وإجراء الحركات الحربية بكل نظام وترتيب وتروّ ثم حمل القبودان ميزه مورتو على غليون أميرال البنادقة وأطلق عليه مدافع الجنب الأبانده مرة واحدة فتعطل من ذلك بعض مدافعه وطارت قطع من أخشابه فأصابت أكثر من مائة نفس من طائفته ووقع الهرج والاضطراب بين من في الغليون المذكور وفي الحال اقتربت منه سفينة رئيس يدعى عبدالفتاح وألقت عليه أقمشة مغموسة بالزفت والنفط والقطران ياغلي بجاوره من مدافعها فأصابت مؤخره فالتهب في الحال ولم تتمكن عساكره من إخماد النيرن فزاد ويلهم وعظم عويلهم وأراد غليون آخر من سفن البنادقة أن يمدّ له يد المساعدة إلا أنه لم يكد يقرب مه حتى عمت النار أرجاءه ووصلت إلى جبخانته فطار الغليونان في الجوّ صعداً.
 
أما عساكرهما فمنهم من قتل ومنهم من ألقى نفسه في البحر فقبض عليه العثمانيون وحملت المركب التي كان يقودها عبدالقادر باشا زاده على ماعونات العدو وقويت عليها وعطلت مدافعها ثم التحم الفريقان واشتد بينهما القتال بالأسلحة البيضاء وتصاعد دخان المدافع فكسا الجوّ حلة سوداء وأظلم المكان بعد الضياء بحيث صار لا يمكن أن السفن ترى بعضها أصلاً وأخيراً لم يسع العدوّ إلا الانسحاب من مياه الحرب بما بقي معه من سفنه وفرّ هارباً والتجأ إلى مينا تيرفيل واستمرّت هذه المحاربة من ضحوة النهار إلى الغروب.
 
وغرق من سفن العدوّ عدة غلايين وانكسر منها عدة أيضاً وكانت خسائر الدوننما العثمانية قليلة جداً ففرح الجنود وتشجعوا ثم سار القبودان باشاً فائزاً منصوراً إلى أن وصل إلى ساحل الأناضول فأرسى هناك وصمم على إعادة الكرة على العدوّ لزيادة الإيقاع به فأمر بالاستعداد ثم قام بالدوننما في اليوم الرابع من رجب من السنة المذكورة ولما قرب من ساقز ورآه العدوّ مقبلاً سار نحوه إلى خارج المينا ومعه ستة وعشرون غليوناً وقبل أن يشتبك الطرفان في القتال جعل العثمانيون عمارتهم على الترتيب الآتي وهو أن القبودان باشا جعل نائبه بستة غلايين عند أوّل مضيق ساقز فوق الريح وجعل ما بقي من السفن تحت الريح.
 
وبعد أن أخذت كل سفينة موقعها اشتعلت نيران الحرب بينهما وقذفت المدافع من فوهاتها المقذوفات العظيمة فوجم العدوّ لذلك وعلم أن لا طاقة له بالوقوف بسفنه بين نارين شديدتين وليس في إمكانه أيضاً المقاومة أمام هذه التعبية العجيبة فالتزم أن يدخل الغلايين التي تعطلت إلى داخل الميناء ثم ولى هارباً بما بقي معه منها وعددها أربعة عشر وأخذت العمارة العثمانية مع ذلك في تعقب البنادقة وإطلاق المدافع عليهم ورمت سفينة آشجمي زاده محمد قبودان مقذوفات على غليون للبنادقة فأصابت مخزن باروده وكان يحمل 25 مدفعاً فتفرقع لوقته وتبدد في الجوّ قطعاً.
 
أما الأربعة الغلايين التي تعينت لمحاربة الماعونات في مبدإ الأمر فقد فازت فوزاً مبيناً ولما عطلت ما كان أمامها من سفن البنادقة قبضت عليها وعلى جميع من كان بها بكل سهولة وقد تكبد البنادقة في هذه الواقعة خسائر شتى وهربت باقي سفنهم ودخلت سفن الأميرال مينا ساقز وأنزلت في قلعتها خمسمائة خيال ولما دخلت الدوننما العثمانية ساقز لم تجد فيها للعدوّ أثراً وصادفت في البوغاز إحدى المواعين المعطلة المشحونة بالذخائر فاستولت عليها بمن فيها وكان بها 16 مدفعاً من النحاس وستة هوانات وخمسة آلاف بندقية وكثير من المهمات والذخائر والجبخانات و 280 جندي.
 
ولما استولت الدوننما على القلعة والمينا وجدت بها أيضاً أربع مراكب للسحب وأربعة غلايين كبيرة مشحونة بالأسلحة ودخل العساكر المدينة ولم يتعرّضوا لأحد بسوء مطلقاً فقابلهم السكان بالترحاب وقد اغتنمت الجيوش العثمانية ما استجد بالقلعة من الأدوات وكانت 16 مدفعاً وثمانين ألف مقذوف وكثيراً من المهمات والجبخانات وغيرها ولما انتهت المحاربة وأنزل بساقز الحامية الكافية من العساكر الذين نقلوا من جشمة بساحل الأناضول عادت الدوننما ظافرة إلى الآستانة فسر السلطان من القبودان حسين باشا ورقاه إلى مسند القائمقامية وخلفه على رياسة البحرية القبودان ميزه مورتو حسين باشا وقد اهتم من يوم توليته في إنشاء السفن الحربية وإصلاحها لتقوية الدوننما وأتقن آلاتها ولوازمها وانتخب لها العدد الكافي من الملاحين وأرباب الفن ثم أكثر من التدريبات والتمرينات حتى صير طوائف السفن على غاية من الاستعداد والمهارة والاجتهاد في الفنون الحربية البحرية.
 
 
محاربات النمسا وهزيمة زانتا 1109 هـ:
 
اعلم إنه بعد الانتصار البحري المذكور واسترداد ساقز قاد السلطان بنفسه الأوردي الهمايوني سنة 1107هـ 1695 م وعبر به نهر الطونة فوصل إلى يانجوه وعسكر في صحراء طمشوار واستولى على قلعة لييوه (LIPPA) وجميع ما بها من الذخائر والمهمات وانتصر في واقعة لوغوس (LUGOS) الدموية وقتل قائد جيش النمسا الجنرال وتران(VETERANI) بعد أن شتت شمل جيشه وأسره ثم عاد الجيش بعد ذلك لتمضية الشتاء في بلغراد وسار السلطان إلى القسطنطينية فائزاً منصوراً إلا أن هذه الهزيمة المذكورة لم تكن بالقاضية على النمساويين لأنهم أعادوا الكرة على الحدود العثمانية ثانية 1108 هـ 1686 م .
 
وحاصروا طمشوار بجيوش عديدة فتقدم السلطان بالجيش وردهم عن القلعة المذكورة وقهر للنمساويين جيشاً عظيماً كان مجتمعاً في مضيق بتلك الأطرال تحت قيادة منتخب ساكن فريدريك قرب مدينة أولاش (OLASCH) وكانت هذه النصرة الثانية سبباً لبث روح الشجاعة والإقدام في الجنود العثمانية ثم عاد السلطان إلى أدرنة بعد أن قوى طمشوار وأكثر من بناء القلاع بالحدود ثم اهتم في تحسين وإصلاح الأمور العسكرية والملكية.
 
وكان الروس أثناء هذه الحروب حاصروا مدينة أزاق (AZOV) 1107هـ فقاومتهم جيوش خان القريم والحامية العثمانية هناك وتغلبوا عليهم وطردوهم وقتلوا منهم نحو ثلاثين ألف جندي إلا أن بطرس الأول قيصر الروس عاد بجيش كثيف يتجاوز 60 ألف جندي 1108هـ وحاصرها ثانية.
 
ولما كانت الدولة مشتغلة بالحروب القائمة بجهات مورة والمجر و يولونيا وبوسنة لم تتمكن من نجدة تلك المدينة فتم له الاستيلاء عليها وجعلها ثغراً له على البحر الأسود لأن قبائل القوزاق كانت حائلاً بين البحر وبين الروس.
 
وفي سنة 1109 هـ قاد السلطان الجيش بنفسه لمحاربة النمسا ولما وصل بلغراد عقد مجلساً للمداولة فاستقر الرأي على أن يسير الجيش إلى جهة طمشوار كما سار في العامين السابقين ثم عبر الجيش الطونة إلى يانجوه وتقدم حتى وصل إلى مدينة زانتا (ZENTA) الواقعة على نهر تيس ونصبوا هناك جسراً ليعبروا إلى الضفة الأخرى وبينما الجيش آخذ في العبور إذ هاجمه القائد النمساوي العام البرنس أوين دي سافوا الشهير (EUGNE DE SAVOIE) ولما اصطدم الجيشان انكسر الجسر فانقسمت القوة العثمانية إلى قسمين وضعف أمرها وظهرت عليها علامات الهزيمة وكان القتال عنيفاً.
 
ومات من العمثانيين عدد عظيم بين أنفار وقواد منهم الصدر الأعظم الماس محمد باشا ووالي الأناضول مصرلي زاده إبراهيم باشا ومحافظ طمشوار جعفر باشا ووالي أذنه أطنه فضلى باشا واغاة الينكجرية بالطه زاده محمود باشا وعشرة من البكوات ونحو خمسة عشر ألفاً من الجنود بين قتيل وغريق ولولا وجود السلطان بالضفة الأخرى لوقع أسيراً في يد الأعداء وبهذه الهزيمة ضاعت كافة قلاع بلاد المجر من العثمانيين 23 صفر 1109هـ واستولى النمساويون على بلاد بوسنة وغيرها ولما عاد السلطان وجه مسند الصدارة إلى كويريلي عموجه زاده حسين باشا.
 
 
معاهدة قارلوفجه 1110 هـ:
 
لما قبض الصدر الأعظم الجديد الذي هو من أولاد الوزير الشهير صاحب الأفكار العالية والآراء السديدة المرحوم كويريلي باشا الكبير على زمام الأحكام أخذ ينظم الإدارة ويدبر المصروفات والإيرادات فزادت بذلك الأموال في الخزينة وانتعشت الآمال وابتهجت الأحوال حتى تمكن من تجهيز جيش جديد بلغ خمسين ألفاً من الرجالة وأربعين ألفاً من الخيالة خلاف الطوبجية ثم تقدم به نحو بلغراد وتقابل مع البرنس أوجين المذكور بإقليم بوسنة واستظهر عليه حتى ألزمه الرجوع إلى ما وراء نهر صاوه (SAVE) تاركاً بلاد بوسنة.
 
وبينما كان السلطان مصطفى مصراً على استرداد جميع ما فقد من أملاك الدولة كان أمبراطور النمسا يميل جداً للصلح والمسالمة لما لحقه من الخسائر مدة الحروب الطويلة المذكورة ففتح باب المخابرات بين الدولتين وتداخل لويز الرابع عشر ملك فرانسا وأراد أن يدخل الدولة العثمانية في معاهدة ريسويك (RYSWYCK) التي أمضيت في 20 سبتمبر سنة 1697 بين فرانسا من جهة والنمسا وإسبانيا وإنكلترة وهولاندة من جهة أخرى وهي المعاهدة التي أرجع بها لإسبانيا ما كانت فقدته من أملاكها فلم تقبل الدولة لتعصب دول أوروبا عليها وسعيهم في محو نفوذها.
 
والحاصل إنه بعد مخابرات استغرقت مدة طويلة قبلت دول النمسا والروسيا والبنادقة و يولونيا شروط معاهدة قارلوقجه المذكورة (CARLOWITZ) قطعياً مع الدولة 1110 هـ 1699 م وتم بذلك الصلح وكان أهم شروطه مهادنة النمسا لمدة عشرين سنة وأن يبقى للدولة العلية ولاية طمشوار (TEMESWAR) المعروفة ببانات وتأخذ النمسا بلاد الأردل وما استولت عليه من بلاد المجر وعلى ذلك تكون الحدود بين الطرفين أنهار ماروش وتيس والطونة وصاوة ومهانة مع دولة يولونيا لمدة عشرين سنة أيضاً.
 
وإن ترد للدولة العثمانية البلاد التي استولت عليها من بغدان وتبقى الحدود القديمة على ما كانت عليه ويعاد ل يولونيا إقليمي يودوليا وأوقرين وقامنيجه وتعفى من الجزية التي كانت تدفعها لخان التتار وأن تتنازل الدولة العثمانية للبنادقة عن شبه جزيرة مورة وأقليم دالماسيا وأن تعفى النمسا وغيرها مما كانت تدفعه للدولة العثمانية ولما كان مرخص الروسيا غير حائز للثقة التامة عقدت معه متاركة لمدة ثلاث سنين تحت شرط بقاء قلعة أزاق بيد الروس ثم تأيدت هذه المتاركة فيما بعد بينهما 1113 هـ وبعد ذلك استمرة هذه المهادنات حتى صارت صلحاً دائماً بين الطرفين.
 
 
اصلاحات داخلية: 
 
إنه بعد أن تقررت مصالحة قارلو فجة بين العثمانيين ومن مر ذكرهم من دول أوروبا عاد السلطان من أدرنة إلى استانبول فقابل السفراء ثم أخذ ينظر فيما يقتضيه ملكه من التحسينات وأخذ الصدر الأعظم عموجه زاده حسين باشا في إصلاح الأحوال الداخلية التي أصابتها المضار من طول زمن الحروب المذكورة فرفع عن عاتق الأهالي ما عجزوا عن أدائه من الضرائب بعد أن قللها وقبض على كل المفسدين وأصحاب الدسائس والسوابق منبين الجيوش وأبادهم نفياً وقتلاً وأخذ في تشجيع الأهالي وحثهم على زيادة الاعتناء بالزراعة والصناعة إذ عليهما مدار تقدم البلاد.
 
وبينما كان الصدر يهتم في هذه الإصلاحات النافعة حدث بينه وبين شيخ الإسلام فيض الله أفندي اختلاف لأن فيض الله أفندي المذكور كان معلم السلطان قبل جلوسه على كرسي السلطنة وكان السلطان ولاه مسند المشيخة الإسلامية وصار يستشيره في كل الأمور فأغاظ ذلك الصدر لتداخل شيخ الإسلام في الأحوال السياسية التي ليست من تعلقات وظيفته أصلاً وكان القبودان ميزه مورتو حسين باشا مدة حياته يجتهد في التأليف بينه وبين الصدر ويزيل النفور من قلوبهما إلا أنه بعد وفاته استبد الشيخ في آرائه وأظهر العظمة فلم يتحمل الصدر ذلك وقدم استعفاءه 1114 هـ وأقام في ضيعة له منفرداً حتى مات بعد سبعة عشر يوماً ونقلت جثته إلى استانبول ودفن في مدرسته المشهورة.
 
 
واقعة أدرنة 1115هـ:
 
اعلم إنه بعد أن استقال الصدر حسين باشا وجه السلطان مسند الصدارة إلى دال طبان مصطفى باشا الذي التزم السير على الخطة التي يرسمها له شيخ الإسلام المذكور ولما كان هذا الصدر يميل من طبيعته للحرب والقتال في الوقت الذي كانت الدولة فيه في أشد الاحتياج للمسالمة والراحة بعد الحروب الطويلة لتلتفت لإصلاح أحوالها الداخلية اختلت بذلك أحوال السياسة وارتبكت العلاقات الخارجية حتى خيف على روابط السلم أن تنقطع ثم عزل وقتل لما تحقق للسلطان وبقية الوزراء أنه بخطته هذه يوقع الدولة فيما تخافه من الحروب.
 
ولما كان الوزير المذكور من مشاهير الأبطال وقع اضطراب وشغب بسبب ذلك بين صنوف الجنود وتعين للصدار رامي محمد باشا وكان مرخصاً للدولة في صلح قارلوفجة وكان عالماً بالأمور الإدارية والأحوال السياسية وقد تمكن بمساعدة محاميه شيخ الإسلام من تحسين الأحوال وإصلاحها إلا أن شيخ الإسلام لما كان يميل إلى التغلب والتحكم في كافة الأمور والصدر يريد مراعاة حقوق مقامه أخذ يفكر في منع تسلط الشيخ المذكور الذي لما أحس بذلك أشعل نار الفتنة حتى استفحل أمر الهياج بين الجنود وكان السلطان في ذلك الوقت بأدرنة لتولعه بالقنص كأبيه ثم انتهت الفتنة بقتل شيخ الإسلام فيض الله أفندي المذكور.
 
ولما بلغ السلطان مصطفى أنهم يريدون خلعه دخل على أخيه أحمد خان وأعلمه بالأمر وتنازل له عن كرسي السلطنة في 9 ربيع الأوّل سنة 1112 هـ ثم مات بعد مائة وأربعين يوماً وكان شجاعاً يميل إلى الاقتداء بجده السلطان سليمان في الفتوحات حضر بنفسه ثلاث غزوات مهمة وكان فطناً شفوقاً عادلاً محباً للعلماء والعلوم والمعارف ولما كانت هذه الواقعة حدثت باستانبول وقصد أربابها مدينة أدرنة للإفساد بها دعيت بواقعة أدرنة.
 
 
وقائع العجم:
 
لما أصيبت الدولة الصفوية بالضعف والانحطاط ومال آخر ملوكها الشاه حسين الصفوي إلى الجور والظلم في حق أهل السنة الخاضعين لحكمه استغاثت القبائل السنية النازلة في جهات القوقاز وشروان بالخلافة الإسلامية وشقت كذلك قبائل الأفغان النازلة بالحدود الشرقية من إيران عصا الطاعة وقام رئيسهم محمود خان ابن الرئيس الأمير أويس عل رأس جيش ودخل مملكة إيران وحاصر أصفهان وفتحها وأسر الشاه حسين1134 هـ .
 
ثم قام الشاه طهماسب ابن الشاه حسين المذكور ببلاد قزوين واستقل بحكومتها إلا أنه لما لم يكن حائزاً لوسائل الملك تمكنت قبائل الأفغان من تثبيت قدمهم في شرقي إيران وانفصلوا عنها فأفل نجم السلطنة الصفوية وعند ذلك أرادت السلطنة العثمانية الاستفادة مما هو حاصل بتلك البلاد وساقت جيوشها ففتحت بلاد كردستان وكرجستان واستولى الوزير حسن باشا والي بغداد وكويريلي زاده عبد الله باشا والي وان على جهات كرمانشاه رودلان وخوي بالسهولة 1135 هـ .
 
فقام بطرس الأكبر عند ذلك يطلب لنفسه نصيباً من ميراث الدولة الصفوية واجتاز بجيوشه جبال القوقاز التي كانت حداً لبلاده من جهة الجنوب واحتل طاغستان وقلاع دربند وباكو الغربية ثم عقد اتفاقاً مع الشاه طهماسب المذكور مآله أن عساكر الروس تطرد الأفغانيين من إيران بشرط أن يتنازل له عن بحر الخزر وكيلان ومازندران واستراباد ولهذا كادت الحروب تقع بين بطرس الأكبر والدولة العثمانية ولما علم أمبراطور الروسية أن ليس في إمكانه مقاومة الجيوش العثمانية إذا انتشب الحرب جعل المسيو دوبوا (DUBOIS) سفير فرانسا في الآستانة واسطة بينه وبين الدولة العثمانية لمنع الخلاف الحاصل فقبل السفير ذلك وبذل همته ومساعيه حتى تمكن من إزالة الخلاف الواقع بين الدولتين وعقدت بينهما معاهدة 1136 هـ .
 
ومن شروطها أن تمتلك الدولة العثمانية ودولة الروسية كل ما احتلته جيوشهما من بلاد العجم وبذلك زال الخلاف إلا أنه بعد وفاة بطرس 1137 هـ وقيام زوجته كاترينة عقدت مع النمسا اتفاقية فالتزمت الدولة أن تقوي حصونها الشرقية التي خصتها من هذه المقاسمة فأمرت قوادها وجنودها بالتقدم تحت قيادة الوزير الأعظم إبراهيم باشا الذي تمكن في ثلاث سنوات من فتح بلاد همذان وروان وتبريز وأردبيل ولوريستان وقره باغ ومراغه وكنجة وأرمية وغيرها قال مؤرخو العثمانيين أن هذه الفتوحات على كثرتها لم تكن موجبة لارتفاع شأن الدولة العثمانية وفخرها بل أحدثت قلاقل ومنازعات أضرت بها كثيراً لأن الإيرانيين لم يقبلوا أن تقسم بلادهم أصلاً ويرموا بالنذالة والجبن كغيرهم من الأمم فقاموا كرجل واحد لرد ما خسروه ومع كل ذلك لم يمكنهم بما اتصفوا به من الشجاعة والإقدام صد العثمانيين ثم استمرت المنازعات حاصلة بين الشاه أشرف الأفغاني والشاه طهماسب السلساني وعقد الشاه أشرف مع الدولة العثمانية معاهدة 1141 هـ قصد بها تقرير حكمه كان من شروطها تنازله عن جميع البلاد التي امتلكها العثمانيون من مملكة إيران نظير اعترافها له بالحكم على مملكة إيران.
 
ثم بعد وفاة الشاه أشرف وانفراد الشاه طهماسب بملك إيران طمع في رد بلاده فتقدم بجيش إلى كرمان شاه 1143 هـ 1720 م وفي هذا الوقت نسب اليكجرية إلى الصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا الإهمال والخيانة فثاروا ورفعوا علم العصيان وقام رجل من الأوجاقلية يدعى باترون خليل مع نحو العشرين من أمثاله ونهب الأسواق وقصد السراي وطلب من السلطان عن لسان الأوجاقات قتل الصدر الأعظم داماد إبراهيم باشا وأعوانه مصل صهره رئيس البحر مصطفى باشا القيودان المدعو قيماق أو أتلمجي وصهره الثاني كتخدا محمد باشا وتمكنوا من دخول السراي وفتكوا بهم وألقوا جئتهم في البحر أما شيخ الإسلام عبد الله أفندي فعزل ونفى ولم تقتصر الفتنة على ذلك بل امتدت حتى خلع السلطان أحمد خان الثالث وجلس ابن أخيه السلطان محمود خان الأول مكانه في 15 ربيع أول سنة 1143هـ وبقي السلطان أحمد معزولاً إلى أن انتقل إلى الدار الآخرة 1149 هـ .
 
وكان من الصالحين محباً للجهاد وإقامة الحق ومن التجديدات المفيدة التي حصلت في أيام السلطان أحمد إنشاء المطبعة لأول مرة بالممالك العثمانية وكان إنشاؤها بمدينة إسكدار وسبب ذلك أن الدولة لما أرسلت جلبي محمد أفندي سفيراً عنها إلى باريس كما تقدّم أخذ معه ولده محمد سعيد أفندي وهو الذي ترقى لمسند الصدارة مدة السلطان عثمان خان الثالث ولما رأى رواج فن الطباعة وكثرة المطبوعات بتلك البلاد مال لنقل المطبعة لبلاده وعند عودته إلى استانبول تكلم مع أحد رجال الدولة المدعو إبراهيم أفندي المجري 1139 هـ ثم نالا إذناً بإيجاد المطبعة بمدينة إسكدار وكان فتحها رسمياً وتعيين بعض العلماء لتصحيح مطبوعاتها سنة 1141 هـ .
 
وأول ما طبع بها من الكتب ترجمة صحاح الجوهري وغيره من كتب التاريخ والأدب فانتشرت بذلك المعارف واستطلعت الأمة وقائع ماضيها فاتسعت أذهانها ومالت إلى الاقتداء بمدينة أوروبا ونبغ بعد ذلك كثير من رجال السياسة والعلم بما وقفوا عليه من أحوال سياسة الدول المعاصرة لهم ولما استحسن الناس المطبعة لما فيها من التسهيلات والمزايا العظيمة في نشر العلوم والمؤلفات النفيسة صدرت الفتوى من شيخ الإسلام عبد الله أفندي اليكيشهري بجواز إيجادها بناء على سؤال وجه إليه ومن التحسينات أيضاً أن التفت الصدر الأعظم داماد إبراهيم باشا لترقية الصنائع الداخلية فأوجد معامل الأقمشة والكاغد وغيرها وأنشأ المدارس والكتبخانات ونظم فرقة مخصوصة لإطفاء الحريق وبنى كثيراً من المنازل والمنتزهات بجهات البوغاز خصوصاً ونبغ في عصر هذا السلطان عدة من مشاهير الشعراء والكتاب.
 
 
أحوال البحرية في العهد المذكور:
 
لما جلس السلطان محمود خان الأول على سرير السلطنة أصدر أمره إلى دار الصناعة بتقوية الدوننما العثمانية وإنشاء سفن جديدة فشيدت ثلاث سفن من نوع الأوج انبارلي وأمر أيضاً بأن يوضع للسفن أسماء تعرف بها السهولة تمييزها عن بعضها وكانت السفن العثمانية لغاية زمن هذا السلطان لا تسمى بأسماء مخصوصة بل تدعى بأسماء قبوداناتها فسمى الغليون الذي تم بناؤه سنة 1162هـ باسم بر بحري والذي تم بناؤه سنة 1161هـ بناصر بحري واستمرت دار الصناعة بعد ذلك تسمى سفنها الحربية بأسماء مخصوصة.
 
وفي مدة حرب العجم الأخيرة تولى رياسة البحرية أربعة قبودانات على التعاقب الأول شهسوارزاده مصطفى باشا ثم خلفه راتب أحمد باشا ثم خلفه صاري مصطفى باشا ثانية ثم خلفه صوغان يمز محمود باشا.
 
وفي سنة 1162هـ ساقت الدولة عمارتها إلى البحر الأبيض المتوسط تحت قيادة صوغان يمز محمود باشا المذكور ولما توفي تعين بدله طررق محمد باشا فقاد الدوننما وحارب سفن القرصان وخلص منهم كثيراً من أسرى الإسلام عندما كانوا يحاولون الالتجاء إلى بلاد إيطاليا ولما عاد بالدوننما إلى استانبول عزل وخلفه ملك محمد باشا فسافر بالدوننما إلى البحر الأبيض مرتين.
 
وفي سنة 1164هـ قامت الأكراد على بعضهم ولكن بالحكمة التي استعملتها رجال الدولة سكنت الفتنة وعادت الطمأنينة بينهم ثم بعد ذلك حصل اختلاف بين أشراف مكة وهو أنه لما ولي محمدبن عبدالله بن سعيد الإمارة بعد أبيه المتوفى اختلف مع عمه مسعود 1145هـ وقامت بينهما حروب يطول شرحها وبعد أن تم الصلح بينهما 1151هـ بتوسط الأشراف عاد الخلاف إلى ما كان وعرضت الشكوى على الدولة فأصلحت بينهما.
 
واعلم أن معاهدة اكس لاشابيل فتحت لأوروبا عصر صلاح ورفاهية وانتشرت التجارة واتسع نطاقها وساد السلام في أوروبا حتى صار من الإمكان الظن بدوام هذا الصلح إلى الأبد وقد أثرت هذه الحالة السلمية بالممالك العثمانية أيضاً فاستفادت منها حيث اهتم السلطان ووزراؤه في إيجاد ما به الراحة العمومية وأسباب العمران وقد بقيت الحالة على ذلك مدة نحو تسع .
 
 
وفاته:
 
وبينما كان السلطان عائداً من صلاة الجمعة على جواده مات فجأة عند دخوله في باب السراي 1168هـ. .
 
وكان يتصف بالثبات في الأعمال والأقوال وسلطنته التي استمرت نحو 1168هـ سنة معدودة في تاريخ العثمانيين من أجل الأيام وأبهى العصور ومن كثرة تردد سفرائه على مدينة باريس ومن مكالماتهم ومحادثاتهم الكثيرة مع السفراء المقيمين بالآستانة اكتسب رجال الدولة معلومات سياسية مهمة حتى إن بعضهم لما قال مسند الصدارة العظمى كان على علم تام ومعرفة جيدة بالأحوال السياسية العمومية ولذلك عد مؤرخو العثمانيين عصره أفخر عصر ترقت فيه المعارف السياسية لدى العثمانيين.
 
ولما كانت أفكار هذا السلطان تميل لنشر المعارف والمدنية أنشأ بالآستانة فقط أربع كتبخانات وجعل بكل واحدة منها دروساً عمومية وكان مرعى الخاطر معظماً لدى معاصريه من الملوك وفي عصره اشتهر الحاج بشير أغا أغا دار السعادة وزاد نفوذه ولما كان من العقلاء وأصحاب الرأي والتدبير اتخذه السلطان مستشاراً خاصاً وخلفه في السلطنة أخوه السلطان عثمان خان.