الاحاديث النبوية : تحريم الظلم - فضل الله وسعة رحمته
الحديث الرابع والعشرون: تَحْرِيمُ الظُّلْمِ
عن أبي ذَرٍّ الْغِفاريِّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يَرْويهِ عن رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ أَنَّهُ قال: " يا عِبادي إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ على نَفْسِي وَ جعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فلا تَظَالَمُوا.
يا عِبادي كُلُّكُمْ ضالٌّ إلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فاسْتَهدُوني أهْدِكُمْ.
يا عِبادِي كُلُّكُمْ جائعٌ إلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فاسْتَطْعِمُوني أُطْعِمْكُم.
يا عِبادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فاسْتكْسوني أَكسُكُم.
يا عِبادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بالليْلِ والنَّهارِ، وأنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً، فاسْتَغْفِرُوني أُغْفِر لكُمْ.
يا عِبادِي إِنَّكُمْ لنْ تبْلغُوا ضَرِّي فتَضُرُّوني، ولن تبْلُغُوا نفْعي فَتَنْفعُوني.
يا عِبادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ كانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحدٍ مِنْكُمْ ما زادَ ذلك في مُلْكي شَيئاً.
يا عِبادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ كانُوا عَلَى أَفْجرِ قَلْبِ وَاحدٍ مِنْكُمْ ما نَقَصَ مِنْ مُلْكي شَيئاً.
يا عِبادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وجنَّكُمْ قاموا في صَعِيدٍ، فَسَأَلُوني، فأَعْطَيْتُ كلَّ واحدٍ مَسْأَلَتَهُ ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.
يا عِبادِي إنَّما هي أعمَالكُمْ أُحْصِيها لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاها، فَمَنْ وَجَدَ خيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، ومَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلك فَلا يَلومَنَّ إلا نَفْسَهُ" رواه مسلم.
مفردات الحديث:
"حرمت الظلم": الظلم لغة: وضع الشيء في غير محله. وهو مجاوزة الحد أو التصرف فيحق الناس بغير حق. وهو مستحيل على الله تعالى. ومعنى حرمت الظلم على نفسي : أي لا يقع مني، بل تعاليت عنه وتقدست.
"ضال": غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل.
"إلا من هديته": أرشدته إلى ما جاء به الرسل ووفقته إليه.
"فاستهدوني": اطلبوا مني الهداية.
"صعيد واحد": أرض واحدة ومقام واحد.
"المِخْيط": بكسر الميم وسكون الخاء، الإبرة.
"أُحصيها لكم": أضبطها لكم بعلمي وملائكتي الحفظة.
"أوفيكم إياها": أوفيكم جزاءها في الآخرة.
المعنى العام:
تحريم الظلم على الله: ولفظ الحديث صريح في أن الله عز وجل منع نفسه من الظلم لعباده: "إني حرمت الظلم على نفسي"، وهو صريح في القرآن الكريم أيضاً، قال تعالى: {وما أنا بظلامٍ للعبيد} .
تحريم الظلم على العباد: حرم الله عز وجل الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرم على كل إنسان أن يظلم غيره، مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقاً. و الظلم نوعان:
الأول: ظلم النفس، وأعظمه الإشراك بالله، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}، لأن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق وعبده مع الله تعالى المنزه عن الشريك.
ويلي ظلم الإشراك بالله المعاصي والآثام الصغيرة والكبيرة، فإن فيها ظلماً للنفس بإيرادها موارد العذاب والهلاك في الدنيا والآخرة.
الثاني : ظلم الإنسان لغيره، وقد تكرر تحريمه والتحذير منه في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الظلم ظلمات يوم القيامة".
الافتقار إلى الله: والخلق كلهم مفتقرون إلى الله في جلب المصالح ودفع المضار في الدنيا والآخرة، فهم في حاجة ماسة إلى هداية الله ورزقه في الدنيا وهم بحاجة إلى رحمة الله ومغفرته في الآخرة، والمسلم يتقرب إلى الله عز وجل بإظهار الحاجة والافتقار، وتتجلى عبوديته الحقة لله رب العالمين في إحدى الصور الثلاث التالية:
أولاً: بالسؤال، والله سبحانه وتعالى يحب أن يُظْهِرَ الناسُ حاجتهم لله وأن يسألوه جميع مصالحهم الدينية والدنيوية: من الطعام والشراب والكسوة، كما يسألونه الهداية والمغفرة.
ثانياً: بطلب الهداية.
ثالثاً: بالامتثال الكامل، وذلك باجتناب كل ما نهى الله تعالى عنه، وفعل كل ما أمر الله تعالى به.
الحديث الخامس والعشرون: فضلُ اللهِ تعَالى وَسَعَةُ رحْمَتِه
عن أبي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه: "أَنَّ ناساً من أَصْحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، ذَهَب أَهْلُ الدُّثورِ بالأُجورِ، يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُون بِفضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: "أوَ ليسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ ؟ إنَّ لَكُمْ بكلِّ تَسْبيحَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٍ بِالْمَعرُوفِ صَدَقَةً، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةً، وفي بُضْعِ أحَدِكُمْ صَدَقَةً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتي أحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أجرٌ ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَها في حَرَامٍ، أَكَانَ عَليْهِ وزْرٌ ؟ فَكَذلِكَ إذَا وَضَعَها في الْحَلاَلِ كانَ لَهُ أَجْرٌ ". رواه مسلم.
مفردات الحديث:
"أن أناساً": الأناس والناس بمعنى واحد، وهؤلاء الناس هم فقراء المهاجرين.
"الدثور": جمع دَثْر، وهو المال الكثير.
"فضول أموالهم": أموالهم الزائدة عن كفايتهم وحاجاتهم.
"تصدقون": تتصدقون به.
"تسبيحة": أي قول: سبحان الله.
"تكبيرة": قول: الله أكبر.
"تحميدة": قول: الحمد لله.
"تهليلة" : قول: لا إله إلا الله.
"صدقة": أجر كأجر الصدقة.
"بُضع": البُضع: الجماع.
"شهوته": لذته.
"وزر" : إثم وعقاب.
المعنى العام:
"يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور". لقد حاز أصحاب الأموال والغنى كل أجر وثواب، واستأثروا بذلك دوننا، وذلك أنهم "يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم". فنحن وإياهم في ذلك سواء، ولا ميزة لنا عليهم، ولكنهم يفضلوننا ويتميزون علينا، فإنهم "يتصدقون بفضول أموالهم" ولا نملك نحن ما نتصدق به لندرك مرتبتهم، ونفوسنا ترغب أن نكون في مرتبتهم عند الله تعالى، فماذا نفعل ؟.
الحكمة البالغة وأبواب الخير الواسعة: يدرك المصطفى صلى الله عليه وسلم لهفة هؤلاء وشوقهم إلى الدرجات العلى عند ربهم، ويداوي نفوسهم بما آتاه الله تعالى من حكمة، فيطيب خاطرهم ويلفت أنظارهم إلى أن أبواب الخير واسعة، وأن هناك من الأعمال ما يساوي ثوابُه ثوابَ المتصدق، وتُدَاني مرتبةُ فاعله مرتبةَ المنفق، إن لم تزد عليها في بعض الأحيان.
"أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ " بلى إن أنواع الصدقات بالنسبة إليكم كثيرة، منها ما هو إنفاق على الأهل، ومنها ما هو ليس بإنفاق، وكل منها لا يقل أجره عن أجر الإنفاق في سبيل الله عز وجل.
فإذا لم يكن لديكم فضل مال، فسبحوا الله عز وجل وكبروه واحمدوه وهللوه، ففي كل لفظ من ذلك أجر صدقة، وأي أجر ؟
وروى أحمد والترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي العباد أفضل عند الله يوم القيامة ؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً ".
دعوة الخير صدقة على المجتمع: وكذلكم: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسع ومفتوح، وأجر من يقوم بهذا الفرض الكفائي لا يقل عن أجر المنفق المتصدق، بل ربما يفوقه مراتب كثيرة : "كل معروف صدقة" رواه مسلم. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
سعة فضل الله عز وجل: وأيضاً فقد جعل الله عز وجل لكم أجراً وثواباً تنالونه كل يوم وليلة إذا أخلصتم النية وأحسنتم القصد: أليس أحدكم ينفق على أهله وعياله: "ونفقة الرجل على أهله وزوجته وعياله صدقة". رواه مسلم، و "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى فيه امرأتك" متفق عليه. أي تطعمها إياها. بل أليس أحدكم يعاشر زوجته ويقوم بواجبه نحوها، ليعف نفسه ويكفها عن الحرام، ويحفظ فرجه ويقف عند حدود الله، ويجتنب محرماته التي لو اقترفها كان عليه إثم وعقاب ؟ فكذلك له أجر وثواب، حتى ولو ظن أنه يُحَصِّل لذته ويُشبع شهوته، طالما أنه يُخلص النية في ذلك، ولا يقارب إلا ما أحلّ الله تعالى له.
ومن عظيم فضل الله عز وجل على المسلم: أن عادته تنقلب بالنية إلى عبادة يؤجر عليها، ويصير فعله وتركه قربة يتقرب بها من ربه جل وعلا، فإذا تناول الطعام والشراب المباح بقصد الحفاظ على جسمه والتقوِّي على طاعة ربه، كان ذلك عبادة يثاب عليها، ولا سيما إذا قارن ذلك ذكر الله تعالى في بدء العمل وختامه، فسمى الله تعالى في البدء، وحمده وشكره في الختام.
وكذلك: يربو الأجر وينمو عند الله عز وجل للمسلم الذي يكف عن محارم الله عز وجل، ولا سيما إذا جدّد العهد في كل حين، واستحضر في نفسه أنه يكف عن معصية الله تبارك وتعالى امتثالاً لأمره واجتناباً لما نهى عنه،طمعاً في ثوابه وخوفاً_من عقابه وتحقق فيه وصف المؤمنين الصادقين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
أبواب الخيركثيرة: ولا تقتصر أبواب الخير والصدقات على ما ذكر في الحديث، فهناك أعمال أخرى يستطيع المسلم القيام بها ويحسب له فيها أجر الصدقة. وفي الصحيحين : "تكف شَرَّك عن الناس فإنها صدقة" وعند الترمذي: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة .. وإفراغك دلوك في دلو أخيك لك صدقة".
ما يستفاد من الحديث:
استعمال الحكمة في معالجة المواقف، وإدخال البشرى على النفوس، وتطييب الخواطر.
فضيلة الأذكار المشار إليها في الحديث، وأن أجرها يساوي أجر الصدقة لمن لا يملك مالاً يتصدق به ولا سيما بعد الصلوات المفروضة.
استحباب الصدقة للفقير إذا كان لا يُضَيِّق على عياله ونفسه، والذكر للغني ولو أكثر من الإنفاق، استزادة في الخير والثواب.
التصدق بما يحتاج الإنسان إليه للنفقة على نفسه أو أهله وعياله مكروه، وقد يكون محرماً إذا أدى إلى ضياع من تجب عليه نفقتهم.
الصدقة للقادر عليها ولمن يملك مالاً أفضل من الذكر.
فضل الغني الشاكر المنفق والفقير الصابر المحتسب.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع المسلم.
حسن معاشرة الزوجة والقيام بحقها بما يحقق سكن نفسها ورغد عيشها، وكذلك حسن معاشرة الزوج اعترافاً بفضله وشكراً لإحسانه.
الحث على السؤال عما ينتفع به المسلم ويترقى به في مراتب الكمال.
للمستفتي أن يسأل عما خفي عليه من الدليل، إذا علم من حال المسؤول أنه لا يكره ذلك، ولم يكن فيه سوء أدب.
بيان الدليل للمتعلم، ولاسيما فيما خفي عليه، ليكون ذلك أثبت في قلبه وأدعى إلى امتثاله.
مشروعية القياس وترتيب الحكم إلحاقاً للأمر بما يشابهه أو يناظره.
عن أبي ذَرٍّ الْغِفاريِّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يَرْويهِ عن رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ أَنَّهُ قال: " يا عِبادي إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ على نَفْسِي وَ جعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فلا تَظَالَمُوا.
يا عِبادي كُلُّكُمْ ضالٌّ إلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فاسْتَهدُوني أهْدِكُمْ.
يا عِبادِي كُلُّكُمْ جائعٌ إلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فاسْتَطْعِمُوني أُطْعِمْكُم.
يا عِبادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فاسْتكْسوني أَكسُكُم.
يا عِبادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بالليْلِ والنَّهارِ، وأنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً، فاسْتَغْفِرُوني أُغْفِر لكُمْ.
يا عِبادِي إِنَّكُمْ لنْ تبْلغُوا ضَرِّي فتَضُرُّوني، ولن تبْلُغُوا نفْعي فَتَنْفعُوني.
يا عِبادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ كانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحدٍ مِنْكُمْ ما زادَ ذلك في مُلْكي شَيئاً.
يا عِبادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وجِنَّكُمْ كانُوا عَلَى أَفْجرِ قَلْبِ وَاحدٍ مِنْكُمْ ما نَقَصَ مِنْ مُلْكي شَيئاً.
يا عِبادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وجنَّكُمْ قاموا في صَعِيدٍ، فَسَأَلُوني، فأَعْطَيْتُ كلَّ واحدٍ مَسْأَلَتَهُ ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.
يا عِبادِي إنَّما هي أعمَالكُمْ أُحْصِيها لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاها، فَمَنْ وَجَدَ خيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، ومَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلك فَلا يَلومَنَّ إلا نَفْسَهُ" رواه مسلم.
مفردات الحديث:
"حرمت الظلم": الظلم لغة: وضع الشيء في غير محله. وهو مجاوزة الحد أو التصرف فيحق الناس بغير حق. وهو مستحيل على الله تعالى. ومعنى حرمت الظلم على نفسي : أي لا يقع مني، بل تعاليت عنه وتقدست.
"ضال": غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل.
"إلا من هديته": أرشدته إلى ما جاء به الرسل ووفقته إليه.
"فاستهدوني": اطلبوا مني الهداية.
"صعيد واحد": أرض واحدة ومقام واحد.
"المِخْيط": بكسر الميم وسكون الخاء، الإبرة.
"أُحصيها لكم": أضبطها لكم بعلمي وملائكتي الحفظة.
"أوفيكم إياها": أوفيكم جزاءها في الآخرة.
المعنى العام:
تحريم الظلم على الله: ولفظ الحديث صريح في أن الله عز وجل منع نفسه من الظلم لعباده: "إني حرمت الظلم على نفسي"، وهو صريح في القرآن الكريم أيضاً، قال تعالى: {وما أنا بظلامٍ للعبيد} .
تحريم الظلم على العباد: حرم الله عز وجل الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرم على كل إنسان أن يظلم غيره، مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقاً. و الظلم نوعان:
الأول: ظلم النفس، وأعظمه الإشراك بالله، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}، لأن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق وعبده مع الله تعالى المنزه عن الشريك.
ويلي ظلم الإشراك بالله المعاصي والآثام الصغيرة والكبيرة، فإن فيها ظلماً للنفس بإيرادها موارد العذاب والهلاك في الدنيا والآخرة.
الثاني : ظلم الإنسان لغيره، وقد تكرر تحريمه والتحذير منه في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الظلم ظلمات يوم القيامة".
الافتقار إلى الله: والخلق كلهم مفتقرون إلى الله في جلب المصالح ودفع المضار في الدنيا والآخرة، فهم في حاجة ماسة إلى هداية الله ورزقه في الدنيا وهم بحاجة إلى رحمة الله ومغفرته في الآخرة، والمسلم يتقرب إلى الله عز وجل بإظهار الحاجة والافتقار، وتتجلى عبوديته الحقة لله رب العالمين في إحدى الصور الثلاث التالية:
أولاً: بالسؤال، والله سبحانه وتعالى يحب أن يُظْهِرَ الناسُ حاجتهم لله وأن يسألوه جميع مصالحهم الدينية والدنيوية: من الطعام والشراب والكسوة، كما يسألونه الهداية والمغفرة.
ثانياً: بطلب الهداية.
ثالثاً: بالامتثال الكامل، وذلك باجتناب كل ما نهى الله تعالى عنه، وفعل كل ما أمر الله تعالى به.
الحديث الخامس والعشرون: فضلُ اللهِ تعَالى وَسَعَةُ رحْمَتِه
عن أبي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه: "أَنَّ ناساً من أَصْحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، ذَهَب أَهْلُ الدُّثورِ بالأُجورِ، يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُون بِفضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: "أوَ ليسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ ؟ إنَّ لَكُمْ بكلِّ تَسْبيحَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٍ بِالْمَعرُوفِ صَدَقَةً، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةً، وفي بُضْعِ أحَدِكُمْ صَدَقَةً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتي أحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أجرٌ ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَها في حَرَامٍ، أَكَانَ عَليْهِ وزْرٌ ؟ فَكَذلِكَ إذَا وَضَعَها في الْحَلاَلِ كانَ لَهُ أَجْرٌ ". رواه مسلم.
مفردات الحديث:
"أن أناساً": الأناس والناس بمعنى واحد، وهؤلاء الناس هم فقراء المهاجرين.
"الدثور": جمع دَثْر، وهو المال الكثير.
"فضول أموالهم": أموالهم الزائدة عن كفايتهم وحاجاتهم.
"تصدقون": تتصدقون به.
"تسبيحة": أي قول: سبحان الله.
"تكبيرة": قول: الله أكبر.
"تحميدة": قول: الحمد لله.
"تهليلة" : قول: لا إله إلا الله.
"صدقة": أجر كأجر الصدقة.
"بُضع": البُضع: الجماع.
"شهوته": لذته.
"وزر" : إثم وعقاب.
المعنى العام:
"يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور". لقد حاز أصحاب الأموال والغنى كل أجر وثواب، واستأثروا بذلك دوننا، وذلك أنهم "يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم". فنحن وإياهم في ذلك سواء، ولا ميزة لنا عليهم، ولكنهم يفضلوننا ويتميزون علينا، فإنهم "يتصدقون بفضول أموالهم" ولا نملك نحن ما نتصدق به لندرك مرتبتهم، ونفوسنا ترغب أن نكون في مرتبتهم عند الله تعالى، فماذا نفعل ؟.
الحكمة البالغة وأبواب الخير الواسعة: يدرك المصطفى صلى الله عليه وسلم لهفة هؤلاء وشوقهم إلى الدرجات العلى عند ربهم، ويداوي نفوسهم بما آتاه الله تعالى من حكمة، فيطيب خاطرهم ويلفت أنظارهم إلى أن أبواب الخير واسعة، وأن هناك من الأعمال ما يساوي ثوابُه ثوابَ المتصدق، وتُدَاني مرتبةُ فاعله مرتبةَ المنفق، إن لم تزد عليها في بعض الأحيان.
"أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ " بلى إن أنواع الصدقات بالنسبة إليكم كثيرة، منها ما هو إنفاق على الأهل، ومنها ما هو ليس بإنفاق، وكل منها لا يقل أجره عن أجر الإنفاق في سبيل الله عز وجل.
فإذا لم يكن لديكم فضل مال، فسبحوا الله عز وجل وكبروه واحمدوه وهللوه، ففي كل لفظ من ذلك أجر صدقة، وأي أجر ؟
وروى أحمد والترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي العباد أفضل عند الله يوم القيامة ؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً ".
دعوة الخير صدقة على المجتمع: وكذلكم: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسع ومفتوح، وأجر من يقوم بهذا الفرض الكفائي لا يقل عن أجر المنفق المتصدق، بل ربما يفوقه مراتب كثيرة : "كل معروف صدقة" رواه مسلم. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
سعة فضل الله عز وجل: وأيضاً فقد جعل الله عز وجل لكم أجراً وثواباً تنالونه كل يوم وليلة إذا أخلصتم النية وأحسنتم القصد: أليس أحدكم ينفق على أهله وعياله: "ونفقة الرجل على أهله وزوجته وعياله صدقة". رواه مسلم، و "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى فيه امرأتك" متفق عليه. أي تطعمها إياها. بل أليس أحدكم يعاشر زوجته ويقوم بواجبه نحوها، ليعف نفسه ويكفها عن الحرام، ويحفظ فرجه ويقف عند حدود الله، ويجتنب محرماته التي لو اقترفها كان عليه إثم وعقاب ؟ فكذلك له أجر وثواب، حتى ولو ظن أنه يُحَصِّل لذته ويُشبع شهوته، طالما أنه يُخلص النية في ذلك، ولا يقارب إلا ما أحلّ الله تعالى له.
ومن عظيم فضل الله عز وجل على المسلم: أن عادته تنقلب بالنية إلى عبادة يؤجر عليها، ويصير فعله وتركه قربة يتقرب بها من ربه جل وعلا، فإذا تناول الطعام والشراب المباح بقصد الحفاظ على جسمه والتقوِّي على طاعة ربه، كان ذلك عبادة يثاب عليها، ولا سيما إذا قارن ذلك ذكر الله تعالى في بدء العمل وختامه، فسمى الله تعالى في البدء، وحمده وشكره في الختام.
وكذلك: يربو الأجر وينمو عند الله عز وجل للمسلم الذي يكف عن محارم الله عز وجل، ولا سيما إذا جدّد العهد في كل حين، واستحضر في نفسه أنه يكف عن معصية الله تبارك وتعالى امتثالاً لأمره واجتناباً لما نهى عنه،طمعاً في ثوابه وخوفاً_من عقابه وتحقق فيه وصف المؤمنين الصادقين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
أبواب الخيركثيرة: ولا تقتصر أبواب الخير والصدقات على ما ذكر في الحديث، فهناك أعمال أخرى يستطيع المسلم القيام بها ويحسب له فيها أجر الصدقة. وفي الصحيحين : "تكف شَرَّك عن الناس فإنها صدقة" وعند الترمذي: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة .. وإفراغك دلوك في دلو أخيك لك صدقة".
ما يستفاد من الحديث:
استعمال الحكمة في معالجة المواقف، وإدخال البشرى على النفوس، وتطييب الخواطر.
فضيلة الأذكار المشار إليها في الحديث، وأن أجرها يساوي أجر الصدقة لمن لا يملك مالاً يتصدق به ولا سيما بعد الصلوات المفروضة.
استحباب الصدقة للفقير إذا كان لا يُضَيِّق على عياله ونفسه، والذكر للغني ولو أكثر من الإنفاق، استزادة في الخير والثواب.
التصدق بما يحتاج الإنسان إليه للنفقة على نفسه أو أهله وعياله مكروه، وقد يكون محرماً إذا أدى إلى ضياع من تجب عليه نفقتهم.
الصدقة للقادر عليها ولمن يملك مالاً أفضل من الذكر.
فضل الغني الشاكر المنفق والفقير الصابر المحتسب.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع المسلم.
حسن معاشرة الزوجة والقيام بحقها بما يحقق سكن نفسها ورغد عيشها، وكذلك حسن معاشرة الزوج اعترافاً بفضله وشكراً لإحسانه.
الحث على السؤال عما ينتفع به المسلم ويترقى به في مراتب الكمال.
للمستفتي أن يسأل عما خفي عليه من الدليل، إذا علم من حال المسؤول أنه لا يكره ذلك، ولم يكن فيه سوء أدب.
بيان الدليل للمتعلم، ولاسيما فيما خفي عليه، ليكون ذلك أثبت في قلبه وأدعى إلى امتثاله.
مشروعية القياس وترتيب الحكم إلحاقاً للأمر بما يشابهه أو يناظره.