الدولة العثمانية : السلطان مراد الخامس

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


السلطان مراد خان الخامس ابن السلطان عبد المجيد 1293 هـ 
 
لما تمت مبايعة السلطان مرادخان الخامس كما تقدّم أظهرت الأمة العثمانية انشراحها وسرورها واحتفلت بإقامة الزينات في دار الخلافة ثلاث ليال وأعلن الباب العالي الحكومة الخديوية وسائر الإمارات الممتازة تلغرافياً بجلوس السلطان مرادخان الوارث الشرعي لكرسي الخلافة وفي اليوم العاشر من الشهر كتب المرحوم السلطان عبد العزيز خان مكتوباً إلى السلطان مراد به كثيراً من الأقوال الحكيمة ينفي عنه ما أشاعوه عنه من إصابته بالاختلال العقلي.
 
وكانت الأحوال مضطربة والجرائد تكتب المقالات الطويلة طالبة تشكيل مجلس شورى من نواب تنتخبهم الأمة وسن قانون أساسي للدولة ولما خافت الحكومة سوء العاقبة أصدرت إدارة المطبوعات إلى عموم الجرائد أمراً بمنع الكلام في هذا الخصوص فانساءت الأمة من ذلك وبعد خمسة أيام من هذا الأمر صدر خط هما يوني في 16 جمادى الأولى إلى الصدر الأعظم محمد رشدي باشا ببقائه وهو سائر الوزراء في مناصبهم وكان يحتوي على مبادىء الشورى التي يقصد جلالتها إدخالها لإصلاح كافة الإدارات.
 
 
ثورة الصرب والجبل الأسود:
 
لما جلس السلطان مرادخان على سرير الخلافة كانت الثورة بولاتي بوسنه وهرسك لا تزال مشتعلة وكذا الحال ببلاد البلغار وكان رجال الثورة الذين اجتمعوا في فلبه وطرنوه وصعدوا إلى جبال البلقان لتهيج أهاليها وأخذوا في مقاتلة العساكر الشاهانية والفتك بالأهالي الإسلامية القاطنين بتلك البلاد والأطراف.
 
وقد اهتمت الدولة بمنع هذا العصيان وأصدر السلطان عفواً عاماً عقب جلوسه عن العصاة وكتبت النصائح اللازمة ونشرت على البلغارين وأخذت الدولة أيضاً في التجهيزات العسكرية لظلام أفق السياسة وطلبت كثيراً من عساكر الرديف من بر الأناضول وساقتهم إلى تلك الأطراف ولما كانت دسائس الروس لا تزال تروّج الثورات بتلك النواحي شقت إمارتا الصرب والجبل الأسود عصا الطاعة أيضاً فاتسع الخرق على الدولة وتعدّدت مشاكلها وزادت جروحها خطراً حتى اضطرت لأخذ الاحتياطات الشديدة وطلبت مدداً من المرحوم إسماعيل باشا خيدو مصر فأنجدها سريعاً بقوّة مؤلفة من ثلاثة ألايات من المشاة وبطاريتين من المدافع وكان يقود هذه القوّة الفريق راشد حسني باشا ومن قوّادها العظام إسماعيل كامل باشا وسافرت على خمسة وابورات مصرية تحت ملاحظة محمد كامل باشا قومندان وأبور المحروسة ووصلت هذه القوّة إلى سلانيك في شهر رجب من سنة 1293هـ.
 
ثم سافرت من طريق إسكوب الحديدي إلى جهات يكي بازار وذهبت من هناك والتحقت بالجيوش العثمانية النازلة بحدود بلاد الصرب وأرسل الخديو أيضاً كثيراً من الأسلحة والمعدّات الحربية لتوزيعها على الجنود العثمانية وبعث ثلاثة وابورات للمساعدة في نقل الجيوش العثمانية ثم عمت الثورة أنحاء تلك الإمارات وسرت إلى ولاية الروم إيلي وتقاتل الطرفان وانتصر عثمان باشا بقرب قصبة إيجار على الصرب انتصاراً باهراً ثم سار سليمان باشا من جهة شهركوي وحافظ باشا من جهة بلا نقه.
 
وبعد أن تقابلاها جما الصربيين فهزماهم هزيمة هائلة حتى اضطروا لترك حصونهم والالتجاء إلى داخل البلاد وأرسل أيضاً السر عسكر عبد الكريم نادر باشا من نيش فرقة عسكرية تحت قيادة أحمد أيوب باشا فكسر الصربيين في مضيق غراماده واستولى على ما معهم من المدافع ثم تقابل أحمد أيوب باشا بسليمان باشا وتقدّما وكسرا قوّة للصربيين في مضيق بانديرو ثم تقدّم على صاب باشا إلى مدينة الكسناج فانتصر على الصربيين بجوارها ثم انضم إليه أحمد أيوب باشا بفرقته وحاصراها إلا أن العثمانيين لم يستولوا عليها إلا في عهد مولانا السلطان الأعظم عبد الحميدخان.
 
وفي تلك الأثناء أيضاً كان محمد علي باشا منتصراً بالجيوش المصرية بجهات يكي بازار واستولى على قلاع ياوور وبهذه الانتصارات المتقدّمة انقطع أمل الصربيين وداخلهم اليأس وفي خلال ذلك أيضاً انتصر أحمد حمدي باشا بفرقته على ثوار الجبل الأسود في جهتي قوج وصلاجق إيزلا تحبه وانتصر سليم باشا بفرقته عليهم في الجهة الواقعة بني نواسين وغاجقة وتقدّم أحمد مختار باشا بقوّة كبيرة عليهم أيضاً من جهة نواسين.
 
وبعد أن بدّد شملهم استولى على استحكاماتهم التي أنشؤها بتلك الجهات المستحكمة استحكاماً طبيعياً ثم تقدّمت عساكره حتى وصلت إلى محل يدعى بيلك ولما تقدّم عثمان باشا وسليم باشا بفرقتيهما احتاط بهما الجبليون من كل صوب وتغلبوا على القائدين العثمانيين وكسروهما وقتل سليم باشا والتزم عثمان باشا أن يسلم فأخذوه أسيراً وعاملوه بالحسنى مدة أسره ثم تقدّموا لمصادمة قوّة أحمد مختار باشا ولكنه قاومهم وكسرهم في جملة وقائع ولما رأى زيادة قوّتهم وتجمعهم عليه طلب من جنود بوسنه قوّة فأرسلوا له ستة عشر طابوراً.
 
ولما وصلت إليه أخذ يهاجم الثوار ويضايقهم في جهات فريج وفخور وترمبين ثم أرسلت الدولة جيشاً آخر من الآستانة وبر الشام على البواخر تحت قيادة محمود باشا فنزل في فرضة بار إلا أنه هزم واضطرّ لأن يرجع متقهقر إلى أشقودره وسبب ذلك وعورة تلك الأطراف وعدم محاربة الجبلين محاربة منتظمة وكان الروس لا ينفكون عن إرسال الأسلحة والذخائر إلى الصربيين والجليين ويرسلون إليهما أيضاً متطوّعين من الجيش الروسي وغيره لقيادة الثوّار كل ذلك بمساعي جمعيات الصقالبة بأوروبها ومع هذا فإن ما بذله العثمانيون من الهمة والنشاط وكبح الثوّار أدهش الروس.
 
 
مرض السلطان مراد وخلعه: 
 
اعلم أنه لما أجمع القوم على خلع المرحوم السلطان عبد العزيز خان وتولية السلطان مراد وذهب حسين عوني باشا إلى حيث يقيم السطان مراد وإعلامه بذلك وإحضاره إلى باب السر عسكرية وكان ذلك بعد منتصف الليل اعترص السلطان دهشة وفزع لأنه لم يكن يعلم شيئاً من ذلك كما تقدّم وقد ازداد معه هذا الأمر بما حدث بعد من الحوادث وظهرت عليه علامات الاضطراب حتى أنه لما بلغه خبر قتل حسن الجركسي للسر عسكر وناظر الخارجية وغيرهما وقت تناوله الطعام ازداد اضطراباً وتغيرا فترك الطعام وقام فأغمى عليه وتقايأ وصار بعدها لا يميز الوزراء من بعضهم.
 
ومع ذلك كان الصدر الأعظم رشدي باشا يجتهد في إخفاء هذا الأمر عن العموم في أوّله واستمرّ يسير المصالح السياسية والإدارية بهمة عظيمة إلا أن امتناع السلطان عن حضور الاحتفالات الرسمية وتقلد السيف حسب المتبع وعدم مقابلته للسفراء لتقديم أوراقهم الرسمية ببقائهم في مراكزهم كالمعتاد ومضى على ذلك أكثر من شهرين أدخل الريب عند الأمة وذاع خبر مرض السلطان.
 
ولما اشتدّ الأمر به أبلغ ناظر الخارجية جميع السفراء بالحالة وأخبرهم أيضاً بلزوم خلع السطان ثم إن الوزراء استدعوا الدكتور وليد روزف النمساوي رئيس مستشفى ويانه الشهير في الأمراض العقلية وطلبوا منه اختبار حالة السلطان وبعد أن لازمه جملة أيام وتأمل في حركاته وأحواله واستعلم عن كيفية معيشيته في أيامه الماضية كتب تقريراً ذكر فيه أن مرضه هذا كان مقروناً بالخطر وقد بذل الجهد في معالجته وأوسى باستنشاقه نسيم البحر فصاروا يخرجونه في يخته المخصوص إلى البوغار يومياً.
 
إلا أن المرض كان يأخذ في الاشتداد حتى ظهرت عليه علامات غريبة توجب الحزن من ذلك أنه أراد مرة أن يلقي بنفسه من إحدى النوافذ وأخيراً تشاور الوزراء ثم عرضوا الأمر على أخيه الأمير عبدالحميد أفندي وأن يستلم مقاليد الدولة فنصحهم بالتأني وعدم التسرع في الأمور ولما كان بعض الدول المتحابة يلح بإجلاس سلطان جديد ليتيسر للدولة متابعة الإصلاحات تعينت لجنة من الأطباء للنظر في حالة السلطان مراد ولما نظره الأطباء قرروا بإصابته بداء عضال لا يرجى شفاؤه.
 
ولما كانت مصالح السلطنة تحتاج إلى من ينظر في شؤنها اجتمع الوزراء واستقرّ رأيهم في المجلس المنعقد يوم الأربعاء العاشر من شعبان سنة 1293هـ - 30 أغسطس 1876م على مبايعة أخيه مولانا السلطان الحالي عبد الحميد خان وأرسلوا إلى والدة السلطان مراد يبلغوها مع الأسف الشديد ما استقرّ عليه رأي الوكلاء والوزراء فأرسلت إلى الصدر الأعظم رقيماً أظهرت فيه قبولها لما استصوبوه ثم اجتمع الوزراء وتذاكروا في الأمر بعد أن استفتحوا شيخ الإسلام دولتا وخير الله أفندي فأفتى بالجواز وعلى ذلك تقرر وجوب مبايعة سيدنا ومولانا السلطان عبد الحميد خان الثاني .