الدولة العباسية : المسترشد بالله
ترجمته:
هو أبو منصور الفضل المسترشد باللَّه بن المستظهر ولاه أبوه بالعهد فبويع بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه والده 16 ربيع الآخر سنة 513 (7 أغسطس سنة 1118) واستمر خليفة إلى أن قتل في يوم الأحد 17 ذي القعدة سنة 529 (30 أغسطس سنة 1135).
الحال في عهده:
كان سلطان العراق لأول عهده هو السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه وكان السلطان سنجر بن ملكشاه في ذلك الوقت ملك خراسان وما إليها من بلاد ما وراء النهر إلى غزنة وخوارزم وقد عظمت دولته وهو شيخ البيت السلجوقي وعظيمه.
فلما توفي أخوه محمد وجلس ابن أخيه محمود وهو زوج ابنته لحقه لوفاة أخيه حزن أليم وجزع وجلس للعزاء على الرماد وتقدم الخطباء يذكرون السلطان محمد بمحاسن أعماله من قتال الباطنية وإطلاق المكوس غير ذلك وكان يلقب ناصر الدين فلما توفي أخوه تلقب معز الدين وهو لقب أبيه ملكشاه وعزم على قصد الجبل والعراق وما بيد ابن أخيه محمود.
ثم إن السلطان محمود أرسل إلى عمه سنجر وفداً معه الهدايا والتحف وطلب إليه أن ينزل له عن مازندران فغاظه هذا الطلب وقال إن ولد أخي صبي وقد تحكم عليه وزيره وحاجبه وصمم على المسير فسار وكذلك فعل السلطان محمود والتقيا عند الري بالقرب من ساوة وكان العسكر المحمودي قد استهان بالعسكر السنجري لكثرة الأولين وشجاعتهم وكثرة خيلهم ولما حصل اللقاء انهزمت ميمنة سنجر وميسرته وسارت جنودهما لا تلوي على شيء أما سنجر فكان واقفاً في القلب وأمامه السلطان محمود وقد أشار بعض المقربين من سنجر عليه أن ينهزم فقال إما النصر وإما القتل وأما الهزيمة فلا، وهجم بفيلته على قلب محمود هجوماً شديداً فتراجعت خيل محمود على أعقابها وكان بذلك هزيمة السلطان محمود ولما تم النصر لسنجر أرسل من رد المنهزمين من جنده.
ورد الخبر إلى بغداد في عشرة أيام فأشير على الخليفة بالخطبة للسلطان سنجر ففعل.
أما محمود فإنه سار إلى أصبهان ومعه وزيره وبعض أمرائه وأما سنجر فسار إلى همذان وهناك راسل ابن أخيه في الصلح وكانت والدة سنجر تشير عليه بذلك وتقول قد استوليت على غزنة وأعمالها وما وراء النهر وملكت ما لأحد قدر عليه وقررت الجميع على صحابه فاجعل ولد أخيك كأحدهم فأجاب إلى قولها وبعد محاولات تقرر الصلح وسار محمود إلى عمه سنجر ونزل على جدته أم السلطان سنجر وأكرمه عمه وبالغ في إكرامه وحمل له محمود هدية عظيمة فقبلها ظاهراً وردها باطناً ولم يأخذ منه سوى خمسة أفراس عربية وكتب السلطان سنجر إلى جميع عماله أن يخطب لمحمود من بعده حيث جعله ولي عهده ورد عليه جميع ما أخذ منه سوى الري.
ولم يكد السلطان محمود ينتهي من هذا النزاع بينه وبين عمه حتى قام ضده أخوه مسعود بن محمد وكان لمسعود حينئذ الموصل وأذربيجان وذلك سنة 514 وقد أجج الأمراء نار هذا الخلاف لينالوا من وراء ذلك حظوظهم ولا يبالون بالمملكة الإفرنجية التي صارت شوكة في جنوبهم وكان وزير مسعود هو الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصفهاني وهو الذي حسن لمسعود أن يقوم مطالباً بالمملكة ولما بلغ ذلك محموداً كتب إليهم يخوفهم إن خالفوه ويعدهم الإحسان إن أقاموا على طاعته وموافقته فلم يصغوا إلى قوله وأظهروا ما كانوا عليه وما يسرونه وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له النواب الخمس ثم سار كل منهم إلى لقاء صاحبه فالتقوا عند عقبة أسداباذ واقتتلوا من بكرة إلى آخر النهار وأبلت الجنود المحمودية بلاء حسناً فانهزم عسكر مسعود آخر النهار وأسر جماعة من مقدمي جنودهم ومنهم الوزير أبو إسماعيل الطغرائي فأمر السلطان بقتله وقال قد ثبت عندي فساد دينه واعتقاده وكان حسن الكتابة والشعر.
ثم أرسل محمود وراء أخيه من لحقه وأتى به بعد أن بذل له الأمان فاستقبله استقبالاً عظيماً ووفى له بما بذلن وخلطه بنفسه في كل أفعاله فعد ذلك من مكارم محمود ولا عجب فقد علمه سنجر.
كان الخليفة المسترشد با في هذا العصر قد استرد شيئاً من نشاط العباسيين وقاد الجيوش بنفسه لحرب المخالفين عليه وأهمهم دبيس بن صدقة ملك الحلة ولم يكن للخلفاء عهد بذلك منذ زمن طويل ولا شك أن الملوك السلجوقيين لا يقع ذلك عندهم موقع الاستحسان فإنهم يتخوفون عاقبته ويرون منه خطراً على نفوذهم ومما يدل على أن ذلك منحه قوة لم تكن لسلفه أن شحنة بغداد برنقش الذكوي حصل بينه وبين نواب الخلافة نفرة فتهدده الخليفة فخاف فسار عن بغداد إلى السلطان محمود وشكا إليه وحذره جانب الخليفة وأعلمه أنه قاد العساكر ولقي الحروب وقويت نفسه ومتى لم تعاجله بقصد العراق ودخول بغداد ازداد قوة وجمعاً ومنعك عنه وحينئذ يتعذر عليك ما هو الآن بيده فأثر ذلك الكلام في نفس السلطان وتوجه نحو العراق فأرسل إليه الخليفة يعرفه بالبلاد وما عليه أهلها من الضعف والوهن وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات لهرب الأكرة ويطلب منه أن يؤخر حضوره حتى تصلح الأحوال وبذل له على ذلك مالاً كثيراً فكان هذا مما زاد في إغراء السلطان حتى قصد بغداد فسار مجداً.
ولما بلغ الخليفة الخبر أظهر الغضب والنزوح عن بغداد واستعد لذلك إن جاء السلطان فأثر ذلك في أنفس العامة تأثيراً عظيماً حتى أكثروا البكاء والضجيج ولما أعلم السلطان بذلك أرسل يستعطف الخليفة ويطلب إليه العودة إلى داره بأبى إلا أن يعود السلطان ولا يحضر إلى بغداد فلم يلتفت السلطان إلى قوله واستمر قاصداً بغداد أما الخليفة فاستعد لمقابلته بالقوة وكان معه كثير من العامة والجند يدافعون عنه تديناً وقد حصلت مناوشات بين الفريقين في أول سنة 521 وكان مع كل جمع عظيم ولما رأى المسترشد باللَّه جنح إلى الصلح الذي طلبه السلطان محمود فتم ذلك وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد فلم يفعل وقال لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا وأقام ببغداد إلى رابع شهر الآخر سنة 521 ثم فارقها بعد أن حمل إليه الخليفة الخلع والدواب الكثيرة.
وفي سنة 524 ملك السلطان محمود قلعة الموت من يد صاحبها الحسن بن الصباح.
وفي سنة 525 توفي السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه وكان حليماً كريماً عاقلاً يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في أموال الرعايا عفيفاً عنها كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيء منها.
لما توفي خطب لولده داود بالسلطنة في بلاد الجبل وأذربيجان إلا أنه قام ضده ابن عمه السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه فكان الظفر لمسعود وخطب له بالسلطنة على منابر بغداد إلا أن هذا لم يرق لعميد البيت ورئيسه السلطان سنجر فأقبل من خراسان قاصداً دفع مسعود عن السلطنة وسار إليه مسعود فالتقيا بعولان عند الدينور وكانت النتيجة أن انهزم مسعود وفل جيشه وتحكم سنجر فيما بقي ثم أرسل وراء ابن أخيه من يرده فرده إليه فلما حضر عنده قبله وأكرمه وعاتبه على عصيانه ومخالفته ولم يعده إلى السلطنة بل رده إلى كنجه وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد مكانه وخطب له في جميع البلاد ثم عاد إلى نيسابور فلما رأى ذلك مسعود خرج من مكمنه وتوجه إلى بغداد ثانياً بما جمعه من الجيوش فدخلها فقابله الخليفة بالإكرام ووعده أن يرسل معه جيشاً لمحاربة طغرل وقد وفَّى بما وعد فسارت الجنود المسعودية صوب طغرل حتى التقوا به عند همذان فكانت بينهما موقعة انهزم فيها طغرل واستقر الأمر ثانية للسلطان غياث الدنيا والدين أبي الفتح مسعود بن محمد بن ملكشاه .
كان هذا الخلاف بين البيت السلجوقي مقوياً للمسترشد فصار يعد نفسه صاحب الأمر الذي يجب أن يطاع لا بالقوة المعنوية وحدها بل بقوة السيف أيضاً. فقد صار تحت أمره أجناد ورجال يلبون دعوته وينفذون كلمته وقد حصل بسبب ذلك نفرة بينه وبين السلطان مسعود أدت إلى أن أمر الخليفة بقطع خطبة مسعود من منابر بغداد ولم يقف عند ذلك بل تجهز بجيشه يريد حرب مسعود بدار سلطنته ومعه الجنود الكثيرة إلا أنها لم تكن ذات عصبية تصدق عند اللقاء فإن العصبية الجنسية غلابة مهما كانت الأحوال ولذلك لما التقى الطرفان انحاز كثير من عسكر الخليفة الأتراك إلى السلطان مسعود فانهزم جند الخليفة أما هو فبقي ثابتاً حتى أسر ولما بلغ ذلك الخبر بغداد قامت قيامة أهلها وخرجوا من الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويبكون ويصيحون وخرجت النساء حاسرات في الأسواق يلطمن.
أما الخليفة فقد جعله السلطان في خيمة ووكل به من يحفظه وقام بما يجب من خدمته وترددت الرسل بينهما في تقرير قواعد الصلح على مال يؤديه الخليفة وألا يعود إلى جمع العساكر وألا يخرج من داره فأجيب إلى ذلك ولم يبق إلا أن يعود الخليفة إلى بغداد إلا أنه صادف أن هجم على خيمة الخليفة جماعة من الباطنية فقتلوه ومثلوا به وكان ذلك في يوم الأحد 17 ذي القعدة على باب مدينة مراغة وكان المسترشد شهماً شجاعاً كثير الإقدام بعيد الهمة وكان فصيحاً بليغاً حسن الخط. قال ابن الأثير ولقد رأيت خطه في غاية الجودة ورأيت أجوبته على الرقاع من أحسن ما يكتب وأفصحه ولقد حاول أن يعيد شيئاً من مجد أهل بيته فحالت الأقدار بينه وبين ما أراد.