الدولة العثمانية : السلطان محمد الرابع

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


السلطان محمد خان الرابع ابن السلطان إبراهيم خان 1058 - 1099 هـ
 
تولى هذا السلطان وعمره سبع سنوات وكان أكبر إخوته ولما تقلد السيف وأقيمت له الرسوم المعتادة وصرفت للجنود ما جرت به العادة من الأموال أخذ ينظر في الأعمال بمساعدة وزرائه فقتله عدّة من رؤساء الفتن مثل جنجي خواجه وأضرابه وقد صودرت أموال هذا الرجل فبلغت ألفي ألف من الذهب وكانت الأحوال مختلة لقيام الجنود بالإفساد في كل جهة وخلعهم طاعة أولياء أمورهم وقتل الصدر الأعظم صوفي محمد باشا من الجنود الثائرة نحو ثلاثمائة ومع ذلك فلم يرتدعوا ثم عزله السلطان وسلم خاتم الصدارة إلى قره مراد أغا اليكجرية فجمع هذا هيئة جديدة من ضباط اليكجرية واشترك معهم في إدارة شؤون الدولة ولما ظهر له أنه لا يمكنه إدارة الأمور استعفى وتولى ولاية بودين ووجهت الصدارة إلى ملك أحمد باشا 1060هـ .
 
ومع تعاقب عزل وتنصيب الصدور ولم تحصل فائدة بل كانت الثورات متوالية تارة من اليكجرية وتارة من السياهية وطوراً من الأهالي وقد تداخلت جدّة السلطان المسماة ماهييكر في إدارة الدولة وكانت هذه السيدة من أفاضل النساء عقلاً وتدبيراً وكانت رأت حكم أربعة من السلاطين فاكتسبت عقلاً وتجربة وقد أعانت كثيراً على إصلاح الأحوال ثم سعوا في حقها حتى قتلوها وقتل معها كثير من ضباط اليكجرية والكبراء وأحيلت مشيخة الإسلام إلى شيخ الإسلام الأسبق أبي سعيد أفندي ثم عزل الصدر الأعظم وتولى بعده كورجي محمد باشا ولم يلبث أياماً حتى خلفه طرخونجي أحمد باشا 1062هـ .
 
 
أحوال البحرية في المدة المذكورة:
 
اعلم أنه بما كانت عليه الدولة في هذه المدّة من الاختلال وفساد الإدارة والأحكام انتهزم البنادقة فرصة ذلك وأرسلوا عمارة لتهديد مضيق الدردنيل ولما أتت هذه العمارة حصل بينها وبين العثمانيين عدّة وقائع يأتي ذكرها ولما رأت الدولة أن سفن البنادقة قوية وجسيمة وأن معظم سفنها هي صغيرة أصدرت الأوامر مدة صدارة صوفي محمد باشا إلى دار الصناعة بالمبادرة فيبناء وتشييد سفن كبيرة من نوع الغليون لتكون العمارة على الدرجة الكافية من القوّة فشرعت دور الصناعة في العمل وأرسلت الدولة أيضاً مبلغاً من المال لاوجاقات ولايات المغرب لتجهيز أساطيلها وإحضارها في فصل الربيع لإتمام فتح كريد ثم في سنة 1058هـ 1648م أقلعت العمارة العثمانية قاصدة جزيرة كريد تحت قيادة القبودان وينق أحمد باشا وكانت مؤلفة من ستة غلايين وخمسة وستين غراباً ومعها ما يلزم من الذخائر والأدوات.
 
ولما وصل خبر قيامها لعمارة البنادقة أقبلت سريعاً إلى بوغاز الدردنيل ورست بقرب المكان المدعو كفز الكائن بالبوغاز فالتقت بها الدوننما العثمانية المذكورة حين خروجها وحصلت بينهما محاربة قوية تمكنت الدوننما العثمانية في آخرها من الخروج إلى البحر الأبيض المتوسط ثم تقابلت العمارتان ثانية ولما صارتا بالقرب من بعضهما أخذتا في إطلاق المدافع مدّة على غير طائل ثم انسحبت عمارة البنادقة إلى جهة أيمروز (IMBROS) أما الدوننما العثمانية فإنها رست تحت قلعة فوجه (FOGGIA-NOVA) وفي صباح اليوم التالي حملت عمارة البنادقة على العمارة الثعمانية بغتة فقابلها القبودان العام ببعض سفنه وانتشب بينهما الحرب ثم حملت إحدى سفن العدوّ على سفينته ولكن العساكر صدتها ودخلت إلى سفينة العدوّ تقتل جنودها وبينما هي تجاهد في ذ لك إذ أشعل أحد ملاحي سفينة البنادقة النار في مخزن البارود فتكسر غليون العدوّ وطار قطعاً في الهواء وأثر ذلك على السفينة العثمانية التي كان خلف سفينة القبودان باشا فغرقت.
 
 
محاربة نقشة البحرية:
 
لما تم تسليح الدوننما وتجهيزها أقلعت من استانبول ثم عبرت مضيق جزيرة ساقز (CHIOS) حيث التحق بها سفن البكوات ثم قامت بجميع ملحقاتها قاصدة جزيرة كريد وبمرورها على جزيرة نقشة (NAXIA) تلاقت مع دوننما العدوّ في الممر الواقع بين جزيرة دكر منلك (MILO) وجزيرة بوليقاورو (POLICANDRO) وكانت مركبة من ستين غليوناً ثم وقع الحرب بين الطرفين وامتد من الصباح إلى المساء وكان قاصراً على إطلاق المدافع من الجانبين بشدة بحيث أضر بالطرفين ولما أقبل المساء انسحب حسام بك زاده علي باشا ودخل في ليمان نقشة وأمضى الليل هناك يصلح ما لحقه التلف من سفنه وأخذ المياه العذبة اللازمة وفي الصباح خرج بالعمارة وكان خروجه بهيئة غير منتظمة فقابلته دوننما العدوّ بإطلاق المدافع واشتبك القتال بينهما ثانياً.
 
ثم قسم القبودان باشا العمارة إلى قسمين وضع الأول تحت قومندانية كتخدا الترسانة وقاد الثاني بنفسه ثم هاجم العدوّ من الجانبين واشتد الحرب بينهما وتقاربت السفن من بعضها إلا أن الملاحين الذين كانوا بسفن العثمانيين لم يكونوا يشبهون من كان منهم مع خير الدين باشا بارباروس أو مع يياله باشا المشهور بل كانوا من المتشردين الإغمار الذين لم يخوضوا بحار المعامع ويتدربوا على أعمال الوقائع فلهذا لما هجم القبودان على الأعداء لم يجد بجانبه سوى عشر سفن فقط وتأخر الباقي إلى الخلف تاركين القبودان وسط النيران أما فرقة كتخدا دار الصناعة فإنها لم تتجاسر بالكلية على الهجوم بل ولت الإدبار وعند ذلك ارتبك القبودان في أمره وضاع رشده فتقدم أحد القواد المدعو بوصله جي أوغلو وتوسط النيران وربط سفينة القبودان بسفينته وأخرجها سالمة أما سفن كتخدا دار الصناعة الجبان وباقي سفن اليكجرية التي هربت فإنها بقيت تتفرج من بعيد على القتال.
 
فتكدر القبودان باشا من هذه الحالة كدراً لا مزيد عليه وكتب في الحال الأوامر الأكيدة إلى قواد السفن يأمرهم بالعودة إلى قتال العدوّ ويخوفهم عاقبة الامتناع ولما شاهد اليكجرية الزوارق قابلة تحمل الأوامر وعلموا مقتضياتها بداهة ملؤوا بنادقهم ووجهوها نحو حملة تلك الأوامر قائلين إن ليس منهم من يخاطر بنفسه إلى هذه الدرجة ويلقيها في الهلاك وبذلك لم يمكن تبليغ تلك الأوامر لأربابها.
 
وقد نشأ عن هذه الحالة التعيسة تعطيل سفن الجبجية وبعض الغلايين عن الحركة لما أصابها من التلف واحترق الغليون الكبير الذي كان بناه الوزير الأعظم وغليون آخر مشحون بالعساكر ولم يقبل البكوات أيضاً الهجوم على الأعداء ثم هجم الأعداء على سفن المعطلة وقتلوا جميع من بها واستولوا عليها وما زال أحمد باشا بكلر بك الرومللي المذكورة يقاتل الأعداء بغليون واحد فقط إلى أن قتل في الواقعة واستولى الأعداء على غليونه بمن فيه وقصد سفينتان من سفن اليكجرية البر وخرج من بهما فأحرقهما الأعداء وقبضوا على غالب من كان بهما وقتلوهم عن آخرهم.
 
ولما رأى القبودان باشا أن لا فائدة في البقاء أخذ ما بقي من السفن وفرّ إلى جزيرة رودس والتحق به هناك باقي السفن التي كانت تفرّقت عنه ثم عقد مجلساً حربياً بسفينته لمحاكمة كل من تمرد أو أخطأ أو قصر في واجباته من العمال وفرض على كل ما يناسبه من العقاب وكان منهم كتخدا الترسانة المذكور الذي كان تولى رياسة أحد قسمي الأساطيل كما سبق وكان الحكم عليه بالتجريد من الدرجات وحلق لحيته وكان هذا الأمر في الوقت المذكور من الإهانات العظيمة وجعله مع طائفة الفورسة التي تعمل بالمقاذيف ثم بعث تقريراً مفصلاً عن ذلك كله إلى استانبول وتعين قورد جلبي كتخدا للترسانة مكانه ثم أقلعت الدوننما من رودس إلى كريد لتسليم ما بها من الأرزاق والذخائر إلى سردار الجيوش ثم عادت إلى الآستانة.
 
 
واقعة بشيكة الشهيرة:
 
اعلم إنه في 21جمادى الآخرة من سنة 1064هـ 1654 م صدر مرسوم سلطاني للقبودان مراد باشا بأن يتوجه بالدوننما إلى كريد ولما أراد العبور من بوغاز الدردنيل وجد في ساحل خليج بشيكة (BESHIKA) عمارة البنادقة وكانت مركبة من 26غليوناً فتربص القبودان في البوغاز إلى أن وصلته أربعة غلايين تونسية وسفن البكوات وبعد أن انضمت إلى أساطيله واستعرضها عزم على الهجوم على عمارة الأعداء وعباها على الكيفية الآتية فجعل الغلايين الحاملة لعساكر الأيالات وسفن البكوات في الجناح الأيمن وجعل غلايين طرابلس الغرب وغلايين الدولة العثمانية في الجناح الأيسر وجعل المواعين والأغربة التي بها اليكجرية في القلب.
 
ثم تقدم بالجميع هاجماً على سفن البنادقة الذين لم تحصل منهم أدنى حركة حربية ارتكاناً على ما نالوه قبل ذلك من الانتصارات العديدة على أساطيل العثمانيين ولم يشعروا إلا والمراكب العثمانية محدقة بهم من كل صوب والتصقت بسفنهم فاعترتهم الحيرة والاندهاش الكلي وحمل غليون أمين قبودان القاسم باشا على أحد غلايين البنادقة فضبطه من أوّل هجمة وضبط غزاة طرابلس الضرب غليوناً آخر من العدوّ وهجمت إحدى المواعين على غليون ثالث ولما كادت تستولي عليه أشعل جنوده النيران في مخزن بارودة فتفرقع ووقع معظم عساكره في البحر فالتقط جنود العثمانيين من منهم على قيد الحياة وأسروه واشتعلت النيران بغليون رابع وقبض العساكر العثمانية الذين كانوا تحت قيادة محمد قبودان الإسكندري على غليون خامس ولما صعدوا فيه أشعل أحد طائفته النار بباروده فطار مع مركب محمد قبودان الإسكندري المذكور لأنه كان ملاصقاً له والتقط العثمانيون من كان على قيد الحياة من جنودهما.
 
وقبض العثمانيون أيضاً على ثلاثة غلايين أخرى وعند ذلك نشر أميرال البنادقة قلوعه وكانت الريح تهب بشدّة والتجأ إلى الفرار وتبعه بقية السفن إلى جزيرة إيمروز وكانت خسارة البنادقة ثمانية غلايين بمن فيها غنم العثمانيون خمسة منها واحترق ثلاثة وكان بالسفن التي غنمها العثمانيون ثمانمائة أسير منهم ابن الجنرال نيقو وكاتب سره وكان الجنرال قتل في الحرب.
 
ثم إن الدوننما العثمانية انتقلت أمام بوغجه أطه في ليمان بو يراز وهناك دفن العثمانيون موتاهم ثم بعث القبودان الكتخدا قره كوز محمد أفندي إلى استانبول لإخبار الدولة بذلك رسمياً وطلب ما يحتاجه من ذخائر وجنود وأدوات ولما بلغ هذا الرسول رسالته أنعم عليه السلطان وأمر بالإسراع في إنجاز مطلوبه وبعد أن وصل إلى العمارة ما يلزمها أقلعت قاصدة جزيرة ساقز وهناك انضم إليها أحد عشر غليوناً من أسطول طرابلس الغرب ثم سافرت إلى جهة أغريبوز ثم وصل إلى الحكومة العثمانية خير حاصله أنه لما بلغ جمهورية البنادقة انهزام عمارتها كما سبق أرسلت إليها 18غالياً و 28غليوناً لتقويتها وأنها حضرت إلى جزائر الأرخبيل أما العثمانيون فإنهم ذهبوا إلى جزيرة استنديل وكانت بيد البنادقة وأخرجوا فيها فرقة من جنودهم فعاثوا بالجزيرة ثلاثة أيام ثم عادوا غانمين إلى سفنهم.
 
ولما بلغ القبودان باشا أن دوننما البنادقة بجزيرة دكر منلك (MILO) أقلع إليها وهاجمها ثاني يوم وصوله قرب كوجك دكر منلك (ANTI-MILO) وكانت سفن العدوّ على غاية ما يكون من الاحتراز من مهاجمة العثمانيين لها ولهذا استمر الترامي بالمدافع بينهما من بعيد ولاشتداد الريح ومخالفته لم تتمكن الأساطيل العثمانية من القرب من سفن العدو ولهذابقيت طول النهار ترمي بالمدافع ولما أسبل الليل سدوله انفصل الدوننمنان عن بعضهما وعاد القبودان باشا إلى ساقز وترك الغلايين والسفن الجسيمة في جهة فوجه وخصص خمسين غليوناً تسير حول سواحل الرومللي ثم ذهبت تلك الغلايين إلى جزيرة أغريبوز واستمرت في جهات الأرخبيل مدة لم تصادف دوننما العدوّ ولا سفن القرصان أما القبودان باشا فإنه ذهب إلى كريد حيث تلاقى مع السردار العثماني.
 
ثم مر بجزيرة رودس ثم قصد أزمير وبعد أن أمضى بها عيد الفطر رخص لأمراء أساطيل الغرب وللبكوات بالعودة إلى بلادهم وعاد هو إلى دار الخلافة ومعه الغنائم والأسرى فرحب به السلطان وأنعم عليه والتمس من السلطان إبقاء طواقم السفن وعساكرها على ما هي عليه حيث كان المعتاد أن يوزعوها في فصل الشتاء فأجيب طلبه ونتج عن ذلك تحسينات مهمة في العمارةواكتسب ملاحوها وعساكرها مهارة تذكر.
 
 
محاربة كفز البحرية: 
 
لما علمت الدولة بحضور دوننما البنادقة إلى جهات البوغز أمرت القبودان مصطفى باشا الأرنؤدي بالخروج بالدوننما وكان تولى رياسة البحرية بعد مراد باشا فخرج في أوائل شعبان من سنة 1065هـ 1655 م فوجد عمارة البنادقة أمام كفز فأراد مهاجمة الغلايين الأمامية منها إلا أن سكون الريح لم يمكن غلايينه من الحركة بالأشرعة وساقها التيار قسراً إلى ساحل الرومللي فاشتبك بين الطرفين الحرب بالمدافع من وقت الزوال إلى الغروب وكانت أتلاف الطرفين كثيرة حتى تغطي سطح البحر بقطع السفن وقد أظهر كثير من العثمانيين في هذه الواقعة تجلداً وصبراً جديراً بالذكر وأغرق العثمانيون للبنادقة غليونين وفقد العثمانيون تسع سفن ثم أخذ القبودان الدوننما وذهب إلى ساقز وذهب البنادقة إلى جزيرة دكر منلك ولما بلغ القبودان باشا أن البنادقة حاصروا جزيرة نقشة للاستيلاء عليها قصدها بعمارته فهرب العدوّ وخاف لقاءه وقد عد المؤرّخون هذه الجسارة للقبودان تعويضاً لخسائره التي فقدها ف ي الواقعة السالفة.
 
 
ثورة أبازة حسن باشا 1068هـ:
 
بينما كانت الدولة مشتغلة بحرب البنادقة لطردهم من بوغاز الدردنيل كما سبق قام أبازه حسن باشا وأصله من أبناء السياهي بثورة عظيمة بجهات الأناضول والتف عليه نحو خمسة عشر من الباشوات المعزولين وغيرهم وجملة من عساكر السياهي الذين فروا من عقاب الوزير الشهير كويرلي محمد باشا وطلب هذا الخارج من الدولة عزل الوزير المذكور من الصدارة ومعاقبته وتوجيهها إلى طيار زاده أحمد باشا وكان من حزبه ثم أخذت شيعة هؤلاء الأشقياء تتزايد يوماً عن يوم حتى ارتعب الوزراء والسلطان منهم ثم جهز السلطان عليهم جيشاً جعل عليه مرتضى باشا والى ديار بكر وطلب الصدر الأعظم وكان ببلاد الأردل إلى أدرنة للمفاوضة معه ثم انضم كنعان باشا والي بروسة للثائرين ثم تقدّمت الجنود وكسرت الثوار وأرجعتهم إلى قونية بعد أن خسروا خسائر عظيمة.
 
وتتابعت الفتاوى الشرعية من جانب شيخ الإسلام للثوار بالنصائح المؤثرة فترك كثير منهم طريق الشقاوة والتجؤا إلى الجيش السلطاني فضعف أمر الثوار جدّاً حتى التزم أبازه حسن باشا بالتسليم إلى مرتضى باشا بمدينة حلب بعد أن أمنه على نفسه وعلى جميع أتباعه إلا أنه لم يوف له بالعهد بل قتله هو ورؤساء الثورة 1096هـ ثم أتى السلطان إلى بروسة وعين إسماعيل باشا النائب عنه بإسلامبول قائداً عاماً على الأناضول لقطع دابر ما بقي من أشقياء الجلالية فتمكن من ذلك.
 
 
وقائع حدود الدولة الشمالية:
 
اعلم إنه في هذه الفترة 1069هـ كانت نيران الحرب مشتعلة بين ملك يولونيا ميخائيل وشارل غوستاف ملك السويد الذي طلب من الدولة أن تتحد معه على محاربة ويلونيا وإدخالها تحت حماية السلطان بالفعل فلم يقبل السلطان ذلك ثم لما بلغ السلطان آن راكوكسي أمير ترانسلفانيا الأول أمير الإفلاق اتحدا مع ملك السويد على محاربة يولونيا أمر بعزلهما وعين مخنة بك (MIHNE) الرومي الأصل أميراً على الإفلاق إلا أن راكوكسي لم يمتثل للأمر وقابله بالعصيان واستظهر على جيش للعثمانيين بالقرب من ليا (LIPPA).

ثم تعين القبودان كوسه على باشا سر عسكراً على الجيوش فتقدم بها وقهر أمير الأردل المذكور مع ابن راكوكسي وكان من المتفقين معه وعين بارقجاي أقوشي (أشانيوس بركسي) قرالا على الأردل وخرب مدينة ترغو ويشتة التي كانت لذلك العهد دار إمارة الإفلاق وشيد نحو عشرين بلدة أخرى ولما كانت هذه الوقائع التي جرت بالمملكتين والأردل حصلت في حدود المجر وتولد منها بعض مضايقات لحكومة النمسا طلبت على يد سفيرها باستانبول تسويتها فلم يقبل منه بل تقدم السر عسكر كوسة علي باشا المذكور واسترد قلعة وارات (GROSSWARDEIN) وكانت استولت عليها النمسا من الدولة من مدة 1071هـ .

وبعد سنة من ذلك عينت الدولة أبافي ميخائيل قرالا على الأردل وكان من أمرائها وهو آخر قرال نصبته الدولة بمعرفتها على تلك البلاد وقد استمر جالساً على تختها مدة عشرين سنة وبعد محاصرة ويانة خلفه ابنه وفي تلك الأثناء قبضت الدولة على بعض أوراق استدلت منها على أن دولة فرانسا تداخلت سراً المساعدة البنادقة للدفاع عن جزيرة كريد وأمدتها بالسلاح وكانت تلك الأوراق مرسلة إلى المسيو دي لاهي سفيرها باستانبول فوقعت في يد الصدر كويرلي محمد باشا 1070هـ فقبضت الدولة على ابن سفير فرانسا لمخالفة وقعت منه وألقته بالسجن مدة سنة من الزمان.

ثم توفي كويرلي محمد باشا بمدينة أدرنة في 6ربيع أول سنة 1072هـ وسنه 80 سنة ولقد كان من أمهر رجال السياسة وأصدقهم وأصحهم نظراً وعقلاً خدم الدولة خدامات جليلة وتمكن من طرد البنادقة من اليوغاز وجدد به القلاع وأصلح أمور الداخلية وحارب الحروب الطويلة ولما مات ولى السلطان ابنه فاضل أحمد باشا مكانه وسنه عشرون سنة وكان والده أوصاه بما يلزم ورسم له خطة السير وكان هذا الوزير كأبيه ذكاء ومهارة سلك مسكله بناء على وصيته.
 
 
محاربات النمسا وفتح أيوار وواقعة سان غوتار:

قد كانت النمسا لما تجاوزت حدودها وتداخلت في أحوال بلاد ترانسلفانيا ولت عليها من قبلها أميراً يدعى كميانوس (KOMENY) بعد أن ولت الدولة عليها ميخائيل أبافي فتقدّم السر عسكر كوسة علي باشا وهزم كميانوس وقتله وأخرج جيوش النمسا من داخلية الأيالة المذكورة وطلب من الدولة تكليف النمسا بهدم قلعة زه رينوار التي شيدها الأمبراطور ليو يولد الثاني وأن لا تقبل مقترحات دولة النمسا وجمهورية البنادقة في أمر الصلح ولما توقفت النمسا أعلنت عليها الدولة الحرب.
 
وأخذت في سنة 1073 هـ 1662م تسير عليها الجيوش وأتى السلطان أدرنة وقلد الصدر الأعظم أحمد باشا وظيفة القيادة العامة وسيره على رأس جيش يبلغ 120000جندي فتقدم به على طريق أوسك وبودين وأسترغون حتى وصل إلى قلعة أيوار (NOUHENSEL) وضرب عليها الحصار وكان العثمانيون فتحوا هذه القلعة سابقاً سنة 1012هـ ثم عادت للنمسا وبينما العثمانيون يحاصرون المدينة المذكورة أتتهم نجدة عظيمة تحت قيادة ابن خان القريم أحمد كراي تبلغ ألف جندي ونحو عشرين ألفاً من القوزاق وبعد ما شددوا الحصار على القلعة شهراً كاملاً التزمت بالتسليم فدخلها الوزير فاتحاً 1074هـ .

ثم بعد ذلك أقام على نهر الطونة جسراً من جهة أسترغون وعبر بالجيوش وتلاقي مع جيش النمساويين الذي كان أتى لقتاله تحت قيادة الجنرال مونتيكوكولي (MONTECUCULLI) وهزمه وأسر منه ثمانين ألف أسير وغنم غنائم لا تحصى فاندهش لهذه الأخبار أمبراطور النمسا حيث رأى جيوش العثمانيين انتشرت في بلاده بإقليمي مورا فيا وسيليزبا وفتحوا نويغراد (NOVIGRAD) وأطرافها.

وكان اندهاشه هذه المرة عظيماً أكثر مما اندهش منه أسلافه من قبل مدة السلطان سليمان القانوني الذي وطئ بلادهم المرار العديدة وذلك لأنه كان يظن أن قوّة العثمانيين قد انحطت في أوروبا لما اعترى دولتهم من الفتن والاختلالات الداخلية منذ نصف القرن الماضي أي منذ معاهدة زيدوه توروك السابق ذكرها ولما خاف الأمبراطور من تقدم العثمانيين واستيلائهم على أوروبا طلب من البابا إسكندر وساطته في دعوة لويز الرابع عشر ملك فرانسا لينضم إليه ويحاربا العثمانيين معاً فأسرع البابا في الوساطة ودعا ملك فرانسا الذي لبى الدعوة وأرسل قوّة عسكرية تحت قيادة الكونت دي كوليني (COLIGNY).
 
وفي خلال ذلك عاد الصدر الأعظم إلى مشتى بلغراد وأذن لقرال الأردل وأميري المملكتين بالانصراف إلى إماراتهم وقبل مضي فصل الشتاء حاصر الجنرال زريني الملقب في التواريخ العثمانية بالخازوق الحديدي قلعة قنيثره ولما بلغ الصدر هذا الخبر وكان ببلغراد استعد في الحال وكان الفصل شتاء وجمع الجنود من مشاتيها وزحف على قنيثره فخاف الجنرال زريني (ZRINY) ملاقاته وترك الحصار ثم تقدمت الجنود العثمانية نحو حصون زه رينوار الواقع الخلاف عليها واستولت عليه ثم هدمتها وعند عبورها نهر مور (MORR) واشتباكها مع العدو هزمته وقتل في الواقعة الجنرال أستروزي (STREZZI) قائد الجيوش النمساوية.
 
فقطع أمبراطور النمسا عند ذلك العشم من الانتصار وأرسل إلى الصدر سفيراً يطلب الصلح طبقاً لمعاهدة زيدوه توروك التي عقدت مع قبوجي مراد باشا وتعهد بدفع جزية قدرها ثلاثون ألفاً من الذهب إلا أن الصدر الأعظم ماطله وتقدم نحو قلعة يانيق يريد فتحها وبينما كانت الجنود العثمانية تعبر نهير راب (RAAB) تقابلت مع جيش للنمسا يقوده القائد العام الجنرال مونتيكو كولي السابق وبعد واقعة دموية شديدة استمرت يوماً بتمامه 1075هـ لم يثبت فيها هذا القائد الشهير بل تقهقر أمام الجنود العثمانية الذين فقدوا في هذا اليوم العصيب نحو عشرة آلاف جندي وكان يساعد جيش النمسا في هذه الواقعة القونت كوليني (COLIGNY) مع ستة آلاف من الفرنسويين أرسلهم ملك فرانسا لمساعدة النمسا وكانت هذه المساعدة سبباً لحدوث النفور الآتي ذكره بين فرانسا والدولة العثمانية وتسمى هذه الواقعة بواقعة سان غوتار نسبة إلى الكنيسة التي حصلت الواقعة بقربها ثم جمع الصدر بقية جنوده في قصبة واسوار (VASVAR) حيث عقدت شروط الصلح بين الدولتين 1075هـ وكان من مقتضاها أن النمسا لا تتداخل في أمر بلاد الأردل فيما بعد وتعترف بإمارة أبافي ميخائيل عليها وأن تهدم قلعة زه رينوار ولا تصلح بعد ذلك وأن تدفع 200000غرش غرامة وأن تبقى قلعتي أيوار ونويغراد للدولة العثمانية وأن تبقى أربع مقاطعات من بلاد المجر للدولة العثمانية وأن تراعى العهود السابقة المعقودة بين الطرفين.
 
 
محاربة يولونيا ومعاهدة بوجاش 1083هـ:
 
لما قام النزاع والشقاق بين القوزاق المشهورين باسم صاري قامش النازلين في ديار أوقرين وبين قوزاق زايوروغ المتوطنين بين مدينة أوزي (OTCHACOV) وفم نهر بوغ وطلب كل منهم المساعدة والحماية من خان القريم دخلت أخيراً قوزاق صاري قامش في حمى السلطنة السنية وبذلك امتدت أملاك الدولة في تلك الجهات فاحتج ميخائيل ملك يولونيا على ذلك مدعياً أن ولاية أوقرين (UKRAIN) هي من بلاده وإن دور وشنقو أمير القوزاق المذكورين (DOROZENSKO) من الذين يفسدون في الحدود ثم جرد عليه يريد حربه فعدت الدولة ذلك إجحافًا بحقوقها وأعلنت الحرب على بولونيا في أوائل سنة1083 هـ .
 
وخرج السلطان بنفسه مع الجيش وعبر نهر الطونة من جهة إيساقجي وما زال يتقدم حتى وصل إلى بلاد لهستان يولونيا عن طريق خوتين (CHOKZIM) وحاصر قلعة قامنيجه (KAMINIEE) وفتحها ثم دخل بجيشه في أيالة ويودوليا واستولى على مدينتي إيلبو (LEMBERG) ولوبلن (LUBLEN) المشهورتين وعل جميع ما يتبعهما من الدساكر وعاثت بهما الجنود العثمانية كالعادة المتبعة إذ ذاك فطلب قرال بولونيا المذكور الصلح بشرط أن يترك ولاية أوقرين للقوزاق وإقليم ودوليا للدولة وأن يدفع جزية سنوية قدرها من الذهب فقبل السلطان منه ذلك وأمضيت به معاهدة 1083 هـ 1672 م في بوجاش (BUSACS).
 
ثم عاد السلطان إلى أدرنة وأمر سليم كراي خان القريم بالعودة إلى بلاده وكان يصحبه في هذا الحرب ولما مات أمير يولونيا المذكور وانتخبوا بدله حنا سوبيسكي ولم يف بشروط المعاهدة المذكورة اشتعلت نار الحرب ثانية بين الطرفين وامتدت إلى سنة 1087 هـ وكانت سجالاً وكانت بلاد خوتين وقامنيجه وأيالتي يودوليا وأوقرين تقع في يد التتار والعثمانيين تارة وفي يد اليولونيين أخرى ثم توسط سليم كراي خان القريم في الصلح أخيراً وتجددت معاهدة بوجاش بعد أن حذفت منها المادة المختصة بدفع الجزية.
 
 
محاربات النمسا 1093-1110 ومحاصرة وياتة:
 
اعلم أن هذا الصدر مرزيفوني قره مصطفى باشاوان كان نشأ مع فاضل أحمد باشا الشهير وخدم الخدامات المتنوّعة في الدولة إلا أن كبره وجبروته وجهله كانت المانع الأكبر من عدم توفيقه في أكثر أعماله ولما كان مسرفاً لا يبقي على مال امتدت يده إلى قبول الهداي بكافة أنواعها وكان يعامل سفراء الدول معاملة خشنة غير لائقة بمقامهم حتى كدر بذلك العلاقات الخارجية التي بين الدولة وأوروبا وكان ليويولد ولد الأول ملك النمسا بعد حرب الثلاثين سنة قبض على صولجان الحكم ببلاد المجر أيضاً مختلساً له وأعدم ونفي كثيراً من أعيانها فاشتعلت فيها نيران العصيان والاختلال.
 
وقام أحد شبان أمراء المجر المدعو أمره توكلي (EMERIC COMTE DE TA KLI) وترأى على الخارجين على حكومة النمسا للتخلص من استبدادها وبعد أن حاربها في عدة وقائع أرسل سفراً من طرفه يطلب من الدولة المساعدة وقد اشترك معه أيضاً في ذلك أبافي أمير الأردل ولما كانت مدة هدنة واسوار قرب انقضاؤها أعلنت الدولة الحرب على النمسا ونصبت والي بودين أوزون إبراهيم باشا سر عسكراً على الجيوش التي أمرت بالزحف علىالنمسا ثم تقدّم السر عسكر ومعه أمير توكلي وأمير الأردل أبافي المذكورين حتى وطئ بلاد النمسا وأخذ في مقاتلة جيوشها 1093 م .
 
وعينت الدولة توكلي بك المذكور أمير البلاد المجر الوسطى أو بلاد قرص (KRUCZES) ثم سار الصدر الأعظم قره مصطفى باشا بالأوردي إلى بلغراد وعبر نهر الطونة ووصل إلى نهير راب عن طريق أستوني بلغراد وجمع مجلساً عسكرياً واستشاره بخصوص الحرب وبعد طرح الآراء خالف الصادر رأي أوزون إبراهيم باشا وأصر على مهاجمة ويانة بعد أن وبخ إبراهيم باشا على رأيه وتقدّم في الحال نحو المدينة المذكورة وضرب عليها الحصار وكان ذلك في يوم 19 رجب من سنة1094 هـ 1683 م واستمر محاصراً لها مدة شهرين واستولى على كافة قلاعها الأمامية وهدم أسوارها بالمدافع والألغام وكاد يفتتحها تماماً بعد قليل لولا أن حنا سوبيسكي ملك يولونيا هو ومنتخبي ساكس وبافييرا تقدّموا بجيوشهم جميعاً بتحريضات البابا أينوشنيسوس الحادي عشر الذي أضرم في قلوبهم نار التعصب الديني وهجم سوبيسكي على جيوش العثمانيين لأنه كان القائد العام للجيوش التي أتت معه وذلك في شهر رمضان من السنة المذكورة واستمر الحرب والقتال بين الطرفين طوال النهار وأخيراً انهزم قره مصطفى باشا بجيوشه تاركاً كافة المدافع والذخائر للعدو وما زال يتقهقر حتى وصل إلى قلعة يانق في حالة صعبة بعد أن كابد مشاق شديدة.
 
وهناك جمع ما تشتت من جنوده ثم أخذ يرمي أوزون إبراهيم باشا الذي خالفه في الرأي أولاً بسوء التدبير والغلطات حتى صدر أمر السلطان محمد الرابع بقتل إبراهيم باشا المذكور ظلماً وبعزل مراد كراي خان من إمارة القريم وقد اشتهر سوبيسكي هذا في جميع ممالك أوروبا بعد ذلك بحامي النصرانية لأنه خلص مدينة ويانة الشهيرة التي كانت تعد وقتئذ مفتاحاً لأوروبا من تسلط الإسلام.
 
وأخذ قره مصطفى باشا عند عودته يحرق القرى ويخرب البلاد حتى وصل بودين ثم بلغراد وعاد السلطان إلى أدرنة متكدراً جدّاً من هذه الهزيمة ولم يعزل قره مصطفى باشا من الصدارة بل قربه وقلده سيفاً مرصعاً ولما اقتفى العدو أثر الجيوش العثمانية المنهزمة استولى عن قلعة أترغون وأراد خضر باشا أحد القواد صد العدو إلا أنه غلب وقتل هو وجميع فرقته ولما وصل هذا الخبر غضب السلطان لسوء تصرف الصدر فأصدر أمراً بقتله ووجه مسند الصدارة إلى قره إبراهيم باشا 1095 هـ .
 
 
اتفاق أعداء العثمانيين عليهم وهزيمات جيوشهم:
 
اعلم إنه بعد الهزيمة المتقدمة اتفقت البنادقة و يولونيا والباب ورهبنة مالطة والروسيا والقوزاق وتسكانة مع النمسا وكوّنوا عصبة واحدة تعرف باسم سانت اليانس (SAINTE-ALLIANCE) أي الاتحاد المقدس على محاربة الدولة العثمانية التي أصبحت بلا نصير ولا معين ثم تقدمت جنود هذه الممالك من كل جهة تقصد المملكة العثمانية فتفرس الصدر الأعظم قره إبراهيم باشا في وخامة العاقبة التي تحدث من اتفاق الأعداء ورجح البقاء في دار الخلافة ليهتم بأمر التجهيزات وغيرها وعين تكفور طاغلي مصطفى باشا سر عسكراً لعسكر المجر وكتب لخان القريم سليم كراي خان بالزحف بجيوشه على ويولونيا وجعل معه القائمقام سليمان باشا ثم أرسل خليل باشا لصد البنادقة الهاجمين على بلاد مورة.
 
وفي خلال ذلك انتصر قائد جيوش النمسا دوق لورين الشهير (DUC DE LORRAINE) على العساكر العثمانية التي بمدينة ويشغراد و وايجن (VACZEN) واستولى على بلاد وايجن ويشته وحاصر مدينة بودين وقتل محافظها قره محمد باشا إلا أن شيطان إبراهيم باشا تمكن من رد الأعداء عن المدينة المذكورة واسترد منهم قلعتها فلهذا تعين سر عسكراً بدلاً من تكفور طاغلي مصطفى باشا 1096 هـ وقد تمكن هذا السر عسكر الجديد بعد ذلك أيضاً من استرداد قلعة وايجن من يد الأعداء إلا أنه لسبب تفرق الجيوش العثمانية في كثير من الجهات لم تأت أعماله الحربية بفائدة لأن النمسا أغارت بجيوشها على بلاد المجر.
 
وأهمل توكلي بك أمر الدفاع فاتهم بالتكاسل قصداً فقبض عليه وسجن وأمر السلطان أيضاً بقتل السر عسكر إبراهيم باشا في بلغراد ووجهت الصدارة إلى سليمان باشا وقد قام هذا الصدر بأمر الحرب في يولونيا أحسن قيام 1097 هـ وبعد أن أجرى بعض الإصلاحات الداخلية قصد بلاد المجر حيث كان الدوق دو لورين دخلها بجنوده ومعه البرنس أوجين دي سافوا وحاصر بودين وضيق عليها الحصار ولم يتمكن الصدر من إنجادها فسقطت في يد الأعداء قبل وصوله 1097 هـ وقتل محافظها عبدي باشا وكذا جميع حاميتها من العثمانيين وكانوا أربعة آلاف بعد أن دافعوا دفاع الأبطال وألحقوا بالمحاصرين خسائر جمة وقد دخلت هذه المدينة في يد العثمانيين من سنة1066 هـ .
 
وبعد سقوطها أخذ الصدر يستعد في زمن الشتاء فجمع كافة الجيوش العثمانية المتفرقة في تلك الجهات فبلغت60000 مقاتل معهم سبعون مدفعاً ثم تقابل مع الجيوش المتفقة بين سهول مهاج وأوسك يوم 3 شوّال من سنة 1098هـ وبعد قتال شديد انهزمت الجيوش العثمانية بعد أن تكبدت خسائر جمة واستولى المتفقون على أيالة الأردل بتمامها.
 
 
الوقائع البحرية في الوقت المذكور:
 
اعلم أنه لما نقض البنادقة عهود الصلح واشتركوا مع الدول المتقدمة في التحالف المقدس على محاربة العثمانيين أرسلوا جيشاً تحت قيادة الجنرال مورو زيني محافظ قندية سابقاً ومعه عمارة بحرية فاستولى على قلعة ماورو من بلاد مورة بعد حصارها مدة ولما كانت الجيوش العثمانية تحارب النمسا ومن اتحد معها من الدول منذ مدة كان اعتراها بعض الضعف لما لحقها من الهزائم السابقة ولذلك لم يمكن للدولة إجراء أيّ عمل مع البنادقة لما أتوه من الأفعال العدوانية في الوقت المذكور غاية الأمر أن الدولة عينت مصاحب مصطفى باشا قبودانا على الدوننما1095 هـ وأمرته بالاستعداد وكانت الدولة شيدت في الوقت المذكور عشر سفن كبيرة من نوع الغليون منها اثنتان طول كل واحدة منهما 50 ذراعاً أي 110 أقدام إنكليزية وطول كل واحدة من الثمانية الأخرى 45 ذراعاً وبذلك تقوّت الدوننما ثم قسمت إلى فرقتين فيلو جعلت إحداهما تحت قومندانية إبراهيم باشا والثانية تحت قومندانية بابا حسن باشا وكانت مأموريتهما قبل ذلك مراقبة بناء هذه السفن ثم رتبوا لهما الضباط والملاحين والعساكر اللازمة بعد أن سلحوهما بالأسلحة والمدافع.
 
وفي سنة 1097 هـ 1686 م تعين مصر لي زاده إبراهيم باشا قبودانا للدوننما وكان قبل رباناً بأحد غلايينها وله شهرة في الفنون البحرية والحربية لأنّ أصله من أوجاقات بحرية طرابلس الغرب ولما عين قبودانا رقاه السلطان إلى رتبة الوزارة وقد اهتم بعمل الآلات اللازمة لإنشاء السفن الحربية بدار الصناعة باستانبول وقد عدّت له تلك الأعمال أثراً مجيداً ولا يخفى أن توجيه مسند القبودانية العامة لأحد رجال البحرية هو تسليم القوس باريها وإسكان الدار بانيها.
 
وقد كان البنادقة لعدم تعرّض الدولة لهم في أعمالهم البحرية قوى نفوذهم وامتدّ سلطانهم ببحر اليونان واستولوا على قلعتي أنابولي وأتنه إلا أنهم هزموا أمام قلعة أغريبوز وتكبدوا خسائر جسيمة وكانت وفاة مصاحب مصطفى باشا سنة 1098 هـ بعد أن تعين محافظاً لقلعة سد البحر بالدردنيل وتعين إسماعيل باشا بدله سرداراً على جيوش مورة وقد أخذ هذا السردار يهتم بمحاربة البنادقة بتلك الأطراف ليسترد منهم القلاع التي استولوا عليها.
 
وفي هذه السنة خرج القبودان مصرلي زاده إبراهيم باشا بالدوننما إلى بحر سفيد ولما توالت الهزيمات على الجيش اشتعلت نيران الفتن والقلاقل بين أفراده لانحلال روابطه وانفكاك ضوابطه فلما رأى السلطان ذلك عزل الصدر الأعظم سليمان باشا ظناً إن عزله ربما كان فيه فائدة لتسكين الهيجان ووجهت الصدارة إلى سياوش باشا الذي انتخبته الجنود بمعرفتها ورقي كويريلي زاده فاضل مصطفى باشا لمسند القائمقامية.
 
ولما رأى السلطان أن الأحوال لم تهدأ بعد بما أجراه من الحيل تنازل عن كرسي الخلافة والسلطنة مفضلًا الانزواء عن هذه المعيشة الملأى بالمخاوف وورد في بعض الروايات أن الجنود تحزبوا عليه مع الأهالي وأجمعوا على خلعه فخلع سنة1099 هـ وخلفه أخوه السلطان سليمان الثاني ولم يمكث السلطان محمد بعد تركه كرسي السلطنة غير خمسة أعوام.
 
وكان رحمه الله حليماً كريماً محباً للعدل يميل إلى الصيد والقنص كثيراً حتى لقبوه بالصياد ولتولعه بذلك كانت أكثر إقامته بمدينة أدرنة لكثرة غاباتها.