السيرة النبوية : العرب ما قبل المولد

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


موقع العرب وأقوامها:

إن السيرة النبوية - على صاحبها الصلاة والسلام - عبارة في الحقيقة عن الرسالة التي حملها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع البشري، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة اللَّه. وإذن فلا يمكن إحضار صورتها الرائعة بتمامها إلا بعد المقارنة بين خلفيات هذه الرسالة وآثارها. ونظراً إلى ذلك نقدم فصلاً عن أقوام العرب وتطوراتها قبل الإِسلام، وعن الظروف التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم .


موقع العرب:

العرب لغة الصحاري والقفار، والأرض المجدبة التي لا ماء فيها ولا نبات. وقد أطلق هذا اللفظ منذ أقدم العصور على جزيرة العرب.

كما أطلق على قوم قطنوا تلك الأرض، واتخذوها موطناً لهم.

وجزيرة العرب يحدها غرباً البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء، وشرقاً الخليج العربي وجزء كبير من بلاد العراق الجنوبية، وجنوباً بحر العرب الذي هو امتداد لبحر الهند، وشمالاً بلاد الشام وجزء من بلاد العراق على اختلاف في بعض هذه الحدود، وتقدر مساحتها ما بين مليون ميل مربع إلى مليون وثلاثمائة ألف ميل مربع.

والجزيرة لها أهمية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والجغرافي، فأما باعتبار وضعها الداخلي فهي محاطة بالصحاري والرمال من كل جانب، ومن أجل هذا الوضع صارت الجزيرة حصناً منيعاً لا يسمح للأجانب أن يحتلوها ويبسطوا عليها سيطرتهم ونفوذهم. ولذلك نرى سكان الجزيرة أحراراً في جميع الشؤون منذ أقدم العصور، مع أنهم كانوا مجاورين لإِمبراطوريتين عظيمتين لم يكونوا يستطيعون دفع هجماتهما لولا هذا السد المنيع.

وأما بالنسبة إلى الخارج فإنها تقع بين القارات المعروفة في العالم القديم. وتلتقي بها براً وبحراً. فإن ناحيتها الشمالية الغربية باب للدخول في قارة أفريقية، وناحيتها الشمالية الشرقية مفتاح لقارة أوروبا، والناحية الشرقية تفتح أبواب العجم والشرق الأوسط والأدنى، وتفضي إلى الهند والصين، وكذلك تلتقي كل قارة بالجزيرة بحراً، وترسي سفنها وبواخرها على ميناء الجزيرة رأساً.

ولأجل هذا الوضع الجغرافي كان شمال الجزيرة وجنوبها مهبطاً للأمم ومركزاً لتبادل التجارة، والثقافة، والديانة، والفنون.


أقوام العرب:

وأما أقوام العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي ينحدرون منها:

العرب البائدة: وهم العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وسواها.

العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان، وتسمى بالعرب القحطانية.

العرب المستعربة: وهي العرب المنحدرة من صلب إسماعيل، وتسمى بالعرب العدنانية.

أما العرب العاربة - وهي شعب قحطان - فمهدها بلاد اليمن، وقد تشعبت قبائلها وبطونها فاشتهرت منها قبيلتان:

حمير، وأشهر بطونها زيد الجمهور، وقضاعة، والسكاسك.

كهلان، وأشهر بطونها همدان، وأنمار، وطيء، ومذحج، وكندة، ولخم، وجذام، والأزد، والأوس، والخزرج، وأولاد جفنة ملوك الشام.

وهاجرت بطون كهلان عن اليمن، وانتشرت في أنحاء الجزيرة، وكانت هجرة معظمهم قبيل سيل العرم حين فشلت تجارتهم لضغط الرومان وسيطرتهم على طريق التجارة البحرية، وإفسادهم طريق البر بعد احتلالهم بلاد مصر والشام.

ولا غرو فقد كانت منافسة بين بطون كهلان وبطون حمير أدت إلى جلاء كهلان، ويشير إلى ذلك بقاء حمير مع جلاء كهلان.

ويمكن تقسيم المهاجرين من بطون كهلان إلى أربعة أقسام:

الأزد: وكانت هجرتهم على رأي سيدهم وكبيرهم عمران بن عمرو مزيقباء فساروا يتنقلون في بلاد اليمن ويرسلون الرواد، ثم ساروا بعد ذلك إلى الشمال وهاك تفصيل الأماكن التي سكنوا فيها بعد الرحلة نهائياً:

عطف ثعلبة بن عمرو من الأزد نحو الحجاز، فأقام بين الثعلبية وذي قار، ولما كبر ولده وقوي ركنه سار نحو المدينة، فأقام بها واستوطنها. ومن أبناء ثعلبة هذا الأوس والخزرج، ابنا حارثة بن ثعلبة.

وانتقل منهم حارثة بن عمرو - وهو خزاعة - وبنوه في ربوع الحجاز، حتى نزلوا بمر الظهران، ثم افتتحوا الحرم فقطنوا مكة وأجلوا سكانها الجراهمة.

ونزل عمران بن عمرو في عمان، واستوطنها هو وبنوه، وهم أزد عمان، وأقامت قبائل لفر بن الأزد بتهامة، وهم أزد شنوءة.

وسار جفنة بن عمرو إلى الشام فأقام بها هو وبنوه، وهو أبو الملوك الغساسنة. نسبة إلى ماء في الحجاز يعرف بغسان كانوا قد نزلوا بها أولاً قبل تنقلهم إلى الشام.

لخم وجذام: وكان في اللخميين نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذرة بالحيرة.

بنو طيء: ساروا بعد مسير الأزد نحو الشمال حتى نزلوا بالجبلين أجا وسلمى، وأقاموا هناك، حتى عرف الجبلان بجبلي طيء.

كندة: نزلوا بالبحرين، ثم اضطروا إلى مغادرتها فنزلوا بحضرموت، ولاقوا هناك ما لاقوا بالبحرين، ثم نزلوا نجداً، وكونوا هناك حكومة كبيرة الشأن ولكنها سرعان ما فنيت وذهبت آثارها.

وهناك قبيلة من حمير مع اختلاف في نسبتها إليه - وهي قضاعة - هجرت اليمن واستوطنت بادية السماوة من مشارف العراق.

وأما العرب المستعربة فأصل جدهم الأعلى - وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام - من بلاد العراق، من بلدة يقال لها أر على الشاطىء الغربي من نهر الفرات، بالقرب من الكوفة، وقد جاءت الحفريات والتنقيبات بتفاصيل واسعة عن هذه البلدة وعن أسرة إبراهيم عليه السلام، وعن الأحوال الدينية والاجتماعية في تلك البلاد.

ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام هاجر منها إلى حاران أو حران، ومنها إلى فلسطين، فاتخذها قاعدة لدعوته، وكانت له جولات في أرجاء هذه البلاد وغيرها وقدم مرة إلى مصر، وقد حاول فرعون مصر كيداً وسوءاً بزوجته سارة ولكن اللَّه ردّ كيده في نحره، وعرف فرعون ما لسارة من الصلة القوية باللَّه، حتى أخدمها ابنته هاجر، اعترافاً بفضلها، وزوج سارة إبراهيم.

ورجع إبراهيم إلى فلسطين، ورزقه اللَّه من هاجر إسماعيل، وغارت سارة حتى ألجأت إبراهيم إلى نفي هاجر مع ولدها الصغير - إسماعيل - فقدم بهما إلى الحجاز، وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند بيت اللَّه المحرم الذي لم يكن إذ ذاك إلا مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فوضعهما عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء فوضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ورجع إلى فلسطين، ولم تمض أيامٍ حتى نفد الزاد والماء، وهناك تفجرت بئر زمزم بفضل اللَّه، فصارت قوتاً لهما وبلاغاً إلى حين، والقصة معروفة بطولها.

وجاءت قبيلة يمانية - وهي جرهم الثانية - فقطنت مكة بإذن من أم إسماعيل يقال إنهم كانوا قبل ذلك في الأودية التي بأطراف مكة. وقد صرحت رواية البخاري أنهم نزلوا مكة بعد إسماعيل، وقبل أن يشب، وأنهم كانوا يمرون بهذا الوادي قبل ذلك.

وقد كان إبراهيم يرحل إلى مكة بين آونة وأخرى ليطالع تركته، ولا يعلم كم كانت هذه الرحلات، إلا أن المصادر التاريخية حفظت أربعة منها.

فقد ذكر اللَّه تعالى في القرآن أنه أري إبراهيم في المنام أنه يذبح إسماعيل. فقام بامتثال هذا الأمر {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103-107].

وقد ذكر في سفر التكوين أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، وسياق القصة يدل على أنها وقعت قبل ميلاد إسحاق، لأن البشارة بإسحاق ذكرت بعد سرد القصة بتمامها.

وهذه القصة تتضمن رحلة واحدة - على الأقل - قبل أن يشب إسماعيل، أما الرحلات الثلاث الأخر فقد رواها البخاري بطولها عن ابن عباس مرفوعاً. وملخصها أن إسماعيل لما شب وتعلم العربية من جرهم، وأنفسهم وأعجبهم زوجوه امرأة منهم، وماتت أمه، وبدا لإِبراهيم أن يطالع تركته فجاء بعد هذا التزوج، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه وعن أحوالهما، فشكت إليه ضيق العيش فأوصاه أن تقول لإِسماعيل أن يغير عتبة بابه، وفهم إسماعيل ما أراد أبوه، فطلق امرأته تلك وتزوج امرأة أخرى، وهي ابنة مضاض بن عمرو، كبير جرهم وسيدهم.

وجاء إبراهيم مرة أخرى بعد هذا التزوج الثاني فلم يجد إسماعيل فرجع إلى فلسطين بعد أن سأل زوجته عنه وعن أحوالهما فأثنت على اللَّه، فأوصى إلى إسماعيل أن يثبت عتبة بابه.

وجاء مرة ثالثة فلقي إسماعيل وهو يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، وكان لقاؤهما بعد فترة طويلة من الزمن، قلما يصير فيها الأب الكبير الأواه العطوف عن ولده، والولد البار الصالح الرشيد عن أبيه وفي هذه المرة بنيا الكعبة، ورفعا قواعدها، وأذن إبراهيم في الناس بالحج كما أمره اللَّه.

وقد رزق اللَّه إسماعيل من ابنة مضاض اثني عشر ولداً ذكراً وهم نابت أو بنالوط، قيدار، وأدبائيل، ومبشام، ومشماع، ودوما، وميشا، وحدد، ويتما، ويطور، ونفيس، وقيدمان، وتشعبت من هؤلاء اثنتا عشر قبيلة، سكنت كلها في مكة مدة، وكانت جل معيشتهم التجارة من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ومصر ثم انتشرت هذه القبائل في أرجاء الجزيرة بل وإلى خارجها. ثم أدرجت أحوالهم في غياهب الزمان، إلا أولاد نابت وقيدار.

وقد ازدهرت حضارة الأنباط في شمال الحجاز، وكونوا حكومة قوية دان لها من بأطرافها، واتخذوا البطراء عاصمة لهم، ولم يكن يستطيع مناوأتهم أحد حتى جاء الرومان فقضوا عليهم، وقد رجح السيد سليمان الندوي بعد البحث الأنيق والتحقيق الدقيق أن ملوك آل غسان وكذا الأنصار من الأوس والخزرج لم يكونوا من آل قحطان، وإنما كانوا من آل نابت بن إسماعيل، وبقاياهم في تلك الديار.

وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معد، ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها. وعدنان هو الجد الحادي والعشرون في سلسلة النسب النبوي، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول كذب النسابون، فلا يتجاوزه. وذهب جمع من العلماء إلى جواز رفع النسب فوق عدنان، مضعفين الحديث المشار إليه، وقالوا إن بين عدنان وبين إبراهيم عليه السلام أربعين أبا بالتحقيق الدقيق.

وقد تفرقت بطون معد من ولده نزار - قيل لم يكن لمعد ولد غيره - فكان لنزار أربعة أولاد، تشعبت منهم أربعة قبائل عظيمة إياد وأنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما، فكان من ربيعة أسد بن ربيعة، وعنزة، وعبد القيس، وابنا وائل - بكر، وتغلب - وحنيفة وغيرها.

وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين قيس عيلان بن مضر، وبطون إلياس ابن مضر. فمن قيس عيلان بنو سليم، وبنو هوازن، وبنو غطفان، ومن غطفان عبس وذبيان، وأشجع وغنى بن أعصر.

ومن إلياس بن مضر تميم بن مرة بن وهذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة وبطون كنانة بن خزيمة، ومن كنانة قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.

وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، من أشهرها جمح وسهم وعدي، ومخزوم وتيم، وزهرة، وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي، وأسد بن عبد العزى ابن قصي، وعبد مناف بن قصي.

وكان من عبد مناف أربع فصائل عبد شمس، ونوفل، والمطلب، وهاشم وبيت هاشم هو الذي اصطفى اللَّه منه سيدنا محمد بن عبد اللَّه بن المطلب بن هاشم صلى الله عليه وسلم .

قال صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".

وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن اللَّه خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل، فجعلني من خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً".

ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب متتبعين مواقع القطر ومنابت العشب.

فهاجرت عبد القيس، وبطون من بكر بن وائل، وبطون من تميم إلى البحرين فأقاموا بها.

وخرجت بنو حنيفة بن صعب بن علي بن بكر إلى اليمامة فنزلوا بحجر، قصبة اليمامة. وأقامت سائر بكر، بن وائل في طول الأرض من اليمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر، فأطراف سواد العراق فالأبلة فهيت.

وأقامت تغلب بالجزيرة الفراتية، ومنها بطون كانت تساكن بكراً. وسكنت بنو تميم ببادية البصرة.

وأقامت بنو سليم بالقرب من المدينة، من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي المدينة إلى حد الجبلين، إلى ما ينتهي إلى الجرة.

وسكنت ثقيف بالطائف، وهوازن في شرقي مكة بنواحي أوطاس، وهي على الجادة بين مكة والبصرة.

وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة، بينهم وبين تيماء ديار بحتر من طيء، وبينهم وبين الكوفة خمس ليال.

وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران.

وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقام بمكة وضواحيها بطون قريش، وكانوا متفرقين لا تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصي بن كلاب، فجمعهم، وكون لهم وحدة شرفتهم ورفعت من أقدارهم.



الحكم والإمارة في العرب:

حينما أردنا أن نتكلم عن أحوال العرب قبل الإسلام رأينا أن نضع صورة مصغرة من تاريخ الحكومة والإمارة والملل والأديان في العرب، حتى يسهل علينا فهم الأوضاع الطارئة عند ظهور الإسلام.

كان حكام الجزيرة حين بزغت شمس الإسلام قسمين قسم منهم ملوك متوجون، إلا أنهم في الحقيقة كانوا غير مستقلين، وقسم منهم رؤساء القبائل والعشائر لهم ما للملوك من الحكم والامتياز، ومعظم هؤلاء كانوا على تمام الاستقلال. وربما كانت لبعضهم تبعية لملك متوج، والملوك المتوجون هم ملوك اليمن، وملوك آل غسان، وملوك الحيرة، وما عدا هؤلاء من حكام الجزيرة فلم تكن لهم تيجان.


الملك باليمن:

من أقدم الشعوب التي عرفت باليمن من العرب العاربة قوم سبأ، وقد عثر على ذكرهم في حفريات "أور" بخمس وعشرين قرناً قبل الميلاد. ويبدأ ازدهار حضارتهم ونفوذ سلطانهم وبسط سيطرتهم بأحد عشر قرناً قبل الميلاد.

ويمكن تقسيم أدوارهم حسب التقدير الآتي:

القرون التي خلت قبل سنة 650ق.م، وكان ملوكهم يلقبون في هذا الزمن بـ: :مكرب سبأ" وكانت عاصمتهم بلدة "صرواح" التي توجد أنقاضها على مسافة يوم إلى الجانب الغربي من بلدة "مأرب" وتعرف باسم خريبة وفي زمنهم بدأ بناء السد الذي عرف بسد مأرب، والذي له شأن كبير في تاريخ اليمن، ويقال إن سبأ بلغوا من بسط سلطتهم إلى أن اتخذوا المستعمرات في داخل العرب وخارجها.

منذ سنة650ق.م، إلى سنة115ق.م، وفي هذا الزمن تركوا لقب "مكرب" وعرفوا بملوك سبأ، واتخذوا "مأرب" عاصمة لهم بدل "صرواح" وتوجد أنقاضها على بعد ستين ميلاً من صنعاء إلى جانبها الشرقي.

منذ سنة 115ق.م. إلى سنة 300م، وفي هذا العهد غلبت قبيلة حمير على مملكة سبأ، واتخذت بلدة "ريدان" عاصمة لها بدل "مأرب" ثم سميت بلدة "ريدان" باسم ظفار، وتوجد أنقاضها على جبل مدور بالقرب من "يريم" وفي هذا العهد بدأ فيهم السقوط والانحطاط، فقد فشلت تجارتهم إلى حد كبير لبسط سيطرة الأنباط في شمال الحجاز أولاً، ثم لغلبة الرومان على طرق التجارة البحرية بعد نفوذ سلطانهم على مصر وسوريا وشمالي الحجاز ثانياً، ولتنافس القبائل فيما بينها ثالثاً. وهذه العناصر هي التي سببت في تفرق آل قحطان وهجرتهم إلى البلاد الشاسعة.

منذ سنة 300م إلى أن دخل الإسلام في اليمن. وفي هذا العهد توالت عليهم الاضطرابات والحوادث، وتتابعت الانقلابات، والحروب الأهلية التي جعلتهم عرضة للأجانب حتى قضت على استقلالهم. ففي هذا العهد دخل الرومان في عدن وبمعونتهم احتلت الأحباش اليمن لأول مرة سنة 340م مستغلين التنافس بين قبيلتي همدان وحمير، واستمر احتلالهم إلى سنة 378م. ثم نالت اليمن استقلالها، ولكن بدأت تقع الثلمات في سد مأرب، حتى وقع السيل العظيم الذي ذكره القرآن بسيل العرم في سنة 450م أو 451م. وكانت حادثة كبرى أدت إلى خراب العمران وتشتت الشعوب.

وفي سنة 523م قاد ذو نواس اليهودي حملة منكرة على المسيحيين من أهل نجران، وحاول صرفهم عن المسيحية قسراً. ولما أبوا خدّ لهم الأخدود وألقاهم في النيران، وهذا الذي أشار إليه القرآن في سورة البروج بقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج: 4] الآيات، وكان من جراء ذلك نقمة النصرانية الناشطة إلى الفتح والتوسع تحت قيادة أمبراطرة الرومان على بلاد العرب، فقد حرضوا الأحباش، وهيأوا لهم الأسطول البحري، فنزل سبعون ألف جندي من الحبشة، واحتلوا اليمن مرة ثانية، بقيادة أرياط سنة 525م، وظل أرياط حاكماً من قبل ملك الحبشة حتى اغتاله أبرهة - أحد قواد جيشه - وحكم بدله بعد أن استرضى ملك الحبشة، وأبرهة هذا هو الذي جند الجنود لهدم الكعبة، وعرف هو وجنوده بأصحاب الفيل.

وبعد وقعة الفيل استنجد اليمانيون بالفرس، وقاموا بمقاومة الحبشة حتى أجلوهم عن البلاد، ونالوا الاستقلال في سنة 575م، بقيادة معد يكرب بن سيف ذي يزن الحميري، واتخذوه ملكاً لهم، وكان معد يكرب أبقى معه جمعاً من الحبشة يخدمونه ويمشون في ركابه، فاغتالوه ذات يوم، وبموته انقطع الملك عن بيت ذي يزن، وولى كسرى عاملاً فارسياً على صنعاء، وجعل اليمن ولاية فارسية فلم تزل الولاة من الفرس تتعاقب على اليمن حتى كان آخرهم باذان الذي اعتنق الإسلام سنة 638م. وبإسلامه انتهى نفوذ فارس على بلاد اليمن.


الملك بالحيرة:

كانت الفرس تحكم على العراق وما جاورها منذ أن جمع شملهم قوروش الكبير557 - 529م ق.م ولم يكن أحد يناوئهم، حتى قام الإسكندر المقدوني سنة 329ق.م فهزم ملكهم دارا الأول، وكسر شوكتهم، حتى تجزأت بلادهم وتولاها ملوك يعرفون بملوك الطوائف، واستمروا يحكمون البلاد مجزأة إلى سنة 320م. وفي عهد هؤلاء الملوك هاجر القحطانيون، واحتلوا جزءاً من ريف العراق ثم لحقهم من هاجر من العدنانيين فزاحموهم حتى سكنوا جزءاً من الجزيرة الفراتية.

وعادت القوة مرة ثانية إلى الفرس في عهد أردشير - مؤسس الدولة الساسانية منذ سنة 226م - فإنه جمع شمل الفرس، واستولى على العرب المقيمين على تخوم ملكه، وكان هذا سبباً في رحيل قضاعة إلى الشام، ودان له أهل الحيرة والأنبار.

وفي عهد أردشير كانت ولاية جذيمة الوضاح على الحيرة وسائر من ببادية العراق والجزيرة من ربيعة ومضر، وكأن أردشير رأى أنه يستحيل عليه أن يحكم العرب مباشرة، ويمنعهم من الإغارة على تخوم ملكه، إلا أن يملك عليهم رجلاً منهم له عصبية تؤيده وتمنعه، ومن جهة أخرى يمكنه الإستعانة بهم على ملوك الرومان، الذين كان يتخوفهم، ليكون عرب العراق أمام عرب الشام الذين اصطنعهم ملوك الرومان وكان يبقى عند ملك الحيرة كتيبة من جند الفرس، ليستعين بها على الخارجين على سلطانه من عرب البادية، وكان موت جذيمة حوالي سنة 268م.

وبعد موت جذيمة ولي الحيرة عمرو بن عدي بن لفر اللخمي، أول ملوك اللخميين - في عهد كسرى سابور بن أردشير - ثم لم تزل الملوك من اللخميين تتوالى على الحيرة حتى ولى الفرس قباذ بن فيروز، وفي عهده ظهر مزدك، وقام بالدعوة إلى الإباحية، فتبعه قباذ كما تبعه كثير من رعيته، ثم أرسل قباذ إلى ملك الحيرة - وهو المنذر بن ماء السماء - يدعوه إلى أن يختار هذا المذهب ويدين به، فأبى عليه ذلك حمية وأنفة، فعزله قباذ، وولى بدله الحارث بن عمرو بن حجر الكندي بعد أن أجاب دعوته إلى المذهب المزدكي.

وخلف قباذ كسرى أنو شروان، وكان يكره هذا المذهب جداً، فقتل المزدك وكثيراً ممن دان بمذهبه، وأعاد المنذر إلى ولاية الحيرة، وطلب الحارث بن عمرو لكنه أفلت إلى دار كلب، فلم يزل فيهم حتى مات.

واستمر الملك بعد المنذر بن ماء السماء في عقبه حتى كان النعمان بن المنذر وهو الذي غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها زيد بن عدي العبادي، وأرسل كسرى إلى النعمان يطلبه، فخرج النعمان حتى نزل سراً على هانىء بن مسعود سيد آل شيبان، فأودعه أهله وماله، ثم توجه إلى كسرى، فحبسه كسرى حتى مات وولى على الحيرة بدله إياس بن قبيصة الطائي، وأمره أن يرسل إلى هانىء بن مسعود يطلب منه تسليم ما عنده، فأبى ذلك هانىء حمية، وآذن الملك بالحرب، ولم تلبث أن جاءت مرازبة كسرى وكتائبه في موكب إياس، وكانت بين الفريقين موقعة هائلة عند ذي قار، انتصر فيها بنو شيبان، وانهزمت الفرس هزيمة منكرة. وهذا أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم، وهو بعد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل، فإنه عليه السلام ولد لثمانية أشهر من ولاية إياس بن قبيصة على الحيرة.

وولى كسرى على الحيرة بعد إياس حاكماً فارسياً، وفي سنة 632 م عاد الملك إلى آل لخم، فتولى منهم المنذر الملقب بالمعرور، ولم تزد ولايته على ثمانية أشهر حتى قدم عليه خالد بن الوليد بعساكر المسلمين.


الملك بالشام:

في العهد الذي ماجت فيه العرب بهجرات القبائل صارت بطون من قضاعة إلى مشارف الشام وسكنت بها، وكانوا من بني سليح بن حلوان الذين منهم بنو ضجعم بن سليح المعروفون باسم الضجاعمة، فاصطنعهم الرومان؛ ليمنعوا عرب البرية من العبث، وليكونوا عدة ضد الفرس، وولوا منهم ملكاً، ثم تعاقب الملك فيهم سنين، ومن أشهر ملوكهم زياد بن الهبولة، ويقدر زمنهم من أوائل القرن الثاني الميلادي إلى نهايته تقريباً، وانتهت ولايتهم بعد قدوم آل غسان، الذين غلبوا الضجاعمة على ما بيدهم وانتصروا عليهم، فولتهم الروم ملوكاً على عرب الشام، وكانت قاعدتهم دومة الجندل، ولم تزل تتوالى الغساسنة على الشام بصفتهم عمالاً لملوك الروم حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13هـ، وانقاد للإسلام آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.


الإمارة بالحجاز:

ولي إسماعيل عليه السلام زعامة مكة وولاية البيت طول حياته. وتوفي وله 137 سنة. ثم ولي إثنان من أبنائه نابت ثم قيدار، ويقال العكس، ثم ولي أمر مكة بعدهما جدّهما مضاض بن عمرو الجرهمي، فانتقلت زعامة مكة إلى جد هم، وظلت في أيديهم، وكان لأولاد إسماعيل مركز محترم لما لأبيهم من بناء البيت، ولم يكن لهم من الحكم شيء.

ومضت الدهور والأيام ولم يزل أمر أولاد إسماعيل عليه السلام ضئيلاً لا يذكر، حتى ضعف أمر جرهم قبيل ظهور بختنصر، وأخذ نجم عدنان السياسي يتألق في أفق سماء مكة منذ ذلك العصر، بدليل ما جاء بمناسبة غزو بختنصر للعرب في ذات عرق، فإن قائد العرب في الموقعة لم يكن جرهمياً.

وتفرقت بنو عدنان إلى اليمن عند غزوة بختنصر الثانية: سنة 587ق.م وذهب برمياه النبي بمعد إلى الشام، فلما انكشف ضغط بختنصر رجع معد إلى مكة فلم يجد من جرهم إلا جرشم بن جلهمة، فتزوج بابنته معانة فولدت له نزاراً.

وساء أمر جرهم بمكة بعد ذلك، وضاقت أحوالهم، فظلموا الوافدين إليها، واستحلوا مال الكعبة الأمر الذي كان يغيظ العدنانيين، ويثير حفيظتهم، ولما نزلت خزاعة بمر الظهران، ورأت نفور العدنانيين من الجراهمة استغلت ذلك، فقامت بمعونة من بطون عدنان - وهم بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة - بمحاربة جرهم، حتى أجلتهم عن مكة، واستولت على حكمها، في أواسط القرن الثاني للميلاد.

ولما لجأت جرهم إلى الجلاء سدوا بئر زمزم، ودرسوا موضعها، ودفنوا فيها عدة أشياء، قال ابن إسحاق فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة، وبحجر الركن الأسود فدفنهما في بئر زمزم،وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزناً شديداً، وفي ذلك قال عمرو:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
نحن كنا أهلها فأبــــادنا فصروف الليالي والجدود العوائر

ويقدر زمن إسماعيل عليه السلام بعشرين قرناً قبل الميلاد، فتكون إقامة جرهم في مكة واحداً وعشرين قرناً تقريباً، وحكمهم على مكة زهاء عشرين قرناً. واستبدت خزاعة بأمر مكة دون بني بكر، إلا أنه كان إلى قبائل مضر ثلاث خلال

الأولى: الدفع بالناس من عرفة إلى المزدلفة، والإجازة بهم يوم النفر من منى، وكان يلي ذلك بنو الغوث بن مرة من بطون إلياس بن مضر، وكانوا يسمون صوفة ومعنى هذه الإجازة أن الناس كانوا لا يرمون يوم النفر حتى يرمي رجل من صوفة، ثم إذا فرغ الناس من الرمي، وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبي العقبة، فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلون سبيل الناس، فلما انقرضت صوفة ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من تميم.

الثانية: الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، وكان ذلك في بني عدوان.

الثالثة: إنساء الأشهر الحرم. وكان ذلك إلى بني تميم بن عدي من بني كنانة.

واستمرت ولاية خزاعة على مكة ثلاثمائة سنة. وفي وقت حكمهم انتشر العدنانيون في نجد وأطراف العراق والبحرين، وبقي بأطراف مكة بطون من قريش وهم حلول وحرم، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة، وليس لهم من أمر مكة ولا البيت الحرام شيء حتى جاء قصي بن كلاب.

ويذكر من أمر قصي أن أباه مات وهو في حضن أمه، ونكحت أمه رجلاً من بني عذرة - وهو ربيعة بن حرام - فاحتملها إلى بلاده بأطراف الشام، فلما شب قصي رجع إلى مكة، وكان واليها إذ ذاك حليل بن حبشة من خزاعة، فخطب قصي إلى حليل ابنته حبي، فرغب فيه حليل وزوجه إياها فلما مات حليل قامت حرب بين خزاعة وقريش أدت أخيراً إلى تغلب قصي، على أمر مكة والبيت.

وهناك ثلاث روايات في بيان سبب هذه الحرب:

الأولى: أن قصياً لما انتشر ولده وكثر ماله وعظم شرفه وهلك حليل رأى أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشاً رؤوس آل إسماعيل وصريحهم، فكلم رجالاً من قريش وبني كنانة في إخراج خزاعة وبني بكر عن مكة فأجابوه.

الثانية: أن حليلاً - فيما تزعم خزاعة - أوصى قصياً بالقيام على الكعبة وبأمر مكة.

الثالثة: أن حليلاً أعطى ابنته حبي ولاية البيت، واتخذ أبا غبشان الخزاعي وكيلاً لها، فقام أبو غبشان بسدانة الكعبة نيابة عن حبي، فلما مات حليل اشترى قصي ولاية البيت من أبي غبشان بزق من الخمر، ولم ترض خزاعة بهذا البيع، وحاولوا منع قصي عن البيت، فجمع قصي رجالاً من قريش وبني كنانة لإخراج خزاعة من مكة، فأجابوه.

وأياً ما كان، فلما مات حليل وفعلت صوفة ما كانت تفعل أتاهم قصي بمن معه من قريش وكنانة عند العقبة فقال: نحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه فغلبهم قصي على ما كان بأيديهم، وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، فباداهم قصي، وأجمع لحربهم، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، صار جمع من الفريقين فريسة له، ثم تداعوا إلى الصلح فحكّموا يعمر بن عوف أحد بني بكر، فقضى بأن قصياً أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة، وكل دم أصابه قصي منهم موضوع بشدخه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية، وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة - فسمى يعمر يومئذ الشداخ. وكان استيلاء قصي على مكة والبيت في أواسط القرن الخامس للميلاد سنة 440م وبذلك صارت لقصي، ثم لقريش السيادة التامة، والأمر النافذ في مكة، وصار الرئيس الديني لذلك البيت الذي كانت تفد إليه العرب من جميع أنحاء الجزيرة.

ومما فعله قصي بمكة أنه جمع قومه من منازلهم إلى مكة، وقطعها رباعاً بين قومه، وأنزل كل قوم من قريش منازلهم التي أصبحوا عليها، وأقر النسأة وآل صفوان، وعدوان ومرة بن عوف على ما كانوا عليه من المناصب لأنه كان يراه ديناً في نفسه لا ينبغي تغييره.

ومن مآثر قصي أنه أسس دار الندوة بالجانب الشمالي من مسجد الكعبة، وجعل بابها إلى المسجد، وكانت مجمع قريش، وفيها تفصل مهام أمورها، ولهذه الدار فضل على قريش لأنها ضمنت اجتماع الكلمة وفض المشاكل بالحسنى.

وكان لقصي من مظاهر الرياسة والتشريف:

رياسة دار الندوة، ففيها كانوا يتشاورون فيما نزل بهم من جسام الأمور، ويزوجون فيها بناتهم.

اللواء، فكانت لا تعقد راية الحرب إلا بيده.

الحجابة وهي حجابة الكعبة، لا يفتح بابها إلا هو، وهو الذي يلي أمر خدمتها وسدانتها.

سقاية الحاج، وهي أنهم كانوا يملأون للحجاج حياضاً من الماء، يحلونها بشيء من التمر والزبيب، فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة.

رفادة الحاج، وهي طعام كان يصنع للحاج على طريقة الضيافة، وكان قصي فرض على قريش خرجاً تخرجه في الموسم من أموالها إلى قصي، فيضع به طعاماً للحاج، يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد.

وكان كل ذلك لقصي، وكان ابنه عبد مناف قد شرف وساد في حياته، وكان عبد الدار بكره. فقال له قصي لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك، فأوصى له بما كان يليه من مصالح قريش، فأعطاه دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه، وكان أمره في حياته وبعد موته كالدين المتبع، فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم، ولكن لما هلك عبد مناف نافس أبناؤه بني عمهم عبد الدار في هذه المناصب، وافترقت قريش فرقتين، وكاد يكون بينهم قتال، إلا أنهم تداعوا إلى الصلح، واقتسموا هذه المناصب، فصارت السقاية والرفادة إلى بني عبد مناف، وبقيت دار الندوة واللواء والحجابة بيد بني عبد الدار، ثم حكم بنو عبد مناف القرعة فيما أصابهم فخرجت لهاشم بن عبد مناف، فكان هو الذي يلي السقاية والرفادة طول حياته، فلما مات خلفه أخوه المطلب بن عبد مناف، وولى بعده عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف جد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وبعده أبناؤه حتى جاء الإسلام والولاية إلى العباس بن عبد المطلب.

وكانت لقريش مناصب سوى ذلك وزعوها فيما بينهم، وكونوا بها دويلة - بل بتعبير أصح شبه دويلة ديمقراطية. وكانت لها من الدوائر والتشكيلات الحكومية ما يشبه في عصرنا هذا دوائر البرلمان ومجالسها، وهاك لوحة من تلك المناصب:

الإيسار، أي تولية قداح الأصنام للاستقسام، كان ذلك في بني جمح.

تحجير الأموال، أي نظم القربات والنذور التي تهدى إلى الأصنام، وكذلك فصل الخصومات والمرافعات. كان ذلك في بني سهم.

الشورى، كانت في بني أسد.

الإشناق، أي نظم الديات والغرامات، كان ذلك في بني تيم.

العقاب، أي حمل اللواء القومي، كان ذلك في بني أمية.

القبة، أي نظم المعسكر، وكذلك قيادة الخيل، كانت في بني مخزوم.

السفارة، كانت في بني عدي.


الحكم في سائر العرب:

قد سبق لنا أن ذكرنا هجرات القبائل القحطانية والعدنانية، وأن البلاد العربية اقتسمت فيما بينها، فما كان من هذه القبائل بالقرب من الحيرة كانت تبعاً لملك العرب بالحيرة، وما كان منها في بادية الشام كانت تبعا للغساسنة، إلا أن هذه التبعية كانت اسمية لا فعلية. وأما ما كان منها في البوادي في داخل الجزيرة فكانت حرة مطلقة.

وفي الحقيقة كان لهذه القبائل رؤساء تسودهم القبيلة، وكانت القبيلة حكومة مصغرة أساس كيانها السياسي الوحدة العصبية، والمنافع المتبادلة في حماية الأرض ودفع العدوان عنها.

وكانت دولة رؤساء القبائل في قومهم كدرجة الملوك، فكانت القبيلة تبعاً لرأي سيدها في السلم والحرب، لا تتأخر عنه بحال، وكان له من الحكم والاستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوي، حتى كان بعضهم إذا غضب غضب له ألوف من السيوف لا تسأله فيما غضب، إلا أن المنافسة في السيادة بين أبناء العم كانت تدعوهم إلى المصانعة بالناس من بذل الندى وإكرام الضيف والكرم والحلم، وإظهار الشجاعة والدفاع عن الغير حتى يكسبوا المحامد في أعين الناس، ولا سيما الشعراء الذين كانوا لسان القبيلة في ذلك الزمان، وحتى تسمو درجتهم عن مستوى المنافسين.

وكان للسادة والرؤساء حقوق خاصة، فكانوا يأخذون من الغنيمة المرباع والصفي والنشيطة والفضول، يقول الشاعر:

لك المرباع فينا والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول

والمرباع ربع الغنيمة، والصفي ما يصفيه الرئيس لنفسه قبل القسمة، والنشيطة ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى بيضة القوم، والفضول ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير والفرس ونحوهما.


الحالة السياسية:

قد ذكرنا حكام العرب، والآن آن لنا أن نذكر جملة من أحوالهم السياسية فالأقطار الثلاثة التي كانت مجاورة للأجانب كانت حالتها السياسية في تضعضع وانحطاط لا مزيد عليه. فقد كان الناس بين سادة وعبيد، أو حكام ومحكومين، فالسادة - ولا سيما الأجانب - لهم كل الغنم، والعبيد عليهم كل الغرم، وبعبارة أوضح أن الرعاية كانت بمثابة مزرعة تورد المحصولات إلى الحكومات، فتستخدمها في ملذاتها وشهواتها، ورغائبها، وجورها، وعدوانها. أما الناس فهم في عمايتهم يتخبطون، والظلم ينحط عليهم من كل جانب وما في استطاعتهم التذمر والشكوى، بل هم يسامون الخسف، والجور، والعذاب ألواناً ساكتين، فقد كان الحكم استبدادياً، والحقوق ضائعة مهدورة، والقبائل المجاورة لهذه الأقطار مذبذبون تتقاذفهم الأهواء والأغراض، مرة يدخلون في أهل العراق، ومرة يدخلون في أهل الشام، وكانت أحوال القبائل داخل الجزيرة مفككة الأوصال، تغلب عليها المنازعات القبلية والاختلافات العنصرية والدينية حتى قال ناطقهم:

ما أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد

ولم يكن لهم ملك يدعم استقلالهم، أو مرجع يرجعون إليه، ويعتمدون عليه وقت الشدائد.

وأما حكومة الحجاز فقد كانت تنظر إليها العرب نظرة تقدير واحترام، ويرونها قادة وسدنة المركز الديني، وكانت تلك الحكومة في الحقيقة خليطاً من الصدارة الدنيوية والحكومية والزعامة الدينية، حكمت بين العرب باسم الزعامة الدينية، وحكمت في الحرم وما والاه بصفتها حكومة تشرف على مصالح الوافدين إلى البيت، وتنفذ حكم شريعة إبراهيم، وكانت لها من الدوائر والتشكيلات ما يشابه دوائر البرلمان - كما أسلفنا - ولكن هذه الحكومة كانت ضعيفة لا تقدر على حمل العبء كما وضح يوم غزو الأحباش.


ديانات العرب:

كان معظم العرب اتبعوا دعوة إسماعيل - عليه السلام - حين دعاهم إلى دين أبيه إبراهيم - عليه السلام - فكانت تعبد اللَّه وتوحده وتدين بدينه، حتى طال عليهم الأمد ونسوا حظاً مما ذكروا به، إلا أنهم بقي فيهم التوحيد وعدة شعائر من دين إبراهيم، حتى جاء عمرو بن لحي رئيس خزاعة، وكان قد نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس، ودانوا له ظناً منهم أنه من أكابر العلماء وأفاضل الأولياء، ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقاً، لأن الشام محل الرسل والكتب، فقدم معه بهبل وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك باللَّه، فأجابوه. ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة، لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم.

ومن أقدم أصنامهم مناة، كانت بالمشلل على ساحل البحر الأحمر بالقرب من قديد، ثم اتخذوا اللات في الطائف، ثم اتخذوا العزى بوادي نخلة، هذه الثلاث أكبر أوثانهم، ثم كثر الشرك، وكثرت الأوثان في كل بقعة من الحجاز، ويذكر أن عمرو بن لحي كان له رئى من الجن فأخبره بأن أصنام قوم نوح - ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا - مدفونة بجدة فأتاها فاستثارها، ثم أوردها إلى تهامة، فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل، فذهبت بها إلى أوطانها، حتى صار لكل قبيلة ثم في كل بيت صنم. وقد ملأوا المسجد الحرام بالأصنام. ولما فتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، فجعل يطعنها حتى تساقطت، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت.

وهكذا صار الشرك وعبادة الأصنام أكبر مظهر من مظاهر دين أهل الجاهلية الذين كانوا يزعمون أنهم على دين إبراهيم.

وكانت لهم تقاليد ومراسم في عبادة الأصنام، ابتدع أكثرها عمرو بن لحي وكانوا يظنون أن ما أحدثه عمرو بن لحي بدعة حسنة، وليس بتغيير لدين إبراهيم فكان من مراسم عبادتهم للأصنام أنهم:

كانوا يعكفون عليها ويلتجئون إليها، ويهتفون بها، ويستغيثونها في الشدائد، ويدعونها لحاجاتهم، معتقدين أنها تشفع عند اللَّه، وتحقق لهم ما يريدون.

وكانوا يحجون إليها ويطوفون حولها، ويتذللون عندها، ويسجدون لها.

وكانوا يتقربون إليها بأنواع من القرابين، فكانوا يذبحون وينحرون لها وبأسمائها.

وهذان النوعان من الذبح ذكرهما اللَّه تعالى في قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] وفي قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].

وكان من أنواع التقرب أنهم كانوا يخصون الأصنام بشيئٍ من مآكلهم ومشاربهم حسبما يبدو لهم، وكذلك كانوا يخصون لها نصيباً من حرثهم وأنعامهم. ومن الطرائف أنهم كانوا يخصون من ذلك جزءاً للَّه أيضاً. وكانت عندهم أسباب كثيراً ما كانوا ينقلون لأجلها إلى الأصنام ما كان للَّه، ولكن لم يكونوا ينقلون إلى اللَّه ما كان لأصنامهم بحال. قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].

وكان من أنواع التقرب إلى الأصنام النذر في الحرث والأنعام، قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} [الأنعام: 138].

وكانت منها البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. قال ابن إسحاق البحيرة بنت السائبة، هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهم ذكر سيبت، فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، ثم خلى سبيلها مع أمها، فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها. فهي البحيرة بنت السائبة. والوصيلة الشاة إذا أثأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر جعلت وصيلة، قالوا: قد وصلت، فكان ما ولد بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم إلا أن يموت شيء فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم. والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره، فلم يركب، ولم يجز وبره، وخلى في إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك، وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] وأنزل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139] وقيل في تفسير هذه الأنعام غير ذلك.

وقد صرح سعيد بن المسيَّب أن هذه الأنعام كانت لطواغيتهم وفي الصحيح مرفوعاً أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب.

كانت العرب تفعل كل ذلك بأصنامهم معتقدين أنها تقربهم إلى اللَّه وتوصلهم إليه، وتشفع لديه كما في القرآن: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].

وكانت العرب تستقسم بالأزلام، والزلم القدح الذي لا ريش عليه، وكانت الأزلام ثلاثة أنواع نوع فيه "نعم" و"لا" كانوا يستقسمون بها فيما يريدون من العمل من نحو السفر والنكاح وأمثالهما. فإن خرج "نعم" عملوا به وإن خرج "لا" أخروه عامه ذلك حتى يأتوه مرة أخرى، ونوع فيه المياه والدية، ونوع فيه "منكم" أو "من غيركم" أو "ملصق" فكانوا إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل، وبمائة جزور، فأعطوها صاحب القداح. فإن خرج "منكم" كان منهم وسيطاً، وإن خرج عليه "من غيركم" كان حليفاً، وإن خرج عليه "ملصق" كان على منزلته فيهم، لا نسب ولا حلف.

ويقرب من هذا الميسر والقداح، وهو ضرب من ضروب القمار، وكانوا يقتسمون به لحم الجزور التي يذبحونها بحسب القداح.

وكانوا يؤمنون بأخبار الكهنة والعرافين والمنجمين، والكاهن هو من يتعاطى الإخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعي معرفة الأسرار، ومن الكهنة من يزعم أن له تابعاً من الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من يدعي إدراك الغيب بفهم أعطيه، ومنهم من يدعي معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا القسم يسمى عرافاً، كمن يدعي معرفة المسروق ومكان السرقة والضالة ونحوهما. والمنجّم من ينظر في النجوم أي الكواكب، ويحسب سيرها ومواقيتها، ليعلم بها أحوال العالم وحوادثه التي تقع في المستقبل والتصديق بأخبار المنجمين هو في الحقيقة إيمان بالنجوم، وكان من إيمانهم بالنجوم الإيمان بالأنواء، فكانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا.

وكانت فيهم الطيرة (بكسر ففتح) وهي التشاؤم بالشيء، وأصله أنهم كانوا يأتون الطير أو الظبي فينفرونه، فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا، وعدوه حسناً، وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك وتشاءموا، وكانوا يتشاءمون كذلك إن عرض الطير أو الحيوان في طريقهم.

ويقرب من هذا تعليقهم كعب الأرنب، والتشاؤم ببعض الأيام والشهور والحيوانات والدور والنساء، والاعتقاد بالعدوى والهامة، فكانوا يعتقدون أن المقتول لا يسكن جأشه ما لم يؤخذ بثأره، وتصير روحه هامة أي بومة تطير في الفلوات وتقول صدى صدى أو اسقوني اسقوني، فإذا أخذ بثأره سكن واستراح.

كان أهل الجاهلية على ذلك وفيهم بقايا من دين إبراهيم ولم يتركوه كله، مثل تعظيم البيت والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف بعرفة، والمزدلفة وإهداء البدن، نعم ابتدعوا في ذلك بدعاً.

منها أن قريشاً كانوا يقولون نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت وقاطنو مكة، وليس لأحد من العرب مثل حقنا ومنزلتنا - وكانوا يسمون أنفسهم الحمس - فلا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم إلى الحل، فكانوا لا يقفون بعرفة، ولا يفيضون منها، وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة وفيهم أنزل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199].

ومنها أنهم قالوا: لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط ولا يسلئوا السمن، وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما داموا حرماً.

ومنها أنهم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به من الحل إلى الحرم إذا جاؤوا حجاجاً أو عماراً.

ومنها أنهم أمروا أهل الحل أن لا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا شيئاً فكان الرجال يطوفون عراة، وكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً ثم تطوف فيه وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

وأنزل اللَّه في ذلك: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فإن تكرم أحد من الرجل والمرأة فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها بعد الطواف ولا ينتفع بها هؤلاء ولا أحد غيره.

ومنها أنهم كانوا لا يأتون بيوتهم من أبوابها في حال الإحرام بل كانوا ينقبون في ظهور البيوت نقباً يدخلون ويخرجون منه وكانوا يحسبون ذلك الجفاء براً وقد منعه القرآن [البقرة: 189].

كانت هذه الديانة - ديانة الشرك وعبادة الأوثان، والاعتقاد بالوهميات والخرافيات - ديانة معظم العرب، وقد وجدت اليهودية، والمسيحية، والمجوسية والصابئية سبيلاً للدخول في ربوع العرب.

ولليهود دوران - على الأقل - مثلوهما في جزيرة العرب:

الأول: هجرتهم في عهد الفتوح البابلية والأشورية في فلسطين، فقد نشأ عن الضغط على اليهود، وعن تخريب بلادهم وتدمير هيكلهم على يد الملك بختنصر سنة 587ق. م وسبي أكثرهم إلى بابل أن قسماً منهم هجر البلاد الفلسطينية إلى الحجاز، وتوطن في ربوعها الشمالية.

الدور الثاني: يبدأ من احتلال الرومان لفلسطين بقيادة (بتطس الروماني) سنة 70م فقد نشأ عن ضغط الرومان على اليهود، وعن تخريب الهيكل وتدميره أن قبائل عديدة من اليهود رحلت إلى الحجاز، واستقرت في يثرب وخيبر وتيماء، وأنشأت فيها القرى والآطام والقلاع، وانتشرت الديانة اليهودية بين قسم من العرب عن طريق هؤلاء المهاجرين، وأصبح لها شأن يذكر في الحوادث السياسية التي سبقت ظهور الإسلام، والتي حدثت في صدره. وحينما جاء الإسلام كانت القبائل اليهودية المشهورة هي خيبر والنضير والمصطلق وقريظة وقينقاع، وذكر السمهودي في وفاء الوفا (ص 16) أن عدد القبائل اليهودية يزيد على عشرين.

ودخلت اليهودية في اليمن من قبل تبان أسعد أبي كرب، فإنه ذهب مقاتلاً إلى يثرب واعتنق هناك اليهودية وجاء بحبرين من بني قريظة إلى اليمن، فأخذت اليهودية إلى التوسع والانتشار فيها، ولما ولي اليمن بعده ابنه يوسف ذو نواس هجم على المسيحيين من أهل نجران ودعاهم إلى اعتناق اليهودية، فلما أبوا خدَّ لهم الأخدود وأحرقهم بالنار، ولم يفرق بين الرجل والمرأة والأطفال الصغار والشيوخ الكبار، ويقال إن عدد المقتولين ما بين عشرين ألف إلى أربعين ألف، وقع ذلك في أكتوبر سنة 523م وقد أورد القرآن جزءاً هذه القصة في سورة البروج.

أما الديانة النصرانية فقد جاءت إلى بلاد العرب عن طريق احتلال الحبشة والرومان، وكان أول احتلال الحبشة لليمن سنة 340م واستمر إلى سنة 378م وفي ذلك الزمان دخل التبشير النصراني في ربوع اليمن، وبالقرب من هذا الزمان دخل رجل زاهد مستجاب الدعوات وصاحب كرامات - وكان يسمى فبميون - إلى نجران، ودعاهم إلى الدين المسيحي، ورأى أهل نجران من أمارات صدقه وصدق دينه ما لبوا لأجله النصرانية واعتنقوها.

ولما احتلت الأحباش اليمن كرد فعل لما أتاه ذو نواس وتمكن أبرهة من حكومتها أخذ ينشر الديانة النصرانية بأوفر نشاط، وأوسع نطاق، حتى بلغ من نشاطه أنه بنى كعبة باليمن، وأراد أن يصرف حج العرب إليها ويهدم بيت اللَّه الذي بمكة، فأخذه اللَّه نكال الآخرة والأولى.

وقد اعتنق النصرانية العرب الغساسنة وقبائل تغلب وطيء وغيرهما لمجاورة الرومان، بل قد اعتنقها بعض ملوك الحيرة.

أما المجوسية فكان معظمها في العرب الذين كانوا بجوار الفرس، فكانت في عراق العرب وفي البحرين - الأحساء - وهجر وما جاورها من منطقة سواحل الخليج العربي، ودان لها رجال من اليمن في زمن الاحتلال الفارسي.

أما الصابئية فقد دلت الحفريات والتنقيبات في بلاد العراق وغيرها أنها كانت ديانة قوم إبراهيم الكلدانيين، وقد دان بها كثير من أهل الشام، وأهل اليمن في غابر الزمان، وبعد تتابع الديانات الجديدة من اليهودية والنصرانية تضعضع بنيان الصابئية وخمد نشاطها، ولكن لم يزل في الناس بقايا من أهل هذه الديانة مختلطين مع المجوس أو مجاورين لهم في عراق العرب وعلى شواطىء الخليج العربي.


الحالة الدينية:

كانت هذه الديانات هي ديانات العرب حين جاء الإسلام، وقد أصاب هذه الديانات الانحلال والبوار، فالمشركون الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم كانوا بعيدين عن أوامر ونواهي شريعة إبراهيم، مهملين ما أتت به من مكارم الأخلاق، فكثرت معاصيهم، ونشأ فيهم على توالي الزمان ما ينشأ في الوثنيين من عادات وتقاليد تجري مجرى الخرافات الدينية، وأثرت في الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية تأثيراً بالغاً جداً.

أما اليهودية فقد انقلبت رياء وتحكماً وصار رؤساؤها أرباباً من دون اللَّه، يتحكمون في الناس ويحاسبونهم حتى على خطرات النفس وهمسات الشفاه، وجعلوا همهم الحظوة بالمال والرياسة، وإن ضاع الدين وانتشر الإلحاد والكفر والتهاون بالتعاليم التي حض اللَّه عليها وأمر كل فرد بتقديسها.

وأما النصرانية فقد عادت وثنية عسرة الفهم، وأوجدت خلطاً عجيباً بين اللَّه والإنسان، ولم يكن لها في نفوس العرب المتدينين بهذا الدين تأثير حقيقي، لبعد تعاليمها عن طراز المعيشة التي ألفوها، ولم يكونوا يستطيعون الابتعاد عنها.

وأما سائر أديان العرب فكانت أحوال أهلها كأحوال المشركين فقد تشابهت قلوبهم، وتواردت عقائدهم، وتوافقت تقاليدهم وعوائدهم.


صور من المجتمع العربي الجاهلي:

بعد البحث عن سياسة الجزيرة وأديانها بقي لنا أن نتكلم حول الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، والخلقية، وفيما يلي بيانها بإيجاز.


الحالة الاجتماعية:

كانت في العرب أوساط متنوعة تختلف أحوال بعضها عن بعض، فكانت علاقة الرجل مع أهله في الأشراف على درجة كبيرة من الرقي والتقدم، وكان لها من حرية الإرادة ونفاذ القول القسط الأوفر، وكانت محترمة مصونة تسل دونها السيوف، وتراق الدماء، وكان الرجل إذا أراد أن يمتدح بما له في نظر العرب المقام السامي من الكرم والشجاعة لم يكن يخاطب في أكثر أوقاته إلا المرأة، وربما كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، ومع هذا كله فقد كان الرجل يعتبر بلا نزاع رئيس الأسرة، وصاحب الكلمة فيها، وكان ارتباط الرجل بالمرأة بعقد الزواج تحت إشراف أوليائها ولم يكن من حقها أن تفتات عليهم.

بينما هذه حال الأشراف، كان هناك في الأوساط الأخرى أنواع من الاختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة، روى أبو داود عن عائشة رضي اللَّه عنها: أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء فكان منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كال الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت، ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول له قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت، وهو ابنك يا فلان، فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها، ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات، تكون علماً لمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث اللَّه محمداً صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح الإسلام اليوم.

وكانت عندهم اجتماعات بين الرجل والمرأة تعقدها شفار السيوف، وأسنة الرماح، فكان المتغلب في حروب القبائل يسبي نساء المقهور فيستحلها، ولكن الأولاد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار مدة حياتهم.

وكان من المعروف في أهل الجاهلية أنهم كانوا يعددون بين الزوجات من غير حد معروف ينتهي إليه، وكانوا يجمعون بين الأختين، وكانوا يتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو ماتوا عنها [سورة النساء: 22، 23] وكان الطلاق بيد الرجال لا إلى حد معين.

وكانت فاحشة الزنا سائدة في جميع الأوساط، لا نستطيع أن نخص منها وسطاً دون وسط أو صنفاً دون صنف، إلا أفراداً من الرجال والنساء ممن كان تعاظم نفوسهم يأبى الوقوع في هذه الرذيلة، وكانت الحرائر أحسن حالاً من الإماء والطامة الكبرى هي الإماء، ويبدو أن الأغلبية الساحقة من أهل الجاهلية لم تكن تحس بعار في الانتساب إلى هذه الفاحشة، روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قام رجل فقال: يا رسول اللَّه إن فلاناً ابني عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر". وقصة اختصام سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة - وهو عبد الرحمن بن زمعة - معروفة.

وكانت علاقة الرجل مع أولاده على أنواع شتى، فمنهم من يقول:

إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض

ومنهم من كان يئد البنات خشية العار والإنفاق، ويقتل الأولاد خشية الفقر والإملاق [الأنعام: 151، النحل: 58، الحشر: 17، التكوير: 8] ولكن لا يمكننا أن نعد هذا من الأخلاق المنتشرة السائدة، فقد كانوا أشذ الناس احتياجاً إلى الأبناء ليتقوا بهم العدو. أما معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيرته فقد كانت موطَّدة قوية، فقد كانوا يحيون للعصبية القبلية ويموتون لها. وكانت روح الاجتماع سائدة بين القبيلة الواحدة تزيدها العصبية، وكان أساس النظام الاجتماعي هو العصبية الجنسية والرحم، وكانوا يسيرون على المثل السائر: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" على المعنى الحقيقي من غير التعديل الذي جاء به الإسلام من أن نصر الظالم كفه عن ظلمه، إلا أن التنافس في الشرف والسؤدد كثيراً ما كان يفضي إلى الحروب بين القبائل التي كان يجمعها أب واحد، كما نرى ذلك بين الأوس والخزرج، وعبس وذبيان، وبكر وتغلب وغيرها.

أما العلاقة بين القبائل المختلفة فقد كانت مفككة الأوصال تماماً. وكانت قواهم متفانية في الحروب، إلا أن الرهبة والوجل من بعض التقاليد والعادات المشتركة بين الدين والخرافة ربما كان يخفف من حدتها وصرامتها. وفي بعض الحالات كانت الموالاة والحلف والتبعية تفضي إلى اجتماع القبائل المتغايرة، وكانت الأشهر الحرم رحمة وعوناً لهم على حياتهم وحصول معايشهم.

وقصارى الكلام أن الحالة الاجتماعية كانت في الحضيض من الضعف والعماية، فالجهل ضارب أطنابه، والخرافات لها جولة وصولة، والناس يعيشون كالأنعام، والمرأة تباع وتشترى وتعامل كالجمادات أحياناً، والعلاقة بين الأمة داهية مبتوتة، وما كان من الحكومات فجل همتها امتلاء الخزائن من رعيتها أو جر الحروب على مناوئيها.


الحالة الاقتصادية:

أما الحالة الاقتصادية، فتبعت الحالة الاجتماعية، ويتضح ذلك إذا نظرنا في طرق معايش العرب، فالتجارة كانت أكبر وسيلة للحصول على حوائج الحياة، والجولة التجارية لا تتيسر إلا إذا ساد الأمن والسلام، وكان ذلك مفقوداً في جزيرة العرب إلا في الأشهر الحرم، وهذه هي الشهور التي كانت تعقد فيها أسواق العرب الشهيرة من عكاظ وذي المجاز ومجنة وغيرها.

وأما الصناعات فكانوا أبعد الأمم عنها، ومعظم الصناعات التي كانت توجد في العرب من الحياكة والدباغة وغيرها كانت في أهل اليمن والحيرة، ومشارف الشام، نعم كانت في داخل الجزيرة الزراعة، والحرث، واقتناء الأنعام، وكانت نساء العرب كافة يشتغلن بالغزل، لكن كانت الأمتعة عرضة للحروب، وكان الفقر والجوع والعري عاماً في المجتمع.


الأخلاق:

لا ننكر أن أهل الجاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان، ولكن كانت فيهم من الأخلاق الفاضلة المحمودة ما يروع الإنسان ويفضي به إلى الدهشة والعجب، فمن تلك الأخلاق:

الكرم، وكانوا يتبارون في ذلك ويفتخرون به، وقد استنفدوا فيه نصف أشعارهم بين ممتدح به ومثن على غيره، كان الرجل يأتيه الضيف في شدة البرد والجوع، وليس عنده من المال إلا ناقته التي هي حياته وحياة أسرته، فتأخذه هزة الكرم، فيقوم إليها، ويذبحها لضيفه، ومن آثار كرمهم أنهم كانوا يتحملون الديات الهائلة والحمالات المدهشة، يكفون بذلك سفك الدماء، وضياع الإنسان، ويمتدحون بها مفتخرين على غيرهم من الرؤساء والسادات.

وكان من نتائج كرمهم أنهم كانوا يمتدحون بشرب الخمور، لا لأنها مفخرة في ذاتها، بل لأنها سبيل من سبل الكرم، ومما يسهل السرف على النفس، ولأجل ذلك كانوا يسمون شجر العنب بالكرم، وخمره ببنت الكرم، وإذا نظرت إلى دواوين أشعار الجاهلية تجد ذلك باباً من أبواب المديح والفخر، يقول عنترة بن شداد العبسي في معلقته:

ولقد شربت من المدامة بعد ما ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرة فرنت بأزهر بالشمال مفدم

فإذا شربت فإنني مستهلك مالي، عرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلي وتكرمي

ومن نتائج كرمهم اشتغالهم بالميسر، فإنهم كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكرم، لأنهم كانوا يطعمون المساكين ما ربحوه، أو ما كان يفضل عن سهام الرابحين، ولذلك ترى القرآن لا ينكر نفع الخمر والميسر وإنما يقول: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].

ومن تلك الأخلاق الوفاء بالعهد، فقد كان العهد عندهم ديناً يتمسكون به، ويستهينون في سبيله قتل أولادهم، وتخريب ديارهم، وتكفي في معرفة ذلك قصة هانىء بن مسعود الشيباني، والسموأل بن عاديا، وحاجب بن زرارة التميمي.

ومنها عزة النفس وإباء عن قبول الخسف والضيم، وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة وشدة الغيرة، وسرعة الانفعال، فكانوا لا يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والهوان إلا قاموا إلى السيف والسنان، وأثاروا الحروب العوان، وكانوا لا يبالون بتضحية أنفسهم في هذا السبيل.

ومنها المضي في العزائم، فإذا عزموا على شيء يرون فيه المجد، والافتخار لا يصرفهم عنه صارف، بل كانوا يخاطرون بأنفسهم في سبيله.

ومنها الحلم، والأناة، والتؤدة، كانوا يتمدحون بها إلا أنها كانت فيهم عزيزة الوجود، لفرط شجاعتهم، وسرعة إقدامهم على القتال.

ومنها السذاجة البدوية، وعدم التلوث بلوثات الحضارة، ومكائدها، وكان من نتائجه الصدق والأمانة والنفور عن الخداع والغدر.

نرى أن هذه الأخلاق الثمينة - مع ما كان لجزيرة العرب من الموقع الجغرافي بالنسبة إلى العالم - كانت سبباً في اختيارهم لحمل عبء الرسالة العامة، وقيادة الأمة الإنسانية والمجتمع البشري، لأن هذه الأخلاق وإن كان بعضها يفضي إلى الشر، ويجلب الحوادث المؤلمة إلا أنها كانت في نفسها أخلاقاً ثمينة، تدر المنافع العامة للمجتمع البشري بعد شيء من الإصلاح، وهذا الذي فعله الإسلام.

ولعل أغلى ما عندهم من هذه الأخلاق وأعظمها نفعاً بعد الوفاء بالعهد هو عزة النفس والمضي في العزائم، إذ لا يمكن قمع الشر والفساد، وإقامة نظام العدل والخير إلا بهذه القوة القاهرة وبهذا العزم الصميم.

ولهم أخلاق فاضلة أخرى دون هذه التي ذكرناها وليس قصدنا استقصاءها.


نسب النبي صلى الله عليه وسلم:

لنسب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء جزء اتفق على صحته أهل السير والأنساب وهو إلى عدنان، وجزء اختلفوا فيه ما بين متوقف فيه وقائل به، وهو ما فوق عدنان إلى إبراهيم عليه السلام، وجزء لا نشك أن فيه أموراً غير صحيحة، وهو ما فوق إبراهيم إلى آدم عليهما السلام، وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذا. وهاك تفصيل تلك الأجزاء الثلاثة

الجزء الأول: محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب - واسمه شيبة - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف - واسمه المغيرة - بن قصي - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر - وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة - بن مالك ابن النضر - واسمه قيس - بن كنانة بن خزيمة بن مدركة - واسمه عامر - بن إلياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان.

الجزء الثاني: ما فوق عدنان، وعدنان هو ابن أد بن هميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال بن أبي غمام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يحلن بن أرعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمى بن مزي بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

الجزء الثالث: ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارح - واسمه آزر - بن ناحور بن ساروع - أو ساروغ بن راعو بن فالخ بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح - عليه السلام - بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ - يقال هو إدريس عليه السلام - ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوشة بن شيث بن آدم عليهما السلام.


الأسرة النبوية:

تعرف أسرته صلى الله عليه وسلم بالأسرة الهاشمية - نسبة إلى جده بن عبد مناف - وإذن فلنذكر شيئاً من أحوال هاشم ومن بعده.

هاشم - وقد أسلفنا أن هاشماً هو الذي تولى السقاية والرفادة من بني عبد مناف حين تصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسام المناصب فيما بينهما، وهاشم كان موسراً ذا شرف كبير، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وكان اسمه عمرو فما سمي هاشماً إلا لهشمه الخبز، وهو أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء والصيف، وفيه يقول الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما سفر الشتاء ورحلة الأصياف

ومن حديثه أنه خرج إلى الشام تاجراً، فلما قدم المدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وأقام عندها، ثم خرج إلى الشام - وهي عند أهلها قد حملت بعبد المطلب - فمات هاشم بغزة من أرض فلسطين، وولدت امرأته سلمى عبد المطلب سنة 497م، وسمته شيبة لشيبة كانت في رأسه وجعلت تربيه في بيت أبيها في يثرب، ولم يشعر به أحد من أسرته بمكة وكان لهاشم أربعة بنين وهم أسد وأبو صيفي، ونضلة وعبد المطلب، وخمس بنات وهي الشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وجنة.

عبد المطلب - قد علمنا ممّا سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إلى أخيه المطلب بن عبد مناف (وكان شريفاً مطاعاً ذا فضل في قومه، كانت قريش تسميه الفياض لسخائه) ولما صار شيبة - عبد المطلب - وصيفاً أو فوق ذلك سمع به المطلب فرحل في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمه، وأردفه على راحلته فامتنع حتى تأذن له أمه، فسألها المطلب أن ترسله معه، فامتنعت فقال:

إنما يمضي إلى ملك أبيه، وإلى حرم اللَّه فأذنت له، فقدم به مكة مردفه على بعيره، فقال الناس هذا عبد المطلب، فقال ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم، فأقام عنده حتى ترعرع، ثم إن المطلب هلك بردمان من أرض اليمن، فولى بعده عبد المطلب، فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم، وشرف في قومه شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه وأحبه قومه، وعظم خطره فيهم.

ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح عبد المطلب فغصبه إياها، فسأل رجالاً من قريش النصرة على عمه، فقالوا لا ندخل بينك وبين عمك، فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتاً يستنجدهم، وسار خاله أبو سعد بن عدي في ثمانين راكباً، حتى نزل بالأبطح من مكة، فتلقاه عبد المطلب، فقال: المنزل، يا خال فقال: لا واللَّه حتى ألقى نوفلاً، ثم أقبل فوقف على نوفل، وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش، فسل أبو سعد سيفه وقال: ورب البيت لئن لم ترد على ابن أختي أركاحه لأمكنن منك هذا السيف، فقال: رددتها عليه، فأشهد عليه مشايخ قريش ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عنده ثلاثاً، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة، فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم. ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا: نجن ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره - وذلك أن أم عبد مناف منهم - فدخلوا دار الندوة وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس ونوفل، وهذا الحلف الذي صار سبباً لفتح مكة كما سيأتي.

ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان:


حفر بئر زمزم ووقعة الفيل:

وخلاصة الأول: أنه أمر في المنام بحفر زمزم ووصف له موضعها، فقام يحفر فوجد فيه الأشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلاء، أي السيوف والدروع والغزالين من الذهب، فضرب الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالين، وأقام سقاية زمزم للحجاج.

ولما بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد المطلب، وقالوا له: أشركنا، قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به، فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد، ولم يرجعوا حتى أراهم اللَّه في الطريق ما دلهم على تخصيص عبد المطلب بزمزم، وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه اللَّه عشرة أبناء، وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة.

وخلاصة الثاني: أن أبرهة الصباح الحبشي، النائب العام عن النجاشي على اليمن، لما رأى العرب يحجون الكعبة بنى كنيسة كبيرة بصنعاء، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلاً فلطخ قبلتها بالعذرة. ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم - عدده ستون ألف جندي - إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلاً من أكبر الفيلة، وكان في الجيش 9 فيلة أو 13 فيلاً، وواصل سيره حتى بلغ المغمس، وهناك عبأ جيشه، وهيأ فيله، وتهيأ لدخول مكة. فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل، ولم يقم ليقدم إلى الكعبة، وكانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبينما هم كذلك إذ أرسل اللَّه عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب منهم أحداً إلا صار تتقطع أعضاؤه، وهلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل منهل، وأما أبرهة فبعث اللَّه عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك.

وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب وتحرزوا في رؤوس الجبال خوفاً على أنفسهم من معرة الجيش، فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين.

وكانت هذه الوقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يوماً أو بخمس وخمسين يوماً - عند الأكثر - وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائل مارس سنة 571م، وكانت تقدمة قدمها اللَّه لنبيه وبيته، لأنا حين ننظر إلى بيت المقدس نرى أن المشركين من أعداء اللَّه تسلطوا على هذه القبلة، وأهلها مسلمون كما وقع لبختنصر سنة 587ق.م، والرومان سنة 70م، ولكن الكعبة لم يسيطر عليها النصارى - وهم المسلمون إذ ذاك - مع أن أهلها كانوا مشركين.

وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبأها إلى معظم المعمورة المتحضرة إذ ذاك. فالحبشة كانت لها صلة قوية بالرومان، والفرس لا يزالون لهم بالمرصاد، يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم، ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر، فهذه الوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيت اللَّه، وأنه هو الذي اصطفاه اللَّه للتقديس، فإذن لو قام أحد من أهله بدعوى النبّوة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه الوقعة، وكان تفسيراً للحكمة الخفية التي كانت في نصرة اللَّه المشركين ضد أهل الإيمان بطريق يفوق عالم الأسباب.

وكان لعبد المطلب عشرة بنين، وهم الحارث والزبير وأبو طالب، وعبد اللَّه، وحمزة، وأبو لهب، والغيداق، والمقوم، وصفار، والعباس، وقيل: كانوا أحد عشر، فزادوا ولداً اسمه قثم، وقيل: كانوا ثلاثة عشر، فزادوا عبد الكعبة وحجلا، وقيل: إن عبد الكعبة هو المقوم، وحجلا هو الغيداق ولم يكن من أولاده رجل اسمه قثم، وأما البنات فست وهن أم الحكيم - وهي البيضاء - وبرة وعاتكة وصفية وأروى وأميمة.

عبد اللَّه والد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - أمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة، وكان عبد اللَّه أحسن أولاد عبد المطلب، وأعفهم وأحبهم إليه، وهو الذبيح، وذلك أن عبد المطلب لما تم أبناؤه عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، فكتب اسماءهم في القداح، وأعطاها قيم هبل، فضرب القداح فخرج القدح على عبد اللَّه، فأخذه عبد المطلب وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحه، فمنعته قريش ولا سيما أخواله من بني مخزوم وأخوه أبو طالب، فقال عبد المطلب فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه أن يأتي عرافة فيستأمرها، فأتاها، فأمرت أن يضرب القداح على عبد اللَّه وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت على عبد اللَّه يزيد عشراً من الإبل حتى يرضي ربه، فإن خرجت على الإبل نحرها، فرجع وأقرع بين عبد اللَّه وبين عشر من الإبل فوقعت القرعة على عبد اللَّه فلم يزل يزيد من الإبل عشراً عشراً ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعت القرعة عليها، فنحرت عنه، ثم تركها عبد المطلب لا يرد عنها إنساناً ولا سبعاً، وكانت الدية في قريش وفي العرب عشراً من الإبل، فجرت بعد هذه الوقعة مائة من الإبل، وأقرها الإسلام، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل، وأباه عبد اللَّه.

واختار عبد المطلب لولده عبد اللَّه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، وأبوها سيد بني زهرة نسباً وشرفاً، فبنى بها عبد اللَّه في مكة، وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يمتار لهم تمراً، فمات بها، وقيل: بل خرج تاجراً إلى الشام، فأقبل في عير قريش، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها، ودفن في دار النابغة الجعدي، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكانت وفاته قبل أن يولد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وبه يقول أكثر المؤرخين، وقيل: بل توفي بعد مولده بشهرين. ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنة بأروع المراثي، وقالت:

عفا جانب البطحاء من ابن هاشم وجاور لحدا خارجاً في الغماغم
دعته المنايا دعوة فأجابها وما تركت في الناس مثل ابن هاشم

عشية راحوا يحملون سريره تعاوره أصحابه في التزاحم
فإن تلك غالته المنايا وريبها فقد كان معطاء كثير التراحم

وجميع ما خلفه عبد اللَّه خمسة أجمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .