الاحوال الشخصية : الولاية
الولاية:
وفيه:
الباب الأول: في الولاية على النفس
- تعريف ولاية النفس:
- ويراد بها هنا: سلطة الولي التي تتعلق بنفس المولى عليه من صيانته وحفظه وتأديبه وتعليمه العلم أو الحرف وتزويجه.
ولما كان الطفل بعد انتهاء فترة الحضانة عاجزاً عن القيام بتلك الأمور بنفسه حيث لا يدرك وجه المصلحة فيها كان في أشد الحاجة إلى من يقوم بها، ويسمى ذلك الشخص بالولي.
ولما كان مدار ثبوتها عجز المولى عليه من إدراك وجه المصلحة فيما يحتاج إليه ثبتت على كل عاجز سواء كان صغيراً أو كبيراً مجنوناً أو معتوهاً.
فتثبت على الصغير حتى يبلغ عاقلاً مأموناً على نفسه، وعلى الصغيرة والكبيرة حتى تتزوج أو تتقدم بها السن وتصبح مأمونة على نفسها بكراً كانت أو ثيباً، كما تثبت على المجانين والمعاتيه حتى تزول علتهم.
- من تثبت له هذه الولاية؟
تثبت الولاية على النفس لأقارب المولى عليه من العصبات الذكور، وهم أصوله من الأب والجد أبي الأب وإن علا، وفروعه من الأبناء وأبناء الأبناء، وفروع الأبوين من الأخوة الأشقاء والأخوة لأب وأبنائهم، وفروع الأجداد وهم الأعمام وأبناؤهم، غير أن الولاية على الأنثى لا تكون إلا للعاصب المحرم فلا تثبت لابن العم، فإن لم يوجد من العصبات غيره أبقاها القاضي عند حاضنتها أو اختار لها شخصاً أميناً وضعها عنده.
وتثبت الولاية لهؤلاء على حسب ترتيبهم في الميراث. فالفروع ثم الأصول ثم الأخوة وأبناؤهم، ثم الأعمام وأبناؤهم بالنسبة لغير الصغار، أما الصغار فتثبت الولاية عليهم أولاً للأصول لعدم وجود أبناء يصلحون للولاية، فإن لم يوجد إلا واحد كانت الولاية له، وإن تعددوا قدم الأقرب، وإن تساووا في الدرجة قدم الأقوى قرابة كالأخ الشقيق على الأخ لأب، والعم الشقيق على العم لأب، فإن تساووا في الدرجة وقوة القرابة تثبت لهم جميعاً، ويختار القاضي أصلحهم للولاية. هذا في مذهب الحنفية.
- متى تنتهي هذه الولاية؟
تنتهي هذه الولاية بالنسبة للفتى بالبلوغ بالعلامات الطبيعية، فإن لم تكن فبالسن وهو خمس عشرة سنة عند جماهير الفقهاء، وهو ما يجري عليه العمل في القضاء، لأنه الراجح في مذهب الحنفية، فإذا بلغ بأحدهما وكان مأموناً على نفسه انتهت هذه الولاية، وكان له الخيار في الإقامة مع وليه أو الانفراد عنه في السكنى كما يقول الفقهاء.
أما الفتاة فلا تنتهي الولاية عليها بالبلوغ بل تستمر إلى أن تتزوج أو تتقدم بها السن حتى تصير مأمونة على نفسها فلها أن تنفرد بالسكنى أو تسكن مع أمها.
- شروط الولي على النفس:
يشترط في من تثبت له الولاية على النفس الشروط الآتية :
-1 أن يكون بالغاً عاقلاً، لأن غير البالغ العاقل لا ولاية له على نفسه بل هو محتاج لمن يلي عليه.
-2 أن يكون قادراً على القيام بما تتطلبه الولاية من أعمال، فلو كان عاجزاً لا يكون أهلاً لها.
-3 أن يكون أميناً على المولى عليه في نفسه ودينه، فلو لم يكن أميناً بأن كان فاسقاً مستهتراً لا يبالي بما يفعل لا يكون أهلاً للولاية، لأنها شرعت لمصلحة الصغير وليس من مصلحته أن يوضع عند هذا الفاسق لأنه يخشى عليه أن يتخلق بأخلاقه، وكذلك لو كان مهملاً كأن يترك الصغير مريضاً بلا علاج أو يحرمه من التعليم وعنده استعداد له، فإذا كان كذلك انتقلت الولاية إلى من يليه من الأولياء محافظة على مصلحة الصغير.
-4 أن يكون متحداً مع المولى عليه في الدين، لأن اختلاف الدين يؤثر في رابطة القرابة الموجودة بينهما فيتعرض الصغير لخطر التأثر بدين وليه، فلو كانت الولاية للأخوة وكان للصغير أخوان أحدهما موافق له في الدين والآخر يخالفه فيه كانت الولاية للموافق في الدين.
وهذا الشرط في غير القاضي، لأنه نائب عن الحاكم صاحب الولاية على جميع الرعايا مسلمين وغير مسلمين، وكما تشترط هذه الشروط في ثبوت الولاية ابتداء يشترط بقاؤها طوال مدة الولاية، فإذا تغير شرط منها سلبت الولاية منه لأنه أصبح غير أهل لها.
الباب الثّاني: في الولاية على المال
- تعريف ولاية المال:
يراد بالولاية على المال: السلطة التي يملك بها الولي التصرفات والعقود التي تتعلق بمال المولى عليه من البيع والشراء والإجارة والرهن والإعارة وغيرها.
وهذه الولاية تثبت على العاجزين عن تدبير شئونهم المالية من الصغار والمجانين والمعاتيه باتفاق الفقهاء، كما تثبت على السفهاء وذي الغفلة عند جماهير الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة.
أما الصغير: فيمر بمرحلتين حتى يبلغ. المرحلة الأولى: مرحلة عدم التمييز وتنتهي عادة ببلوغ سن السابعة وفي هذه المرحلة تكون الولاية عليه تامة، فجميع التصرفات لوليه، لأن الصغير فيها لا إدراك له ولا تمييز ومن ثم لا تكون له عبارة معتبرة، فأي تصرف يصدر منه يكون باطلاً.
فإذا بلغ سن السابعة من عمره بدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة التمييز وفيها يدرك الفرق بين النافع والضار بصورة إجمالية، كما يعرف معاني العقود إجمالاً، فيدرك أن معنى بقت إخراج للشيء من حيازته، ومعنى اشتريت إدخال للمشتري في حيازته، فيتحقق له بهذا أهلية للتصرف لكنها ناقصة يحتاج معها إلى رأي وليه، ومن هنا قرر فقهاء الحنفية إن تصرفاته في هذه المرحلة ثلاثة أنواع :
-1 تصرفات نافعة نفعاً محضاً. كقبول الهبة أو الهدية، وهذه تصح منه وتنفذ ولا تتوقف على إذن وليه.
-2 تصرفات ضارة ضرراً محضاً كهبة ماله وإهدائه وإبراء المدين له من الدين وإقرار بالدين، وهذه باطلة لا تنفذ حتى ولو أجازها وليه، لأن الولي لا يملكها ابتداء فلا يملك تمليكها لغيره بالإجازة.
-3 تصرفات مترددة بين النفع والضرر كالبيع والشراء والإجازة وعقود المعاوضات كلها، وهذه تصح باعتبار ما عنده من إدراك وتمييز وأهلية ناقصة، ولكنها تتوقف على رأي الولي. إن أجازها - في حدود ما يملكه من الولاية - ونفذت لظهور أن نفعها أكثر من ضررها، وإن ردها بطلت لظهور أن ضررها أكبر وتستمر هذه المرحلة إلى البلوغ، وهو يكون بالعلامات الطبيعية إن وجدت وبالسن إن لم توجد، وهو مقدر عند جمهور الفقهاء بخمس عشرة سنة، وعليه العمل في القضاء، وخالف أبو حنيفة فجعله ثماني عشرة سنة للفتى، وسبع عشرة سنة للفتاة، وجعله مالك ثماني عشرة سنة لها استناداً لقول ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] فقد فسر أشد اليتيم بثماني عشرة سنة فكان حد البلوغ بالسن، ولكن أبا حنيفة أنقص الفتاة سنة لأنها أسرع إلى البلوغ عادة من الفتى.
أما الجمهور فقد استندوا إلى ما رواه الجماعة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني".
فإجازة الرسول وإذنه بالقتال وهو ابن خمس عشرة سنة دليل على أن أدنى سن البلوغ مبلغ الرجال هو ذلك.
وإذا بلغ عاقلاً كملت أهليته ولكن لا يسلم إليه المال إلا إذا ثبت رشده، وهو الإحسان في التصرف في المال بحيث لا ينفقه إلا على مقتضى العقل والشرع، وما دام لم يسلم إليه ماله تبقى الولاية المقيدة لتصرفاته فلا يتصرف إلا بالإذن.
ولم يحدد الفقهاء للرشد سناً معينة، لأنه أمر يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، بل وكلوا ذلك إلى التجربة والاختيار وهو قول الجمهور، أيضاً وزادوا أنه يثبت بشهادة رجلين عدلين في الذكور والإناث وبشهادة النساء وحدهن أو مع الرجال في الإناث فقط.
وسند هذا الرأي قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 5-6] فإذا ثبت الرشد بالفعل سلم إليه ماله.
وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك يستمر إلى خمس وعشرين، فإذا بلغها سلم إليه ماله وإن لم يرشد بالفعل، لأن الغرض من منع المال عنه تهذيبه وتأديبه بصورة حسية، فإذا بلغ هذه السن ولم تفد التجارب معه لم يكن هناك أمل في ذلك، وحينئذ يدور الأمر بين منع ماله عنه وفيه إهدار لكرامته وهو عاقل وبين دفع المال إليه والمحافظة على كرامته كإنسان، وإذا دار الأمر بين الإنسانية والمال رجحت كفة الإنسانية ومنع الحجر عليه، ولأنه يكون في هذه السن إمكان أن يكون جداً.
ولأنه مخاطب بالتكاليف الشرعية مأمور بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وفي الحجر عليه معارضة لهذه الآية.
أما المجنون: وهو عديم العقل فيأخذ حكم الصغير قبل سن التمييز إذا كان جنونه مطبقاً أو متقطعاً في حال الجنون، أما في حال الإقامة فهو كالعاقل.
أما المعتوه: وهو قليل الفهم فاسد التدبير مختلط الكلام فيأخذ حكم الصغير بعد سن التمييز.
وأما ذو الغفلة: وهو الذي لا يهتدي إلى التصرفات النافعة ويغبن في البياعات لضعف إدراكه فيأخذ حكم السفيه، وهو البالغ العاقل غير الرشيد يحجر عليه ويمنع عنه ماله.
من تثبت له الولاية المالية:
ذهب الحنفية إلى أنَّ الولاية المالية تثبت على الصغير على الصغير عند الحنفية للأب ثم لوصيه ثم لوصي وصيه، ثم للجد الصحيح وهو أبو الأب وإن علا، ثم لوصيه ثم لوصي وصيه، ثم للقاضي ثم لوصي القاضي.
فهي تثبت للأب أولاً، فإن لم يوجد وكان قد أختار وصياً ليدير شئون أولاده المالية ثبتت لهذا الوصي وإن كان الجد موجوداً، وكذلك إذا اختار وصي الأب وصياً ليقوم بدله، فإن لم يوجد هذا الوصي أو كان وتوفي كانت الولاية للجد، ثم من بعده لوصيه ولوصي وصيه إن وجد، فإن لم يوجد واحد من هؤلاء كانت الولاية للقاضي الذي يعين في الغالب وصياً يتولى ذلك الإشراف.
وذهب المالكية والحنابلة إلى أن الولاية عندهم للأب ثم لوصيه ثم للقاضي ثم وصيه فلم يجعلوها للجد أصالة وإن كان يصح أن يكون وصياً من قبل الأب أو القاضي قالوا: لأنه لا يدلي إلى الصغير بنفسه وإنما يدلى إليه بالأب فلا تكون له الولاية على مال الصغير كالأخ.
ذهب الشافعية إلى جعل الولاية أولاً للأب ثم للجد ثم لوصي من تأخر موته منهما ثم للقاضي ثم لمن يقيمه وصياً، لأن الجد عندهم ينزل منزلة الأب عند عدمه لوفر الشفقة عنده مثل الأب ولذلك تثبت له الولاية في التزويج فتثبت ولايته في المال أيضاً.
وتقديم الأب على غيره أمر طبيعي لأنه أشفق الناس على أولاده وأحرصهم على مصالحهم، وكان وصي الأب مقدماً على الجد لأن اختيار الأب وصياً مع وجود الجد دليل على أنه أولى من الجد، لأنها تعتمد على الأمانة والتجربة والخبرة أكثر من اعتمادها على الشفقة التي يتميز بها الجد عن الوصي، وإرادة الأب في شئون ولده محترمة في حياته فكذلك تحترم بعد وفاته.
هذا وليس لأحد من العصبات غير الأب والجد حق في الولاية على المال إلا إذا جاءت بطريق الوصايا من الأب والجد أو الإختيار من القاضي وكذلك لا حق للنساء إلا من هذا الطريق.
أما الولاية على المجنون والمعتوه: فإذا كان الجنون أو العتة مصاحباً للبلوغ فإن الولاية تكون للأولياء السابقين لأنها كانت ثابتة بسبب الصغر ولم يوجد ما يقتضي رفعها فتستمر إلى الإفاقة قولاً واحداً في المذهب الحنفي.
أما إذا بلغ الصغير عاقلاً سليماً ثم طرأ عليه الجنون أو العته بعد رفع الولاية عنه فالراجح في المذهب الحنفي عود الولاية إلى الولي السابق لوجود العجز المقتضى للولاية وهو قول أبي حنيفة.
شروط الولي على المال:
شرط الفقهاء لأهلية الولاية على المال الشروط الآتية:
-1 أن يكون كامل الأهلية بالبلوغ والعقل والحرية، لأن ناقصها لا ولاية له على ماله، فلا تكون له ولاية على غيره.
-2 ألا يكون سفيهاً يخشى على مال القاصر من تصرفاته، فإن كان محجوراً عليه بالفعل فالأمر ظاهر، لأن الممنوع من التصرف في ماله يمنع من التصرف في مال غيره من باب أولى، وإن كان غير محجور عليه بالفعل لكن يستحق الحجر فلا ولاية له أيضاً لعدم ائتمانه على المال.
-3 أن يكون متحداً مع القاصر في الدين، فإن كان الأب غير مسلم وأولاده مسلمون. كأن تكون أمهم قد أسلمت وهم صغار وبقي الأب على دينه فيكون الأولاد مسلمين تبعاً لأمهم، لأنهم يتبعون خير الأبوين ديناً فلا تثبت الولاية للأب عليهم في هذه الحالة، وكذلك لو كان الأب أسلم وتوفي وترك أولاده المسلمين فلا يكون لجدهم المخالف له في الدين ولاية عليهم.
وهذا الشرط في غير القاضي، لأن ولاية القاضي ولاية عامة مستمدة من رئيس الدولة الذي هو ولي من لا ولي له من رعاياه مسلمين وغير مسلمين.
- سلطة الولي في التصرفات:
الأصل في تصرفات الولي أنها غير مطلقة بل مقيدة بما فيه مصلحة المولى عليه، وعلى ذلك لا يملك التصرفات الضارة ضرراً محضاً، كهبة جزء من مال المولى عليه أو التصدق به، فإذا صدرت منه كانت باطلة، ويملك التصرفات النافعة نفعاً محضاً. كقبول الهبة والصدقة والوصية، ومثلها التصرفات الدائرة بين النفع والضرر كالبيع والشراء والإجارة والشركة بشرط ألا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر كانت باطلة، هذا إجمال لحكم التصرفات، أما تفصيلها فإنها تختلف بإختلاف الشخص الذي يتولاها، وإليك البيان.
تصرفات الأب: يفصل الحنفية في الآباء فيصنفونهم أصنافاً أربعة.
الصنف الأول: أب معروف بالتبذير والإسراف وعدم الأمانة على المال، وهذا لا يستحق الولاية على أموال أولاده، فلو أعطيت له الولاية ثم ظهر كذلك سلبت ولايته وأخذ منه المال وسلم إلى من يستحقها إن كان موجوداً، وإلا سلم إلى وصي يختاره القاضي ليحقق للصغار ما ينفعهم ويحافظ على مصلحتهم.
الصنف الثاني: أب معروف بفساد الرأي وسوء التدبير لكنه أمين على المال غير مبذر فيه، وهذا يستحق الولاية نظراً لأمانته وعدم تبذيره، ولأنه أقرب الناس إلى أولاده وموفور الشفقة عليهم، ولكنه يراقب في تصرفاته فيمنع من كل ما يضر بمصلحة الصغير، فيشترط لصحة تصرفاته الدائرة بين النفع والضرر أن تكون فيها منفعة ظاهرة، فإن تحققت نفذت وإن لم تتحقق ألغى التصرف.
ولقد وضع بعض الفقهاء معياراً للمنفعة الظاهرة في بيع العقار أن يكون بضعف قيمته، وفي شرائه أن يكون بنصف القيمة، وفي بيع المنقول أن يكون بزيادة تساوي نصف قيمته وفي شرائه أن يكون بنقص يساوي ثلث قيمته فيبيع ما قيمته ستة بتسعة، ويشتري ما قيمته تسعة بستة.
وقيل غير ذلك لكن الفتوى على الأول.
الصنف الثالث: أب معروف بحسن الرأي والتدبير والتصرف. وهذا والذي قبله تثبت لهما الولاية الكاملة ومطلق التصرف في أموال من في ولايتهما صغاراً كانوا أو غير صغار.
فيملك الواحد منهما كافة التصرفات التي يملكها في ماله، ولا يستثنى منها إلا ما فيه ضرر محض كالتبرع والصدقة وما في معناهما، لأن التبرع إخراج المال الصغير بدون عوض فيكون ضرراً محضاً.
وعلى هذا يكون له بيع أموال المولى عليهم عقاراً كانت أو منقولاً ويشتري لهم مادام ذلك البيع والشراء بمثل القيمة أو بغبن يسير مما يتغابن فيه الناس عادة، ولا يملك أحد نقص تصرفه حتى الصغير إذا بلغ لا يملك ذلك، لأنه صدر عن ولاية تامة.
أما إذا كان البيع والشراء بغبن فاحش فإنه لا يكون صحيحاً، لأنه في معنى التبرع وهو ممنوع منه فيبطل البيع وينفذ الشراء على الأب لإمكان تنفيذه بدون ضرر بالمولى عليه.
ويجوز له أن يشتري مال الصغير لنفسه أو يبيع ماله له مادام خالياً من الغبن الفاحش، ويتم العقد بعبارته وحدها. كبعت هذا إلى ابني أو اشتريت هذا من ابني، وهي من الصور المستثناة من القاعدة العامة عندهم التي تمنع تولي الشخص الواحد طرفي العقد في العقود المالية بعبارة واحدة، وخالف في ذلك بعض الحنفية تمسكاً بالقاعدة كما يجوز أن يؤجر ماله ويتأجر له بدون غبن فاحش، ولا يجوز له أن يؤجر أموال الصغير لمدة طويلة لأنها غالباً تكون بأجرة ناقصة ففيها ضرر بأموال الصغير.
وله أن يودع أموال القاصر ولو كان الإبداع بأجر، لأنه من طرق المحافظة على أموال القاصر.
كما أن له أن يعير أموال الصغير إذا كان العرف يجري بذلك، لأنه كما يعير آلاته يستعير له من غيره فهو من قبيل تبادل الخدمات.
تصرفات الجد في ولايته:
اختلف أئمة المذهب الحنفي في تحديد نطاق تصرفات الجد على رأيين:
فيرى أبو حنيفة أنه لا يملك كل ما يملكه الأب من تصرفات، بل تقتصر ولايته على ما يملكه وصي الأب -وسيأتي بيانها- لأنه يلي الوصي في المرتبة فلا يكون له اختصاص أكثر من ذلك الوصي، ولو كان مساوياً للأب لتلاه في المرتبة وتقدم على وصي الأب في الولاية المالية.
وفي رواية في المذهب أنه يملك ما يملكه الأب لا فرق بينهما، لأن ولايته أصلية أثبتها له الشارع ولم يستمدها من أحد حيث ثبتت له باعتباره أبا عند فقد الأب، ولأنه موفور الشفقة كالأب فيملك ما يملكه، وتأخره في المرتبة عن وصي الأب لاحترام إرادة الأب لا لأنه أضعف في ولايته من وصي الأب.
ومع وجاهة رأي الثاني فقد اختار الفقهاء الرأي الأول للفتوى.
وعلى القول بتساوي الجد مع وصي الأب في نطاق الولاية فرقوا بينهما في أمرين.
أولهما: أن الجد يملك التعاقد لنفسه بالبيع والشراء من مال القاصر من غير غبن فاحش، أما الوصي فلا يملك ذلك إلا إذا كان في البيع والشراء مصلحة ظاهرة، كأن يشتري عقار الصغير بضعف قيمته وأن يبيع عقاره للصغير بنصف قيمته عند أبي حنيفة.
وثانيهما: أن وصي الأب يملك بيع أعيان التركة عقاراً أو منقولاً في سداد الديون وإن كان بعض الورثة كباراً لقيامه مقام الأب في تركته، فيتولى تسديد ديونه بمقتضى الإيصاء، وكذلك له تنفيذ الوصية.
أما الجد فلا يملك ذلك إلا إذا كان بعض الورثة كباراً، لأن ولايته بحكم الشرع على الصغار فقط فيقتصر تصرفه على بيع ما يخص الصغار فقط.
- الوصاية: وصي الأب:
إذا اختار الأب شخصاً ليكون خليفة عنه في الولاية على أولاده القصر بعد وفاته تكون له الولاية بعد وفاته إذا توفرت فيه شروط الوصاية، ومرتبته في الولاية مقدمة على ولاية الجد كما قدمنا.
وقد أجاز الفقهاء للجد أن يوصي قبل وفاته ويكون وصي الجد، ويتولى الأموال بعد وفاة الجد كذلك.
شروط الوصي:
شرط الفقهاء في أهلية الوصي مطلقاً مختاراً من الأب أو معيناً من القاضي. أن يكون كامل الأهلية عدلاً أميناً قادراً على إدارة شئون من له الوصاية عليه، وأن يكون متحداً في الدين مع من جعلت له الوصاية عليه.
وهذه الشروط معتبرة بعد وفاة الموصى في الوصي المختار، لأنه الوقت الذي تنفذ فيه الوصاية، فلا اعتبار لتخلفها قبل ذلك، لأنها شروط لنفاذ الوصاية لا لإنشائها، فإن لم يكن أهلاً في هذا الوقت عدل عنه وعين القاضي غيره إن لم يوجد من يستحق الولاية كما في إيصاء الأب والجد غير موجود.
ويستوي في الوصي بعد توفر الشروط الرجل والمرأة والقريب الوارث وغير الوارث والأجنبي.
- تخصيص الوصي المختار:
لا خلاف في أن الوصي يتصرف في كافة الأموال بما يخوله له حق الإيصاء إذا كانت الوصية مطلقة غير مقيدة بشيء مخصوص بأن قال الموصي : جعلتك وصياً، أو أنت وصيي.
أما إذا كانت مقيدة بنوع من التصرفات كأن يقول : جعلتك وصياً في الأموال المنقولة أو في التجارة أو بمكان كأن يقول: جعلتك وصياً في الأموال الموجودة في بلد كذا أو ما شابه ذلك من التقييدات فهل يجوز لهذا الوصي التصرف في غير ما قيد به أو لا ؟
ذهب أبو حنيفة أن الوصاية لا تقبل التخصيص، فإذا قال: جعلتك وصياً في أمور التجارة أو في قبض مالي على الناس صار وصياً على كل الأموال، لأن الموصي رضيه متصرفاً في بعض الأمور ولم يرض بتصرف غيره في شيء أصلاً، فيكون أولى من غيره بالتصرف في الباقي، على أن الوصي قائم مقام الموصي فيتصرف تصرفه لأن الوصاية خلافة تثبت كاملة لا تتجزأ.
- تعيين المشرف:
هذا وكما يجوز للأب شرعاً أن يوصي لأكثر من واحد يجوز له أن يقيم مشرفاً يشرف على أعمال الوصي فلا يتصرف الوصي إلا بعلمه ورأيه، أما إمساك المال وحفظه فيستقل به الوصي، ولا يكون المشرف وصياً على المفتى به في المذهب الحنفي، فلا يمكنه التصرف في مال القاصر حتى ولو كان التصرف مستعجلاً أو لا ضرر فيه، ولا يتقيد الموصى في اختيار المشرف كما لم يتقيد في اختيار الوصي فيصح أن يكون المشرف الأم أو غيرها.
- تصرفات الوصي المختار:
أما وصي الأب فيعتبر قائماً مقام الأب فيملك جميع التصرفات التي يملكها الأب في المذهب إلا في مسائل مستثناة لا يكون فيها مثل الأب. وهي ما يأتي:
-1 بيع العقار المملوك القاصر، فللأب أن يبيعه بمثل القيمة أو بغبن يسير، أما وصيه فلا يملك بيعه إلا بمسوغ شرعي أو يكون في بيعه نفع ظاهر له، والمسوغات هي ما يلي:
أ- أن تكون التركة عليها ديون لا يمكن إيفاؤها إلا ببيع العقار، وكذلك إذا كان على القاصر دين كهذا.
ب- وجود وصية مرسلة أي بمقدار من المال كألف مثلاً ولا يوجد في التركة نقود أو عروض تباع لتنفيذها فإن العقار يباع حينئذ لتنفيذها لأنه لا ميراث إلا بعد تنفيذ الوصية، أما إذا كانت مقيدة بالربع أو الخمس مثلاً فلا يباع العقار ويكون الموصى له شريكاً للورثة فيه بمقدار الوصية.
جـ- أن يكون القاصر في حاجة إلى النفقة ولا يمكن تدبيرها إلا ببيع العقار فيجوز للوصي أن يبيع منه بقدر النفقة، ويتكرر البيع بتجدد الحاجة إليها.
د- أن يكون العقار مبنياً وبناؤه آيل إلى السقوط، ولا توجد نقود عند الوصي لترميمه وتلافي سقوطه.
هـ- إذا كان العقار يخشى عليه النقصان أو الضياع كالأراضي التي تكون بجوار البحار أو الأنهار وتتعرض لتآكلها عاماً بعد عام.
و- أن تكون ضريبة العقار وما ينفق عليه لصيانته أو لزراعته تزيد عن غلاته وما شاكل ذلك.
فإن لم يوجد مسوغ من المسوغات لبيعه فلا يباع إلا بنفع ظاهر، كأن يرغب شخص في شرائه بضعف قيمته فيجوز، لأن الوصي في هذه الحالة لا يستطيع أن يشتري للقاصر بالثمن عقاراً آخر.
فإن باعه بدون مسوغ كان البيع باطلاً حتى لو بلغ الصبي وأجاز ذلك البيع لا تصح هذه الإجازة لأن الباطل لا تلحقه إجازة.
والفرق بين الأب والوصي في ذلك أن الشفقة متوفرة عند الأب فيكفي في تصرفه ألا يكون فيه ضرر، أما الوصي فلا تتوفر له تلك الشفقة فكان الاعتبار الأول في ولايته هو الحفظ والصيانة والعقار محفوظ مصون بنفسه فلا يجوز له بيعه إلا عند الخطر عليه أو النفع الظاهر.
-2 بيع الوصي مال نفسه للقاصر وشراء ماله لنفسه، فبينما يصح للأب أن يبيع ماله للصغير وأن يشتري مال الصغير لنفسه متى كان البيع أو الشراء بمثل القيمة أو بغبن يسير. لا يصح هذا من الوصي إلا إذا كان فيهما نفع ظاهر للقاصر، ويتحقق هذا النفع الظاهر كما صوره بعض الفقهاء بأن يبيع عقاره للقاصر بنصف القيمة، ويشتري عقاره بضعف القيمة، وفي غير العقار يكون البيع بنقصان ثلث القيمة، والشراء بزيادة نصف القيمة، كأن يبيع له ما قيمته خمسة عشرة بعشرة، ويشتري منه ما قيمته عشرة بخمسة عشر، وجواز البيع والشراء على هذا الوجه هو قول أبي حنيفة وعليه الفتوى.
وكذلك لا يجوز للوصي أن يبيع مال القاصر لمن لا تقبل شهادته له من الأصول والفروع والأزواج ولا أن يشتري منهم له إلا ما فيه مصلحة واضحة.
وإنما فرق بين تصرف الأب وتصرف الوصي لأن وفور شفقة الأب وحرصه على مصلحة أولاده لا يحتاج معها إلى ضمان آخر، بخلاب الوصي الذي قد يؤثر مصلحة نفسه على مصلحة القاصر فاحتاج تصرفه إلى دليل ينفي ذلك عنه وهو بيعه وشراؤه بما يحقق له النفع الظاهر.
-3 رهن الوصي شيئاً من أموال نفسه عند اليتيم نظير دين عليه له وارتهانه شيئاً من أموال اليتيم عند نفسه نظير دين له على اليتيم لا يصح ذلك من الوصي بينما يصح ذلك من الأب.
وفيما عدا هذه الأمور فإنه يتصرف كل التصرفات التي يملكها الأب.
أما وصي القاضي فهو كوصي الأب إلا في بعض مسائل خاصة أهمها:
-1 ليس لوصي القاضي عقد المعارضة في مال القاصر مع نفسه ولا مع من لا تقبل شهادتهم له، لأنه نائب عن القاضي، والقاضي لا يملك ذلك فكذلك نائبه، أما وصي الأب فله ذلك بشرط أن يكون فيه نفع ظاهر كما بيناه.
-2 الوصي المختار له أن يقيم وصياً بعد وفاته على مال القاصر الذي له عليه وصاية، وليس ذلك لوصي القاضي إلا إذا جعل له القاضي ذلك في قرار تعيينه، والسبب في ذلك أن القاضي الذي يستمد منه الوصي المعين من قبله ولايته موجود دائماً بخلاف الوصي المختار للأب فإن من اختاره غير موجود فلا يمكن الرجوع إليه.
-3 وصي القاضي قابل للعزل وإن كان عدلاً كفؤاً إذا كانت مصلحة القاصر تقتضي ذلك، لأنه وكيل القاضي وكل موكل يملك عزل وكيله، أما الوصي المختار فلا يجوز للقاضي عزله إذا كان عدلاً كافياً، لأنه لم يعينه فلا يملك عزله دون سبب مبرر لذلك العزل.
استحقاق الوصي الأجر على الوصاية:
لفقهاء الحنفية في ذلك آراء ثلاثة:
أولها: أنه يستحق الأجر مطلقاً غنياً كان أو فقيراً.
وثانيها: أنه يستحق الأجر مطلقاً غنياً كان أو فقيراً.
وثالثها: التفصيل بين ما إذا كان غنياً فلا يستحق الأجر وبين ما إذا كان فقيراً فيستحقه
ومنشأ هذا الاختلاف هو الاختلاف في فهم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. فإنها جاءت في سياق الآيات المبينة أحكام من يتولى أموال اليتامى.
فصاحب الرأي الأول يقول: إن الآية طالبت الغني بالاستعفاف، وسوغت للفقير الأكل بالمعروف، وليس الأكل بالمعروف أجراً، ولأن الوصاية الأصل فيها التبرع ممن يقوم بها.
وصاحب الرأي الثاني يقول: إن الآية تفيد استحباب التبرع إذا كان غير محتاج، ولا تفيد إلزامه بذلك فله أن يطلب الأجر إذا شاء إذ لا يمكن إلزام شخص أن يؤدي عملاً بغير مقابل.
ولأنه يضيع جزءً من وقته في العمل للقاصر لو أضاعه في شئون نفسه لزادت ثروته فيكون مستحقاً للأجر، ويترك ذلك لرأيه إن شاء طالب به، وان شاء تنازل عنه.
وصاحب الرأي الثالث يقول: إن الآية فرقت بين الغني والفقير فطالبت الغني بالاستعفاف، وسوغت للفقير أن يأكل بالمعروف، ولأن الأصل في الوصاية أن تكون تبرعاً ابتغاء ثواب الآخرة والغني لا يتضرر من ذلك، أما الفقير فيلحقه الضرر فيستحق الأجر دفعاً لهذا الضرر عنه استثناء من الأصل، ولهذا قال بعض الفقهاء : إن هذا هو مقتضى الاستحسان وهو مقدم على القياس الذي يمنع مطلقاً.
- انتهاء الولاية والوصاية:
تنتهي الولاية شرعاً - كما قدمنا - ببلوغ القاصر عاقلاً رشيداً، والرشد ليس له سن معينة عند جماهير الفقهاء بل يثبت الرشد بالتجربة، فإن ثبت بالفعل انتهت الولاية وسلم المال إلى صاحبه وإن لم يثبت يبقى المال تحت يد الولي.
أما إذا بلغ مجنوناً أو معتوهاً فإن الولاية تستمر عليه ولو لم تقرر المحكمة استمرارها.
انتهاء الوصاية:
تنتهي الوصاية:
أولاً: ببلوغ القاصر سن الرشد كما في الولاية.
ثانياً: بعودة الولاية للولي أباً أو جداً فيما إذا كانت المحكمة سلبت الولاية لسبب من الأسباب وعينت وصياً بدله، ثم زال سبب سلب الولاية وأمرت المحكمة بإعادتها.
ثالثاً: بعزل الوصي لسبب من الأسباب الموجب لذلك أو قبول استقالته.
رابعاً: بفقد الوصي أهليته أو ثبوت غيبته بحيث لا يمكن القاصر الانتفاع من وصايته، أو موته أو موت القاصر.