الدولة العثمانية : السلطان سليم الثالث
السلطان سليم الثالث ابن السلطان مصطفى خان الثالث 1203 - 1222 هـ
جلس هذا السلطان على التخت وعمره عشرون سنة وفي أوّل جلوسه وجه همته إلى إصلاح حال العساكر وتقوية العمارة البحرية وأمر بجميع الجيوش من كافة الولايات فاجتمع لديه في وقت قريب نحو150000 مقاتل في مدينة صوفية وكانت الأحوال السياسية مضطربة والحروب قائمة بين الدولة والروسية كما تقدّم ذكره ومع اهتمام السلطان بذلك كان اليأس استولى على الجنود وترك كثير منهم النقط التي عهد إليهم حراستها.
حركة الأساطيل في الوقت المذكور:
إنه بعد أن أتم القبودان حسين باشا إصلاح سفن الأساطيل وأنجز لوازمها بحيث أصبحت الدوننما كاملة الأدوات والآلات عزل عن رياسة البحرية وعين بدله حسين باشا الكريدلي وتعين هو سر عسكراً على أوردي سلستره وقد نسب بعض المؤرخين عزله عن رياسة العمارة للخسارة التي لحقت بالدوننما الخفيفة وتأخره عن إمداد قلعة أوزى وعودته بالدوننما قبل الميعاد المعين مع علمه بما كانت عليه الأحوال في البحر الأسود وزاد مؤرخو عصره مثل واصف وغيره أن عزله كان لأسباب أخرى نسبوها إليه ولكنها غير حقيقة وإنما كان عزله عن الدوننما للتغييرات التي تحدث عادة عند جلوس كل سلطان جديد.
وكان أعظم وزراء ذلك العهد قام بعدة خدم مهم أبقت له بين أعمال الوزراء ذكراً حميداً وقال المرحوم الشهير جودت باشا في تاريخه عن الدولة العثمانية أن حسين باشا المذكور بعد تعيينه سر عسكر السلستره خدم هناك خدماً ابيضت بها صحف تاريخه وكانت درة في إكليل أيامه المضائة وأزمانه السابقة ثم ارتقى إلى وظيفة الصدارة العظمى ثم اغتالته المنية فجأة 1204هـ ولو كان للباشا المذكور غير الأعمال الحسنة لما توظف في هذه الوظيفة السامية بل لما كان تعين بوظيفة أخرى بعد عزله عن الأساطيل على الغالب.
محاربة نخل برون البحرية:
إنه في أواسط رجب من سنة 1203هـ-1789م خرج القبودان حسين باشا المذكور بالدوننما وكانت مشكلة من خمسين سفينة بين كبيرة وصغيرة إلى البحر الأسود ولما وصلت إلى ثغر سنة SULINA تركت به ما معها من السفن الصغيرة ثم أقلعت تقصد كيرج KERCH الكائنة بقرب نخل برون وهناك تقابلت مع الدوننما الروسية وكانت مركبة من خمس غلايين و فرقاطة ولما اشتبك القتال بين الطرفين تمكن طوبجيه العثمانيين من تعطيل أربع فرقاطات روسية ومع ذلك فلا زالت الحرب قائمة بإطلاق المدافع مدة سبع ساعات متوالية ولم يمنعها إلا دخول الليل وكانت الخسائر من الطرفين عظيمة وفرّ الروس ليلاً إلى ميناء كفه KAFFA فعادت الأساطيل العثمانية إلى ثغر سنة ثانية التي خرجت منه.
وبعد أن أصلحت من شأنها خرجت في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة لاقتفاء أثر العدو وبمياه هوجه بك أو أوديسا وهناك أخبرتها سفينة عثمانية من سفن القره قول أنها رأت الدوننما الروسية المشكلة من سبع وثلاثين سفينة حربية قامت من جهة رأس قيل وهي تقصد هذه الجهة فأخذت الدوننما العثمانية حذرها وكانت الرياح إذ ذاك شديدة تهب من الجنوب الشرقي فكانت تسوق مراكب العدو وتساعدها بقدر ما كانت معاكسة لسفن العثمانيين المواجهة لها فأمر لذلك القبودان العثماني سفنه بنشر الشراعات والابتعاد عن الشاطىء.
وقبل الزوال ببرهة صغيرة تقابل الدوننمتان وابتدأت بينهما الحرب بإطلاق المدافع وقد أحدثت سفينة القبودان العثماني ببعض سفن الروس خسائر وافرة فقد الروس فرقاطتين ولما أقبل الظلام افترق الدوننمتان عن بعضهما وقامت في الليل زوبعة شديدة اضطرّت سفن الروسيا لترك ميدان القتال واستقبلت في مكان قريب أما الدوننما العثمانية فأنها تفرّقت عن بعضها وبقي القبودان الثاني بسفينته في معترك القتال بمفرده وعند الصباح هجمت عليه سفن الروسيا واحتاطت به من كل جهة ومع ذلك فخوفاً من أن يرمى بالجبن استمرّ يقاتل بمفرده بكل جهد وشرف حتى آخر رمق من الحياة.
ثم مضى شهيد الصداقة والإخلاص ومات غالب من كان معه من الجنود وعند ذلك أضرم أحد رجال تلك السفينة النار في مخزن بارودها فاحترقت وطارت قطعاً وأغرقت السفينة الروسية التي بجانبها وكانت الدوننما العثمانية ظهرت في تلك الأثناء وأرادت نجدة سفينة القبودان إلا أنه لم يمكنها ذلك لبعد المسافة ومخالفة الريح لها ولما رأت ما وقع لهذه السفينة كبر عليها ذلك وتوجه بها القبودان إلى جهة كليغراد واستقبل قريباً من الساحل وأرسل خبر وقائع هذه المحاربة للآستانة والتمس التصريح بعودة الدوننما لاحتياج معظم سفنها للإصلاح فلما أجيب طلبه أقلع إلى الآستانة.
التنظيمات الداخلية:
لما جلس السلطان سليم الثالث على تخت السلطنة أظهر ميلاً شديداً ورغبة زائدة في إصلاح أحوال الدولة وإنهاضها من ورطتها بإدخال عناصر الترقي والتمدن الحديث فأخذ في إخراج الدولة من عزلتها العقيمة وإدخالها ضمن دائرة التجديدات المفيدة والتحسينات المهمة التي حصلت بأوروبا وهو عمل من أشدّ الأعمال خطراً وأصعبها سيما في بلاد لم تشرف ولو بعض إشراف على المدنية الأوروباوية فلم يوفق لذلك لأمر يعمله الله وكانت نتيجة مسعاه أن خلع وقتل.
وكان أول أعماله أن أظهر الرحمة والشفقة والكرم واجتهد في تعميم العدالة بالمحاكم وقد قابل كثير من الأهالي هذه الأعمال بالفرح والمسرة خصوصاً وإن قعود سلطان شاب نشيط متصف بشريف الخصال ومحمود الفعال على سرير الخلافة جعل الأمة تبتهج وتتعشم خيراً في المستقبل ولما تم الصلح بين الدولة والنمسا عين للقبودانية العامة كوجك حسين باشا وكان من أعظم الرجال الذين تولوا المناصب في الدولة وقد أثنى عليه ومدحه كثير من رجال أوروبا وكان من أوائل أعماله طرد عمال الروس من جهات بحار اليونان والبحر الأبيض المتوسط وتحصين الحدود وتسليح قلاعها وشحنها بالعساكر والمعدات الحربية واستخدم أيضاً عدّة مهندسين من السويد وفرانسا ووجه عنايته لتقوية العمارة وترتيب مدرسة البحرية والطوبجية ووظف بها ضباطاً من الفرنساويين وأمر بطبع عدّة مؤلفات معتبرة في الفنن الحربية والرياضية وإنشاء دار كتب بها أربعمائة مؤلف من أحسن المؤلفات العسكرية الفرنساوية.
وأمر أيضاً بإدخال بعض دروس اللغة الفرنساوية بالمدرستين المذكورتين بأمره شيدت عدّة مبان كثيرة وأساطيل حربية على الطراز الجديد وغيرت مقذوفاتها فجعلت على الطراز الروسي وسن للبحرية عدّة قوانين ونظامات مضبوطة جعل بها لكل سفينة قبوداناً خاصاً وجعل للسفن الصغيرة ضباطاً صغيرين ومنع عزل الضباط ما لم يصدر منهم ما يوجب عزلهم وعين شروط توظيف الضباط وترقيهم في الوظائف فجعله بحسب الأقدمية والاستعداد وزاد في مرتبات الضباط .
وقسم دار الصناعة إلى مخازن للمهمات وورش للصنائع بحيث صير كل مأمور مكلفاً بعمل خاص لا يتعداه لغيره وسن قانوناً خاصاً للمرتبات والعلوفات فصار كل نفر من الجنود يأخذ تعيين ستة شهور على الأقل دفعة واحدة وجعل للعساكر الحق في ترك بعض هذه التعيينات لعائلاتهم بحيث لم تأت سنة إلا وكان للدولة عمارة قوية منظمة تشتمل على أضخم السفن وأمتنها وأقوى المدافع وأحدثها وغير ذلك من الإصلاحات العديدة.
ولما رأت فرانسا اهتمام الدولة بإدخال الاختراعات العسكرية بين جيوشها أحضر سفيرها المسيو أوبيرد وبايت (AUBERT DU BAYETS) عند مجئيه إلى استانبول عدة من مهندسي الفرنساويين وضباطهم ومعلميهم لكل الأسلحة وجلب أيضاً عساكر وصناعاً للمدافع وحتى بعض المدافع مركبة على عجلها وبهذه العناصر شكلت الدولة طائفة مركبة من ثمانمائة من الطوبجية ونظمت فرقة أيضاً من الخيالة سلحوها وعلموها على الطراز الأوروبي وأوجدت أيضاً أورطة من البيادة فكانت هذه الطوائف جرثومة للعسكر الجديد 1211هـ-1796م الذي جعل تحت قيادة إنكليز مصطفى باشا وأصله ضابط انكليزي.
وكان الروسيون ينظرون لهذه التجديدات بعين الحسد والغيظ فكانوا يسعون جهدهم في إيجاد الأسباب للإخلال بمعاهدة ياش المذكورة وبينما كان السلطان ووزيره يجتهدان في ترقية شأن النظامات إذ ثار أحد ضباط الجنود المدعو بازوند أوغلى عثمان أغاو بعد أن التف عليه كثير من أمثاله تمكن من طرد والي بودين وضبط حوالي تلك المدينة 1212هـ فجردت عليه الدولة جيشاً تحت قيادة القبودان كوجك حسين باشا وبعد عدّة وقائع كان الحرب فيها سجالاً بين الطرفين انتصر القبودان باشا ثم عفا السلطان عن بازوند أوغلي المذكور وعينه محافظاً لودين.
وأخذ السلطان بعد ذلك يدخل الإصلاحات الجديدة في كافة فروع الإدارة ولكن الصدر الأعظم حافظ إسماعيل باشا الذي خلف يوسف ضيا باشا كان يظهرانه ممن يميلون للتنظيمات الجديدة ويقدرونها قدرها إلا أنه كان يكرهها في الباطن فاكتسبت بذلك الطائفة المخالفة لها قوة وحدث من ذلك واقعة أدرنة الآتية وسببها إن الدولة أرادت بث التنظيمات الملكية والعسكرية بجهات الرومللي فأرسلت لذلك والي قونية عبد الرحمن باشا المشهور بالقاضي وأمرته في الظاهر بالتنكيل بأشقياء الصرب وفي الباطن بالقيام بإجراء الإصلاحات كما رسمتها له .
ولما بلغ أعيان الرومللي ذلك توجسوا خيفة واتفقوا جميعاً واجتمعوا في أدرنة لمنعه بالقوة فلما أشيع خبر ذلك أشارت رجال الدولة بلزوم عودة الباشا المذكور وكانوا غير مصيبين في رأيهم فأعادوه إلى ولايته وعند ذلك تفرقت أعضاء تلك العصابة إلى بلادهم وقد اشتهرت هذه الواقعة في التاريخ العثماني بواقعة أدرنة الثانية.
حملة نابليون بونابارت على الديار المصرية 1213هـ:
لما أرادت الجمهورية الفرنسوية الاستيلاء على مصر لمعاكسة التجارة الإنجليزية بجهات الهند أوعزت إلى نابوليون بونابرت بالاستعداد لذلك وأن يكون هذا الأمر في السر خوفاً من اطلاع انجلترة عليه فقابل هذا الأمر بالسرور والارتياح لأنه هو الذي حرض مجلس الأمة على ذلك وبيّن له فوائد هذا المشروع العظيم.
ولما أخذ نابليون يجهز الأساطيل البحرية في ترسانة طولون تطلعت الدول عموماً وشخصت بأنظارها إليه لمعرفة الجهة التي يقصدها بهذه العمارة العظيمة ولما علموا أن ترسانة طولون تستخدم أناساً لهم إلمام بالعربية علموا أن مقصده من هذه الاستعدادات الإغارة على الأقطار المصرية سيما وإن حركات الوكيل السياسي الفرنساوي بالآستانة كانت تؤيد ذلك فالتزمت الدولة العلية بمداركة الأمر باتفاقها مع الدول المعادية لفرانسا المناظرة لها في حب الاستعمار.
ولما خرجت الدوننما الفرنساوية من طولون 1798م كان أول أعمالها في طريقها مهاجمة جزيرة مالطة والاستيلاء عليها وفي تلك الأثناء كان القبودان العثماني شرمت بك الكريدي الذي عينته الدولة بفرقة من العمارة لمراقبة حركات دوننما فرانسا أرسل مكتوباً أخبر فيه بأن نابليون بونابارت لم يقصد بهذه الحركة مع جسامة عمارته وقوّتها فتح جزيرة مالطة فقط بل إنه جعلها في طريقه محطاً لقواه ومن المحتمل أنه بعد ذلك يهاجم الأقطار المصرية.
وقد كانت حالة الدولة في ذلك الوقت مرتبكة جداً للاضطرابات الداخلية واجتهاد اليونان والصرب في نوال استقلالهم وعصيان حكام الأقاليم مما جعل أوروبا تعتقدان في ذلك محو السلطنة العثمانية أما انكلترة فإنها انتهزت فرصة حركة نابليون على الديار المصرية ومالت إلى الدولة العلية بكليتها ساعية في قطع العلائق القديمة الموجودة بين الباب العالي وفرانسا ولم يتمكن القائم بأعمال فرانسا إذ ذاك بالآستانة وهو الموسيور روفين (RUFFIN) من إقناع الباب العالي بشيء يجعله يرفض نصائح انكلترة.
فقرر الوزراء إعلان الحرب على فرانسا وقبض على روفين المذكور وسجن كالعادة بقلعة يدي قلة وخرب العثمانيون مخازن التجارة الفرنساوية التي ببلاد اليونان وسورية والأناضول وقبضوا على تجارهم الذين بأزمير وبيروت وغيرهما ولما بلغ انكلترة قيام العمارة الفرنساوية من طولون أرسلت سفينة جسيمة تحت قيادة الأميرال نلسون لمراقبة حركاتها ونظر ما يكون من أمرها وما يحدث عن شأنها وعندما استولت الدوننما الفرنساوية على مالطة التي هي النقطة المهمة الوحيدة في وسط البحر الأبيض المتوسط والتي تعتبرها الدول البحرية مركزاً للتجارة اندهشت انكلترا لذلك.
ولما بلغ الدولة العثمانية قيام الدوننما الانجليزية أصدرت أوامرها لجميع ولاياتها بمساعدتها عند مرورها ومداركة ما يلزمها من المآكل والمشارب وخلافهما من سائر الحوائج وفي 12 محرم سنة 1798م مر الأميرال نلسون بعمارة على ميناء الاسكندرية يبحث عن العمارة الفرنساوية فلما لم يجدها أخبر حكام الاسكندرية بخروج مراكب الفرنسيس تقصد الديار المصرية وأعلمهم أنه مستعد لمساعدتهم فتوهموا أن ذلك خدعة من الانكليز فلم يعبؤا بقوله ثم بارحهم للبحث عن الفرنساويين بالسواحل السورية.
وفي اليوم السابع عشر من الشهر والسنة المذكورية وصلت الدوننما الفرنساوية إلى الاسكندرية وذهب القبودان إدريس قومندان الفرقاطة العثمانية المسماة عقاب بحري المعينة للتجوّل بالمياه المصرية إلى الدوننما الفرنساوية المذكورة ولما رآه نابليون قال له بنفسه إني لم أحضر لضرر أحد هنا وإنما أنا متوجه لتخليص الإقليم الهندي من أيدي الإنكليز أعدائنا وإني على فرض أنني عدوّ للدنيا بتمامها فإني محب للعثمانيين ولذلك أنصحكم بأن لا تتصدّوا للمدافعة إذ أنه لا يجوز ولا يتصوّر عقلاً أنكم تقاومون أربعمائة سفينة حربية فلما سمع منه القبودان هذا الخطاب لم يجاوبه بشيء أصلاً.
ولما علم نابليون بحضور الدوننما الإنكليزية قبله بثلاثة أيام بادر بإخراج عسكره إلى البر ولم يتجاسر على دخول الميناء لظنه أن قلاع الإسكندرية ربما كانت قادرة على المدافعة وأخرج في الليل خمسة آلاف جندي وهجم بهم صباحاً على المدينة فاستولى عليها بلا مقاومة تذكر.
ولما أخذت كل سفينة موقعها استقبل الأميرال نلسون بسفينته أمام سفينة الأميرال الفرنساوي المسماة أوريانت وهي من الأوج انبارلي ويسميها مؤرخو الشرق نصف الدنيا ولما رأى الفرنسويون أن حركة سفن الانكليز تمت بكل جسارة استولى عليهم الفزع والاضطراب وما كادت هذه الحركات تتمم حتى قامت الحرب بين الدوننمتين وأخذت السفن ترسل قنابلها من أفواه مدافعها على بعضها وكان بالدوننمتين ألفي مدفع تطلق طلقاً متتابعاً وتقذف قذفاً متوالياً فكانت أصواتها تدوي بالأفق بحيث يخال للسامع أن المساء انشقت والأرض خسفت والجبال نسفت.
وقد استمرت الحرب بهذه المثابة ساعتين من الزمان وفي نهايتهما أصيب الأميرال نلسون بجرح في رأسه فعصبها بمنديل ولما زال منه الاغماء عاد إلى موقعه الأول كما كان وقد قويت السفن الانكليزية على خصيمتها ودمرت منها عدّة ولم تأت الساعة الثامنة بعد الزوال إلا والنار قد اشتعلت بسفن الفرنساويين فصيرت ظلام الليل الحالك نهاراً وارتفع اللهب والدخان إلى عنان السماء وكان الأميرال برويس الفرنساوي أصيب بجرحين في الساعة الأولى من القتال وبينما كان ينزل من سطح الكمبانة إلى سطح الكويرتة أصابه مقذوف من مدافع الانكليز فشطره شطرين.
وكذلك أصيب القمادور الفرنساوي المسمى كازابيانكا (CASABIANCA) بجروح هائلة مات بسببها في الحال وقد أتلفت مدافع الانكليز كثيراً من سفن الفرنساويين وكسرت سواريها وشراعاتها وألحقت بها الخسائر الفادحة من كل نوع.
ولما احترقت السفينة أوريان المذكورة ووصلت النار إلى مخزن بارودها تفرقعت وطارت قطعاً في الجو ولما شاهد نلسون ذلك أمر بحارته بتخليص بحارة الفرنسويين فلم يمكن إلا تخليص البعض منهم وكانت خسائر الفرنساويين في هذه الواقعة لا تدخل تحت حصر واستولى الانكليز منهم على تسعة غلايين وتمكن غليون وفرقاطتان وأربع سفن من نوع القرويت من الهرب أما باقي سفن العمارة فإنها احترقت بتمامها ولما وصل خبر احتراق الدوننما الفرنسوية ومحاصرة الإنكليز للاسكندرية إلى معسكر الفرنساويين بمصر حصل به اضطراب زائد وخوف شديد.
ولما علمت الدولة ما أصاب الفرنساويين في أبي قير أرسلت تهنىء الأميرال نلسون وتشكره على عمله ولما وردت تفصيلات واقعة أبي قير من انكلترة لوكيلها السياسي بالآستانة وأبلغها للباب العالي ألبسته الدولة فروة سمور فاخرة طبق عوائدها وأحسنت على الأميرال نلسون بعقد جوهر ثمين وأرسلت ألفي ليرة عثمانية لتوزع على جنود الدوننما الانكليز ولما وصل العقد الجوهر إلى الأميرال نلسون صور نفسه وهو لابسه وقدّم تلك الصورة إلى السلطان ولا تزال هذه الصورة محفوظة إلى الآن ضمن أمتعة الخزينة العثمانية وقد طبعت جريدة الغرافيك الإنجليزية هذه الصورة بأحد أعداده سنة 1789م.
وكانت فرانسا لما اتحدت مع النمسا قبل ذلك وأزالتا جمهورية البنادقة بمعاهدة كامبوفورميو 1212هـ-1797م استولت على الجزائر السبع اليونانية الكائنة ببحر الأدرياتيك وعلى خمس جهات أيضاً بالساحل وهي برويزة و كومانيجه و برغه و نيجه و بوترينتو واستولت النمسا على عدّة جهات من ممالك البنادقة أيضاً فلما أغار الفرنساويون على البلاد المصرية وبعد واقعة أبي قير التي تقدّم ذكرها أمرت الدولة العثمانية والي يانية تبه دلنلي علي باشا بأن يسترد كافة الجهات المذكورة من يد فرانسا عقاباً لها على ما فعلته معها من الخيانة.
ولما تم الاتفاق بين الدولة العثمانية وسفير الروسيا مسيو طمارا وسفير انكلترة على منازلة الفرنسيس سوية شكلت الدولة أسطولاً خفيفاً مؤلفاً من سفن عثمانية وروسية جعلته تحت قيادة مرابط زادة حسين باشا الرودسي وأرسلته إلى مياه الاسكندرية لمهاجمة أسطول فرنسا الصغير الموجود بمينائها وكانت قبل ذلك بعثت فرقاطتين ليكونا مع الدوننما الانكليزية الموجودة بمياه الاسكندرية.
أما الدوننما الروسية فأقلعت مع الدوننما العثمانية المشكلة من سبع وثلاثين سفينة بعد أن اتفق قائدها قدري بك مع الأميرال الروسي أوكانوف على الحركات التي سيقومان بها في جزائر اليونان 1213هـ فلما وصلتا إلى مياه اليونان استولتا على جزيرة جوقة فقام أهالي جزيرة زانطة وكفالونية وقبضوا على عساكر الفرنساويين وسلموهم إلى تبه دلنلي علي باشا والي يانيه وتملكت بذلك الدولة هاتين الجزيرتين ثم قامت الدوننمتان المتحدتان إلى جزيرة كورفو وكان تبه دلنلي علي باشا تغلب في ذلك الوقت على الفرنساويين بقرب دلوينه وأرسل ولده مختار بك طليعة له يقود ستة آلاف من الخيالة وتقدم هو خلفه مع المشاة وهجم الاثنان على القوّة الفرنساوية التي كانت مجتمعة حول برويزة فتغلبا عليها وأسرا منها عدّة أسراء.
ولما علمت الدولة بذلك أنعمت على علي باشا برتبة الوزارة ثم استولت الدولة على قلاع برويزه وقوما نيجه وبوتربنتو أما قلعة بارغه فإنها قاومت نحو 14 سنة ثم استردتها الدولة أخيراً وكانت العمارتان المتحدتان استولتا أيضاً على جزيرة كورفو فعادت تلك المواقع جميعها إلى الدولة العثمانية كما كانت من قبل أما الجزائر اليونانية السبع فإنها جعلت تحت حماية الدولتين العثمانية والروسية وعقدت بذلك شروط بينهما 1215هـ-1801م ولما طلب أهلها فيما بعد دخولهم تحت حماية الروسية وافقت الدولة العثمانية على ذلك حسبما اقتضته ظروف الأحوال.
تعدي نابليون على سوريا:
لما رأى نابليون أن مركزه أصبح مهدّداً بمصرا تفكر في أن في استيلائه على سوريا فرجا وقوّة سيماوان من استولى على إحدى البلادين لا بد له من الاستيلاء على ثانيتهما فخرج في رمضان من سنة 1213هـ-1799م بجيش عدده ثلاثة عشر ألف مقاتل واستولى على العريش ثم تقدّم واستولى على غزة بغير قتال وبعد أن حاصر يافا سبعة أيام استولى عليها وأسر منها ألفي عسكري من الأرنؤد الذين قاتلوا جيش الفرنساويين بشهامة غريبة فأمر نابليون بقتلهم جميعاً رمياً بالرصاص خارج البلد فكانوا يخرجونهم فرقة بعد فرقة للقتل ومن هذا الفعل الفظيع المخالف لقوانين الحرب والإنسانية يتأكد المطالع ما كانت عليه حالة الحروب في ذلك الوقت.
ثم تقدّم بجيشه إلى عكا وحاصرها براً وهدم أكثر بروجها واستحكاماتها بمدافعه وكان المدافع عن عكا أحمد باشا الجزار البطل الشهير وفي هذه الأثناء قبض الغليونان الانكليزيان المعينان لخفر سواحل الشام تحت قيادة الأميرال سدني سمث على سفينة فرنساوية تحمل كثيراً من المهمات الحربية لنابليون وسلمها لجنود عكا وكانت إعانة للجيوش العثمانية على أعدائهم ولما وصلت الامدادات للفرنسويين بعد أيام أمكنهم كسر جيش الشام بجهة جبل طابور الذي أتى لقتالهم وتمكنوا أيضاً من أن يمنعوا الامداد عن العثمانيين الذين بعكا ثم أخذوا يهاجمونها المرة بعد الأخرى حتى تمكنوا من الدخول فيها.
إلا أنهم لم يلبثوا برهة حتى قاومتهم الجنود العثمانية أشد المقاومة فتقهقر الفرنساويون من إمامهم تاركين مدافعهم ومعداتهم وفي خلال هذه الحوادث وصلت الدوننما العثمانية وكانت مركبة من سبعين سفينة حربية بها 12000 من الجنود النظامية تحت قومندانية مرابط زاده حسين باشا الرودسي وأخرجت ذلك الجيش وذخائره إمداداً لعكا ثم تقدّم هذا الجيش ورد جيش نابليون واقتفى العثمانيون بشجاعتهم أثره حتى متاريسه وهجمت الفرنساويون في هذه المحاصرة ثمان مرات وهجم العثمانيون عليهم ثلاث عشرة مرة وأظهرت عساكر الفريقين شجاعة غريبة وإقداماً عجيباً.
ثم اضطر نابليون للرجوع مكسوراً بجيوشه إلى جهة العريش بعد أن تلف منها في حصار عكا عشرة آلاف واقتفت العساكر العثمانية أثره حتى الحدود المصرية ثم أرسلت الدولة العثمانية إلى مصر جيشاً مركباً من عشرة آلاف مقاتل تحت قيادة كوسة مصطفى باشا ومعه دوننما عثمانية إلى أبي قير فخرج الجيش واستولى على القلعة ولما بلغ نابليون حضر بنفسه وهجم بعساكره على الجيش العثماني بغتة ومع كون العساكر العثمانية كان معهم المدافع الكافية والطوبجية المهرة إلا أنه لم يكن معهم فرسان لصد هجمات الأعداء.
ولذلك التزم مصطفى باشا أن يحفر خندقاً حول معسكره لحمايته من هجمات سواري الفرنساويين وقد تكرر الهجوم من نابليون وقاومه السر عسكر بجيشه بكل ثبات وقوّة وكانت مدافع الدوننما العثمانية تساعد الجيش بمقذوفاتها حتى اضطرّ نابليون لأن يرجع متقهقراً فخرجت العساكر العثمانية من خلف الخندق لتعقبهم وكان خروجهم بلا انتظام لأن قائدهم كان جرح فعادت خيالة نابليون عليهم ثانية وشتتوهم وتقدّموا إلى خيام المعسكر ودخلوا خيمة السر عسكر وكان مجروحاً كما تقدّم فأسروه وتوفي بعد سنة من أسره.
وفي سنة 1215هـ عادت الدوننما الروسية من البحر الأبيض المتوسط إلى الآستانة ودخلت البحر الأسود ولما كانت الدولة تخاف من أن نصرات الجيوش الفرنساوية ربما كانت سبباً لتمكين قدم الفرنسيس في مصر جهزت هي وانكلترة الأساطيل والجيوش لحسم المسألة المصرية فخرج القبودان حسين باشا بالدوننما ومعه قوّة عسكرية بعد أن اتفق مع الأميرال الانكليزي ثم أخرج الأميرال الانكليزي جيشاً في أبي قير مؤلفاً من خمسة عشر ألف مقال تحت قيادة الجنرال ابركرومبي (RALPH ABERCROMBY) وتقدّم إلى الرحمانية وتقدّم السردار العثماني يوسف باشا من جهة الشرق يريد القاهرة فخرج الجنرال منو يريد قتال الإنكليز فانهزم والتجأ إلى الاسكندرية يريد التحصن بهات فقطع الانكليز سد أبي قير وهو السد المانع لمياه البحر من الإغارة على مصر فانحصر االجنرال منو بذلك في الاسكندرية والجنرال منو هذا هو الذي صار وكيلاً لنابليون بعد موت كليبر الذي قتله شخص يدعى سليمان الحلبي .
ثم تقدم الجيش الانكليزي والعثماني ودخلا القاهرة بعد أن حاصرا من بها من الفرنسيس الذين كانوا تحت قياد الجنرال بليار الذي لما رأى أنه لا يمكنه المقاومة عقد مع القائدين المذكورين شروط التسليم وأخلى المدينة ثم خرجت العساكر الفرنسوية من القاهرة وأقلعت بهم السفن من رشيد هذا أما منو فإنه بعد أن قاتل العثمانيين والانكليز في عدّة وقائع اضطرّ لأن يعقد صلحاً نهائياً مع الأميرال كيث (KEITH) الانجليزي والصدر الأعظم يوسف باشا في 22 ربيع الثاني سنة 1216هـ وذهب إلى بلاده على سفن الانكليز وخرج الفرنساويون من الديار المصرية وهم يبكون حظهم.
وبعد أن أخلوا مصر وانسحبت جميع جيوشهم منها أقام الإنكليز سنة كاملة في ثغر الإسكندرية وكأنهم لما رأوا سرعة خروج الفرنسيس وضعضعة أحوال الدولة وحالة الديار المصرية هموا باحتلالها بدل الفرنسيس إلا أن الفرنسويين لما لاحظوا ذلك من مخرجيهم أخذت المخابرات السياسية تجري بينهم وبين الإنكليز والعثمانيين إلى أن خرج الانكليز أيضاً 1217هـ منتظرين فرصة أخرى أكثر مناسبة وفي 23 صفر سنة 1217هـ-1802م عقد نابليون بونابرت مع الباب العالي الصلح ليسترد مودته وليكون له ذخراً عند الحاجة وكان ذلك سبباً لوقوع النفور بين الإنكليز والفرنساويين لأنهم كانوا يودون بقاء تعكير السياسة بين العثمانيين والفرنساويين بالنظر لما أجراه نابليون بونابرت من المقاصد السياسية المضرة بالإنكليز.
الحرب مع الروسيا والدوننما الإنكليزية باستانبول 1221هـ:
لما عقد نابليون بونابارت معاهدة الصلح مع الدولة أرسل الجنرال سبستيان إلى الآستانة ليكون سفير الفرانسا وأوصاه قبل مبارحته باريز بأن يبذل كل مجهود ويسعى بجميع الوسائل لتحسين العلاقات بين الدولتين وإرجاعها لما كانت عليه قبل الحرب فبذل هذا السفير جهده واستعمل كل الوسائط حتى أعاد روابط الإلفة والمحبة بين الطرفين ولما كانت الدولة تود ذلك أيضاً لم يصادف السفير في طريقه عقبات أو موانع وفي تلك المدة خلعت الدولة أميري الافلاق والبغدان لانحيازهما إلى الروسيا وترويجهما سياستها ومقاصدها وعينت بدلهما من المخلصين لها 1221هـ-1806م فاغتاظت الروسيا من ذلك جداً.
وخشيت من تقرب فرانسا إلى الدولة وأهمها ذلك حتى أنها أرسلت جيوشها واحتلت الولايتين المذكورتين بلا إشهار حرب بدعوى أن عزل أميريهما مضر بسياستها جداً ولما عملت الدولة بدخول عساكر الروسيا في بندر وخوتين التزمت بإشهار الحرب عليها ولما كان الإنكليز يعلمون يقيناً أن دولة الروسيا هي الدولة القوية التي يمكنها مقاومة نابليون الذين كانوا يخشون سطوته جداً اجتهدوا في منع وقوع الحرب بين العثمانيين والروس على أن الدولة لم يكن غرضها من ذلك الإعلان إلا إبعاد جيوش الروسيا عن حدودها فقط.
وكانت الدولة العثمانية تسعى فى ذلك الوقت بكل نشاط لاستدامة الروابط والعلاقات الودية بينها وبين الدول الأخرى حتى إنها أجابت الدولة الإنكليزية لما أشارت عليها بخلع محمد علي باشا الكبير من ولاية مصر وتوليته على سلانيك إلا أن استرحام بقائه بمصر الذي طلبه العلماء وأشراف الأهالي من السلطان كان السبب في عدول الدولة عن ذلك وقد كانت الدولة لا تحب أن تبعد عنها دولة فرانسا لما اقتضته سياسة الوقت فلهذا السبب والسبب السابق انحرف الإنكليز عن العثمانيين واتحدوا مع الروسيا على حرب الدولة.
ولما لم تتمكن إنجلترة بواسطة سفيرها بالآستانة السير أربوثنوت (ARBUTHNOT) من جعل الباب العالي يعدل عن محالفة فرانسا أرسلت أسطولاً تحت قيادة الأميرال اللورد دوك ورث (DUCK WORTH) إلى مضيق الدردنيل ولما كان السفير الإنجليزي حاد المزاج سريع التأثر تكدر من عدم نوال مرغوبه ونزل ليلاً بسفينة إنجليزية 1221هـ-1806م وهرب من الآستانة ولما علم رجال الدولة بفراره في اليوم التالي تأكدوا من قيام إنكلترة لمساعدة الروسيا ضدهم فازدادت المسألة ارتباكاً.
وقد كانت قلاع الدردنيل في حالة سيئة لا يمكنها مقاومة عمارة قوية كعمارة الإنكليز ومع ذلك فإن الدولة لم تهتم بإصلاحها وتقويتها رغماً عن أقوال سفير فرانسا ومن معه من ضباط الفرانسا وبين وكان المانع لها عن ذلك أقوال السفير الإنكليزي الذي كثيراً ما قال لمندوبي الدولة إن مسألة الخلاف الحاصلة بين الدولة والروسيا يمكن تسويتها بالصلح والسلم بدون احتياج لحرب ولذلك تم للسفير ما كان يقصده وهو تأخير تقوية الاستحكامات الأمر الضروري جداً في ذلك الوقت .
ولما رأت الدولة اشتداداً لحالة أرسلت الجنرال سباستيان ومعه ضباط من الفرانسا وبين غيرهم لينظر فيما يحتاجه تحصين البوغاز ويقدموا بذلك تقريراً مستوفياً إلى السلطان إلا أن الصدر الأعظم وغيره من الرجال وكذا القبوذان باشا لما كانوا يكرهون تداخل الأوروباويين في أعمال الدولة لم يهتموا بأمر التحصينات كما أمر السلطان.
أما سفير إنكلترة الذي فر من الآستانة فإنه تمكن من الوصول إلى جزيرة بوغجه اطه سالماً وهناك طلب من الدولة استمرار المخابرة وأرسل ترجمانه إلى جنق قلعة لذلك وأرسلت الدولة من قبلها من ينوب عنها وكان غرض السفير من هذه المخابرات أن أعمال الدولة يهملون عمل الاستحكامات التي تقرر إنشاؤها متى علموا بعود مخابرات الصلح وكانت الدوننما الإنكليزية تنتظر مساعدة الهواء والفرصة المناسبة لاجتياز الدردنيل ثم أرسلت الدولة عمارتها تحت قيادة القبودان الحاج صالح باشا لتقف في البوغاز تمنع سفن الإنجليز من عبوره متى أرادوا وكانت هذه العمارة مركبة من ست سفن.
وقد اتفق أن هبت رياح موافقة يوم عيد الأضحى من سنة 1221هـ-1806م عند الصبح فأقلع الأميرال الإنجليزي المذكور بأسطوله المركب من خمسة قباقات وفرقاطتين وحراقتين وقرويطين بها من المدافع 608 مدافع ودخل البوغاز وتمكن بلا أدنى مقاومة من المرور من أمام قلعتي قوم قيود وسد البحر لوجود كافة حفظة القلاع المذكورة بالجوامع لصلاة العيد ولما وصل الأسطول المذكور إلى قلعتي كليد بحر وجنق قلعة قابلته الدوننما العثمانية المذكورة بإطلاق المدافع فلم توقف سيره بل استمر مسرعاً ثم استقبل في ليمان بورغاز ثم حمل على الدوننما العثمانية ولم يكن بها إلا بعض الجنود لتغيب معظمهم يوم العيد ولما لم يمكن للعساكر البحرية الموجودة بتلك السفن القيام بمقاتلة الأعداء لقلتهم احترق للعثمانيين أربع سفائن واستولى الإنكليز على سفينتين ولم يسلم من الأسطول العثماني إلا إبريق حربي واحد تمكن من الهرب وقال بعض المؤرخين أنه لولا جبن القبودان باشا وسوء تصرفه لامكن للأساطيل العثمانية على مابها من الضعف قهر أساطيل الإنجليز سيما وقد كانت هي الغالبة في أول الأمر بحيث أنها أحدثت بالسفن الإنكليزية خسائر عظيمة.
ولما عاد الإبريق الحربي الذي هرب من المحاربة إلى الآستانة في اليوم الثالث من عيد الأضحى وأخبر قبودانه بما حصل هاجت الأفكار واضطربت الخواطر وعم القلق وصدرت الأوامر سريعاً بإقامة الاستحكامات حول الآستانة وفي ذلك اليوم وصل الأسطول الإنكليزي واستقبل بجانب جزائر الأمراء شرقي البوغاز وأرسل السفير الإنكليزي بلاغاً نهائياً للصدر الأعظم مشتملاً على المواد الآتية هي :
أولاً : أن يتحالف الباب العالي مع الروسيا وإنكلترة.
ثانياً : أن تسلم الدولة في الحال لإنكلترة سفن العمارة العثمانية استحكامات الدردنيل.
ثالثاً : أن تتنازل الدولة للروسيا عن إيالتي الافلاق والبغدان.
رابعاً : أن تطرد الجنرال سبستيان سفير فرانسا وأن تعلن الحرب على فرانسا وحدّد للإجابة على هذا البلاغ مدّة 24 ساعة.
فعقد الوزراء في الحال مجلساً وبعد المداولة أجابوا السفير برفض هذه المقتراحات رفضاً باتاً وباستعداد الدولة للمحاربة والمدافعة وقام الجنرال سباستيان بتكليف من الدولة بتنفيذ أمر الدفاع وبذل جميع الأهالي أيضاً من كل جنس ونوع نشاطاً وهمة عظيمتين في بناء الاستحكامات وتقويتها وكان وزراء الدولة يترددون كثيراً على هذه الاستحكامات لنظرها يومياً بل كل ساعة كما أن السلطان سليم خان كان يذهب بنفسه إليها ويشجع القائمين بإنشائها إلى أحكامها وإتقانها بحيث أنها تمت في زمن يسير وأصبح بها في اليوم الخامس نحو ألف ومائتي مدفع.
وفي أثناء هذه الاستعدادات عرض السيد علي بك الجزائري وكان رئيس بوابي الدائرة الخاصة على السلطان بأنه بماله من المعلومات البحرية يمكنه قهر العمارة الإنكليزية لو سلمت إليه قيادة العمارة العثمانية وهوّن على السلطان كثيراً أمر الأعداء فسر السلطان من أقواله وأصدر أمره بتعيينه قومندانا على الدوننما الراسية بخليج الآستانة وكانت مؤلفة من عشرين سفينة حربية مختلفة النوع والقدر فقادها ورسا بها أمام سراي بشكطاش.
ولما كان أهالي الآستانة قد امتلأت صدورهم غيظاً وحنقاً على تجاوز الإنكليز لهذا الحد سيما الجنود منهم تطوع منهم في يوم واحد أكثر من سبعة آلاف وخمسمائة شخص في البحرية وبعد أن قيدوا أسماءهم وزعوهم على السفن هذا أما القبودان باشا الذي أعدم الإنكليز عمارته فإنه بعد وصوله براعزل لإهماله وتعين بدله السيد علي بك المذكور ورقي إلى مسند الوزارة وأحيلت عليه ولاية الجزائر وقتل أيضاً فيضي أفندي محافظ بوغاز الدردنيل لتقصيره في أداء واجباته عند مرور الدوننما الإنكليزية من البوغاز وعينت الدولة بعض الضباط ومعهم نفر من مهندسي الفرنسويين لتقوية قلاع واستحكامات الدردنيل.
ولما بلغ أهالي البلاد المجاورة للآستانة مرور الدوننما الإنكليزية من البوغاز ومجيئها للآستانة حضر كثير من أعيانهم وحضر أيضاً سردار شيله أوزون حسن باشا مع جيشه ونزلوا بالدوننما استعداد للقتال وحضر كثير من أعيان الرومللي والأناضول لهذا القصد وعين قسم من عساكر فنار باغجه إلى جزيرة قنالي وأوقعوا بزوارق الإنكليز التي أتت للاستقاء منها وأسروا بعض الجنود وكان من بينهم ابن أميرال الدوننما الإنكليزية.
ولما بلغ السلطان خبر هذه الواقعة أنعم على أولئك الجنود ولذلك أخذ كثير من صيادي الأسماك يناوشون الجنود الإنكليزية التي كانت تتردد بزوارقها بين السفن وبعضها وأراد بعضهم منع الإنكلزي من الاستقاء من جزيرة قنالي فلم ينجح.
والحاصل أنه في مدة خمسة أيام من تاريخ وصول العمارة الإنكليزية تم عمل الاستحكامات بجهات سراي برون ويدي فله وقزقله وساحل قاضي كوى ووضعت فيها المدافع العديدة ولما استعد القبودان باشا الجديد المذكور أراد الهجوم على العمارة الإنكليزية فمنعه القواد وطلبوا منه أن يكون مدافعاً لا مهاجماً لما عليه العمارة الإنكليزية من الاستعداد وتدرب جنودها على القتال بخلاف الجنود العثمانية الحديثة العهد بالبحرية.
وفي تلك الأثناء كانت المخابرات مستمرة بين السفير الإنكليزي ورجال الدولة وأخيراً خفف الإنكليز طلباتهم وكانوا كلما قدموا طلباً رفضه العثمانيون ثم لما رأى ربان العمارة الإنكليزية أنه لايمكنه ضرب الآستانة لمنعتها وتحمس الأهالي والجنود وإن استحكامات الدردنيل جار تقويتها يومياً وخشي من أنه لو مضى الوقت على ذلك أصبح في مركز حرج أقلع في يوم الأحد الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة ولما مر على جهات البوغاز وغيرها ورأى ما بها من القلاع الجديدة ثبت لديه ظنه وأنه صار عاجزاً عن عمل ما ولو تهديدياً ولذلك بادر بالخروج سالماً.
ولما رأى أهالي الآستانة عودة العمارة الإنكليزية بصفقة المغبون فرحوا وهللوا وكبروا ولما وصلت الدوننما الإنكليزية إلى جهة أكينلك القريبة من كليبولي مكثت بها يومين وتركت فيها السفينتين العثمانيتين اللتين استولت عليهما في واقعة البوغاز كما تقدم وفي أثناء مرورها من البوغاز أطلقت عليها بعض قلاعه الحديثة مدافعها فأحدثت بها خسائر كبيرة وأغرقت منها سفينتين من نوع القرويت وقتل من جنودها ستمائة نفر سيما وإن المدافع الجسيمة التي تركبت أخيراً في الاستحكامات كانت من عيار ثمانمائة ليبرة وبعد أن تخلصت العمارة الإنكليزية من تلك الشدة رست قريباً من جزيرة بوزجه اطه لتصلح ما لحقها من التلف.
وكانت الدوننما الروسية وصلت قبل ذلك بقليل إلى جزيرة بوغجه اطه تحت قيادة الأميرال سينياوين (SINIAWIN) ولما تقابلت مع الدوننما الإنكليزية عرض ربانها على الأميرال الإنكليزي أن يصحبه ليدخلا سوية من الدردنيل ويضر بالآستانة فلم يقبل الأميرال الإنكليزي أن يصحبه ليدخلا سوية من الدردنيل لعلمه أن ذلك أصبح بعيداً عليهما ثم استوليا على جزيرة بوزجه اطه المذكورة وصارا يصادران بسفنهما كل سفينة تجارية عثمانية.
ومما تقدم تعلم ما حازه العثمانيون من الفخر في هذا الدفاع العظيم وقيامهم كرجل للمدافعة عن استقلالهم الذي لعبت به أيدي الأجانب لعدم تبصرهم وتهاونهن وقد كان بقاء العمارة العثمانية مدافعة لا مهاجمة من أحكم الآراء وأصوب الأفكار لأننا قدمنا أن هذه الدوننما إنما كانت مشكلة من السفن الصغيرة وجنودها كانوا من أفراد الأهالي الذين لم يمارسوا الأعمال البحرية ولا عانوا الأحوال الحربية ولا أحكموا الفنون والنظامات العسكرية بل هم رعايا قادتهم الهمم الأبية والنخوة العلية لأن يصدموا بأنفسهم عدوّهم وأن يصطلوا حر المعمعة ويخوضوا عبابها بخلاف السفن الإنكليزية فكانت ذات قوة وضخامة وجسامة وأفرادها على معرفة تامة بالفنون البحرية وأساليب القتال.
إطلاق العمارة الإنكليزية قنابلها على الإسكندرية:
علمت مما سبق أن العمارة الإنكليزية بقيت راسلة بجزيرة بوزجه اطه تهدّد الدردنيل وتقبض على سفن التجارة العثمانية وفي شهر محرم سنة 1222هـ أتتها نجدة قوية مؤلفة من إحدى وثلاثين سفينة بها سبعة آلاف مقاتل لأن الحكومة الإنكليزية أرادت محو ما لحقها من العار في مسألة استانبول هذه ولذلك أمرت أميرال هذه العمارة بالذهاب إلى مدينة الإسنكدرية واحتلالها فقام بما عهد إليه وأتى إلى الإسكندرية وبعد أن ضرب قلاعها ولم تكن شيئاً يذكر في يوم 10 محرم سنة 1222هـ-1807م أخرج العساكر من السفن بقصد الاستيلاء على البلاد المصرية تحت قيادة الجنرال فرازر (FRASER) ثم بعد بضعة أيام ذهبت فرقة من أولئك العساكر إلى رشيد لأخذها.
وقبل وصولها كان محافظ رشيد المدعو علي بك لما علم بسير الإنجليز نحوه استعد لقتالهم بما لديه من الجنود القليلين وأمر أهلها بالسكون والثبات والاختفاء حتى إذا أعطى إليهم الإشارة شنوا عند ذلك الإغارة فانصاعوا لأمره وامتثلوا لما قام بفكره وبذلك صارت الطرق والشوارع كالأطلال البلاقع ودخل الإنكليز بلا ممانع ولا مدفع فظنوا أن الديار قد خلت من قطائها والمدينة قد خلت من سكانها ولم يعملوا أن الأسود رابضة في آجامها وأطيار المنايا تغني على أفنانها ولما ألقوا عصا التسيار وتفرقوا في أكنافها للاستراحة من الأسفار.
لم تمض برهة حتى انسكب عليهم هطال من الليوث لا من الغيوث ودهمتهم الأبطال فاضطربت أفكارهم وبهتت أنظارهم وما زال أهالي البلد يلبسونهم حللاً حمراء من نسج السلاح ويفتكون بهم فتكاً ليس بعده صلاح حتى فرقوهم أيادي سباً وجعلوهم يمعنون فراراً وهرباً وقد أوقعوهم في خسائر عظيمة ومصائب جسيمة وأسروا منهم أعداداً وافرة أرسلوا بها إلى القاهرة ولما وصل الأسرى إلى المحروسة حصل لأهالي القطر المصري جسارة عظيمة وتقدم والي مصر وقتئذ وهو الهمام الشهير محمد علي باشا الكبير بقوة إلى دمنهور لمحاصرة الإنكليز بالإسكندرية.
ولما علم الباب العالي خبر استيلاء الإنكليز على الإسكندرية أعلن الحرب عليهم إلا أنه لما لم يمكنه إرسال قوة برية من الآستانة إلى الإسكندرية عن طريق البحر لوجود العمارة الروسية راسية أمام بوغاز الدردنيل ودوننما الإنكليز بسكندرية أصدر أمره إلى والي صيدا والي كنج يوسف باشا بأن يقوما بالقوى اللازمة من جهة سور بالمساعدة الحكومة المصرية على أنهمة محمد علي باشا والي مصر لم تكن تحتاج لهذه المساعدة بالكلية لأنه لما تقدّم نحو دمنهور كما أسلفنا وحاصر الإنكليز في الإسكندرية في أواخر جمادى الثانية من السنة المذكورة تحققوا عدم طاقتهم على المقام بها.
ولذلك طلبوا مخابرة محمد علي باشا في إخلائهم لها تحت شرط أن يعيد أسرارهم كما أنهم يعيدون إليه الأربع سفن والبحرية العثمانية الذين كانوا استولوا عليهم يوم استيلائهم على الاسكندرية فلما تم ذلك أخلوا الثغر في أواسط رجب من تلك السنة ولما كان قطع العلائق مع الدولة العثمانية يضر بسياتهم انسحبت سفنهم من البحر الأبيض المتوسط ومن بحر الأرخبيل.
ولما علم السيد علي قبودان باشا بسفر المراكب الإنكليزية خرج بالدوننما لمحاربة العمارة الروسية الراسية أمام البوغاز إلا أنه ارتد مقهوراً بعد أن أظهرت جنوده من الإقدام والشجاعة ما اعترف به الأعداء ومع ذلك فإن الخسائر الجسيمة التي أصابت أساطيل الروسيا اضطرها للذهاب إلى جزيرة كورفو.
صعود محمد علي باشا على ولاية مصر 1219هـ:
لما تعين القبودان كوجك حسين باشا بالدوننما السلطانية لإخراج الفرانساويين من مصر أرسل مكتوباً إلى جورباجي مدينة قواله حسين أغا بأن يرسل ما لديه من الجنود فأرسل حسين أغا المذكور العساكر وكانوا مائتي نفس مع صهره محمد علي أغا فأنزلهم القبودان باشا المذكور بالسفن وأقلع يريد مصر وبعد تمام الفتح بقيت بديار مصر أكثر الطوائف العسكرية التي توجهت إليها من بلاد الأرنؤد والرومللي ومن ضمنهم محمد علي أغا المذكور وكان يتصف بالذكاء الفطري والاستعداد الغريزي للرياسة وإدارة أعمال الحكومة فأخذ يفكر في ذلك وإخراج تصوراته من القوة إلى الفعل بكل احتياط ودقة.
وما زال يسعى بجد ونشاط حتى حصل على مزية كبيرة وساعدته فرص الزمان والمكان فلم يمض زمن طويل حتى نال منصب سر جشمه وبنوا له هذا المنصب صار رئيساً على عموم كبراء عساكر البأس بوزوق وكان والي مصر إذ ذاك قوجه خسرو باشا يهتم بتنظيم وترتيب الإيالة ويسعى في تخليص مصر من عساكر الباش بوزوق لما أتوه من الأعمال الشريرة ولما أخبر رؤساء هؤلاء الجنود بضرورة عودهم إلى بلادهم قبلوا وامتثلوا.
إلا أنه لما لم يصرف لهم علوفاتهم بالتمام أظهر العصيان وشقوا عصا الطاعة وقتلوا الدفتردار رجائي أفندي واضطر خسرو باشا إلى الفرار ولقد كانت هذه الواقعة مبدأ للضغينة والعداوة بين محمد علي باشا وخسرو باشا المذكور وبعد فرار خسرو باشا سعى محمد علي أغا في القبض على زمام الحكومة المصرية من جهة أخرى أخذ يقاتل حنود الكولمان بكل قوته وبينما هو يدأب في محو الشقاق والفساد لإعادة السكينة للبلاد المصرية نصبت الدولة خورشيد باشا والياً على الديار المصرية فحضر إليها هو وحاشيته.
ولما كانت الدولة تميل لخلاص البلاد المصرية من الكولمان أخذ خورشيد باشا يساعد أعمال محمد أغا ويشجعه على ذلك إلا أن الوالي المذكور لما وقف على مسلك محمد علي أغا الحقيقي تشبث في إخراجه من الديار المصرية وسعى له حتى أسندت إليه ولاية مدينة جدة مع رتبة الوزارة إلا أن عساكر الباشي بوزوق تعصبوا لمحمد علي وأظهروا العصيان ثانية وحاصروا خورشيد باشا في قلعة القاهرة .
ولما وصل خبر هذه الحادثة إلى الآستانة خاف السلطان ورجاله من استمرار الفتن بمصر فدبر الوزراء حيلة وهي أنهم جعلوا السلطان يصدر فرمانين أحدهما بإبقاء خورشيد باشا في مركزه والولاية على ديار مصر والثاني بتعيين محمد علي باشا والياً على مصر أيضاً وعين أحد رجاله المدعو صالح بك لتوصيل هذين الفرمانين وأمرته الدولة بأنه متى وصل القاهرة أظهر ما رآه موافقاً ومناسباً من الفرمانين حسب الظروف ولما وصل المأمور المذكور ورأى أن الأهالي يضادون خسرو باشا أظهر فرمان تولية محمد علي باشا وتلاه بالصفة الرسمية بحضور العلماء والأعيان والجنود وبذلك استتب الأمن وارتقى المرحوم محمد علي باشا على ملك مصر من ذلك اليوم بما أظهره من الحزم والجد والنشاط وبما وهبه الله من عظيم الصفات وحميد الخلال اللازمة لأعاظم الرجال وأكابر الأبطال وسنأتي على أخبار محمد علي باشا مفصلة بالجزء الثاني إن شاء الله تعالى.
الإصلاحات بالدولة ووقوع الفتنة 1222هـ:
اعلم أنه بينما كانت الحروب قائمة بين العثمانيين والروسيين دخل والي ولاية بوسنة بجيشه إلى إقليم الصرب ومنع ثائريه من الالتحاق بالجيش الروسي وفي سنة 1221هـ هزم قاسم باشا محافظ إسماعيل جيش الروسيا ومنعه من التقدّم وفي 26 محرم من سنة 1222هـ خرج القبودان السيد علي باشا بدوننما مؤلفة من سفينة حربية إلى بوغاز الدردنيل لمقابلة الدوننما الروسية التي كانت تحاصره تحت قيادة الأميرال سينياوين (SINIAWIN) فحمل عليها القبودان باشا المذكور في أواخر ربيع الثاني بدون احتراس واستعمل في هجمه الطريقة القديمة التي تستعملها سفن قرصان أوجاقات الغرب المخالفة لفن حرب الوقت المذكور فأسقط الريح سفنه خلف سفن العدوّ فتمكّن منه الأميرال الروسي وأسر سفينة وكيله أبي بكر بك وخرب وأحرق بعض السفن الأخرى فاضطر القبودان باشا للنجاة بباقي سفنه إلى داخل البوغاز.
ثم اتهم القائد الثالث شره مت بك شيرمرد وبعضاً من رؤساء السفن بالتقصير ليتخلص من العار وينجو من العقاب وقد كان وعفا عنه السلطان وأمر بقتل شره مت بك ومن نسب إليهم التقصير ظلماً مع أنهم ممن اشتهروا في خدمة الدولة بالصداقة.
ولما كانت سفن الروسيا أصابتها أيضاً خسائر جمة أقلع بها الأميرال إلى كورفو من جزر اليونان ليتمكن من إصلاحها وبذلك تخلص البوغاز من محاصرة الأساطيل الروسية وقد عدّ المرحوم جودت باشا ذلك انتصاراً لا انكساراً لهذا السبب ثم استعد الجيش السلطاني بصحراء داود باشا لملاقاة الأعداء وتعين خورشيد أحمد باشا سر عسكراً على جهة صوفية ووجهت إليه ولاية الرومللي ومحافظة مدينة نيش وتعين إدريس باشا محافظاً لواردين وولي الدين باشا لولاية موره.
وتعين محمد باشا الولاية قارص وأرسلت الدولة المهمات والجيوش إلى شاطىء الطونة تحت قيادة الصدر الأعظم مصطفى باشا حلبي ومصطفى باشا البيرقدار وكان المارشال ميكلوسون القائد العام الروسي قد زحف بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل على مدينة بخارست ولما دارت رحى الحرب تمكن العثمانيون من منع الروس عن التقدّم على الأراضي العثمانية.
هذا وفي تلك الأثناء كان السلطان سليم يبذل الجهد في تنظيم العساكر على الطريقة الجديدة الأوروباوية لإلغاء وجاق اليكجرية.
ولما كانت هذه الإصلاحات من أكبر المصائب بالنسبة لليكجرية هاجوا وماجوا واعتصبوا في داخل استانبول وكان يساعدهم على أفكارهم العقيمة المضرة بحالة الدولة كثير من رجالها خلاف السواد الأعظم من الأهالي وكان عطاء الله أفندي شيخ الإسلام وكذا قائمقام الصدر الأعظم موافقين لأهل الثورة في الرأي يحرضانهم سراً حيث رسخ في أذهانهم أن النظام الجديد طريقة إفرنجية وإن من تشبه بقوم فهو منهم.
ولما قويت هذه الحجة الواهية في صدورهم قالوا جميعاً هيا بنا نلاشي النظام الجديد وننتقم من الوزراء الذين أفسدوا الدين بأفعالهم الشنيعة فأخذوا ينهبون ويقتلون وكان المفتي عطاء الله أفندي أعطاهم كشفاً بأسماء بعض كبار الدولة لقتلهم فأخذوا يتلونه ويفتشون على أولئك الرجال فوجدوا البعض منهم فقتلوه واختفى كثير.
وقيل إنهم قطعوا 17 رأساً من بين أكابر رجال الدولة ولم يقفوا عند هذا الحد بل صمموا على طلب السلطان سليم والقبض عليه لخلعه وصاروا يجاهرون بأقوال تهكمية كقولهم يا أيها السلطان المغشوش بهذه التعاليم أنسيت أنك أمير المؤمنين وعوضاً عن اتكالك على الله القادر العظيم الذي يبدّد بقدرته الجيوش الكثيرة أردت أن تشبه الإسلام بالكفار.
ومثل ذلك من الأقوال وأرسلوا شيخ الإسلام عطاء الله أفندي المذكور للسلطان سليم ليكلفه بالتنازل بلا مقاومة فدخل عليه متذللاً منخفض الرأس قائلاً يامولاي قد حضرت بين يديك برسالة محزنة أرجوك قبولها لتسكين الهيجان وليس يخفى على عظمتكم أن عموم العساكر اليكجرية نادوا باسم السلطان مصطفى ابن عمك سلطاناً عليهم ولا سبيل إلى المقاومة فالتسليم لأمر الله أوفق وأسلم من كل شيء فأظهر السلطان تجلداً ولم تبد عليه علامات الكدر من هذ الحديث بل قبل كلام الشيخ وتنازل عن السلطنة يوم 21 ربيع الأول من سنة 1222هـ-1807م وجلس بعده السلطان مصطفى خان.
وكان السلطان سليم رحمه الله سليم الطبع كريم الأخلاق محباً للمعارف والعلوم ونشرها في المملكة على الطريقة الأوروباوية الحديثة لأنه كان يعلم أنها هي الواسطة الكبرى لتأمين انتظام الحكومة وتكثير منابع الثروة والرفاهية.