الاحاديث النبوية : الاستقامة والايمان - طريق الجنة - كل خير صدقة
الحديث الحادي والعشرون: الاستقامةُ والإِيمَان
عن أبي عَمْرو، وَقِيلَ: أبي عَمْرَةَ، سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثّقَفيِّ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يا رَسُولَ الله، قُلْ لي في الإِسْلاَمِ قَوْلاً، لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً غَيْرَكَ. قَال: "قُلْ: آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ". رواه مسلم.
مفردات الحديث:
"في الإسلام": أي في عقيدته وشريعته.
"قولاً": جامعاً لمعاني الدين، واضحاً لا يحتاج إلى تفسير.
"قل آمنت بالله": جدد إيمانك بالله متذكراً بقلبك ذاكراً بلسانك لتستحضرَ جميع تفاصيل أركان الإيمان.
"ثم استقم": أي داومْ واثبت على عمل الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات.
المعنى العام:
معنى الاستقامة: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم "قل آمنت بالله ثم استقم" مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا..} [فصلت: 30] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]. والمراد: الاستقامة على التوحيد الكامل.
والاستقامة درجة بها كمال الأمور، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيماً في حالته ضاع سعيه وخاب جِدّه. والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الخير كلها.
استقامة القلب: وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، ومتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته، وإجلاله ومهابته ومحبته، وإرادته ورجائه ودعائه، والتوكل عليه والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، لأن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" رواه البخاري ومسلم. [انظر الحديث 6]
استقامة اللسان: وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبِّر عنه، ويؤكد هذا ما ورد في رواية الترمذي : "قلت: يا رسول الله ما أخوف ما يخاف عليّ ؟ فأخذ بلسان نفسه". وما رواه الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه".
فوائد الاستقامة: إن الاستقامة ثبات وانتصار، ورجولة وفوز في معركة الطاعات والأهواء والرغبات، ولذلك استحق الذين استقاموا أن تتنزل عليهم الملائكة في الحياة الدنيا، ليطردوا من حياتهم الخوف والحزن، وليبشروهم بالجنة، وليعلنوا وقوفهم إلى جانبهم في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30].
ما يستفاد من الحديث: يرشد الحديث إلى الأمر بالاستقامة على التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده. وحرص الصحابة على تعلّم دينهم والمحافظة على أيمانهم .
الحديث الثاني والعشرون: طَريقُ الجَنَّةِ
عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ رَضي اللهُ عَنْهُما أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقال: أَرَأَيْتَ إذَا صَلَّيْتُ الصَّلَواِت الْمكْتُوباتِ، وَصُمْتُ رَمَضانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ على ذِلكَ شَيْئاً، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ قال: "نَعَمْ". رواه مسلم
وَمَعْنى حَرَّمْتُ الْحَرَامَ: اجْتَنَبْتُهُ، وَمَعْنى أَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ : فَعَلْتُهُ مُعْتَقِداً حِلَّهُ.
مفردات الحديث:
"رجلاً": هو النعمان بن قوقل الخزاعي.
"أرأيت": الهمزة للاستفهام، ورأى مأخوذة من الرأي، والمراد: أخبرني وأفتني.
"المكتوبات": المفروضات، وهي الصلوات الخمس.
"الحلال": هو المأذون في فعله شرعاً.
"الحرام": كل ما منع الشرع من فعله على سبيل الحتم.
"أأدخل الجنة ؟": مع السابقين، من غير سبق عذاب.
المعنى العام:
يحدثنا جابر رضي الله عنه عن ذلك المؤمن المتلهف إلى جنة عرضها السماوات والأرض أُعِدَّت للمتقين، إذ جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريقها، ويستفتيه عن عمل يدخله فسيح رحابها، فيدله رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغيته، وتتحقق لها أمنيته.
التزام الفرائض وترك المحرمات أساس النجاة : لقد سأل النعمان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل إذا استمر في أداء الصلاة المفروضة عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. أي فرضاً محدداً بوقت ؟.
ثم إذا أدرك شهر رمضان المفروض عليه صيامه بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] قام بصيامه، ملتزماً لآدابه ومراعياً لحرمته ؟ .
ثم وقف عند حدود الله تعالى فيما أحل أو حرم، فلم يحل حراماً ولم يحرم حلالاً، بل اعتقد حل ما أحله الله وحرمة ما حرمه، فاجتنب الحرام مطلقاً، وفعل من الحلال الواجب منه ؟.
سأل: هل إذا فعل ذلك كله، ولم يستزد من الفضائل المستحبة والمرغوب فيها - كفعل النوافل وترك المكروهات، والتورع عن بعض المباحات أحياناً - هل يكفيه ذلك للنجاة عند الله تعالى ويدخله الجنة، التي هي منتهى أمله ومبتغاه، مع المقربين الأخيار والسابقين الأبرار، دون أن يمسه عذاب أو يناله عقاب؟.
ويجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يطمئن نفسه، ويشرح صدره، ويفرح قلبه، ويشبع رغبته، ويحقق لهفته، فيقول له: "نعم".
أخرج النسائي وابن حبان والحاكم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من عبد يُصلِّي الصلواتِ الخمس، ويصومُ رمضان، ويُخرجُ الزكاة، ويجتنبُ الكبائرَ السبع، إلا فُتحت له أبوابُ الجنة يدخل من أيها شاء". ثم تلا: {إن تجتنبوا كبائرَ ما تُنهون عنه نُكَفِّرْ عنكم سيئاتكم ونُدْخِلْكُم مُدْخلاً كريماً} [النساء: 31].
والكبائر السبع، هي: الزنا، وشرب الخمر، والسحر، والاتهام بالزنا لمن عُرِف بالعفة، والقتل العمد بغير ذنب، والتعامل بالربا، والفرار من وجه أعداء الإسلام في ميادين القتال.
وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على يسر الإسلام، وأن الله تعالى لم يكلف أحداً من خلقه ما فيه كلفة ومشقة، وهو سبحانه القائل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. فالتكاليف في الشريعة الإسلامية كلها متصفة باليسر، وضمن حدود الطاقة البشرية.
صدق المسلم وصراحته: إن النعمان رضي الله عنه كان مثال المؤمن الصريح بقلبه وقالبه، فهو لا يريد أن يتظاهر بالتقوى والصلاح مما ليس في نفسه أن يفعله، أو لا يقوم به فعلاً، بل هو إنسان يريد النجاة والفلاح، وهو على استعداد أن يلتزم كل ما من شأنه أن يوصله إلى ذلك.
الزكاة والحج فريضتان محكمتان: فالتزام هذين الركنين ممن وجبا عليه، شرط أساسي في نجاته من النار ودخوله الجنة دون عذاب.
ولم يذكرهما النعمان رضي الله عنه بخصوصهما - كما ذكر الصلاة والصوم - إما لأنهما لم يفرضا بعد، وإما لكونه غير مكلف بهما لفقره وعدم استطاعته، أو لأنهما يدخلان في تعميمه بعدُ بقوله: وأحللت الحلال وحرمت الحرام، فإنه يستلزم فعل الفرائض كلها، لأنها من الحلال الواجب، وتركها من الحرام الممنوع.
أهمية الصلاة والصيام: إن تصدير هذا السائل سؤاله بأداء الصلوات المفروضة، يدل دلالة واضحة على ما استقر في نفوس الصحابة رضي الله عنهم من تعظيم أمرها والاهتمام بها، وكيف لا ؟ وهي عماد الدين، وعنوان المسلم يؤديها في اليوم والليلة خمس مرات، محافظاً على أركانها وواجباتها، وسننها وآدابها. [انظر الحديث 3]
وأما الصوم: فهو في المرتبة الثانية بعد الصلاة، وإن كان لا يقل عنها في الفرضية، فقد أجمعت الأمة على أنه أحد أركان الإسلام التي عُلمت من الدين بالضرورة. [انظر الحديث 3]
فعل الواجب وترك المحرم وقاية من النار: الأصل في عبادة الله عز وجل المحافظة على الفرائض مع ترك المحرمات، فمن فعل ذلك فاز أيما فوز وأفلح أيما فلاح، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، شهدتُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصلَّيت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان ؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ماتَ على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصبَ أُصبعيه - ما لم يعقَّ والديه". يعق من العقوق، وهو عدم الإحسان إلى الوالدين كما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الإتيان بالنوافل زيادة قرب من الله تعالى وكمال: والمسلم الذي يرجو النجاة، وتطمح نفسه إلى رفيع الدرجات عند الله عز وجل، لا يترك نافلة ولا يقرب مكروهاً، ولا يفرق فيما يطلب منه بين واجب أو مفروض أو مندوب، كما لا يفرق فيما نهي عنه بين محرم أو مكروه.
وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة يفعلون، لا يفرقون فيما أُمِروا به أو نُهُوا عنه، بل يلتزمون قول الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. رغبة في الثواب، وطمعاً في الرحمة والرضوان، وإشفاقاً من المعصية والحرمان.
ونحن إذ نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر ذلك الصحابي على إعلانه: "والله لا أزيد على ذلك شيئاً "، ولا ينبهه إلى فضل الزيادة والتطوع، نعلم أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك تيسيراً عليه وتسهيلاً، وتعليماً للقادة والهداة إلى الله عز وجل: أن يبثُّوا روح الأمل في النفوس، وأن يتخلقوا بالسماحة والرفق، وتقريراً لما جاء به الإسلام من التيسير ورفع الحرج. على أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا المؤمن التقي حين يعبد الله عز وجل بما افترض عليه، ويصل به قلبه، ينشرح صدره، ويشعر باطمئنان نفسي ومتعة روحية، فيحمله كل ذلك على الشغف بالعبادة، والرغبة في الزيادة من مرضاة الله عز وجل، بأداء النوافل وترك المكروه.
التحليل والتحريم تشريع، لا يكون إلا لله تعالى: إن أصل الإيمان: أن يعتقد المسلم حِلَّ ما أحلَّه الله عز وجل وحرمة ما حرمه، سواء فعل المحرم أم ترك الحلال، فإن زعم إنسان لنفسه أنه يستطيع أن يحرم ما ثبت حله في شرع الله عز وجل، أو يحلل ما ثبتت حرمته، فإنه بذلك يتطاول على حق الله عز وجل، الذي له وحده سلطة التشريع، والتحليل والتحريم، فمن اعتقد أن له أن يشرع خلاف ما شرعه الله عز وجل، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يشرع بهواه دون التزام قواعد التشريع الإسلامي، فقد خرج عن الإسلام، وبرئ منه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. وقد ثبت أنها نزلت في بعض الصحابة الذين أرادوا أن يحرموا على أنفسهم بعض الطيبات تقشفاً وزهداً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : "لكني أُصلِّي وأنام، وأصومُ وأُفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". رواه البخاري ومسلم.
الحِنْث باليمين والبِرُّ به: من حلف أن يفعل خيراً وما فيه طاعة فالأفضل له البر بيمينه، أي أن يفعل ما حلف على فعله لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] أي احفظوها عن أن تحنثوا فيها. ومن حلف على ترك واجب أو فعل معصية وجب عليه الحنث بيمينه، أي أن يخالف يمينه ولا يفعل ما أقسم على فعله، روى أبو داود وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"من حلف على معصية فلا يمين له".
وأفاد الحديث:
أن على المسلم أن يسأل أهل العلم عن شرائع الإسلام، وما يجب عليه وما يحلُّ له وما يحرم، إن كان يجهل ذلك، ليسيرَ على هدى في حياته : وتطمئنَ نفسُه لسلامة عمله.
كما أفاد: أن على المعلم أن يتوسع بالمتعلم : ويبشره بالخير، ويأخذه باليسر والترغيب.
ومن حلف على ترك خيرٍ غير واجب عليه، فالأفضل في حقه أن يحنث، لأنه خير له، روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمينٍ ورأى غيرها خيراً منها، فليأتِ الذي هو خير وليُكَفِّر عن يمينه" .
الحديث الثالث والعشرون: كُلُّ خَيرٍ صَدَقة
عن أبي مالكٍ الحارِثِ بنِ عاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ رضي اللهُ عنهُ قال : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيَمانِ، والحمدُ لِلهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وسُبْحانَ اللهِ والحمدُ لِلهِ تَمْلآنِ - أو تَمْلأُ - ما بَيْنَ السَّماواتِ والأرضِ، والصَّلاةُ نورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والْقُرآنُ حُجَّةٌ لَكَ أو عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فَبائعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُها أَو مُوبِقُها". رواه مسلم.
مفردات الحديث:
الطُّهور: فعلٌ يترتب عليه رفع حَدَث - كالوضوء والغسل-، أو إزالة نجس، كتطهير الثوب والبدن والمكان، أو المراد الوضوء فقط.
"شطر": نصف.
"الحمد لله": الثناء الحسن على الله تعالى لما أعطى من نِعَم، والمراد هنا : ثواب لفظ الحمد لله.
"الميزان": كِفَّة الحسنات من الميزان الذي توزن به أعمال العباد يوم القيامة.
"سبحان الله": تعظيم الله تعالى وتنزيهه عن النقائص، والمراد هنا ثواب لفظ سبحان الله.
"الصلاة نور": أي تهدي إلى فعل الخير كم يهدي النور إلى الطريق السليم.
"برهان": دليل على صدق الإيمان.
"الصبر": حبس النفس عما تتمنى، وتحملها ما يشق عليها، وثباتها على الحق رغم المصائب.
"ضياء": هو شدة النور، أي بالصبر تنكشف الكُرُبات.
"حجة": برهان ودليل ومرشد ومدافع عنك.
"يغدو": يذهب باكراً يسعى لنفسه.
"بائع نفسه": لله تعالى بطاعته، أو لشيطانه وهواه بمعصية اللهتعالى وسخطه.
"مُعتقها": مخلِّصها من الخِزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
"موبقها": مهلكها بارتكاب المعاصي وما يترتب عليها من الخزي والعذاب.
المعنى العام :
الطهارة وثوابها: الطهارة شرط لصحة العبادة، وعنوان محبة الله تعالى. فلقد بين صلى الله عليه وسلم، مُطَمْئِناً المسلمين الخاشعين، أن ما يقوم به المؤمن من طهارة لبدنه وثوبه - استعداداً لمناجاة ربه - أثر هام وبارز من آثار إيمانه، إذ يعبر به عن إذعانه لأمره، واستجابته لندائه.{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].وقال: {وثيابَكَ فَطَهِّر} [المدثر: 4]. فيقوم ويحتمل المكاره، ليقف بين يدي الله تعالى نقياً تقياً، حسن الرائحة والسمت كما أحسن الله خلقه، وقد وجبت له محبة الله عز وجل: {إن الله يُحب التوَّابين ويحبُّ المتطهرين} [البقرة: 222].
لقد بَيَّن صلى الله عليه وسلم أن أجر الطهارة، من وضوء وغيره، يتضاعف عند الله تعالى حتى يبلغ نصف أجر الإيمان، وذلك لأن الإيمان يمحو ما سبقه من الخطايا الكبيرة والصغيرة، والطهارة - وخاصة الوضوء - تمحو ما سبقها من خطايا صغيرة، فكانت كنصف الإيمان.
روى مسلم، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسنَ الوضوءَ خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره".
والإيمان تنظيف للباطن من الأدران المعنوية، كالشرك بالله تعالى والنفاق وما أشبه ذلك، والطُّهور تنظيف للظاهر من الأدران الحسية.
من خصال الإيمان: الوضوء من خصال الإيمان الخفية، التي لا يُحافظ عليها إلا المؤمن، قال عليه الصلاة والسلام: "لن يُحافظَ على الوضوء إلا مؤمن" رواه ابن ماجه والحاكم. لأنه أمر غير ظاهر، إلى جانب ما فيه من المكاره، ولذا كان المحافظ عليه أسبق إلى دخول الجنة.
روى ابن خزيمة في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبحَ يوماً فدعا بلالاً فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة ؟ إني دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك أمامي" فقال بلال : يا رسول الله، ما أذَّنْتُ قط إلا صَلَّيْتُ ركعتين، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده. فقال صلى الله عليه وسلم: "لهذا".
ذِكْرُ الله تعالى وشكره: إن التعبير عن شكر الله عز وجل بالإكثار من ذكره، ولا سيما بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صيغ وألفاظ، يملأ ثوابه كفة ميزان الأعمال الصالحة يوم القيامة، ففي مسند أحمد رحمه الله تعالى، عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى من الكلام أربعاً : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كُتبت له عشرون حسنة وحُطَّتْ عنه عشرون سيئة، ومن قال : الله أكبر مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال : الحمد لله مثل ذلك، ومن قال الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطَّت عنه ثلاثون سيئة".
فمن عبر عما سبق بلسانه، معتقداً بما تلفظ بملء قلبه ونفسه، مستحضراً لمعانيها بفكره وعقله، فإنه ينال جزاءً عظيماً، لو كان يقاس بالمساحات ويقدر بالأحجام لَسَدَّ ما بين السماوات والأرض، وكان له سُلَّماً يصعد عليه إلى درجات العلى.
اطمئنان القلب: لا بد حال الذكر من استحضار القلب وفهم المعاني ما أمكن، حتى يكون لذلك أثر في نفس المسلم، فيطمئن قلبه ويستقيم سلوكه : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
الإكثار من الذكر: المؤمن في حاجة ماسة إلى اطمئنان قلبه واستقرار نفسه، ولذا لابد له أن يكثر من ذكر الله عز وجل، حتى يكون دائماً على صلة به، معتمداً عليه، مستمداً لعونه ونصرته، طالباً لعفوه ومغفرته، حتى يذكره الله تعالى في ملكوته، فيشمله بفضله ورحمته، ويُسَلِّكه مسالك الهدى والحق:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:41-43].
بكرة وأصيلاً: عند طلوع الشمس وعند ميلانها للغروب والمراد : جميع الأوقات.
الصلاة نور: الصلاة فريضة محكمة وركن أساسي من أركان الإسلام، وهي - كما بين صلى الله عليه وسلم - نور مطلق تدل صاحبها على طريق الخير، وتمنعه من المعاصي، وتهديه سبيل الاستقامة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] فهي نور معنوي يستضاء به في طرق الهداية والحق، كما يُستضاء بالضياء المادي إلى الطريق القويم والسلوك السليم، وهي تكسب المسلم الهيبة والبهاء في الدنيا، كما تشع النور على وجهه يوم القيامة: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8]. وقال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].
الصلاة صلة العبد بربه، ومناجاته لخالقه، ولهذا كانت قرة عين المتقين، يجدون فيها الراحة والسكينة والأمن، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه -أمر أي: أصابه- قال: "يا بلال أقم الصلاة، وأرحنا بها" رواه أبو داود.
الصدقة برهان: البرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس، ومنه سميت الحجة القاطعة برهاناً لوضوح دلالتها على ما دلت عليه.
فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان، وطيب النفس بها علامة على وجود الإيمان وطعمه.
طهارة وصدق: المسلم الطاهر النظيف من الأوساخ المادية، المعبر عن شكره لله بقوله، مؤدياً حق الله في عبادته، طاهر نظيف من الأوساخ المعنوية، ومن أبرزها الشح والبخل، فالمسلم أبداً سخي كريم، سَمْحٌ جَوَادٌ، فلا يجتمع بخل وإيمان في قلب امرئ واحد، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الصبر ضياء: الضياء هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق، كضياء الشمس، بخلاف القمر فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق، وكان الصبر ضياء لأنه شاق على النفوس، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه.
الصبر طريق النصر: لا يزال المسلم على صواب ما استمر في صبره، وذلك أن الإنسان يعيش في الدنيا تحوفه الشدائد، وتحيط به المصائب، وكل ذلك يحتاج إلى ثبات وقوة، وإلا تلاشى الإنسان وضاع، وما أكثر ما يحتاج المسلم في حياته إلى الصبر، فالطاعة تحتاج إلى صبر، وترك المعصية يحتاج إلى صبر، وتحمل المكاره والمصائب يحتاج إلى صبر، ولذلك كان التخلق بالصبر قوة لا تساويها قوة، ونوراً عظيماً لا يزال صاحبه مستضيئاً به، مهتدياً إلى الحق مستمراً على الصواب.
القرآن حجة: المسلم منهاجه القرآن، وإمامه كتاب الله تعالى: يهتدي بهديه، ويأتمر بأمره، وينتهي بنهيه، ويتخلق بأخلاقه، فمن فعل ذلك انتفع بالقرآن إذا تلاه، وكان دليلاً له يدله على النجاة في الدنيا وبرهاناً يدافع عنه يوم القيامة، ومن تنكب الطريق وانحرف عن تعاليم القرآن، كان القرآن خصمه يوم القيامة.
شفاء المؤمن وداء الكافر والمنافق: والمؤمن يجد في كتاب الله تعالى شفاء له من الأدواء المادية والمعنوية، كلما قرأه وتدبره أشرقت روحه، وانشرح صدره، وسرى سر الحياة في عروقه. وغير المؤمن إذا سمع القرآن اضطرب وغمت نفسه، وظن أن الهلاك نازل به. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
طريق الجنة: يختم صلى الله عليه وسلم توجيهاته الرائعة وعظاته الباهرة ببيان أصناف الناس، إذ الناس جميعاً يصبحون كل يوم ويمسون، ولكنهم ليسوا على حالة واحدة، فهناك من قضى ليله أو نهاره في طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته، يلتزم الصدق في معاملته مع الله عز وجل ومع الناس، فأنقذ نفسه من الهلاك وخلصها من العذاب، فهو حر النفس، حر الفكر والعقل، حر الإرادة، لم يقبل قيمة لنفسه إلا الجنة الخالدة والنعيم الأبدي المقيم. وهناك من قضى ليله أو نهاره في معصية الله تعالى، ومخالفة أوامره في شؤونه العامة والخاصة، مع الله تعالى ومع الخلق، فأهلك نفسه وأوردها المخاطر، وباعها بثمن بخس: شقاء في الدنيا وسجن في جحيم أبدي في العقبى، إذ كان أسير شهوته وهواه، وطوع شيطانه ونفسه: "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها". كل إنسان : إما ساع في هلاك نفسه أو في فكاكها، فمن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله تعالى فقد باع نفسه بالهوان وأوقعها بالآثام الموجبة لغضب الله عز وجل وعقابه. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]. والمعنى: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وخاب من زجها في المعاصي.
شهادة مقبولة منجية: ويستعين المؤمن على عتق نفسه من النار بصقل إيمانه وتمتين يقينه بذكر الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك. أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار". رواه أبو داود. وذلك أن هذه الشهادة تبعث في نفسه خشية الله عز وجل، والرغبة في طاعته والرهبة من معصيته، فتكون سبباً في بعده عن النار وقربه من رضوان الله عز وجل.
ومما يرشد إليه الحديث:
أن الأعمال توزن، ولها خفة وثقل، دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وعليه إجماع الأمة.
المحافظة على الصلوات بأوقاتها، وأدائها كاملة بأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، بعد تحقق شروطها كاملة.
الإكثار من الإنفاق في وجوه الخير، والمسارعة إلى سد حاجة الفقراء والمعوزين، والبحث عن الأرامل واليتامى والفقراء المعففين والإنفاق عليهم، لتكون الصدقة خالصة لوجهه تعالى.
الصبر على الشدائد، وخاصة على ما ينال المسلم نتيجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى.
القرآن دستور المسلم، فعليه الإقبال على تلاوته مع تفهم معناه والعمل بمقتضاه.
المسلم يسعى لأن يستفيد من وقته وعمره في طاعة الله عز وجل، ولا يشغل نفسه إلا بمولاه سبحانه، وما يعود عليه بالنفع في معاشه ومعاده.
عن أبي عَمْرو، وَقِيلَ: أبي عَمْرَةَ، سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثّقَفيِّ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يا رَسُولَ الله، قُلْ لي في الإِسْلاَمِ قَوْلاً، لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً غَيْرَكَ. قَال: "قُلْ: آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ". رواه مسلم.
مفردات الحديث:
"في الإسلام": أي في عقيدته وشريعته.
"قولاً": جامعاً لمعاني الدين، واضحاً لا يحتاج إلى تفسير.
"قل آمنت بالله": جدد إيمانك بالله متذكراً بقلبك ذاكراً بلسانك لتستحضرَ جميع تفاصيل أركان الإيمان.
"ثم استقم": أي داومْ واثبت على عمل الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات.
المعنى العام:
معنى الاستقامة: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم "قل آمنت بالله ثم استقم" مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا..} [فصلت: 30] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]. والمراد: الاستقامة على التوحيد الكامل.
والاستقامة درجة بها كمال الأمور، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيماً في حالته ضاع سعيه وخاب جِدّه. والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الخير كلها.
استقامة القلب: وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، ومتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته، وإجلاله ومهابته ومحبته، وإرادته ورجائه ودعائه، والتوكل عليه والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، لأن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" رواه البخاري ومسلم. [انظر الحديث 6]
استقامة اللسان: وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبِّر عنه، ويؤكد هذا ما ورد في رواية الترمذي : "قلت: يا رسول الله ما أخوف ما يخاف عليّ ؟ فأخذ بلسان نفسه". وما رواه الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه".
فوائد الاستقامة: إن الاستقامة ثبات وانتصار، ورجولة وفوز في معركة الطاعات والأهواء والرغبات، ولذلك استحق الذين استقاموا أن تتنزل عليهم الملائكة في الحياة الدنيا، ليطردوا من حياتهم الخوف والحزن، وليبشروهم بالجنة، وليعلنوا وقوفهم إلى جانبهم في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30].
ما يستفاد من الحديث: يرشد الحديث إلى الأمر بالاستقامة على التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده. وحرص الصحابة على تعلّم دينهم والمحافظة على أيمانهم .
الحديث الثاني والعشرون: طَريقُ الجَنَّةِ
عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ رَضي اللهُ عَنْهُما أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقال: أَرَأَيْتَ إذَا صَلَّيْتُ الصَّلَواِت الْمكْتُوباتِ، وَصُمْتُ رَمَضانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ على ذِلكَ شَيْئاً، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ قال: "نَعَمْ". رواه مسلم
وَمَعْنى حَرَّمْتُ الْحَرَامَ: اجْتَنَبْتُهُ، وَمَعْنى أَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ : فَعَلْتُهُ مُعْتَقِداً حِلَّهُ.
مفردات الحديث:
"رجلاً": هو النعمان بن قوقل الخزاعي.
"أرأيت": الهمزة للاستفهام، ورأى مأخوذة من الرأي، والمراد: أخبرني وأفتني.
"المكتوبات": المفروضات، وهي الصلوات الخمس.
"الحلال": هو المأذون في فعله شرعاً.
"الحرام": كل ما منع الشرع من فعله على سبيل الحتم.
"أأدخل الجنة ؟": مع السابقين، من غير سبق عذاب.
المعنى العام:
يحدثنا جابر رضي الله عنه عن ذلك المؤمن المتلهف إلى جنة عرضها السماوات والأرض أُعِدَّت للمتقين، إذ جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريقها، ويستفتيه عن عمل يدخله فسيح رحابها، فيدله رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغيته، وتتحقق لها أمنيته.
التزام الفرائض وترك المحرمات أساس النجاة : لقد سأل النعمان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل إذا استمر في أداء الصلاة المفروضة عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. أي فرضاً محدداً بوقت ؟.
ثم إذا أدرك شهر رمضان المفروض عليه صيامه بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] قام بصيامه، ملتزماً لآدابه ومراعياً لحرمته ؟ .
ثم وقف عند حدود الله تعالى فيما أحل أو حرم، فلم يحل حراماً ولم يحرم حلالاً، بل اعتقد حل ما أحله الله وحرمة ما حرمه، فاجتنب الحرام مطلقاً، وفعل من الحلال الواجب منه ؟.
سأل: هل إذا فعل ذلك كله، ولم يستزد من الفضائل المستحبة والمرغوب فيها - كفعل النوافل وترك المكروهات، والتورع عن بعض المباحات أحياناً - هل يكفيه ذلك للنجاة عند الله تعالى ويدخله الجنة، التي هي منتهى أمله ومبتغاه، مع المقربين الأخيار والسابقين الأبرار، دون أن يمسه عذاب أو يناله عقاب؟.
ويجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يطمئن نفسه، ويشرح صدره، ويفرح قلبه، ويشبع رغبته، ويحقق لهفته، فيقول له: "نعم".
أخرج النسائي وابن حبان والحاكم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من عبد يُصلِّي الصلواتِ الخمس، ويصومُ رمضان، ويُخرجُ الزكاة، ويجتنبُ الكبائرَ السبع، إلا فُتحت له أبوابُ الجنة يدخل من أيها شاء". ثم تلا: {إن تجتنبوا كبائرَ ما تُنهون عنه نُكَفِّرْ عنكم سيئاتكم ونُدْخِلْكُم مُدْخلاً كريماً} [النساء: 31].
والكبائر السبع، هي: الزنا، وشرب الخمر، والسحر، والاتهام بالزنا لمن عُرِف بالعفة، والقتل العمد بغير ذنب، والتعامل بالربا، والفرار من وجه أعداء الإسلام في ميادين القتال.
وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على يسر الإسلام، وأن الله تعالى لم يكلف أحداً من خلقه ما فيه كلفة ومشقة، وهو سبحانه القائل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. فالتكاليف في الشريعة الإسلامية كلها متصفة باليسر، وضمن حدود الطاقة البشرية.
صدق المسلم وصراحته: إن النعمان رضي الله عنه كان مثال المؤمن الصريح بقلبه وقالبه، فهو لا يريد أن يتظاهر بالتقوى والصلاح مما ليس في نفسه أن يفعله، أو لا يقوم به فعلاً، بل هو إنسان يريد النجاة والفلاح، وهو على استعداد أن يلتزم كل ما من شأنه أن يوصله إلى ذلك.
الزكاة والحج فريضتان محكمتان: فالتزام هذين الركنين ممن وجبا عليه، شرط أساسي في نجاته من النار ودخوله الجنة دون عذاب.
ولم يذكرهما النعمان رضي الله عنه بخصوصهما - كما ذكر الصلاة والصوم - إما لأنهما لم يفرضا بعد، وإما لكونه غير مكلف بهما لفقره وعدم استطاعته، أو لأنهما يدخلان في تعميمه بعدُ بقوله: وأحللت الحلال وحرمت الحرام، فإنه يستلزم فعل الفرائض كلها، لأنها من الحلال الواجب، وتركها من الحرام الممنوع.
أهمية الصلاة والصيام: إن تصدير هذا السائل سؤاله بأداء الصلوات المفروضة، يدل دلالة واضحة على ما استقر في نفوس الصحابة رضي الله عنهم من تعظيم أمرها والاهتمام بها، وكيف لا ؟ وهي عماد الدين، وعنوان المسلم يؤديها في اليوم والليلة خمس مرات، محافظاً على أركانها وواجباتها، وسننها وآدابها. [انظر الحديث 3]
وأما الصوم: فهو في المرتبة الثانية بعد الصلاة، وإن كان لا يقل عنها في الفرضية، فقد أجمعت الأمة على أنه أحد أركان الإسلام التي عُلمت من الدين بالضرورة. [انظر الحديث 3]
فعل الواجب وترك المحرم وقاية من النار: الأصل في عبادة الله عز وجل المحافظة على الفرائض مع ترك المحرمات، فمن فعل ذلك فاز أيما فوز وأفلح أيما فلاح، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، شهدتُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصلَّيت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان ؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ماتَ على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصبَ أُصبعيه - ما لم يعقَّ والديه". يعق من العقوق، وهو عدم الإحسان إلى الوالدين كما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الإتيان بالنوافل زيادة قرب من الله تعالى وكمال: والمسلم الذي يرجو النجاة، وتطمح نفسه إلى رفيع الدرجات عند الله عز وجل، لا يترك نافلة ولا يقرب مكروهاً، ولا يفرق فيما يطلب منه بين واجب أو مفروض أو مندوب، كما لا يفرق فيما نهي عنه بين محرم أو مكروه.
وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة يفعلون، لا يفرقون فيما أُمِروا به أو نُهُوا عنه، بل يلتزمون قول الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. رغبة في الثواب، وطمعاً في الرحمة والرضوان، وإشفاقاً من المعصية والحرمان.
ونحن إذ نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر ذلك الصحابي على إعلانه: "والله لا أزيد على ذلك شيئاً "، ولا ينبهه إلى فضل الزيادة والتطوع، نعلم أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك تيسيراً عليه وتسهيلاً، وتعليماً للقادة والهداة إلى الله عز وجل: أن يبثُّوا روح الأمل في النفوس، وأن يتخلقوا بالسماحة والرفق، وتقريراً لما جاء به الإسلام من التيسير ورفع الحرج. على أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا المؤمن التقي حين يعبد الله عز وجل بما افترض عليه، ويصل به قلبه، ينشرح صدره، ويشعر باطمئنان نفسي ومتعة روحية، فيحمله كل ذلك على الشغف بالعبادة، والرغبة في الزيادة من مرضاة الله عز وجل، بأداء النوافل وترك المكروه.
التحليل والتحريم تشريع، لا يكون إلا لله تعالى: إن أصل الإيمان: أن يعتقد المسلم حِلَّ ما أحلَّه الله عز وجل وحرمة ما حرمه، سواء فعل المحرم أم ترك الحلال، فإن زعم إنسان لنفسه أنه يستطيع أن يحرم ما ثبت حله في شرع الله عز وجل، أو يحلل ما ثبتت حرمته، فإنه بذلك يتطاول على حق الله عز وجل، الذي له وحده سلطة التشريع، والتحليل والتحريم، فمن اعتقد أن له أن يشرع خلاف ما شرعه الله عز وجل، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يشرع بهواه دون التزام قواعد التشريع الإسلامي، فقد خرج عن الإسلام، وبرئ منه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. وقد ثبت أنها نزلت في بعض الصحابة الذين أرادوا أن يحرموا على أنفسهم بعض الطيبات تقشفاً وزهداً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : "لكني أُصلِّي وأنام، وأصومُ وأُفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". رواه البخاري ومسلم.
الحِنْث باليمين والبِرُّ به: من حلف أن يفعل خيراً وما فيه طاعة فالأفضل له البر بيمينه، أي أن يفعل ما حلف على فعله لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] أي احفظوها عن أن تحنثوا فيها. ومن حلف على ترك واجب أو فعل معصية وجب عليه الحنث بيمينه، أي أن يخالف يمينه ولا يفعل ما أقسم على فعله، روى أبو داود وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"من حلف على معصية فلا يمين له".
وأفاد الحديث:
أن على المسلم أن يسأل أهل العلم عن شرائع الإسلام، وما يجب عليه وما يحلُّ له وما يحرم، إن كان يجهل ذلك، ليسيرَ على هدى في حياته : وتطمئنَ نفسُه لسلامة عمله.
كما أفاد: أن على المعلم أن يتوسع بالمتعلم : ويبشره بالخير، ويأخذه باليسر والترغيب.
ومن حلف على ترك خيرٍ غير واجب عليه، فالأفضل في حقه أن يحنث، لأنه خير له، روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمينٍ ورأى غيرها خيراً منها، فليأتِ الذي هو خير وليُكَفِّر عن يمينه" .
الحديث الثالث والعشرون: كُلُّ خَيرٍ صَدَقة
عن أبي مالكٍ الحارِثِ بنِ عاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ رضي اللهُ عنهُ قال : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيَمانِ، والحمدُ لِلهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وسُبْحانَ اللهِ والحمدُ لِلهِ تَمْلآنِ - أو تَمْلأُ - ما بَيْنَ السَّماواتِ والأرضِ، والصَّلاةُ نورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والْقُرآنُ حُجَّةٌ لَكَ أو عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فَبائعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُها أَو مُوبِقُها". رواه مسلم.
مفردات الحديث:
الطُّهور: فعلٌ يترتب عليه رفع حَدَث - كالوضوء والغسل-، أو إزالة نجس، كتطهير الثوب والبدن والمكان، أو المراد الوضوء فقط.
"شطر": نصف.
"الحمد لله": الثناء الحسن على الله تعالى لما أعطى من نِعَم، والمراد هنا : ثواب لفظ الحمد لله.
"الميزان": كِفَّة الحسنات من الميزان الذي توزن به أعمال العباد يوم القيامة.
"سبحان الله": تعظيم الله تعالى وتنزيهه عن النقائص، والمراد هنا ثواب لفظ سبحان الله.
"الصلاة نور": أي تهدي إلى فعل الخير كم يهدي النور إلى الطريق السليم.
"برهان": دليل على صدق الإيمان.
"الصبر": حبس النفس عما تتمنى، وتحملها ما يشق عليها، وثباتها على الحق رغم المصائب.
"ضياء": هو شدة النور، أي بالصبر تنكشف الكُرُبات.
"حجة": برهان ودليل ومرشد ومدافع عنك.
"يغدو": يذهب باكراً يسعى لنفسه.
"بائع نفسه": لله تعالى بطاعته، أو لشيطانه وهواه بمعصية اللهتعالى وسخطه.
"مُعتقها": مخلِّصها من الخِزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
"موبقها": مهلكها بارتكاب المعاصي وما يترتب عليها من الخزي والعذاب.
المعنى العام :
الطهارة وثوابها: الطهارة شرط لصحة العبادة، وعنوان محبة الله تعالى. فلقد بين صلى الله عليه وسلم، مُطَمْئِناً المسلمين الخاشعين، أن ما يقوم به المؤمن من طهارة لبدنه وثوبه - استعداداً لمناجاة ربه - أثر هام وبارز من آثار إيمانه، إذ يعبر به عن إذعانه لأمره، واستجابته لندائه.{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].وقال: {وثيابَكَ فَطَهِّر} [المدثر: 4]. فيقوم ويحتمل المكاره، ليقف بين يدي الله تعالى نقياً تقياً، حسن الرائحة والسمت كما أحسن الله خلقه، وقد وجبت له محبة الله عز وجل: {إن الله يُحب التوَّابين ويحبُّ المتطهرين} [البقرة: 222].
لقد بَيَّن صلى الله عليه وسلم أن أجر الطهارة، من وضوء وغيره، يتضاعف عند الله تعالى حتى يبلغ نصف أجر الإيمان، وذلك لأن الإيمان يمحو ما سبقه من الخطايا الكبيرة والصغيرة، والطهارة - وخاصة الوضوء - تمحو ما سبقها من خطايا صغيرة، فكانت كنصف الإيمان.
روى مسلم، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسنَ الوضوءَ خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره".
والإيمان تنظيف للباطن من الأدران المعنوية، كالشرك بالله تعالى والنفاق وما أشبه ذلك، والطُّهور تنظيف للظاهر من الأدران الحسية.
من خصال الإيمان: الوضوء من خصال الإيمان الخفية، التي لا يُحافظ عليها إلا المؤمن، قال عليه الصلاة والسلام: "لن يُحافظَ على الوضوء إلا مؤمن" رواه ابن ماجه والحاكم. لأنه أمر غير ظاهر، إلى جانب ما فيه من المكاره، ولذا كان المحافظ عليه أسبق إلى دخول الجنة.
روى ابن خزيمة في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبحَ يوماً فدعا بلالاً فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة ؟ إني دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك أمامي" فقال بلال : يا رسول الله، ما أذَّنْتُ قط إلا صَلَّيْتُ ركعتين، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده. فقال صلى الله عليه وسلم: "لهذا".
ذِكْرُ الله تعالى وشكره: إن التعبير عن شكر الله عز وجل بالإكثار من ذكره، ولا سيما بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صيغ وألفاظ، يملأ ثوابه كفة ميزان الأعمال الصالحة يوم القيامة، ففي مسند أحمد رحمه الله تعالى، عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى من الكلام أربعاً : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كُتبت له عشرون حسنة وحُطَّتْ عنه عشرون سيئة، ومن قال : الله أكبر مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال : الحمد لله مثل ذلك، ومن قال الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطَّت عنه ثلاثون سيئة".
فمن عبر عما سبق بلسانه، معتقداً بما تلفظ بملء قلبه ونفسه، مستحضراً لمعانيها بفكره وعقله، فإنه ينال جزاءً عظيماً، لو كان يقاس بالمساحات ويقدر بالأحجام لَسَدَّ ما بين السماوات والأرض، وكان له سُلَّماً يصعد عليه إلى درجات العلى.
اطمئنان القلب: لا بد حال الذكر من استحضار القلب وفهم المعاني ما أمكن، حتى يكون لذلك أثر في نفس المسلم، فيطمئن قلبه ويستقيم سلوكه : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
الإكثار من الذكر: المؤمن في حاجة ماسة إلى اطمئنان قلبه واستقرار نفسه، ولذا لابد له أن يكثر من ذكر الله عز وجل، حتى يكون دائماً على صلة به، معتمداً عليه، مستمداً لعونه ونصرته، طالباً لعفوه ومغفرته، حتى يذكره الله تعالى في ملكوته، فيشمله بفضله ورحمته، ويُسَلِّكه مسالك الهدى والحق:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:41-43].
بكرة وأصيلاً: عند طلوع الشمس وعند ميلانها للغروب والمراد : جميع الأوقات.
الصلاة نور: الصلاة فريضة محكمة وركن أساسي من أركان الإسلام، وهي - كما بين صلى الله عليه وسلم - نور مطلق تدل صاحبها على طريق الخير، وتمنعه من المعاصي، وتهديه سبيل الاستقامة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] فهي نور معنوي يستضاء به في طرق الهداية والحق، كما يُستضاء بالضياء المادي إلى الطريق القويم والسلوك السليم، وهي تكسب المسلم الهيبة والبهاء في الدنيا، كما تشع النور على وجهه يوم القيامة: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8]. وقال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].
الصلاة صلة العبد بربه، ومناجاته لخالقه، ولهذا كانت قرة عين المتقين، يجدون فيها الراحة والسكينة والأمن، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه -أمر أي: أصابه- قال: "يا بلال أقم الصلاة، وأرحنا بها" رواه أبو داود.
الصدقة برهان: البرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس، ومنه سميت الحجة القاطعة برهاناً لوضوح دلالتها على ما دلت عليه.
فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان، وطيب النفس بها علامة على وجود الإيمان وطعمه.
طهارة وصدق: المسلم الطاهر النظيف من الأوساخ المادية، المعبر عن شكره لله بقوله، مؤدياً حق الله في عبادته، طاهر نظيف من الأوساخ المعنوية، ومن أبرزها الشح والبخل، فالمسلم أبداً سخي كريم، سَمْحٌ جَوَادٌ، فلا يجتمع بخل وإيمان في قلب امرئ واحد، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الصبر ضياء: الضياء هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق، كضياء الشمس، بخلاف القمر فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق، وكان الصبر ضياء لأنه شاق على النفوس، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه.
الصبر طريق النصر: لا يزال المسلم على صواب ما استمر في صبره، وذلك أن الإنسان يعيش في الدنيا تحوفه الشدائد، وتحيط به المصائب، وكل ذلك يحتاج إلى ثبات وقوة، وإلا تلاشى الإنسان وضاع، وما أكثر ما يحتاج المسلم في حياته إلى الصبر، فالطاعة تحتاج إلى صبر، وترك المعصية يحتاج إلى صبر، وتحمل المكاره والمصائب يحتاج إلى صبر، ولذلك كان التخلق بالصبر قوة لا تساويها قوة، ونوراً عظيماً لا يزال صاحبه مستضيئاً به، مهتدياً إلى الحق مستمراً على الصواب.
القرآن حجة: المسلم منهاجه القرآن، وإمامه كتاب الله تعالى: يهتدي بهديه، ويأتمر بأمره، وينتهي بنهيه، ويتخلق بأخلاقه، فمن فعل ذلك انتفع بالقرآن إذا تلاه، وكان دليلاً له يدله على النجاة في الدنيا وبرهاناً يدافع عنه يوم القيامة، ومن تنكب الطريق وانحرف عن تعاليم القرآن، كان القرآن خصمه يوم القيامة.
شفاء المؤمن وداء الكافر والمنافق: والمؤمن يجد في كتاب الله تعالى شفاء له من الأدواء المادية والمعنوية، كلما قرأه وتدبره أشرقت روحه، وانشرح صدره، وسرى سر الحياة في عروقه. وغير المؤمن إذا سمع القرآن اضطرب وغمت نفسه، وظن أن الهلاك نازل به. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
طريق الجنة: يختم صلى الله عليه وسلم توجيهاته الرائعة وعظاته الباهرة ببيان أصناف الناس، إذ الناس جميعاً يصبحون كل يوم ويمسون، ولكنهم ليسوا على حالة واحدة، فهناك من قضى ليله أو نهاره في طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته، يلتزم الصدق في معاملته مع الله عز وجل ومع الناس، فأنقذ نفسه من الهلاك وخلصها من العذاب، فهو حر النفس، حر الفكر والعقل، حر الإرادة، لم يقبل قيمة لنفسه إلا الجنة الخالدة والنعيم الأبدي المقيم. وهناك من قضى ليله أو نهاره في معصية الله تعالى، ومخالفة أوامره في شؤونه العامة والخاصة، مع الله تعالى ومع الخلق، فأهلك نفسه وأوردها المخاطر، وباعها بثمن بخس: شقاء في الدنيا وسجن في جحيم أبدي في العقبى، إذ كان أسير شهوته وهواه، وطوع شيطانه ونفسه: "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها". كل إنسان : إما ساع في هلاك نفسه أو في فكاكها، فمن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله تعالى فقد باع نفسه بالهوان وأوقعها بالآثام الموجبة لغضب الله عز وجل وعقابه. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]. والمعنى: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وخاب من زجها في المعاصي.
شهادة مقبولة منجية: ويستعين المؤمن على عتق نفسه من النار بصقل إيمانه وتمتين يقينه بذكر الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك. أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار". رواه أبو داود. وذلك أن هذه الشهادة تبعث في نفسه خشية الله عز وجل، والرغبة في طاعته والرهبة من معصيته، فتكون سبباً في بعده عن النار وقربه من رضوان الله عز وجل.
ومما يرشد إليه الحديث:
أن الأعمال توزن، ولها خفة وثقل، دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وعليه إجماع الأمة.
المحافظة على الصلوات بأوقاتها، وأدائها كاملة بأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، بعد تحقق شروطها كاملة.
الإكثار من الإنفاق في وجوه الخير، والمسارعة إلى سد حاجة الفقراء والمعوزين، والبحث عن الأرامل واليتامى والفقراء المعففين والإنفاق عليهم، لتكون الصدقة خالصة لوجهه تعالى.
الصبر على الشدائد، وخاصة على ما ينال المسلم نتيجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى.
القرآن دستور المسلم، فعليه الإقبال على تلاوته مع تفهم معناه والعمل بمقتضاه.
المسلم يسعى لأن يستفيد من وقته وعمره في طاعة الله عز وجل، ولا يشغل نفسه إلا بمولاه سبحانه، وما يعود عليه بالنفع في معاشه ومعاده.