الحج : الاحصار والفوات

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


الإحصار والفوات:

الإحصار في اللغة من الحصر وهو المنع. ومنه قوله تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] يقال "حصره العدو" و "أحصره المرض".

والإحصار في الشرع: المنع بمرض أو عدو من الوقوف والطواف.

قال الحنفية: مَن قدر على أحدهما فليس بمُحْصَر.

وقال المالكية والشافعية والحنبلية: الإحصار هو المنع بعدو عن الوقوف بعرفة أو الطواف أو السعي.

وأما الفوات فهو في اصطلاح الفقهاء : أن يذهب وقت الوقوف بعرفة، دون أن يدرك الحاج الوقَوف بها، سواء كان ذلك بعذر أم بغير عذر.

ومن هذا التمهيد يظهر لك أن الإحصار يقع في الحج، ويقع في العمرة أيضاً، وأن الفوات يختص بالحج.

أما العمرة: فإنها لا تفوت، لأنها غير مؤقتة بوقت، وعلى ذلك الإجماع.


المبحث الأول: في الإحصار

الأصل في حكم الإحصار: قوله تعال :

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].

وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم معتمرين، فحالَ كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ وحلق رأسه".

وقد قرر أهل اللغة أن "الحصر" للمنع بالعدو "والاحصار" للمنع بالمرض.

ومن ذلك ترى أن الآية وردت بمناسبة الحصر بالعدو، وأطلقت كلمة "أحصرتم" وأن الإحصار في اللغة للمنع بالمرض.

فمن ثم اختلف الفقهاء في المانع الذي يصير المحرم به مُحْصراً:

فذهب الحنفية إلى أن الإحصار يتحقق بالمرض وبالعدو وبكل مانع من الوقوف والطواف، كفقد النفقة‎، وعدم المحرم بالنسبة للمرأة. واستدلوا بالآية {فإن أُحْصِرْتُم فما اسْتَيْسَر من الهَدْي} ، فإن "الإحصار" هو ما يكون بالمرض، أما ما يكون بالعدو فهو "الحصر" لا الإحصار.

وذهب المالكية والشافعية والحنبلية إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو أو الفتنة أو الحبس ظلماً لأن الآية نزلت في الحصر بالعدو فيكون هو المقصود، ولا يلحق به المرض، وقد قال تعالى في الآية: {فإذا أمِنْتُمُ} والأمن يكون من العدو، فلا يتحلل إلا في الإحصار بالعدو ونحوه. أو إذا كان اشترط في الإحرام التحلل بشيء آخر .

تحلل المُحْصَر:

ذهب الحنفية إلى أنه إذا تحقق الإحصار جاز للمحصر أن يتحلل من إحرامه، وذلك بأن ينوي التحلل ويبعث شاة تذبح عنه في الحرم، أو يبعث بثمنها لتُشْتَرى به، ثم تُذْبَح هناك، ويَضرب للذبح موعداً يتحلل بعده، لقوله تعالى: {ولا تحلِقوا رؤوسَكُمْ حتى يبلغَ الهَدْيُ محِلَّهُ}. ومحله الحرم.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يذبحها في موضع إحصاره، ولا حاجة إلى أن يبعثها إلى الحرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر في الحديبية حيث أحصر، وهي من الحل.

ذهب الحنفية إلى أنَّ المحصر يتحلل بمجرد ذبح الهدي ولا يشترط الحلق لتحلل.

وذهب الشافعية في الأصح وهو المذهب عند الحنبلية أنه لا يتحلل إلا بالذبح والحلق. ويدل لهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه حلق يوم الحديبية وأمر أصحابه بذلك.

وقال المالكية: يتحلل بنية التحلل فقط، ولا يجب عليه ذبح الهَدْي ولا الحلق بل هما سنة، وفسّروا الآية على أنها في الهدي الذي كان مع الصحابة عام الحديبية.

قضاء نسك المحصر:

اتفق الفقهاء على أن المحصر إذا تحلل من إحرام حجٍّ واجب، أو عمرة واجبة، فعليه القضاء.

واختلفوا في قضاء الحج النفل، والعمرة النافلة إذا تحلل المحصر من إحرامهما:

فعند الحنفية يجب قضاؤهما.

وعند الشافعية لا يجب.

ثم اختلفوا أيضاً في الواجب قضاؤه:

فقال الحنفية: المحصر بالحج إن تحلل يجب عليه حجة وعمرة، والقارن عليه حجة وعمرتان، أما المعتمر فيقضي العمرة فقط.

وقال المالكية والشافعية والحنبلية: يلزمه قضاء ما فاته بالإحصار فحسب، إن حَجّة فحجةٌ فقط، وإن عمرة فعمرة وهكذا.

وعليه نية القضاء باتفاق العلماء.

أما المتمتع فإن أحصر عن العمرة فعليه قضاؤها فقط، وإن أدى العمرة ثم أحصر عن الحج فحكمه حكم المفرد اتفاقاً أيضاً.


 المبحث الثاني: في الفوات

اتفق الأئمة على أن من فاته الوقوف بعرفة بأن طلع عليه الفجر يوم النحر ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج.

ثم إن أراد التحلل من الإحرام بأداء أعمال العمرة، فيطوف ويسعى ثم يحلق أو يقصر. لأن الإحرام بعدما انعقد صحيحاً لا طريق للخروج عنه إلا بأداء أحد النسكين كما في الإحرام المبهم، وههنا عجز عن الحج فتتعين عليه العمرة.

واتفقوا على أنه يجب عليه الحج من عام قابل، إذا كانت الفائتة فريضة.

وكذا الحجة النافلة إذا فاتت يجب قضاؤها عند الأئمة الأربعة. إلا رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجب قضاء الحجة النافلة إذا فاتت.

استدل الأئمة على وجوب القضاء بقوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله} وهو عام في الحج سواء كان فرضاً أو نفلاً.

وروي عن ابن عمرَ وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ فاتَه عَرَفَةُ بليلٍ فقد فاتَه الحجُّ، فَلْيَتَحلَّلْ بعمرةٍ، وعليه الحجُّ مِن قابل ". أخرجه الدارقطني.

واستدل للقول بعدم وجوب القضاء بأن الأحاديث الصحيحة دالة على أن الحج فرض مرة واحدة، فلو وجب قضاء النافلة كان الحج واجباً أكثر من مرة، وهو خلاف الشرع.

واختلفوا أيضاً في وجوب الهدي عليه:

أ-أما المفرد:

فذهب الحنفية إلى أنه لا يجب عليه الهدي، وهو رواية عن أحمد.

وذهب المالكية والشافعية والحنبلية إلى أنه يجب عليه الهدي يذبحه في حجة القضاء.

ب-وأما قضاء القارن:

ففيه تفصيل عند الحنفية، لأنه في مذهبهم يطوف طوافين، ويسعى سعيين، لذلك قرروا أنه: إن كان قد طاف لعمرته قبل الفوات فهو كالمفرد، وإن لم يطف لها فإنه يطوف أولاً لعمرته ويسعى لها، ثم يطوف طوافاً آخر لفوات الحج ويسعى له ويحلق، وقد سقط عنه دم القران. وعليه قضاء حجة لا غير، لفراغ ذمته من إحرام عمرته.

وقال الشافعية من أحرم بالحج والعمرة قارناً ففاته الوقوف فإن العمرة تفوت بفوات الحج لأنها مندرجة فيه وتابعة له، ولأنه إحرام واحد فلا يتبعض حكمه، وعليه القضاء قارناً ويلزمه ثلاثة دماء : دم للفوات، ودم للقران الفائت، ودم ثالث للقران الذي أتى به في القضاء... وتلزمه هذه الدماء سواء قضى مفرداً أو متمتعاً أو قارناً.

وقال المالكية والحنبلية: عليه دمان: هدي للقران وهدي فواته.

ج-وأما قضاء المتمتع الذي اعتمر ثم أحرم بالحج وفاته الحج فيبطل تمتعه بفوات الحج.

ذهب الحنفية إلى أن عليه قضاء الحج فقط ولا دم عليه عند الحنفية فإنه يسقط عنه دم التمتع بالفوات، لأن شرط التمتع وجود حجته في سنة عمرته في أشهر الحج، وقد فات الحج، ولا دم على الفوات.

وقال المالكية: يلزمه دم الفوات وهو يسقط دم التمتع.

وقال الشافعية والحنبلية: يلزمه دمان: دم الفوات ودم التمتع.

الخطأ العام في وقوف عرفة:

إن وقع خطأ عام في الوقوف بعرفة للخطأ في إثبات الهلال فوقفوا يوم العاشر فقد تَمَّ حج الناس، اتفاقاً بين الفقهاء.

لو وقفوا يوم الثامن من ذي الحجة ظناً أنه التاسع لا يصح وقوفهم، ويكون الحج قد فاتهم، ويجب على كل واحد ما يجب على فائت الحج حسبما عرفته وهذا مذهب الجمهور عدا الحنبلية. وقال الحنبلية : يجزئهم الوقوف.

وهذا كله إذا علموا بالخطأ بعد فوات وقت الوقوف بعرفة، أما إذا علموا بالخطأ قبل فوات وقت الوقوف فيجب عليهم الوقوف اتفاقاً، لتمكنهم منه.