الدولة العثمانية : السلطان ابراهيم
السلطان إبراهيم خان ابن السلطان أحمد خان الأول 1049 - 1058 هـ
لما لم يترك السلطان مراد خان الرابع من يرث تخت السلطنة بعده من صلب آل عثمان إلا السلطان إبراهيم جلس هذا على التخت بعد وفاة السلطان أحمد وكان عمره إذ ذاك 25 سنة وأقيمت له حفلة المبايعة على الطريقة القديمة ووزعت عطايا الجلوس على أربابها.
وقد زاد اختلاطه بالنساء كثيراً بمجرد جلوسه إكثاراً للذرية حتى أدى به الأمر أن هام بهن شغفاً ولازم الحرم فصار لا يخرج منه وقد أثر ذلك على صحته فأصبح نحيلاً ضئيلاً ولهذا حاز نساء السراي السلطانية نفوذاً عظيماً وتداخلن في أمور الدولة بأجمعها وبمساعيهن وصل رجل يدعى حسين أفندي ويعرف بخواجه جنجي إلى رتبة قاضي العسكر في زمن وجيز وصار يتداخل في كل أمور الدولة إلا أن الصدر الأعظم قره مصطفى باشا لما كان من أصحاب الدراية لم ترج لدية هذه الأعمال المفسدة وبمساعيه تمكن من قطع دابر هؤلاء الأشقياء 1053هـ وتمكن أيضاً من تسوية مسألة المسكوكات وكانت من المسائل المهمة أحدثت ارتباكاً في أحوال الدولة.
وفي سنة 1050هـ سعى هذا الوزير حتى جدّد المعاهدات مع الدول الأوروباوية وكل ذلك بمشاورة ومساعدة والة السلطان المسماة ماهيكر سلطانة وسوّى المعارضات التي حدثت بخصوص حدود النمساء والمجر على حالة ترضي الطرفين ثم أتت الجزية من بلاد الأردل وراغوزة والهدايا من الروسيا والعجم على يد السفراء فراجت الأحوال ولما كان استعمال التبغ لا يزال ممنوعاً لما أفتى به بعض العلماء ولما أحدثه من الأضرار شدّد هذا الصدر في هذا المنع حتى إنه لشدّة التضييق والجزاء على مستعمله قالوا إن أكل الأفيون واستعمال السعوط راجت سوقهما في جهات غلطة.
وفي سنة 1051هـ قبض على الأشقياء الذين حرقوا كنيسة بروسة وعاقبهم أشدّ العقاب وبعث بقوّة عسكرية إلى ولاية بغداد لردع العربان الذين أخذوا في قطع الطريق ونهب القرى فأعاد النظام والسكينة بالولاية المذكورة.
ابتداء محاربة جزيرة كريد 1055هـ:
لما رأت الدولة العثمانية أنه صار في قبضتها معظم سواحل البحر الأبيض المتوسط وخصوصاً سواحل أفريقية رأت أن من الضروري فتح جزيرة كريد لحفظ وحراسة مستملكاتها وسواحلها لأن موقع الجزيرة الجغرافي يستدعي الاهتمام بذلك فأخذت تتخير الأوقات وتنتهز الفرص وبينما كانت ألمانيا وأوربا مشتغلة بحروبها بخصوص مسألة البروتستانت اتفق أنه في سنة 1054هـ 1644 م تعدت بعض سفن قرصان مالطة وقبضت على سفينة عثمانية تجارية كان بها حجاج وبينهم سنبل أغا أغاي دار السعادة ولما وصلت سفن القرصان المذكورة إلى جزيرة كريد تقاسم أصحابها ما بها من الأسلاب مع حاكمها ليدافع عنهم وبعد أن أقاموا مدّة في هذه الجزيرة ارتحلوا عنها إلى جزيرة مالطة وأخذوا معهم تلك السفينة.
هذا ولما علم السلطان بهذا الخبر غضب جداً على هذه التعديات وأصدر أمره في الحال لجميع دور الصناعات ببذل الاهتمام في بناء السفن وإصلاحها لتقوية الدوننما وأمر الولايات بتجهيز الجيوش وعين القبودان يوسف باشا الذي تقلد رياسة البحرية 1054هـ بعد أبي بكر باشا سرداراً على الجيوش أيضاً وبعد أن استعرض هذا القائد جنود البحرية في نظارة البحرية وزعهم على السفن 1055هـ 1645 م ثم أقلع بالدوننما وكانت مشكلة من 150سفينة حربية بها نحو مائة وخمسين ألف قنطار من البارود ونحو خمسين ألف من مقذوفات الحديد وخمسين مدفعاً للحصار وغير ذلك من الآلات الحربية الأخرى.
ولما خرجت هذه العمارة من الدردنيل توجه منها تسعون سفينة لمينا سلانيك وستون سفينة لمينا جشمه لتأخذ منهما العساكر التي كانت استعدت بالجهتين المذكورتين واكترت العمارة أيضاً خمسين سفينة تجارية لحمل الأرزاق والمهمات وبعد ذلك قصدت هذه السفن جميعها مينا ناوراين للسفر منها إلى مالطة بعد أن التحق بها أساطيل طرابلس الغرب وكانت ثمانية تحت قيادة حاكم طرابلس عبدالرحمن باشا وبوصولهم جميعاً إلى مينا ناوارين أخذوا المياه اللازمة لهم ثم دعا السردار كافة الأمراء وقرأ عليهم الفرمان السلطاني الآمر بالسفر إلى كريد لأجل فتحها ثم أبحرت العمارة قاصدة تلك الجهة إلى أن وصلت إلى ساحلها وأنزلت الجيوش في مكان يدعى غرامبوسة ثم وصلت الجيوش بعد يومين قرب بلدة خانية وبقيت على بعد أربعة أميال منها بين ساحل كريد وجزيرة أيا تودوري (THEODORO) ثم ألقت مراسيها وخرج منها كو ك حسن باشا بكلر بك الرومللي بعساكره وكل من مراد أغا كتخداي اليكجرية ومن معه من الجنود بمهماتهم وعددهم وعسكروا بشاطئ نهير بلاطانية واستولت الدوننما على القلعتين الموجودتين بجزيرة تودوري المذكورة ثم حاصرت الجيوش قلعة خانية الشهيرة من كل جانب إلى أن استولت عليها بعد خمسين يوماً من حصارها وذلك في 29جمادى الآخرة سنة 1055هـ 1645 م .
وبعد مضي أربعة عشر يوماً من افتتاحها حضرت عمارة البنادقة لما عملوا بمجيء العثمانيين تحت قيادة الأميرال العام يارونيمو موروزوني (MOROZINI) فمرت أمام القلعة المذكورة ثم دخلت مينا سودة وهو أكبر ثغر في جزيرة كريد وبعد أن جمع الأميرال المذكور كافة سفن البنادقة الموجودة بمياه الجزيرة المذكورة في مركز واحد خرج بها وأتى أمام خانية وكانت السفن الكبيرة من الدوننما العثمانية مستقبلة بجوار جزيرة أيا تودوري وكانت الصغيرة في مينا خانية وكان البنادقة طلبوا مساعدة أوروبا فلم تجبهم لقيام الحروب بين ممالكها وأرسل لهم أهل مالطة عشرين سفينة وأمدهم الفرنسويون بالنقود سراً مخافة الإخلال بالمعاهدات التي بينهم وبين العثمانيين ولما أراد سردار الجيش إخراج الدوننما في صباح اليوم المذكور لمحاربة البنادقة اتفق قيام زوبعة قوية جلبت أضراراً عظيمة بعمارة البنادقة فانهزمت بقدون قتال وبينما هي تسير صادفها في الطريق غلايين من الدوننما العثمانية فاشتبك القتال بينهما وبعد قتال عنيف أسر البنادقة غليوناً واحداً وتمكن الاثنان من الهرب.
ولما ازدادت الاضطرابات بالآستانة وكان منبعها في الحقيقة ضباط اليكجرية أراد السلطان الفتك بهم في ليلة زفاف إحدى بناته على الصدر الأعظم لانتقادهم أعماله وميلهم المستمر إلى المداخلة في أعمال الدولة ولما عملوا ما عزم السلطان عليه أجمعوا آراءهم وتآمروا على عزله وانضم إليهم بعض العلماء وأثاروا اليكجرية و السياهية فتم لهم خلعه وسجنوه وولوا ابنه محمد خان الرابع إلا أنه بعد أيام من عزل السلطان إبراهيم تذمر السياهية وأظهروا عدم ارتياحهم من السلطان الجديد لصغر سنه وهموا بإقعاد السلطان إبراهيم على كرسي الخلافة ثانية فخشى عند ذلك رؤساء العصابة التي عزلته من أن يبطش بهم إن عاد وصمموا على قتله ثم ذهبوا إلى السراي ومعهم الجلاد قره علي فقتله خنقاً 1058 هـ وقد كان هذا السلطان غير ميال إلى الحرب إلا أنه كان شديد المحافظة على كرامة الدولة لا يغتفر لمن يمسها بسوء أصلاً.