الاحوال الشخصية : الطلاق

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


الطلاق:

الطلاق وفيه:


الباب الأول: في التعريف وحكمة تشريعه ولمن يكون حق الطلاق وصفته الشرعية

وفيه مباحث:


المبحث الأول: تعريف الطلاق

مادة الطلاق والإطلاق في اللغة: تدل على الإرسال ورفْع القيد والمفارقة. يقال : أطلق الأسير إذا أرسله ورفع قيده، وطلق بلده إذا فارقها، وطلق زوجته أي فارقها وحل رباط الزوجية، وإن كان العرف يخص الطلاق برفع القيد المعنوي، والإطلاق برفع القيد الحسي.

فالطلاق في الاصطلاح: هو حل رابطة الزوجية الصحيحة من جانب الزوج بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه في الحال أو المآل.

فاللفظ المخصوص هو ما كان صريحاً في الطلاق أو كناية عنه مما يحتاج إلى نية، والذي يقوم مقامه الكتابة والإشارة، والذي يحلها في الحال هو الطلاق البائن، والذي يحلها في المآل هو الطلاق الرجعي، والطلاق مشروع بالقرآن والسنة والإجماع.


المبحث الثاني: الحكمة في شرعية الطلاق

إن الإسلام شرع الزواج وجعله عقد الحياة حتى جعل التوقيت فيه مبطلاً له، وأحاطه بكل الضمانات ليستقر فيؤتي ثمراته الطيبة، وهو لا يكون كذلك إلا إذا تحقق التوافق بين الطرفين وسكن كل منهما إلى صاحبه وارتبط قلباهما برباط المودة، وشاعت بينهما الثقة وعرف كل منهما ما للآخر عليه من حقوق.

وقد يطرأ على تلك الحياة الشقاق المنبعث من تنافر القلوب بعد توافقها من انحراف جديد، أو انكشاف ما قد يخفى عند الاقتران مما يبدل الثقة، أو إصابة أحدهما بمرض لا تستطاع معه المعاشرة مما يجعل الحياة جحيماً لا يطاق أو عذاباً لا يحتمل.

نظر الشارع إلى ذلك لأنه دين واقعي يشرع للناس حسبما يقع في حياتهم ولا يغمض عينه عن مشاكل الحياة فيوجد لها الحلول ففتح المجال لإنهاء الزوجية عندما تتعرض للخطر الذي يتعذر معه الاستمرار فيها، فكانت شرعية الطلاق ليحسم ذلك الداء بعد عجز طرق الإصلاح العديدة التي أرشد إليها من تأديب وإصلاح داخلي وإصلاح على مستوى الجماعة، ومع ذلك جعله أبغض الحلال إلى الله.


المبحث الثالث: لمن يكون حق الطلاق؟

والطلاق في الأصل حق للزوج، لأن النصوص من القرآن والسنة أسندته إلى الرجل. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20].

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن عمر طلق زوجتك" وقوله "مرة فليراجعها. ثم يطلقها، فهذه النصوص صريحة كل الصراحة في أن الطلاق حق للزوج، وليس ذلك غبناً للمرأة بل هو حفاظ عليها وتقديس للرابطة الزوجية، لأن الشارع الذي أوجب على الزواج المهر وجعله مسؤولاً عن الأسرة يسعى من أجلها ويقوم بواجباتها، والرجل بطبيعته أضبط لمشاعره من المرأة فيكون أحرص على بقاء الزوجية لما تحمله من نفقات وتجنباً للتبعات المالية التي تلحقه بسبب الطلاق من مؤخر الصداق ونفقة العدة، ومن مهر جديد ونفقات أخرى إذا ما رغب في التزوج مرة أخرى.

ولو جعل الطلاق بيد المرأة لاضطربت الحياة الزوجية ولما استقر لها قرار لسرعة تأثرها واندفاعها وراء العاطفة، وليس هناك ما يحملها على التروي والأناة حيث لا تغرم شيئاً.

على أن الشارع لم يهمل جانبها، بل جعل لها الحق في أن تفتدي نفسها برد ما دفعه الزوج لها من مهر {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].

كما جعل لها أن ترفع أمرها إلى القاضي ليطلقها من زوجها إذا ما انحرف وألحق بها ما يوجب التفريق من أذى أو عدم إنفاق، وأوجب على القاضي أن يجيبها إلى طلبها إذا ما ثبت لديه ما تدعيه.

وأكثر من هذا جعل لها الحق في أن تشترط لنفسها عند العقد أن تكون العصمة بيدها كما يرى بعض الفقهاء.


المبحث الرابع:حكم الطلاق بمعنى صفته الشرعية

وإذا كان الأصل فيه هو الحظر وأنه لا يجوز الإقدام عليه إلا لسبب والأسباب تختلف في قوتها وضعفها، ومن هنا اختلفت صفة الطلاق الشرعية باختلاف البواعث عليه.

فقد يكون مباحاً يستوي فيه جانب الفعل والترك إذا كان الباعث عليه ضعيفاً كمجرد النفور الطبيعي بين الزوجين.

وقد يكون مستحباً إذا كان الدافع له سوء أخلاق الزوجة وإيقاعها الأذى بزوجها أو أقاربه أو جيرانه بالقول أو بالفعل أو كانت تاركة لحقوق الله من صلاة وصيام، فإنها بسلوكها هذا تكون قدوة سيئة لأولادها ويخشى عليهم من أن يشبوا على منهجها فيستحب طلاقها.

وقد يكون واجباً إذا كان الباعث عليه أمراً يقوض الحياة الزوجية كتهاونها في عرضها وشرفها وبسلوكها المسالك المريبة، أو استحكام الشقاق بين الزوجين وعجز الحكمان عن الإصلاح بينهما.

أو كان بالزوج عيب يحول بين الحياة الزوجية وبين أدائها وظيفتها ككونه عنيناً أو مجبوباً أو ما شاكل ذلك.

وقد يكون مكروهاً تحريماً إذا لم يكن له سبب يبرره.

وقد يكون حراماً إذا وقع على غير الوجه المشروع بأن طلقها في الحالة التي نهى الشارع عن الطلاق فيها، كالطلاق في الحيض قاصداً الإضرار بها وتطويل عدتها.


الباب الثّاني: في ركن الطلاق، ومن يقع منه، ومن يقع عليها، وطريقة إيقاعه

ركن الطلاق، ومن يقع منه، ومن يقع عليها، وطريقة إيقاعه، وفيه مباحث:


المبحث الأول: ركن الطلاق وبم يتحقق؟

المراد بالركن هو اللفظ الذي يفيد معنى الطلاق أو ما يقوم مقامه من الكتابة والإشارة. فيكون الطلاق بواحد من ثلاثة: العبارة والإشارة والكتابة.

أما العبارة: فهي اللفظ الذي يدل على حل رابطة الزوجية بحيث يفهم منه التطليق لغة أو عرفاً بأي لغة كانت سواء كان اللفظ صريحاً أو كناية وسواء كان منجزاً أو معلقاً أو مضافاً بشرط أن يكون المتكلم بها فاهماً لمعناها.

أما الإشارة: فلا يقع بها الطلاق إلا من الأخرس العاجز عن الكتابة على الرأي الراجح عند الحنفية، فإن كان قادراً على الكتابة فلا يقع طلاقه بالإشارة، لأن الكتابة أقوى في الدلالة من الإشارة.

أما الكتابة: فإما أن تكون مستبينة أي واضحة باقية كالكتابة على الورق أو على الحائط مثلاً أو غير مستبينة كالكتابة على الهواء أو في الماء.

والمستبينة إما أن تكون مرسومة أي معنونة موجهة للزوجة كما توجه الرسائل أولاً، فإن كانت غير مستبينة فلا يقع بها طلاق، وإن كانت مستبينة مرسومة وقع بها الطلاق من وقت الكتابة إلا إذا قيد الوقوع بزمن الوصول أو غيره. فإنه يقع من الوقت الذي حدده سواء نوى بها الطلاق عند الكتابة أو لا.

أما المستبينة الغير المرسومة كأن يكتب على ورقة: فلانة طالق ولا يرسلها إليها أو يكتب على جدار، طلقت زوجتي فإنه لا يقع بها الطلاق إلا إذا نواه، فإن لم ينوه بأن قال: أردت تجربة القلم أو الخط فلا يقع لظهور هذا الاحتمال في تلك الحالة.

وإذا كان الحنفية يوسعون في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ولا يقصرونها على الألفاظ الصريحة فإن اللفظ الذي يقع به الطلاق عندهم نوعان:

صريح وكناية.

فالصريح:

هو اللفظ الذي يفهم منه معنى الطلاق عند التلفظ به دون حاجة إلى شيء آخر. فيدخل فيه الألفاظ التي وضعت شرعاً للطلاق. نحو أنت طالق وطلقتك ومطلقة، والألفاظ التي تستعمل عرفاً في الطلاق مثل: أنت محرمة وحرمتك وأنت علي حرام وأنت خالصة.

وحكمه: أن الطلاق يقع به قضاء وديانة دون توقف على نية أو قرينة، لأن صراحته لا تحوجه في الدلالة إلى شيء آخر وراء اللفظ، متى قصد التلفظ به عالماً بمدلوله وأضافه إلى زوجته.

فإذا قال لزوجته: أنت طالق ثم ادعى أنه لم يرد به الطلاق بل أراد به شيئاً آخر لا يحتمله اللفظ لا يلتفت إلى دعواه ووقع الطلاق قضاء وديانة، فإن ادعى أنه أراد به الطلاق من وثاق ولم توجد قرينة تدل على ذلك صُدِّق ديانة لا قضاء، فلو وجدت تلك القرينة، كما لو أكره على الطلاق فنطق بكلمة الطلاق ثم ادعى أنه أراد الطلاق من وثاق فإنه يصدق في ذلك قضاء وديانة، لأن الإكراه قرينة صارفة عن إرادة الطلاق، ومثل ذلك ما إذا كانت زوجته موثقة بقيد وسألته أن يطلقها من وثاقها فيطلقها منه قائلاً لها: أنت طالق فإنه يصدق إذا أقسم أنه أراد ذلك.

والكناية:

هي كل لفظ لم يوضع لمعنى الطلاق ولم يتعارف الناس قصر استعماله على الطلاق مثل: إلحقي بأهلك أو اذهبي إليهم، فإنه يحتمل الحقي بهم لأني طلقتك أو ابعدي عني الآن، ومثل أنت بائن أو أمرك بيدك، وأنت واحدة واستبرئي رحمك وغير ذلك من الألفاظ التي لا يفهم منها الطلاق إلا بالقرينة أو بالنية.

وحكمها: أن الطلاق لا يقع بها إلا بالنية أو دلالة الحال على أنه أراد بها الطلاق، فإن دل الحال على إرادة الطلاق كما إذا قال ذلك حالة الغضب أو بعد سؤال زوجته الطلاق وقع، وإن لم يدل الحال رجع إلى نية الزوج، فإن نوى بها الطلاق وقع، وإن لم ينو لا يقع بها شيء.

فمذهب الحنفية: أن تلك الألفاظ لا يقع بها الطلاق ديانة إذا لم ينو بها الطلاق، أما في القضاء فيحكم دلالة الحال، فإن دلت على إرادة الطلاق وقع ولا يصدق في دعواه أنه لم يرد بها الطلاق، فإن لم تدل الحال على إرادة الطلاق اعتبرت النية، فإن قال : نويت بها الطلاق وقع، وإن ادعى أنه لم ينو بها الطلاق في دعواه.


المبحث الثاني: من يقع منه الطلاق، ومن يقع عليها

من يقع منه الطلاق: الطلاق حق للزوج فهو الذي يملك إيقاعه، لأن عقدة الزواج ملكه ولا يملكه غيره إلا بتفويض منه كرسوله أو وكيله أو المرأة التي فوض لها الطلاق أو بالنيابة عنه عند امتناعه كالقاضي، فأن الأولين يطلقون باسم الزوج، والأخير يطلق عن الزوج دفعاً لظلمه بامتناعه عن الطلاق.

ولما كان الطلاق خطيراً لا يملكه الزوج إلا إذا توفرت فيه الشروط الآتية:

أن يكون بالغاً، فلو كان صغيراً لا يقع طلاقه وإن كان مميزاً باتفاق الحنفية، لأن الطلاق من التصرفات التي يغلب عليها الضرر وهو لا يملك منها إلا ما كان نافعاً.

أن يكون عاقلاً: فلا يقع طلاق المجنون وهو من ذهب عقله، والمعتوه وهو ضعيف العقل الذي اختلط كلامه وفسد تدبيره، ومن اختل عقله لكبر أو مرض أو مصيبة.

ويلحق بهم المدهوش وهو الذي اعترته حالة انفعال لا يدري فيها ما يقول ويفعل، والغضبان الذي بلغ به الغضب درجة تختل فيها أقواله وأفعاله وتضطرب، أما إذا كان بحيث يدري ما يقول ويفعل فإن طلاقه يقع.

كل ذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق" والإغلاق هو أن يسد على الشخص باب الإدراك والقصد بحيث لا يدري ما يقول وما يفعل.

ومقتضى هذا لا يكون للسكران طلاق لأنه لا يعي ما يقول، وإلى هذا ذهب جماعة من الفقهاء من غير تفرقة بين ما إذا كان سبب السكر مباحاً أو محرماً لعدم إدراكه.

وذهب آخرون إلى التفرقة بين ما كان سببه مباحاً فلا يقع وبين ما إذا كان محرماً فيقع طلاقه عقوبة له وزجراً عن تناول المحرم، لكن العقوبة هنا غير مستساغة لأن الشارع قرر له عقوبة أخرى، على أنه إذا كان السكران يستحق العقوبة فما ذنب الزوجة وأولادها الذي يلحقهم ضرر الطلاق.

ألا يكون مكرهاً عند جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- لحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

ولأن المكره وإن تكلم باللفظ المفيد للطلاق إلا أنه لم يقصد الطلاق وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه فيكون اختياره للطلاق فاسداً فلا يعتبر.

والحنفية لم يشترطوا عدم الإكراه، لأن الإكراه عندهم يفسد الرضا دون الإختيار، فالمكره حين تكلم بكلمة الطلاق كان له اختيار. فقد وازن بين الأمرين التلفظ بالطلاق ووقوع ما هدد به فاختار أهونهما، فهو مختار في التكلم لكنه غير راض بالأثر الذي يترتب عليه فيقع طلاقه كالهازل الذي قصد اللفظ ولم يقصد ترتب الأثر عليه، وطلاق الهازل واقع بالحدث "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد؛ النكاح والطلاق والرجعة" وفي رواية العتاق بدل الرجعة.

كما لا يشترط أن يكون جاداً فيقع طلاق الهازل.

أما المخطيء وهو الذي يريد أن ينطق بكلام غير الطلاق فيجري على لسانه الطلاق بغير قصد كأن يقصد أن يقول لزوجته: أنت لطيفة أو مهذبة فيجري على لسانه: أنت طالق.

والحنفية يقولون: إنه لا يقع طلاقه ديانة أي بينه وبين الله فيحل له البقاء مع زوجته، ولكنه يقع قضاء بمعنى أنه لو اختلف الزوجان فقالت له: طلقت، وقال لا لم أقصد طلاقاً. حكم القاضي بوقوع الطلاق لأنه يحكم بناء على الظاهر، ولو قبل القاضي دعوى الخطأ لانفتح باب التحايل.

والفرق عندهم بين المخطئ والهازل: أن الهازل قصد النطق بكلمة الطلاق، ولكنه لم يقصد ترتب الأثر عليها، ومثل هذا يلهو في موضع الجد فاستحق العقاب بإلزامه أثر ما قصد منه، أما المخطئ فلم يقصد النطق بالكلمة أصلاً وبالتالي لم يقصد ترتب أثرها عليها فلم يكن منه ما يستحق عليه العقاب فافترقا، ومن هنا قالوا: إن من لقن كلمة الطلاق فنطق بها وهو لا يعرف معناها لا يقع طلاقه لأنه وإن قصد النطق بها إلا أنه لا يعي مدلولها ولا ما تستعمل فيه فكانت لغواً.

- من يقع عليها الطلاق:

إذا كان الطلاق يرفع قيد النكاح ويحل رابطة الزوجية فلا بد أن تكون المرأة المطلقة في زوجية قائمة حقيقة أو حكماً ولو قبل الدخول، فالمعقود عليها عقداً صحيحاً محل للطلاق قبل الدخول وبعده كذلك المعتدة من طلاق رجعي أو بائن بينونة صغرى ما دامت في العدة، لأن الزواج باق حكماً أثناء العدة، أما الرجعية فظاهر لأن ملك الاستمتاع قائم، وأما البائنة فلأن بعض أحكام قائمة كوجوب النفقة وبقائها في منزل الزوجية وعدم حل زواجها من آخر، وكذلك المعتدة من كل فرقة اعتبرت طلاقاً، أما المعتدة من طلاق بائن بينونة كبرى فليست محلاً للطلاق لانتهاء الملك والحل، وكذلك المطلقة قبل الدخول لأنه لا عدة عليها، والمعتدة من فرقة اعتبرت فسخاً بحكم الشرع، كالفرقة بخيار البلوغ أو الإفاقة أو لعدم كفاءة الزوج أو نقصان المهر، لأن الفسخ نقض للعقد، وإذا انتقض العقد لم يكن له وجود حتى يلحقه طلاق.

ولا يستثنى من ذلك عند الحنفية إلا المعتدة من فسخ زواجها بسبب ردة أحد الطرفين أو إباء الزوجة المشركة عن الإسلام بعد إسلام زوجها، فإنه يقع عليها الطلاق في العدة على ما هو الراجح من المذهب وكذلك لا يقع الطلاق على المعقود عليها فاسداً أو باطلاً، هذا هو مذهب الحنفية ومن وافقهم.


المبحث الثالث: في الطلاق الذي يملكه الزوج

حدد الإسلام للطلاق عدداً ينتهي عنده، وهو ثلاث تطليقات في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ...[البقرة: 229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، بعد أن كان في الجاهلية لا يقف عند حد، وكان ظلماً صارخاً للمرأة فحماها بهذا التحديد وجعله ثلاثاً للزوج أن يراجع زوجته في الأوليين منهما محافظة على رباط الزوجية من أن ينقطع مرة واحدة، ودفعاً للحرج الذي قد يلحق بالأزواج الذين يتسرعون في إيقاع الطلاق، ولو جعله مرة واحدة لوقع كثير من الأزواج في الحرج فيما إذا صدر الطلاق لأمر عارض ثم زال أو لنفرة طارئة ثم تبدلت الأحوال وزالت النفرة.

الطريقة التي يوقع بها الطلاق:

والشارع الذي ملك الرجل الطلاق وحدده بثلاث مرات لم يتركه ليوقعه كيف شاء ومتى شاء، بل رسم له طريقة إيقاعه وأرشده إلى اتباعها ونهاه عن مخالفتها.

ففي الآية السابقة بين له:

أول خطوة يخطوها في إيقاعه، وهي أن يكون مفرقاً "الطلاق مرتان" أي مرة بعد مرة.

يدل لذلك أنه لما طلق رجل امرأته ثلاثاً دفعة واحدة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب الناس فقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم".

والخطوة الثانية جاءت في الحديث الذي رواه الجماعة إلا الترمذي أن عبد الله بن عمر طلق امرأة له وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". فهذا الحديث يدل على أن الطلاق في الحيض غير مشروع لغضب رسول الله، ويرشد إلى أن الطلاق المشروع هو ما يكون في طهر لم يمسها فيه.

والحكمة في أنه لابد من مراعاة وقت الطلاق بألا يكون في الحيض أو في الطهر الذي مسها فيه أن حالة الحيض منفرة، فالطلاق فيها لا يدل على وجود الحاجة الداعية إلى الطلاق فوق أن الطلاق في هذه الحالة يلحق الضرر بالمرأة حيث يطول عليها العدة، لأن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب منها، وإن مخالطة المرأة تفتر الرغبة فيها فطلاقها بعد ذلك لا يدل على تحقق الحاجة إلى الطلاق مع أنه يوقع المرأة في الحيرة في أمر عدتها حيث لا تدري أحملت من تلك المواقعة فتعتد بوضع الحمل أم لم تحمل فتعتد بالأقراء، هذا مع ما يلحق الرجل من الندم إذا ما تبين له أن امرأته حامل، أما طلاقها في طهر لم يمسها فيه فيدل على وجود الحاجة إلى الطلاق حيث أقدم عليه في هذا الوقت الذي تتوق فيه نفس الرجل إلى المرأة.

وهذا إنما يكون في المرأة المدخول بها، أما غير المدخول بها فالرغبة فيها موجودة في أي وقت والحيض لا يقلل رغبته فيها حيث لم يلتق بها بعد.

ومن هنا قسم العلماء الطلاق إلى نوعين طلاق السنة وطلاق البدعة:

وجعلوا طلاق السنة هو الذي يجيء على الطريقة التي رسمه الشارع، وطلاق البدعة هو الطلاق الذي جاء على خلافها بأن يطلق أكثر من واحدة أو على دفعات في طهر واحد، أو يطلقها في أثناء الحيض أو النفاس أو في طهر واقعها فيه.

وهذا الطلاق المخالف للسنة حرام، ومن يفعله يكون آثماً بلا خلاف في ذلك، ولكنهم اختلفوا في وقوعه:

فذهب الأئمة الأربعة -الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي- إلى وقوعه، لأن النهي عنه ليس لذاته، وإنما لمعنى يصاحبه وهو تطويل العدة على المرأة، أو ندم الرجل عليه، أو كونه ليس لحاجة، ومثل هذا لا يمنع من ترتب الأثر عليه، كالبيع وقت النداء يوم الجمعة فإنه منهى عنه ومع ذلك لو تم البيع ترتب عليه أثره.

ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بمراجعة زوجته، والرجعة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أن عبد الله قال: "فحسبت عليَّ طلقة".


المبحث الرابع: الطلاق الثلاث بلفظ واحد

ذهب أصحاب المذاهب الأربعة إلى وقوعه ثلاثاً: سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو لا إذا كان مقروناً بلفظ الثلاثة أو مدلولاً عليه بالإشارة، كأنت طالق وأشار إليها بأصابع ثلاثة مرفوعة، وكذلك إذا كرر اللفظ أنت طالق أنت طالق وكانت المرأة مدخولاً بها، لأن الأولى وقعت عليها وهي زوجة ووقع الباقي عليها في عدتها.

وأما إذا كانت غير مدخول بها فيقع عليها واحدة فقط، لأنها تبين منه بها لا إلى عدة فجاءت الثانية والثالثة والمرأة أجنبية فلا يقع بهما شيء.


الباب الثَّالِث: في تقسيمات الطلاق

تقسيمات الطلاق، وفيه مباحث:


المبحث الأول: في تقسيمه إلى منجز ومعلق ومضاف:

ينقسم الطلاق باعتبار تقييد الصيغة وإطلاقها إلى منجز ومضاف ومعلق.

فالمنجز: هو الذي صدرت صيغته مطلقة غير معلقة على حصول أمر آخر ولا مضافة إلى زمن مستقبل مثل أن يقول لها: أنت طالق أو طلقتك.

حكم المنجز: وقوع الطلاق به بمجرد صدوره، لأن الشارع وضعه ليفيد أثره عقب صدوره ممن هو أهل لإيقاع الطلاق على امرأة هي محل لوقوعه بأن تكون زوجة حقيقة أو حكماً.

والمضاف: هو الذي صدرت صيغته مقيدة بوقت مستقبل قصد المطلق وقوع الطلاق فيه. بأن ربط حصوله بذلك الزمن بغير أداة من أدوات الشرط، كأن يقول الزوج لزوجته أنت طالق أول العام القادم أو أنت طالق غداً.

حكم المضاف: وقوع الطلاق به عند مجيء ذلك الوقت المضاف إليه لا قبله إذا كان الرجل أهلاً للطلاق عند صدور الصيغة منه، والمرأة محلاً لوقوع الطلاق عليها عند حلول ذلك الوقت، فلو قال أنت طالق في أول العام القادم ثم طلقها منجزاً فإذا جاء الزمن المضاف إليه وهي في العدة وقع عليها الطلاق المضاف فإذا كانت عدتها قد انتهت لا يقع عليه شيء.

وكذلك إذا أضاف الطلاق وهو أهل للطلاق ثم جاء الوقت المضاف إليه وهو مجنون وقع الطلاق لأن العبرة بأهليته عند التلفظ بالطلاق.

والمعلق: هو ما ربط فيه حصول الطلاق بأمر سيحصل في المستقبل بأن رتب وقوعه على حصول ذلك الأمر بأداة من أدوات الشرط أو ما في معناها، كإن وإذا وكلما ومتى ونحوها. كأن يقول لامرأته: إن سافرت في هذا اليوم فأنت طالق، أو متى حضر فلان لزيارتنا فأنت طالق، وكلما خرجت بدون إذني فأنت طالق.

والتعليق نوعان: تعليق لفظاً ومعنى، وتعليق معنى فقط:

فالأول: وهو ما ربط فيه وقوع الطلاق بحصول أمر في المستقبل بأداة من أدوات الشرط سواء كان الأمر المعلق عليه اختيارياً يمكن فعله أو الامتناع عنه أو غير اختياري.

والاختياري قد يكون من أفعال الزوجة نحو: إن خرجت بدون إذني أو كلمت فلاناً فأنت طالق، وقد يكون من أفعال الزوج نحو: إن لم أسافر اليوم فأنت طالق، وقد يكون من فعل غيرهما. نحو إن لم يسافر أخوك اليوم فأنت طالق.

وغير الاختياري نحو: إن أمطرت السماء فأنت طالق، أو إن ولدت أنثى فأنت طالق، فإن كان المعلق عليه من فعل أحد الزوجين سمي تعليقاً ويسمى يميناً أيضاً لأنه يفيد ما يفيده اليمين من الحمل أو الامتناع عنه، وإن كان المعلق عليه من فعل غيرهما أو كان أمراً غير اختياري فهو تعليق بالاتفاق، ولكنهم اختلفوا في تسميته يميناً. فمن الفقهاء من يسميه يميناً لوجود الصورة وهي الشرط والجزاء، ومنهم من لا يسميه يميناً لأنه لا يفيد ما يفيده اليمين وهو الأشبه بالفقه.

والثاني: وهو التعليق في المعنى فقط وهو ما يفهم منه التعليق بدون ذكر أداة من أدواته نحو قول الزوج: عليّ الطلاق أو يلزمني الطلاق لا أفعل كذا، فإنه في معنى. إن فعلت كذا فزوجتي طالق، وكقوله: علي الطلاق لأسافرن اليوم فإنه في معنى إن لم أسافر اليوم فامرأتي طالق، فإذا لم يتحقق السفر في هذا اليوم وقع الطلاق، وهذا الذي يسمى بالحلف بالطلاق أو اليمين بالطلاق.

حكم التعليق: والتعليق بنوعيه يقع به الطلاق إن وقع المعلق عليه عند الحنفية بعد أن تتحقق شروط صحته بأن يكون المعلق عليه معد وما ممكن الحصول، فإن كان معدوماً مستحيل الوجود كان لغواً، كما إذا قال لها: إن جاء أبوك يجر أكفانه فأنت طالق، أو إن شربت ماء هذا البحر كله فأنت طالق.

وكذلك لو علقه على مشيئة الله تعالى، كأن يقول لها: أنت طالق إن شاء الله، لأن المعلق عليه أمر لا طريق إلى التحقق من وجوده فكان لذلك كالتعليق على المستحيل.

وأن يحصل المعلق عليه والمرأة محل للطلاق كأن تكون زوجة حقيقة أو حكماً وقد وافق الحنفية في ذلك جمهور الفقهاء.


المبحث الثاني: في تقسيمه إلى الرجعي والبائن

ينقسم الطلاق باعتبار إمكان الرجعة بعده من غير عقد جديد وعدم إمكانها إلى رجعي وبائن:

فالرجعي: هو الذي يملك الزوج بعد إيقاعه إعادة مطلقته في عدتها إلى الزوجية من غير حاجة إلى عقد جديد رضيت بذلك الزوجة أو لا.

والبائن: هو الذي لا يملك بعده الزوج إعادة الزوجية بالرجعة. وهو نوعان :

-1 بائن بينونة صغرى. وهو الذي يستطيع إعادة المطلقة بعده بعقد جديد سواء كان ذلك في العدة أو بعدها.

-2 بائن بينونة كبرى. وهو الذي لا يستطيع إعادتها إلا بعد تزوجها بزوج آخر ويدخل بها وينتهي زواجه بطلاق أو بموت.

ما يقع به كل من الرجعي والبائن:

مذهب الحنفية بكل لفظ صريح بعد الدخول الحقيقي إذا كان مجرداً عن وصفه بما يفيد البينونة كوصف الشدة أو القوة أو الطويلة أو البينونة أو تملكين بها نفسك ولم يكن على مال أو مكملاً للثلاث.

وكذلك كل لفظ من ألفاظ التي لا تفيد فصل الزوجية، كاعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة إذا نوى بها الطلاق.

ويقع البائن بما سوى ذلك في الحالات الآتية:

-1 إذا كان قبل الدخول بأي لفظ ولو بعد الخلوة الصحيحة وإن وجبت عليها العدة لأنها وجبت للاحتياط للمراجعة.

-2 إذا كان بلفظ صريح موصوف بما يفيد البينونة كأنت طالق طلقة قوية أو شديدة أو بائنة أو تملكين بها نفسك أو أشد الطلاق أو مثل الجبل.

-3 إذا كان في مقابلة عوض عن المرأة، لأنها لم تدفع العوض إلا لتخلص لها نفسها.

-4 إذا كان مكملاً للثلاث سواء كان مفرقاً أو مجموعاً بتكراره في مجلس واحد أو مقترناً بالعدد لفظاً إو إشارة.

-5 إذا كان بلفظ من ألفاظ الكناية التي تفيد الشدة أو القوة، كانت: بائن أو خلية أو برية أو بتة أو إلحقي بأهلك إذا نوى بها الطلاق.

وبهذا لا يكون مناط الرجعية أو البينونة كون اللفظ صريحاً أو كناية، لأن من الصريح ما يكون رجعياً وما يكون بائناً، وكذلك الكناية.

أحكام الطلاق الرجعي والبائن:

إذا كان عقد الزواج يترتب عليه جملة من الآثار. منها ملك الزوج الاستمتاع بزوجته، وثبوت التوارث بين الزوجين، وأن الزوج يملك تطليق زوجته ثلاث تطليقات فتبقى الزوجة حلالاً لزوجها مالم يستنفذ الطلقات الثلاث يجوز له أن يعقد عليها بعد طلاقها الأول والثاني.

فما أثر الطلاق في تلك الآثار؟

لا شك أن تلك الآثار تتأثر بالطلاق غير أن الأثر يختلف باختلاف نوع الطلاق.

فالطلاق الرجعي لا يوثر في الرابطة الزوجية ما دامت العدة موجودة، فملك الاستمتاع باق للزوج فله معاشرتها معاشرة الأزواج ويكون ذلك رجعة له عند الحنفية، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر ولا يحل مؤخر الصداق، لأن الزواج لم ينته بعد، فإذا انتهت العدة انتهى ملك الاستمتاع وحل مؤخر الصداق وانتهى سبب التوارث، لكن حل هذه المرأة باق يجوز لمطلقها أن يعقد عليها في أي وقت ما لم تتزوج غيره. غير أن الرجل يصبح بعدها لا يملك تطليقها إلا مرتين فقط بعد أن كان يملك ثلاثاً، وعلى ذلك لا يكون للطلاق الرجعي أثر إلا نقصان عدد الطلقات التي يملكها الزوج، وتحديد أمد الزوجية بمدة العدة بعد أن كانت دائمة غير محدودة، فإذا ما انتهت العدة بانت منه المرأة وانتهى ملكه ولا يجوز له قربانها إلا بعد عقد جديد، وهذا معنى قول الفقهاء : إن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل ما دامت العدة قائمة.

أما الطلاق البائن بينونة صغرى فيظهر أثره في الأمور الآتية:

-1 أنه يزيل ملك الاستمتاع. فلا يحل له منها شيء إلا إذا أعادها بعقد جديد، ومن هنا لا يزيل حل المرأة حيث لم يوجد سبب يحرمها عليه، فيجوز له العقد عليها في أي وقت في العدة أو بعدها، وهذا معنى قول الفقهاء : إن الطلاق البائن بينونة صغرى يزيل الملك لا الحل.

-2 يحل به مؤخر الصداق المؤجل.

-3 يمنع التوارث إذا مات أحدهما في أثناء العدة لانتهاء سبب الإرث وهو الزوجية إلا إذا كان الطلاق في مرض موت الزوج بقصد الفرار من ميراثها فإنها ترثه إذا مات قبل انقضائها.

-4 ينقص به عدد الطلقات.

أما البائن بينونة كبرى فإنه يقطع الزوجية ولا يبقى لها أثر بعده إلا العدة وأحكامها، فيحل مؤخر الصداق ويمنع التوارث إلا إذا كان الطلاق بقصد الفرار من الميراث، وتحرم على المطلق تحريماً مؤقتاً فلا يحل له أن يعقد عليها إلا بعد أن تتزوج زوجاً آخر ويدخل بها ثم تنتهي هذه الزوجية بالموت أو الطلاق، وهذا معنى قولهم: إن البائن بينونة كبرى يزيل الأمرين الملك والحل معاً بمجرد وقوعه لكنه زوال مؤقت.


المبحث الثالث: في الرجعة

تعريف الرجعة: هي استدامة الزوجية القائمة بالقول أو بالفعل أثناء العدة. وإنما كانت الرجعة استدامة للزوجية، لأن الطلاق الرجعي لا يؤثر في عقد الزواج إلا بتحديده بمدة العدة، فإذا راجع الزوج زوجته فقد ألغى عمل الطلاق في هذا التحديد واستدام الزواج بعد أن كان على وشك الانتهاء.

من له حق الرجعة من الزوجين:

الرجعة حق أثبته الشارع للزوج وحده في فترة العدة إن شاء استعمله رضيت الزوجة أو لم ترض وإن شاء تركه، لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] بعد أمر النساء بالتربص مدة العدة، فقد جعل أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة العدة إذا رأوا في الرجعة مصلحة، فإذا لم يجد الزوج فيها مصلحة تركها بلا مراجعة حتى تنتهي عدتها فتبين منه.

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في قصة طلاق ابنه عبد الله لزوجته وهي حائض: "مره فليراجعها"، وإذا ثبت هذا الحق للزوج لا يملك إسقاطه بالقول أو التنازل عنه. كأن يقول بعد طلاقها: أسقطت حقي في الرجعة أو لا رجعة لي عليك، فإن فعل ذلك لا يسقط حقه وله مراجعتها بعد ذلك، لأن الشارع جعل الرجعة حكماً من أحكام الطلاق الرجعي وأثراً من آثاره بترتيبها عليه في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فلو أسقطه المطلق كان مغيراً لما شرعه الله، ولا يملك أحد ذلك التغيير.

ما تتحقق به الرجعة:

تتحقق الرجعة بأحد أمرين، بالقول وما يقوم مقامه من الكتابة أو الإشارة، وبالفعل. أما الرجعة بالقول فتكون بالألفاظ الصريحة، وهي التي لا تحتمل غير الرجعة، نحو راجعت زوجتي أو أمسكتها أو رددتها إلى عصمتي، أو يقول مخاطباً لها راجعتك أو أمسكتك أو رددتك.

وهذه الألفاظ لا تحتاج إلى النية لصراحتها، وتتحقق الرجعة بهذه الألفاظ باتفاق الفقهاء:

ذهب الحنفية: إلى أنها تكون بلفظ من ألفاظ الكناية وهي التي تحتمل الرجعة وغيرها. كقوله لها: أنت امرأتي، أو أنت عندي كما كنت إذا نوى بها الرجعة أو دل الحال على إرادتها، لأن اللفظ الأول يحتمل أنها بمنزلة امرأته في الإكرام والمعزة، والثاني يحتمل الرجعة وأنها كما كانت قبل الطلاق في رعايته لها وعنايته بها.

ويقوم مقام اللفظ في تحقيق الرجعة الكتابة على الصورة التي بيناها في الطلاق وكذلك الإشارة من العاجز عن النطق كالأخرس.

وأما الرجعة بالفعل فتكون بكل فعل يوجب حرمة المصاهرة من المخالطة الجنسية ومقدماتها من اللمس والتقبيل بشهوة عند الحنفية لأن ذلك يدل على رغبته في بقاء الزوجية.

وزاد الحنفية الفعل من جانبها، فقالوا: إذا قبلته أو لمسته بشهوة وهو يعلم ولم يمنعها كان ذلك رجعة من غير خلاف بين أئمة المذهب.

أما إذ فعلت ذلك بدون علمه كأن فعلته وهو نائم أو خلسة فأبو حنيفة يعتبر ذلك رجعة، لأن فعل ذلك يوجب حرمة المصاهرة لا فرق بين الرجل والمرأة فتكون رجعة حيث لا فارق.

شروط صحة الرجعة:

لا تصح الرجعة إلا إذا توفر فيها الشروط الآتية:

-1 أن تكون بعد طلاق رجعي في أثناء العدة، فإن كان الطلاق بائناً لا تصح، لأن البائن يزيل الملك فتملك نفسها. فلا يملك المطلق إعادتها إلا بعقد رضائي منهما، وإن كان رجعياً وانتهت العدة فلا تصح أيضاً لأن العدة إذا انتهت زالت رجعية الطلاق وأصبح بائناً فيقفل باب الرجعة.

-2 أن تكون الرجعة منجزة غير معلقة ولا مضافة إلى زمن مستقبل لأنها استدمة النكاح فتكون شبيهة به، وكما لا يصح التعليق والإضافة في إنشائه لا يصح في استدامته، فلو قال لها: إن لم أتزوج في هذا الشهر فقد راجعتك، أو إن حضر أبوك فقد راجعتك لا تصح الرجعة، وكذلك لو قال لها: راجعتك في أول الشهر القادم.

-3 يشترط الحنفية في الرجعة بالقول أن يكون المراجع أهلا لمباشرة عقد الزواج، فلا تصح من المجنون أو النائم أو المغمى عليه، وكذا السكران على التفضيل السابق عندهم، وتصح مع الإكراه أو الهزل، أما الرجعة بالفعل فلا يشترط فيها ذلك، فلو طلقها ثم جن أو أصابه عته أو سكر ثم فعل بها فعلا يوجب حرمة المصاهرة كان ذلك رجعة.

ولا يشترط في صحة الرجعة الإشهاد عليها عند جمهور الفقهاء منهم الحنفية، فتصح وإن لم يشهد عليها أحداً، لكنه يستحب الإشهاد لئلا تكون عرضة للإنكار من جانب الزوجة بعد انقضاء عدتها ولا يستطيع إثباتها، ودفعاً للتهمة عنه فيما إذا علم الناس بطلاقها ثم راجعها بدون إشهاد فإنه يكون عرضة للاتهام بأنه يعاشرها بغير زواج.

كما لا يشترط إعلام الزوجة بها وإن كان يندب إعلامها حتى لا تقع في محظور بأن تتزوج غيره بعد انتهاء عدتها أو يقع بينهما النزاع فيها بعدها.


المبحث الرابع: في زواج التحليل

قدمنا أن الطلاق البائن بينونة كبرى تحرم به المرأة على مطلقها تحريماً مؤقتاً حتى تتزوج زوجاً آخر ويدخل بها دخولاً حقيقياً لأن القرآن جعل زواجها بغيره غاية التحريم {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} وجاءت السنة وبينت المراد من النكاح، وهو أنه ليس مجرد العقد، بل العقد الذي يتبعه دخول حقيقي فيما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فأبت طلاقي فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، ولأن ربط حلها بزواجها غيره قصد به الزجر عن الطلاق والتأني فيه، ولا يتحقق الزجر بمجرد العقد لأن النفس تقبله ولا تأنف منه، فكان لابد من الدخول الحقيقي.

وإذا كان الشارع شرط في الحل النكاح فلا يكون إلا النكاح الصحيح، فإذا كان العقد فاسداً لا تحل به ولو كان بعده دخول، وكذلك إذا كان صحيحاً ولم يكن معه دخول حتى ولو كان معه خلوة صحيحة.

والأصل في الزواج الصحيح أن يكون قائماً على الرغبة من الجانبين للعيش الدائم وتكوين الأسرة فلو قيد بوقت معين كان فاسداً.

ولكن الناس فهموا هذا الأمر على غير حقيقته. فظنوا أن زواج الزوج الثاني ليس مقصوداً لذاته، وإنما قصد به تحليل المرأة لزوجها الأول فكان ما يحدث كثيراً أن يقع هذا الزواج بقصد التحليل إما بمجرد النية والقصد عند العقد من غير أن يصدر منهما كلام يدل على ذلك القصد، وإما مع اشتراط أثناء العقد أو قبله. كأن يقول لها: تزوجتك على أن أحلك لمطلقك مما جعل الفقهاء يبحثون في هذا العقد من جهة صحته وأنه يحقق التحليل أو لا، وإليك إجمال آراء الفقهاء فيه:

ذهب المالكية والحنابلة إلى أن زواج التحليل فاسد لا فرق بين ما اشترط فيه التحليل في العقد أو قبله أو بعده وبين ما نوى فيه فقط بدون اشتراط، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له"، فهذا يدل على أن عقد التحليل غير صحيح على أي وجه وقع لعدم التفصيل.

وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله. فقد روى عن عمر أنه كان يقول: "لا أوتي بمحلل ولا بمحللة إلا رجمتهما بالحجارة" والرجم بالحجارة لا يكون إلا على الزنا.

وروى نافع عن ابن عمر أن رجلاً قال له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم تعلم قال: إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولأن زواج التحليل زواج مؤقت، وهو غير صحيح لأنه لا يحقق الأغراض التي من أجلها شرع الزواج.

وذهب الحنفية والشافعية إلى تفصيل في المسألة بين ما إذا كان التحليل مجرد نية لم يوجد ما يدل عليها أثناء العقد وبين ما إذا كان مشروطاً فيه.

فإن كان منوياً فقط صح العقد وأفاد الحل إذا تم على الوجه المرسوم شرعاً لعدم وجود ما يؤثر في العقد بالفساد.

أما إذا شرط فيه فذهب الشافعية إلى فساد العقد لوجود الشرط الفاسد الذي يقتضي فساد العقد.

وذهب أبو حنيفة إلى أن هذا الزواج صحيح، لأن هذا شرط فاسد، والزواج لا يفسد بالشروط الفاسدة، فيلغو الشرط وحده ويبقى العقد صحيحاً، ولكنه يكون مكروهاً لحديث "لعن الله المحلل والمحلل له".

وإذا كان العقد صحيحاً فللزوج الثاني البقاء مع زوجته لا يستطيع أحد جبره على مفارقتها، فإذا فارقها باختياره أو مات عنها وانتهت عدتها حلت للأول بهذا الزواج.


المبحث الخامس: في طلاق المريض مرض الموت

الطلاق حق للزوج يوقعه في أي وقت إذا وجد ما يقتضيه صحيحاً كان أو مريضاً ما دامت أهليته للتصرف موجودة، فإنه لا حجر عليه في ذلك.

فإن طلقها طلاقاً رجعياً ومات وهي في العدة ورثته بلا خلاف لقيام الزوجية حكماً وهي سبب للإرث يستوي في ذلك الطلاق في الصحة أو المرض.

وإذا طلقها طلاقاً بائناً بينونة صغرى أو كبرى انقطعت الزوجية فلا ميراث لها مات في العدة أو بعدها إذا كان الطلاق في حالة الصحة أو المرض العادي الذي لا يسلم إلى الموت.

أما إذا كان الطلاق في مرض الموت فأكثر الفقهاء على أنها ترثه لأنه يعتبر فاراً من ميراثها في هذه الحالة فيعامل بنقيض مقصوده، وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وإنما كان من مواضع اجتهادات الصحابة رضوان الله عليهم.

تعريف مرض الموت: إن المرض الذي يغلب فيه الهلاك عادة ويتصل به الموت سواء أكان بسببه أم كان بسبب آخر.

واختلف الفقهاء في أماراته: فمن قائل: هو الذي يعجز صاحبه عن العمل، ومن قائل: هو الذي يلزم صاحبه الفراش، أو الذي لا يستطيع صاحبة المشي إلا بمعين غير ذلك، والمرجع في بيان ذلك الآن إلى رأي الأطباء بعد تقدم الطلب ووضوح التمييز بين الأمراض وأيها يقبل الشفاء وأيهما لا يقبلها.

وقد ألحق فقهاء الحنفية بالمريض مرض الموت في أحكامه كل من كان صحيحاً في حالة يغلب فيها الهلاك عادة كالمحكوم عليه بالإعدام ولا أمل في براءته وحجز لتنفيذ الحكم عليه إذا طلق زوجته بائناً وتوفي قبل تنفيذ الحكم عليه أو بعده قبل انتهاء عدة زوجته، ومن كان في معركة حربية ووقف في الصف الأول للقتال أو في موضع الخطر، أو كان في سفينة اجتاحها الأمواج من كل جانب، أو كان في بلد عمه الوباء القاتل إذا توفى في هذه الحالة.

يقول الحنفية: إن المريض مرض الموت ومن في حكمه إذا طلق زوجته طلاقاً بائناً ومات قبل أن تنتهي عدتها ورثته، لأنه يعتبر فاراً من ميراثها فيعامل بنقيض مقصوده كالقاتل لمورثه الذي حرمه الشارع من ميراثه، أما إذا توفيت هي في العدة فلا ميراث له منها لأنه فوت على نفسه الميراث بهذا الطلاق لكنهم اشترطوا لاعتباره فاراً فراراً موجباً للإرث شروطاً إذا تحققت ثبت لها الإرث، وإذا تخلفت كلها أو بعضها لم يكن فاراً فلا ميراث لها.

-1 أن يكون الطلاق البائن بعد الدخول، فلو كان قبله فلا عدة عليها، وكذلك إذا طلقها بعد الخلوة الصحيحة فإنه وإن وجبت به العدة لكن وجوبها للاحتياط محافظة على الأنساب، والميراث حق مالي لا يثبت احتياطاً.

-2 أن تكون الزوجة أهلاً للميراث من زوجها وقت طلاقها وتظل على ذلك إلى وفاته، فلو لو تكن أهلاً للميراث وقت الطلاق، كأن كانت كتابية ثم أسلمت في عدتها قبل موته فلا إرث حيث لا فرار، أو كانت أهلاً للميراث عند الطلاق ثم زالت تلك الأهلية. كأن كانت مسلمة عند الطلاق ثم ارتدت عن الإسلام فلا ميراث أيضاً وإن رجعت إليه قبل وفاته، لأنها بردتها أسقطت حقها في الميراث فلا يعود بإسلامها بعد ذلك، لأن الساقط لا يعود.

-3 ألا تكون الزوجة راضية بهذا الطلاق، فلو تحقق رضاها بأن كانت هي التي سألته الطلاق أو افتدت نفسها منه بالمال لا ترث، لأن رضاءها بالفرقة ينفي مظنة فراره من ميراثها.

ولو أكرهت على طلب الطلاق فأبانها أو طلبت منه طلاقاً رجعياً فأبانها كان فاراً ولها الميراث ومثل ذلك لو قالت له: طلقني فأبانها لأنها طلبت مطلق الطلاق الذي ينصرف إلى الرجعي فهي لم ترض بالبائن.

-4 ألا يكون الزوج مكرهاً على هذا الطلاق، لأنه مع الإكراه لا يتحقق رضاه به فلا يكون فاراً.

-5 أن يموت في مرضه الذي أوقع الطلاق فيه وهي في العدة، فإذا انقضت عدتها قبل وفاته فلا ميراث لها لانعام سببه.

وكما يتحقق الفرار من الميراث من الزوج يتحقق أيضاً من المرأة، وحينئذ تعامل بنقيض مقصودها ويرثها الزوج إذا مات قبل انتهاء عدتها، كما إذا فسخ الزواج بسبب من جهتها وهي مريضة مرض الموت أو في حكم المريضة، بأن فعلت مع أحد أصوله أو فروعه ما يوجب حرمة المصاهرة أو كان الزوج فوض إليها الطلاق فأبانت نفسها في مرض موتها. لكنها لا ترثه إذا مات في عدتها لأنها فوتت على نفسها حق الميراث بقطع وصلة النكاح.


الباب الرَّابع: في الإنابة في الطلاق

وهذه الإنابة نوعان:

توكيل: وهو أن يقيم الزوج غيره مقام نفسه في تطليق امرأته وهو لا يكون إلا لأجنبي سواء صدر بلفظ الوكالة أو غيرها كطلق امرأتي، لأن المرأة لا تكون وكيلة في تطليق نفسها حيث إن الوكيل يعمل للغير، أما المرأة التي تطلق نفسها فهي عاملة لنفسها، فتوكيلها يكون تفويضاً لها أي تمليكها الطلاق.

وتفويض: وهو تمليك الغير الطلاق، وهو يكون للزوجة بأي لفظ يفيده ولو كان بلفظ الوكالة، ويكون للأجنبي إذا علق إنابته على مشيئة ذلك الغير كقوله له: طلق امرأتي إن شئت.

ومن هنا عرف فقهاء الحنفية تفويض الطلاق: بأنه تمليك الزوج زوجته حق تطليق نفسها أو تمليك غيرها هذا الحق بلفظ يفيده كما إذا علقه على مشيئته.

والفرق بين التفويض والتوكيل يظهر في أمور:

-1 أن الزوج المفوض لا يملك الرجوع بعد التفويض، لأن تفويض الطلاق في معنى إنشاء طلاق معلق على إرادة المفوض إليه واختياره، والمعلق من الطلاق كالمنجز لا يجوز الرجوع عنه، فلو قال الزوج بعد التفويض: قد رجعت أو عزلتك لا يكون مانعاً للمفوض إليه من إيقاع الطلاق، أما الموكل فيملك الرجوع وعزل الوكيل بالقول قبل أن يوقع الطلاق، وكذلك بالفعل بأن يخالط امرأته مخالطة جنسية، فإذا قال أو فعل ذلك بطل التوكيل.

-2 أن التفويض لا يبطل بجنون الزوج بخلاف التوكيل فإنه يبطل به حيث أن الوكيل يعمل لموكله ويتصرف فيما يملكه، فإذا بطلت أهلية الموكل بطلت تصرفاته، فلم يبق للوكيل سلطان يتصرف به.

-3 أن التفويض يتقيد بالمجلس إذا كان مطلقاً عن التقييد بوقت معين أو بعمومه في جميع الأوقات فإذا انتهى المجلس دون إيقاع الطلاق من المفوض إليه بطل التفويض، بخلاف التوكيل فإنه لا يتقيد بالمجلس، فله أن يطلق في المجلس وبعده إلى أن يعزله الموكل إلا إذا قيده به.

-4 إن التفويض يتم بعبارة المفوض ولا يحتاج إلى قبول من المفوض إليه، أما التوكيل فلا بد لتمامه من القبول من الوكيل.

ومن هنا قالوا: إن المفوض يعمل بمشيئة نفسه وعلى حسب اختياره لأنه يملك ما فوض فيه وله الخيار في الفعل وعدمه، والوكيل يعمل بمشيئة الموكل وعلى حسب ما يراه موكله فهو مكلف أن يفعل ما وكل به وليس له اختيار أن يفعل وأن لا يفعل بعد قبوله الوكالة، وهو لا يكون ممتثلاً إلا إذا فعل ما وكل به.

والملكية التي يفيدها التفويض ليست ملكية خالصة تنقل الحق من مالك إلى آخر، لأنها لا تسلب الزوج حقه في التطليق، بل لا تزال ملكيته قائمة بعد التفويض لأن ملك الطلاق حكم من أحكام الزواج وهو قائم فيبقى حقه في الطلاق قائماً، فله بعد أن يفوض الطلاق إلى غيره أن يطلق زوجته فهو ليس تمليكاً محضاً كسائر التمليكات الأخرى بل لا يزال فيه شبه بالتوكيل، ولو قلنا إنه وسط بين التمليك والتوكيل أو أنه خليط منهما لما بعدنا عن الحقيقة.

صيغة التفويض:

أكثر ما يكون التفويض للمرأة، وهو تمليك لها سواء كان بلفظ الوكالة أو بغيره.

وصيغة التفويض إما أن تصدر مطلقة عن التقييد أو مقيدة بوقت معين، كطلقي نفسك في مدة شهر من الآن، أو مقترنة بما يفيد التعميم. كطلقي نفسك متى شئت، فإن كان مقيداً بوقت تقيد به، فإذا مضى الوقت بطل التفويض فلا تملك تطليق نفسها بعد ذلك الوقت حتى ولو فوض إليها وكانت غائبة ولم تعلم بالتفويض إلا بعد انتهاء مدته، وإن كان مقيداً بما يفيد الدوام ثبت على الدوام. فلها أن تطلق نفسها في أي وقت ما دامت الزوجية قائمة ما لم ترده، وإن كان مطلقاً عن التقييد بشيء منهما تقيد حقها بالمجلس إذا كانت حاضرة، وبمجلس علمها به إذا كانت غائبة، فإذا انتهى المجلس انتهت معه ملكية المفوض إليه حق الطلاق، وكذلك بردها إياه وإعراضها عنه، لأن التفويض تمليك، والتمليك يقتضي جواباً في المجلس كما في عقد الزواج، ولأن المأثور عن الصحابة أنهم جعلوا الخيار للمخيرة مدة مجلسها ينتهي بانتهائه.

وقت التفويض:

التفويض قد يكون بعد تمام عقد الزواج، وهذا صحيح إذا وقع ترتبت عليه آثاره بلا خلاف، وقد يكون قبل العقد أو مقارناً له.

فإذا كان قبل العقد، كأن يقول الرجل للمرأة: إن تزوجتك فأمرك بيدك تطلقين نفسك متى شئت ثم تزوجها، كان لها حق تطليق نفسها متى شاءت عند الحنفية، لأنهم يجوزون تعليق الطلاق على الزواج، وهذا التفويض تعليق للطلاق على الزواج ومشيئتها الطلاق حيث لا فرق بين قول الرجل إن تزوجتك فأنت طالق وقوله: إن تزوجتك فأنت طالق إن شئت.

وإذا كان مقارناً للعقد صح إذا صدر إيجاب عقد الزواج من المرأة مشروطاً بتفويض الطلاق إليها وقبل الزوج ذلك، كأن تقول المرأة للرجل: تزوجتك على أن أطلق نفسي متى شئت فيجيبها بقوله قبلت، فيصبح العقد ويكون لها حق تطليق نفسها متى شاءت، أما إذا بدأ الرجل بالإيجاب مشروطاً بتفويض الطلاق إلى المرأة. كأن يقول لها: تزوجتك على أن تطلقي نفسك متى شئت، وتقول له قبلت. فإنه يصح العقد ويبطل التفويض، لأنه فوض إليها الطلاق قبل أن يتم العقد فيكون قد ملكها طلاقاً لم يملكه بعد، بخلاف الصورة الأولى فإن قبول الرجل كان للزواج أولاً ثم للشرط المتضمن للتفويض ثانياً، فكان التفويض واقعاً بعد تمام العقد وبتمام العقد يملك الطلاق فيقع تمليكه لها صحيحاً.

ألفاظ التفويض:

عدَّ الحنفية للتفويض إذا كان للزوجة ألفاظاً ثلاثة : طلقي نفسك وأمرك بيدك واختاري، وهذه الألفاظ منها الصريح وهو اللفظ الأول، والكناية وهي الثاني والثالث. والصريح لا يحتاج إلى نية لا من الزوج ولا من الزوجة عند إيقاعها الطلاق، وأما الكناية فلا يثبت بها التفويض إلا مع النية أو ما يقوم مقامها من القرائن أو دلالة الحال، وكذلك لا يقع بها الطلاق من المفوض إليه إلا بالنية أو ما يقوم مقامها، لأن الطلاق الذي يصدر من الزوجة بمقتضى التفويض يقع به ما يوقعه الزوج، لأنه ملكها ما يملكه باللفظ الذي أصدر منه لها.

ولهذا قرروا أنه يقع بالصريح طلقة واحدة رجعية إلا إذا كان قبل الدخول وكان التفويض في مقابلة مال فإنه يقع بائناً وإن كان مكملاً للثلاث وقعت به بينونة كبرى.

ويقع بالكناية طلاقاً بائناً لأنه لا يتم لها اختيارها لنفسها أو يكون أمرها بيدها إلا بالبينونة، وإذا نوى به الثلاث وقع إذا كان بلفظ أمرك بيدك، أما في اختياري فلا تصح نية الثلاث غير أنه يشترط في إيقاع الطلاق بلفظ اختاري أن يذكر الزوج أو المرأة أحد لفظين إما النفس أو الاختيارة بأن يقول لها الزوج: اختاري نفسك أو يقول لها: اختاري فتقول: اخترت اختيارة، لأن ذكر اختيارة يقوم مقام ذكر النفس، وكذلك لو قالت اخترت أبي أو أمي أو أهلي فإنه يقوم مقام النفس فيقع به البائن، أما إذا قال لها اختاري فقالت اخترت لا يقع به شيء.

ما يملكه المفوض إليه بالتفويض:

وليس لها أن تطلق نفسها بالتفويض إلا مرة واحدة إلا إذا صدر التفويض بصيغة تدل على التكرار، كأن يقول لها: طلقي نفسك كلما شئت، أو قال لآخر طلق زوجتي كلما شئت.


الباب الخامِس: في الطلاق بعوض "الخلع"

وفيه مباحث:


المبحث الأول: في التعريف بالخلع وتكييفه الفقهي

الخَلع بفتح الخاء يستعمل في الأمور الحسية كخلع ثوبه خلعاً أزاله عن بدنه، وفي الأمور المعنوية كخلع الرجل امرأته خلعاً إذا أزال زوجيتها، وخلعت المرأة زوجها مخالعة إذا افتدت منه.

والخلع بالضم يستعمل في الأمرين أيضاً لكن الخلاف في أنه حقيقة في إزالة الزوجية أو مجاز باعتبار أن المرأة لباس للرجل وبالعكس "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"، هذا وقد قال الفقهاء: إن العرف خص استعمال الخلع بالفتح في إزالة غير الزوجية، والخلع بالضم في إزالة الزوجية، وعرفه فقهاء الحنفية بأنه: إزالة ملك النكاح بلفظ الخلع أو ما في معناه نظير عوض تلتزم به الزوجة.

وهذا التعريف يفيد أن الخلع عندهم لا يتحقق إلا إذا توفرت فيه الأمور الآتية:

-1 أن يكون ملك المتعة قائماً حتى يمكن إزالته. بقيام الزوجية حقيقة أو حكماً، فإذا لم تكن قائمة لا يتحقق كما لا يكون في النكاح الفاسد خلع لأنه لا يفيد ملك المتعة.

-2 أن يكون بلفظ الخلع أو ما في معناه كالإبراء والافتداء، كأن يقول لها: خالعتك على كذا أو بارأتك على كذا أي فارقتك على كذا، أو افتدي نفسك بكذا، وتقول المرأة: قبلت، ولو قال لها: طلقتك على مائة مثلاً لم يكن خلعاً بل طلاقاً على مال، والخلع والطلاق على مال يختلفان في بعض الأحكام فكان لابد من التمييز بينهما في الصيغة التي يقع بها كل منهما.

-3 أن يكون في نظير عوض من جهة الزوجة سواء كان مالاً أو غير مال كما سيأتي تفصيله فإن ذكر العوض فالأمر ظاهر، وإن لم يذكر بأن قال لها: خالعتك أو بارأتك فقط يرجع إلى نيته فإن نوى به الخلع وقع وانصرف البدل إلى مهرها وتوقف على قبولها، وإن نوى به الطلاق كان طلاقاً بائناً بدون توقف على قبول الزوجة، وإن لم ينو به شيئاً ولم توجد قرينة تدل على إرادة أحدهما لا يقع به شيء.

-4 رضا الزوجة به إذا صدر من الزوج، ورضا الزوج إذا صدر من الزوجة، لأنه ليس إسقاطاً محضاً كما في الطلاق المجرد بل فيه معنى المعارضة وبخاصة من جهة المرأة، فلو صدر من الزوج ولم تقبل الزوجة لا يقع به شيء، وكذلك لو قالت المرأة خالعني على مائة مثلاً ولم يقبل الزوج.

أبو حنيفة يرى أن الخلع يعتبر يميناً من جانب الزوج لأن الزوج الذي يقول لزوجته خلعتك على مائة دينار يكون هذا القول منه تعليقاً للطلاق على قبولها دفع المائة، وكأنه قال لها : إن دفعت مائة دينار خلعتك، والتعليق يسمى يميناً في اصطلاح الفقهاء، ولهذا يأخذ الخلع أحكام اليمين بالنسبة للزوج، ويكون معوضة من جهة المرأة، لأنها بقبولها التزمت بما أوجبه الزوج في نظير افتداء نفسها وخلاصها من قيود الزوجية، وكأنها قالت رضيت أن اشتري عصمتي منك بهذا البدل غير أنها ليست معاوضة خالصة بل لها شبه بالتبرعات لأن المعاوضات الخالصة يكون كل من البدلين مالاً أو شيئاً يقوم بالمال، وما يخلص للمرأة في نظير المال ليس إلا خلاص نفسها وهو ليس بمال ولا في حكم المال، ولهذا يأخذ الخلع أحكام المعاوضات بالنسبة للزوجة.

وقد انبنى على اعتبار الخلع يميناً من جانب الزوج الأحكام الآتية:

-1 إذا صدر إيجاب الخلع من جانب الزوج بأن قال لها: خالعتك على مائتي دينار فليس له أن يرجع عن هذا الإيجاب قبل قبول الزوجة، لأن قوله في معنى تعليق الطلاق، والطلاق المعلق كالمنجز لا يصح الرجوع عنه.

-2 إنه لو قام من المجلس الذي أوجب الخلع فيه قبل قبول الزوجة لا يبطل إيجابه فلو قبلت في مجلسها بعد قيامه تم به الخلع لأنها مقيدة بمجلسها هي، ولأن قيامه يعتبر رجوعاً عن الإيجاب دلالة، وإذا لم يملك الرجوع صراحة لا يملكه دلالة من باب أولى.

-3 يجوز للزوج أن يعلق الخلع على أمر سيحدث في المستقبل أو يضيفه إلى زمن مستقبل. كأن يقول لها: إن تزوجت عليك فقد خالعتك على كذا، أو خالعتك على كذا غداً فقبلت عند تحقق الشرط أو مجيء الغد تم الخلع، أما إذا قبلت قبل تحقق الشرط أو مجيء الوقت المضاف إليه يكون قبولها لغواً، لأن التعليق بالشرط والإضافة إلى الوقت إيجاب عند وجود الشرط والوقت.

-4 لا يجوز له أن يشترط الخيار لنفسه في الخلع، كأن يقول لها: خالعتك على كذا على أنى بالخيار ثلاثة أيام، لأن الخلع يمين من جانبه والخيار لا يكون في الأيمان لأنه لا يملك الرجوع فيها، أو أنه إسقاط من جانبه والإسقاطات لا تقبل الخيار.

وانبنى على اعتباره معاوضة من جانب الزوجة الأحكام الآتية:

-1 أن الزوجة لو ابتدأت بالإيجاب في الخلع جاز لها أن ترجع عنه قبل قبول الزوج، لأن الإيجاب في المعاوضات يصح فيه الرجوع قبل قبول الطرف الآخر.

-2 إذا ابتدأت هي بالمخالعة تقيدت بالنظر إلى كل منهما، فلو قام أحدهما من المجلس قبل تمام الخلع بطل، فإذا قامت قبل قبول الزوج بطل إيجابها، لأن المجلس قد انتهى بقيامها حيث تبطل المعاوضات بتفرق المتعاقدين، وكذلك يبطل إيجابها بقيامه قبل قبوله بهذا المعنى، وإذا ابتدأ بالإيجاب كان عليها القبول في المجلس إن كانت حاضرة، وفي مجلس علمها بالخلع إن كانت غائبة، فلو قامت منه ثم قبلت لا يتم الخلع لأن هذا شأن المعاوضات.

-3 لا يجوز لها أن تعلق الخلع على شرط أو تضيفه إلى زمن مستقبل، لأن المعاوضات لا تقبل واحداً منها.

-4 يجوز لها أن تشترط لنفسها الخيار سواء كانت هي الموجبة، كأن قالت: اختلعت منك بكذا ولي الخيار ثلاثة أيام، أو كانت قابلة: كأن قال لها: خالعتك على كذا. فقالت قبلت ولي الخيار ثلاثة أيام. وفي كلتا الحالتين لها أن ترفض الخلع في تلك المدة أو تقبله فيها فإن رفضته بطل الخلع ولا يلزمها البدل، وإن قبلته فيها أو مضت المدة بدون قبول أو رفض تم الخلع ولزمها البدل عند الإمام. وكذلك لو شرط لها الخيار وقبلته. هذا ما يترتب على كون الخلع من جانبها معاوضة، أو كونها تشبه التبرعات فيترتب عليها أنه لا بد أن تكون من أهل التبرعات بأن تكون بالغة عاقلة غير محجور عليها.


المبحث الثاني: هل يجوز الرجوع عندهم؟

إذا صدر الإيجاب منه لا يصح له الرجوع عنه في كل من الخلع والمبارأة قبل قبول الزوجة، ولا يبطل بقيامه من المجلس قبل قبولها ولكنه يبطل بقيامها منه، أو إعراضها عنه، وإذا بطل لا يترتب عليه أثر إلا إذا ذكر لفظ الطلاق معه فإنه يقع به الطلاق دون أن يلزمها البدل لأنه أصبح طلاقاً مجرداً بإعراضها عنه.

أما إذا صدر الإيجاب منها فلها الرجوع عنه قبل قبول الزوج لما فيه من معنى المعاوضة منها، وإذا تم الخلع كان لازماً بالنسبة للزوج ليس له أن يرجع عنه ابتداء، وغير لازم بالنسبة لها فلها أن ترجع في البدل ما دامت في العدة، بشرط أن يعلم برجوعها قبل انقضاء عدتها، فإذا رجعت كان لزوجها أن يرجع تطليقها بشرط ألا يكون تزوج بأختها أو برابعة، فإذا رجع عادت زوجتيه لها كما كانت، وإن لم يرجع بقي الطلاق، ولكن هل يبقى بائناً أو يصير رجعياً؟ رأيان عند الحنفية:

أولهما: يبقى بائناً لأنه حين وقع وقع بائناً فلا يتغير ببطلان العوض.

وثانيهما: أنه يتحول إلى طلاق رجعي لأن الأصل في الطلاق أن يكون رجعياً ما لم يوجد ما يجعله بائناً كالعوض مثلاً. وهنا وقع بائناً لوجود العوض أولاً، فإذا بطل العوض عاد الطلاق إلى أصله وهو الرجعي.


المبحث الثالث: في شروط الخلع

يشترط في الزوج أن يكون أهلاً لإيقاع الطلاق. بأن يكون بالغاً عاقلاً. فكل من لا يصح طلاقه لا يصح منه الخلع، لأن من جاز تطليقه بلا عوض جاز تطليقه بعوض بطريق الأولى، فلا يصح الخلع من الصبي والمجنون والمعتوه. ومن اختل عقله بسبب المرض أو كبر السن، ويشترط في المختلعة أن تكون محلاً للطلاق وأهلاً للتبرع إذا كانت هي الملتزمة ببدل الخلع بأن تكون بالغة عاقلة رشيدة غير محجور عليها، لأن الخلع بالنسبة إليها معاوضة فيها شبه بالتبرعات، وأن تكون راضية غير مكرهة عليه عالمة بمعنى الخلع فإن كانت غير عربية ولقنها زوجها بالعربية كلمات: اختلعت منك بالمهر ونفقة العدة فقالت هذه الكلمات وهي لا تعرف معناها وقبل الزوج طلقت طلاقاً بائناً ولا شيء له من البدل.

خلع من لم تتوافر فيها الشروط لعدم الأهلية أو نقصانها أو الحجر عليها للسفه أو الإكراه، لكل واحدة من هؤلاء أحكام خاصة، وإليك بيانها:

خلع عديمة الأهلية كالصغيرة غير المميزة والمجنونة.

إذا تولت الخلع بنفسها فالخلع باطل لا يترتب عليه أي أثر، لأنه علق خلعها على قبولها. وهو غير معتبر فلم يتحقق الشرط الذي علق عليه الطلاق، أما إذا تولى أبوها الاتفاق مع الزوج على خلعها أو طلاقها في نظير مال التزم به فيقع الطلاق بائناً في الحالتين، لأن الزوج علقه على قبول الأب وقبوله معتبر هنا، ويلزمه المال للزوج، ولا يسقط بهذا الخلع شيء من حقوق الزوجة التي تسقط بالخلع عند أبي حنيفة.

أما إذا قبل الأب الخلع أو الطلاق على مال ولكنه لم يلتزم دفع البدل من مال نفسه بل أضافه في قبوله إلى مال ابنته وقع الطلاق في الخلع بائناً وفي الطلاق على مال رجعياً، لأنه علق على قبوله وقبوله معتبر على أصح الروايتين عند الحنفية ولا يلزم المال لا الأب لأنه لم يلتزم به ولا الصغيرة لأن الأب أضافه إلى مال لا يملك التبرع منه.

خلع ناقصة الأهلية كالصغيرة المميزة:

إذا تولت الخلع بنفسها وهي تفهم معنى الخلع وآثاره وقبلت ذلك وقع عليها طلاق بائن، لأنه علقه على قبولها وما دامت مميزة فقبولها معتبر في حق وقوع الطلاق وإنما وقع بائناً لأنه كناية والكنايات يقع بها البائن.

ولذلك قالوا: إذا طلقها على مال وقبلت وقع به رجعياً إن كانت مدخولاً بها ولم يكن مكملاً للثلاث لكونه صريحاً، ولا يلزمها البدل في الحالين لأنها ليست من أهل التبرع. ومثلها في ذلك السفيهة المحجور عليها يصح خلعها ويقع عليها الطلاق ولا يلزمها المال. وإذا تولى الخلع أبو الصغيرة المميزة أو القيم على المحجور عليها فحكمه على التفصيل السابق في عديمة الأهلية.

خلع المكرهة:

إذا أكرهت الزوجة على الخلع لا يلزمها المال، لأن الالتزام بالمال مع الإكراه غير صحيح بالإتفاق، أما الطلاق فيقع عليها لأنه علق على مجرد قبولها وقد وجد منها القبول ويقع به طلاق بائن عند الحنفية.

خلع الأجنبي:

إذا باشر الخلع أجنبي ليس وكيلاً عن الزوجة ولا ولاية له عليها فإن أضاف البدل إلى نفسه بحيث يفهم منه التزامه به، كأن يقول للزوج: أخلع زوجتك على مائة دينار من مالي مع الخلع ووقع به الطلاق وكان البدل على ذلك الملتزم، وإن لم يضفه إلى نفسه فإن أضافه إلى غيره بأن قال: أخلعها على كذا يلتزم به فلان فإنه يتوقف على إجازة من أضافه إليه. فإن أجازه صح الخلع ووقع الطلاق ولزمه المال ولا دخل للزوجة في هاتين الحالتين فلا يشترط رضاها، لأنه يشترط عندما تكون هي الملتزمة بالبدل، والطلاق من الحقوق التي يستقل بها الزوج، وإن لم يضف البدل إلى أحد توقف الخلع على قبول الزوجة لأنها الأصل في الخلع، فإن قبلت صح ولزمها البدل، وإذا لم تقبل لم يلزمها المال، أما الطلاق ففيه رأيان في المذهب الحنفي.

خلع المريضة مرض الموت:

إذا خلع الزوج زوجته وهي مريضة مرض الموت كان خلعه صحيحاً يقع به الطلاق البائن ويثبت به البدل، وكذلك لو طلقها على مال وقبلت، غير أن هذا البدل لما كان شبيهاً بالتبرع وهو في هذه الحالة يأخذ حكم الوصية لتعلق حق الورثة والدائنين بالتركة من أول المرض الذي كان سبباً للموت فلا ينفذ إلا في حدود ثلث التركة، لأنها لا تملك التبرع بأكثر من الثلث، فإن ماتت الزوجة في مرضها أثناء عدتها، فالحنفية يوجبون للزوج الأقل من أمور ثلاثة: بدل الخلع، وثلث التركة، ونصيبه من الميراث، لو افترض بقاء الزوجية وورثها بالفعل، وإنما وجب له أقل هذه الأمور الثلاثة احتياطاً ومحافظة على حقوق ورثتها لاحتمال أن يكون الزوجان قد اتفقا على الخلع في هذا المرض ليحصل الزوج على أكثر من نصيبه في الميراث لو بقيت زوجيته إلى وقت وفاتها، وفي هذه الحالة لا يجوز لها أن تحابيه بطريق التبرع لأنه وصية وهي لا تجوز للوارث عند الجمهور ولا تنفذ عند الحنفية إلا بإجازة باقي الورثة. أو يحصل على أكثر مما يمكن لها أن تعطيه له بطريق الوصية لو كان غير وارث بأن انقطعت الزوجية قبل وفاتها لتوقف نفاذ الوصية بما زاد على الثلث على إجازة باقي الورثة. فلو وجب كل البدل لأمكن أن يأخذ أكثر مما يستحقه بطريق الميراث لو كان وارثاً ومن ثلث التركة بطريق الوصية لو لم يكن وارثاً، فمعاملة لهما بنقيض مقصودهما وجب له أقل هذه الأمور الثلاثة، وإن ماتت في مرضها بعد انقضاء عدتها يجب له الأقل من بدل الخلع ومن ثلث تركتها لأن احتمال الإرث منتف في هذه الحالة لانقطاع كل آثار الزوجية التي هي سبب الميراث، ولم يبق إلا احتمال محاباته بأكثر مما يستحق بطريق الوصية وهو الثلث، وإن ماتت بعد أن شفيت من مرضها الذي حصل فيه الخلع استحق الزوج الخالع بدل الخلع كله لظهور أن الخلع تم في حالة الصحة.


المبحث الرابع: في بدل الخلع وشروطه

تحت هذا العنوان نتكلم عن أمور ثلاثة:

أولها: ما يصح أن يكون بدلاً للخلع وما يشترط فيه.

ثانيهما: هل يشترط أن يكون مذكوراً في المخالعة؟.

ثالثها: حكم أخذ الزوج لذلك البدل في الأحوال المختلفة.

ما يصح أن يكون بدلاً للخلع وشروطه:

كل ما صح أن يكون مهراً صح أن يكون بدلاً في الخلع ولا تقدير فيه باتفاق الحنفية، فيصح أن يكون من النقدين أو العقار أو المنقول، كما يصح أن يكون ديناً في ذمة الزوج، أو منفعة تقوم بالمال، كما يصح أن يكون الخلع على إرضاع ولدها منه مدة معينة، أو على حضانته المدة المقررة لها دون أن تأخذ منه نفقة عليها، أو على أن تقوم بالإنفاق عليه مدة معينة وعليها الوفاء بذلك، فإن امتنعت عن القيام بما التزمته أو عجزت عن الوفاء به، أو خرجت عن أهلية الحضانة، أو مات الطفل قبل انتهاء مدة الرضاعة أو الحضانة المتفق عليها كان لمن خالعها الرجوع عليها بما يقابل المدة الباقية، لكنها لا تدفعه إليه أقساطاً، كما كان يستحق عليها لو وفت به المدة كلها.

كما أن له الرجوع على ورثتها لو ماتت قبل الوفاء بما التزمته إلا إذا شرطت عليه ألا يرجع عليها بشيء إذا مات الولد أثناء مدة الرضاعة أو الحضانة، وإذا كانت الزوجة التي خالعت على نفقة ولدها معسرة لا تستطيع الإنفاق جاز لها أن تطالب الزوج بالإنفاق من ماله، ويجبر على إجابة طلبها، وكان ذلك ديناً عليها إذا أيسرت، لأن النفقة حق الولد، وهي في الأصل واجبة على الأب، ولكنها انتقلت إلى الأم لما جعلتها بدلاً في خلعها، فإذا عجزت قام الأب مقامها إحياء للولد من الهلاك وليس في ذلك ضرر به لأنه سيرجع عليها بالنفقة عند ميسرتها.

الشروط في بدل الخلع:

يشترط في بدل الخلع إذا كان مالاً: أن يكون متقوماً، فإذا كان غير متقوم لم يلزم الزوجة شيء ويقع الطلاق البائن عند الحنفية.

وصح عند الحنفية وانصرف البدل إلى مهرها إذا لم يمكن تقديره، فإن أمكن وجب المذكور في العقد، وهذا نظير ما لم يذكر بدلاً واللفظ ينبيء عن إيجاب البدل، ووجهه أن الخلع طلاق، وفي الطلاق معنى الإسقاط، لأنه يؤدي إلى إسقاط حق الزواج في المتعة والإسقاطات يدخلها المسامحة، كما يشترط في بدل الخلع ألا يكون فيه عدوان على حق الشارع أو على حق الغير، فإن كان فيه ذلك وجب البدل في حدود ما لا يتضمن العدوان.

فلو خالعها على ألا نفقة لها ولا سكنى صح البدل في النفقة دون السكنى، لأنها حق الشارع عند الحنفية، لما لم يوجبوا لها السكنى فذكرها عندهم وعدم ذكرها سواء، ولو خالعها على أن تبقى حضانتها للصغير إلى وقت بلوغه لم يصح البدل إلا آخر مدة الحضانة المقررة شرعاً وبطل في الباقي، لأن الصغير بعد فترة الحضانة محتاج إلى التربية والتعليم والتخلق بأخلاق الرجل وبقاؤه في حضانة أمه إلى وقت البلوغ عدوان ضار به يجب رفعه شرعاً.

ولهذا قرر فقهاء الحنفية أن الخلع إذا وقع على حضانة الصغيرة إلى البلوغ صح البدل في المدة كلها، وعللوا ذلك بأن بقاءها في حضانة أمها بعد سن الحضانة المقررة شرعاً لا يضر بها لأنها محتاجة إلى أن تعرف آداب النساء وتتعلم شئونهن وتتخلق بأخلاقهن، والنساء أقدر على ذلك من الرجال.

أخذ الزوج البدل ومتى يحل والمقدار الذي يحل أخذه؟

عرفنا أن الخلع مشروع عندما يقع النزاع بين الزوجين المؤدي إلى الشقاق بينهما الذي يخافا معه ألا يقيما حدود الله كما هو صريح القرآن.

لكن هذا الشقاق قد يكون المتسبب فيه الزوج وحده، وقد يكون سببه من قبل الزوجة، وقد يكون منهما معاً، وحل أخذ البدل يختلف باختلاف هذه الأحوال، فإن كان من قبل الزوج فلا يحل له أخذ شيء من الزوجة في نظير فراقها لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20، 21].

فهذا النص الكريم ينهي الزوج عن أخذ شيء مما أعطاه للزوجة عند إرادة الاستبدال، وهذا طبعاً لا يكون إلا عندما تكون الكراهة منه وحده، وأكد النهى بما جاء في آخره {أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً}، وقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]، فإنه نهى الأزواج عن عضل الزوجات بإلحاق الأذى بهن ليكون وسيلة إلى أخذ بعض المهر، لكنه استثنى حالة الإتيان بفاحشة مبينة - التي فسرت بالزنا أو بالنشوز - فأباح فيها الأخذ، وهذا يقتضي أن الأخذ عند عدم السبب منها حرام.

وهنا يقرر جمهور الفقهاء، أن هذا هو حكم الديانة بينه وبين الله المعبر عنه بالحل والحرمة، أما في القضاء فيجوز له الأخذ بناء على حكم القاضي به. لأن الزوج أسقط حقه في نظير عوض رضيت به الزوجة وهو من أهل الإسقاط وهي من أهل المعاوضة، أما إذا كان السبب من قبلها وحدها أو اشتركا فيه فيحل له أخذ البدل، لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

فهذه الآية نفت الجناح عن الزوج في أخذ الفداء، وعن الزوجة في الإعطاء في حالة خوفهما ألا يقيما حدود الله، وهذا الخوف يكون عندما تكون الكراهة من المرأة وحدها، أو منهما معاً.

وإذا حل له البدل في هذه الحالة: فهل يتقيد بمقدار المهر أو تجوز الزيادة؟

في المذهب الحنفي روايتان:

أولاهما: أن أخذ الزيادة جائز لا شيء فيه لإطلاق الآية السابقة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به} فإنها رفعت الجناح عنهما في الأخذ والعطاء من الفداء من غير فصل بين ما إذا كان المعطى مساوياً للمهر أو زائداً عليه، ولأن الخلع معاوضة، والبدل فيها يرجع إلى تراضى الطرفين، وحينما أعطت الزيادة أعطتها من مالها بطيب من نفسها. وقد قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].

وثانيتهما: أن أخذ الزيادة مكروه للآية السابقة، فإن قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به} رفع الجناح عنهما فيما افتدت به من المهر، لأن آخر الآية مردود إلى أولها، وأول الآية ينهى الأزواج عن أن يأخذوا من الزوجات شيئاً مما أتوهن من المهور، واستثنى من الأخذ في حالة خوفهما ترك إقامة حدود الله، فكان المراد من قوله فيما افتدت به أي مما آتاها، ويؤيد ذلك ما جاء في حديث قصة امرأة ثابت بن قيس بن شماس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أتردين عليه حديقته" فقالت: نعم وزيادة، قال: "أما الزيادة فلا"، نهى عن الزيادة مع كون النشوز من قبلها، وقد عرضت الزيادة بطيب من نفسها.


المبحث الخامس: في أحكام الخلع

يترتب على الخلع آثار بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه:

فاتفق الفقهاء على ما يلي:

-1 أنه يقع به طلاق بائن.

-2 أنه لا يتوقف على قضاء القاضي ككل طلاق يقع من الزوج.

-3 أنه لا يبطل بالشروط الفاسدة، كأن تشترط أن تكون لها حضانة الطفل ولو تزوجت بغير ذي رحم محرم منه، أو أن تسقط حضانتها له، فالشرط يبطل وحده ويصح الخلع.

-4 يجب به ما اتفقا عليه من البدل قليلاً كان أو كثيراً، ولا يسقط به شيء من الديون أو الحقوق التي لأحد الزوجين على الآخر مما لا يرتبط بعقد الزواج كثمن مبيع أو وديعة وغيرها.

واختلف الفقهاء في الحقوق التي ترتبط بالزواج ولم تذكر في الخلع ضمن الاتفاق:

فأبو حنيفة يسقط به كل حق ثابت بالفعل لكل من الزوجين على الآخر. كالمهر والنفقة المتجمدة للزوجة سواء أكان الخلع بهذا اللفظ أو كان بلفظ المبارأة. لأن المقصود بالخلع قطع الخصومة والمنازعة بين الزوجين، وهذا لا يتحقق إلا بإسقاط كل حق يتعلق بالزواج، فليس للزوجة أن تطالب بمهرها الذي لم تقبضه، ولا بالنفقة المتجمدة لها، وليس للزوج أن يطالبها بالمهر الذي قبضته إلا إذا كان الخلع واقعاً عليه.