السيرة النبوية : ما بين غزوة بدر وغزوة احد
النشاط العسكري بين بدر وأحد:
إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة، والذين كانوا أشد استياءً لنتائج هذه المعركة هم أولئك الذين منوا بخسائر فادحة مباشرة؛ وهم المشركون أو الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضرباً قاصماً على كيانهم الديني والاقتصادي، وهم اليهود. فمنذ أن انتصر المسلمون في معركة بدر كان هذان الفريقان يحترقان غيظاً وحنقاً على المسلمين {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] وكانت في المدينة بطانة للفريقين دخلوا في الإسلام حين لم يبق مجال لوقارهم، وهم عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول وأصحابه، ولم تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظاً من الأوليين.
وكانت هناك فرقة رابعة، وهم البدو الضاربون حول المدينة، لم يكن يهمهم مسألة الكفر والإيمان، ولكنهم كانوا أصحاب سلب ونهب، فأخذهم القلق، واضطربوا لهذا الانتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فجعلوا يحقدون على المسلمين وصاروا لهم أعداء.
وهكذا أحاطت الأخطار بالمسلمين من كل جانب، ولكن هذه الفرق تباينت في سلوكها إزاء المسلمين، وأخذ كل فريق الطريقة التي رآها كفيلة ببلوغ غايته. فبينما كانت المدينة وما حولها تظاهر بالإسلام وتأخذ في طريق المؤامرات والدسائس والتحرشات والاستفزازات كانت فرقة من اليهود تعلن بالعداوة وتكاشف عن الحقد والغيظ، وكانت مكة تهدد بالضرب القاصم وتعلن بأخذ الثأر والنقمة، وتهتم بالتعبئة العامة جهاراً، وترسل إلى المسلمين بلسان حالها، تقول بأنه:
ولا بد من يوم أَغر محجل يطول استماعي بعده للنوادب
وفعلاً فقد قادت غزوة قاصمة إلى أسوار المدينة عرفت في التاريخ بغزوة أحد، والتي كان لها أثر سيء على سمعة المسلمين وهيبتهم.
وقد لعب المسلمون دوراً هاماً للقضاء على هذه الأخطار، تظهر فيه عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذه الأخطار، وما كان عليه من حسن التخطيط للقضاء عليها، ونذكر في السطور الآتية صورة مصغرة منها.
غزوة بني سليم بالكدر:
أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن بني سليم من قبائل غطفان تحشد قواتها للغزو على المدينة، فباغت النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب هذه القبائل المحتشدة في عقر دارها، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له الكدر. ففر بنو سليم وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولى عليها جيش المدينة، وقسمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاماً يقال له يسار فأعتقه.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة.
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام، واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سباع بن عرفطة. وقيل: ابن أم مكتوم.
مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم:
كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن اشتاطوا غضباً، وجعلت مكة تغلي كالمرجل ضد النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى تآمر بطلان من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق، ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر بعد وقعة بدر بيسير - وكان عمير من شياطين قريش ممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة - وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان واللَّه إن في العيش بعدهم خير.
قال له عمير صدقت واللَّه، أما واللَّه لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة، ابني أسير في أيديهم.
فاغتنمها صفوان وقال: على دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أو أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فقال له عمير فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم به المدينة. فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب - وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم اللَّه به يوم بدر - فقال عمر هذا الكلب عدو اللَّه عمير ما جاء إلا لشر. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي اللَّه هذا عدو اللَّه عمير قد جاء متوشحاً سيفه، قال: فأدخله علي، فأقبل عمير فلببه بحمالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار ادخلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه - قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا وقال: أنعموا صباحاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أكرمنا اللَّه بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة.
ثم قال: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.
قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها اللَّه من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟
قال: اصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك.
قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني واللَّه حائل بيني وبين ذلك.
قال عمير أشهد أنك رسول اللَّه، قد كنا يا رسول اللَّه نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فواللَّه إني لأعلم ما أتاك به إلا اللَّه، فالحمد للَّه الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره.
وأما صفوان فكان يقول أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه، فحلفه صفوان أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً.
ورجع عمير إلى مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام فأسلم على يديه ناس كثير.
غزوة بني قينقاع:
قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع اليهود. وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلاً لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها. ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود ولم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين. وهاك مثالاً من ذلك
نموذج من مكيدة اليهود:
قال ابن إسحاق مر شاس بن قيس - وكان شيخاً يهودياً قد عسى عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا واللَّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان من قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم رددناها الآن جذعة - يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم - وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة - والظاهرة الحرة - السلاح السلاح، فخرجوا إليها وكادت تنشب الحرب.
فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، اللَّه اللَّه، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم اللَّه للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ اللَّه عنهم كيد عدو اللَّه شاس بن قيس.
هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والتحريشات في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد كان لهم خطط شتى في هذا السبيل. كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشكوك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مالي، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل.
كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة.
بنو قينقاع ينقضون العهد:
لكنهم لما رأوا أن اللَّه قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الأقاصي والأداني، تميزت قدر غيظهم وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذى.
وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف - وسيأتي ذكره - كما أن أشر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة - في حي باسمهم - وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.
فلما فتح اللَّه للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم،فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم.
وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم.
روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لما أصاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود فيسوق بني قينقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل اللَّه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 12-13].
كان معنى ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر بالحرب، ولكن كظم النبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخص عنه الليالي.
وازداد اليهود - من بني قينقاع - جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة.
روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها - وهي غافلة - فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله - وكان يهودياً - فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
الحصار ثم التسليم ثم الجلاء:
وحينئذ عيل صبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وأعطى لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود اللَّه إلى بني قنيقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف اللَّه في قلوبهم الرعب - الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم - فنزلوا على حكيم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا. وحينئذ قام عبد اللَّه بن أبي بن سلول بدوره النفاقي، فألح على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم عفواً، فقال: يا محمدد أحسن في موالي - وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكرر ابن أبي مقالته، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرسلني، وغضب حتى رأوا لوجهه ظلالاً ثم قال: ويحك، أرسلني ولكن المنافق مضى على إصراره وقال: لا واللَّه لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، وتحصدهم في غداة واحدة؟ إني واللَّه امرؤ أخشى الدوائر.
وعامل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذا المنافق - الذي لم يكن مضى على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب - عامله بالمراعاة، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم.
وقبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قسى ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة.
غزوة السويق:
بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهرا لأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، كان قد نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبر يمينه، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب، من المدينة على بريد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتى حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى وخاف فانصرف إلى سلام بن مشكم - سيد بني النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك - فاستأذن عليه فأذن، فقراه وسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها "العريض"، فقطعوا وأحرقوا هناك أسواراً من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة.
وبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعاً. وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق. وقعت في ذي الحجة سنة 2هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة وأبا لبابة بن عبد المنذر.
غزوة ذي أَمر:
وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 2هـ.
وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.
وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو.
وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى "بذي أمر" فأقام هناك صفراً كله - من سنة 53هـ - أو قريباً من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة.
قتل كعب بن الأشرف:
كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقاً على الإسلام والمسلمين، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتظاهرا بالدعوة إلى حربه.
كان من قبيلة طيء - من بني نبهان - وأمه من بني النضير، وكان غنياً مترفاً معروفاً بجماله في العرب، شاعراً من شعرائها، وكان حصنه في شرق جنوب المدينة في خلفيات ديار بني النضير.
ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، واللَّه إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو اللَّه يهجو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم، ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلاً، وأفضل، وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} [النساء: 51]
ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء.
وحينئذ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى اللَّه ورسوله، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وأبو نائلة - واسمه سلكان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة - والحارث بن أوس، وأبو عبس بن حبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة.
وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما قال: من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى اللَّه ورسوله، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول اللَّه، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئاً. قال: قل.
فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا.
قال كعب واللَّه لتملنه.
قال محمد بن مسلمة فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟ وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين.
قال كعب نعم أرهنوني.
قال ابن مسلمة أي شيء تريد؟
قال: ارهنوني نساءكم.
قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟
قال: فترهنوني أبناءكم.
قال: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين. هذا عار علينا. ولكنا نرهنك اللأمة، يعني السلاح.
فواعده أن يأتيه.
وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعباً فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة، ثم قال له ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني.
قال كعب أفعل.
قال أبو نائلة كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة، وقال أبو نائلة أثناء حديثه إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك.
وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصدا، فإن كعباً لن ينكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار.
وفي ليلة مقمرة - ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 53هـ. اجتمعت هذه المفرزة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فشيعهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم قائلاً انطلقوا على اسم اللَّه، اللهم أعنهم، ثم رجع إلى بيته، وطفق يصلي ويناجي ربه.
وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته - وكان حديث العهد بها أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم.
قال كعب إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفخ رأسه.
وقد كان أبو نائلة قال لأصحابه إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت منه من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق ما رأيت كالليلة طيباً أعطر، وزهى كعب بما سمع فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه.
ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال كعب نعم، فعاد لمثلها، حتى اطمأن.
ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟قال: نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم عدو اللَّه، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئاً، فأخذ محمد بن مسلمة معولاً فوضعه في ثنته، ثم تحامل عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو اللَّه قتيلاً، وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران.
ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذباب بعض سيوف أصحابه فجرج ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حرة العريض، رأت أن الحارث ليس معهم فوقفت ساعة حتى أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه حتى إذا بلغو بقيع الغرقد كبروا وسمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر فلما انتهوا إليه قال: أفلحت الوجوه، قالوا: ووجهك يا رسول اللَّه. ورموا برأس الطاغية بين أيديه، فحمد اللَّه على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده.
ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يرى أن النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبىء فيها.
وهكذا تفرع الرسول صلى الله عليه وسلم - إلى حين - لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخرى.
غزوة بحران:
وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3هـ إلى أرض يقال لها بحران - وهي معدن بالحجاز في ناحية الفرع - فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى (من السنة الثالثة من الهجرة) ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً.
سرية زيد بن حارثة:
وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد، وتفصيلها أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف واقترب موسم رحلتها إلى الشام فأخذها هم آخر.
قال صفوان بن أمية لقريش - وهو الذي انتخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام -: إن محمداً وصحبه عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء.
ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل - فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فرات بن حيان - من بني بكر بن وائل - دليلاً له، يكون رائده في هذه الرحلة.
وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة. وذلك أن سليط بن النعمان - وكان قد أسلم - اجتمع في مجلس شرب - وذلك قبل تحريم الخمر - مع نعيم بن مسعود الأشجعي - ولم يكن أسلم إذ ذاك - فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم يروي له القصة.
وجهز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادة زيد بن حارثة الكلبي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة - على حين غرة - وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له قردة - بالفتح فالسكون - فاستولى عليها كلها ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أي مقاومة.
وأسر المسلمون دليل القافلة - فرات بن حيان، وقيل: ورجلين غيره - وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف قسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم فرات ابن حيان على يديه صلى الله عليه وسلم .
وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، اشتد لها قلق قريش وزادتها هماً وحزناً، ولم يبق أمامها إلا طريقان، إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين بحيث لا يبقى لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد.
إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة، والذين كانوا أشد استياءً لنتائج هذه المعركة هم أولئك الذين منوا بخسائر فادحة مباشرة؛ وهم المشركون أو الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضرباً قاصماً على كيانهم الديني والاقتصادي، وهم اليهود. فمنذ أن انتصر المسلمون في معركة بدر كان هذان الفريقان يحترقان غيظاً وحنقاً على المسلمين {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] وكانت في المدينة بطانة للفريقين دخلوا في الإسلام حين لم يبق مجال لوقارهم، وهم عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول وأصحابه، ولم تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظاً من الأوليين.
وكانت هناك فرقة رابعة، وهم البدو الضاربون حول المدينة، لم يكن يهمهم مسألة الكفر والإيمان، ولكنهم كانوا أصحاب سلب ونهب، فأخذهم القلق، واضطربوا لهذا الانتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فجعلوا يحقدون على المسلمين وصاروا لهم أعداء.
وهكذا أحاطت الأخطار بالمسلمين من كل جانب، ولكن هذه الفرق تباينت في سلوكها إزاء المسلمين، وأخذ كل فريق الطريقة التي رآها كفيلة ببلوغ غايته. فبينما كانت المدينة وما حولها تظاهر بالإسلام وتأخذ في طريق المؤامرات والدسائس والتحرشات والاستفزازات كانت فرقة من اليهود تعلن بالعداوة وتكاشف عن الحقد والغيظ، وكانت مكة تهدد بالضرب القاصم وتعلن بأخذ الثأر والنقمة، وتهتم بالتعبئة العامة جهاراً، وترسل إلى المسلمين بلسان حالها، تقول بأنه:
ولا بد من يوم أَغر محجل يطول استماعي بعده للنوادب
وفعلاً فقد قادت غزوة قاصمة إلى أسوار المدينة عرفت في التاريخ بغزوة أحد، والتي كان لها أثر سيء على سمعة المسلمين وهيبتهم.
وقد لعب المسلمون دوراً هاماً للقضاء على هذه الأخطار، تظهر فيه عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذه الأخطار، وما كان عليه من حسن التخطيط للقضاء عليها، ونذكر في السطور الآتية صورة مصغرة منها.
غزوة بني سليم بالكدر:
أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن بني سليم من قبائل غطفان تحشد قواتها للغزو على المدينة، فباغت النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب هذه القبائل المحتشدة في عقر دارها، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له الكدر. ففر بنو سليم وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولى عليها جيش المدينة، وقسمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاماً يقال له يسار فأعتقه.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة.
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام، واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سباع بن عرفطة. وقيل: ابن أم مكتوم.
مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم:
كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن اشتاطوا غضباً، وجعلت مكة تغلي كالمرجل ضد النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى تآمر بطلان من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق، ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر بعد وقعة بدر بيسير - وكان عمير من شياطين قريش ممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة - وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان واللَّه إن في العيش بعدهم خير.
قال له عمير صدقت واللَّه، أما واللَّه لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة، ابني أسير في أيديهم.
فاغتنمها صفوان وقال: على دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أو أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فقال له عمير فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم به المدينة. فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب - وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم اللَّه به يوم بدر - فقال عمر هذا الكلب عدو اللَّه عمير ما جاء إلا لشر. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي اللَّه هذا عدو اللَّه عمير قد جاء متوشحاً سيفه، قال: فأدخله علي، فأقبل عمير فلببه بحمالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار ادخلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه - قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا وقال: أنعموا صباحاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أكرمنا اللَّه بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة.
ثم قال: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.
قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها اللَّه من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟
قال: اصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك.
قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني واللَّه حائل بيني وبين ذلك.
قال عمير أشهد أنك رسول اللَّه، قد كنا يا رسول اللَّه نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فواللَّه إني لأعلم ما أتاك به إلا اللَّه، فالحمد للَّه الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره.
وأما صفوان فكان يقول أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه، فحلفه صفوان أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً.
ورجع عمير إلى مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام فأسلم على يديه ناس كثير.
غزوة بني قينقاع:
قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع اليهود. وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلاً لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها. ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود ولم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين. وهاك مثالاً من ذلك
نموذج من مكيدة اليهود:
قال ابن إسحاق مر شاس بن قيس - وكان شيخاً يهودياً قد عسى عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا واللَّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان من قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم رددناها الآن جذعة - يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم - وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة - والظاهرة الحرة - السلاح السلاح، فخرجوا إليها وكادت تنشب الحرب.
فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، اللَّه اللَّه، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم اللَّه للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ اللَّه عنهم كيد عدو اللَّه شاس بن قيس.
هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والتحريشات في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد كان لهم خطط شتى في هذا السبيل. كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشكوك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مالي، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل.
كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة.
بنو قينقاع ينقضون العهد:
لكنهم لما رأوا أن اللَّه قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الأقاصي والأداني، تميزت قدر غيظهم وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذى.
وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف - وسيأتي ذكره - كما أن أشر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة - في حي باسمهم - وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.
فلما فتح اللَّه للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم،فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم.
وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم.
روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لما أصاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود فيسوق بني قينقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل اللَّه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 12-13].
كان معنى ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر بالحرب، ولكن كظم النبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخص عنه الليالي.
وازداد اليهود - من بني قينقاع - جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة.
روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها - وهي غافلة - فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله - وكان يهودياً - فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
الحصار ثم التسليم ثم الجلاء:
وحينئذ عيل صبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وأعطى لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود اللَّه إلى بني قنيقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف اللَّه في قلوبهم الرعب - الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم - فنزلوا على حكيم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا. وحينئذ قام عبد اللَّه بن أبي بن سلول بدوره النفاقي، فألح على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم عفواً، فقال: يا محمدد أحسن في موالي - وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكرر ابن أبي مقالته، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرسلني، وغضب حتى رأوا لوجهه ظلالاً ثم قال: ويحك، أرسلني ولكن المنافق مضى على إصراره وقال: لا واللَّه لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، وتحصدهم في غداة واحدة؟ إني واللَّه امرؤ أخشى الدوائر.
وعامل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذا المنافق - الذي لم يكن مضى على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب - عامله بالمراعاة، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم.
وقبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قسى ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة.
غزوة السويق:
بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهرا لأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، كان قد نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبر يمينه، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب، من المدينة على بريد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتى حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى وخاف فانصرف إلى سلام بن مشكم - سيد بني النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك - فاستأذن عليه فأذن، فقراه وسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها "العريض"، فقطعوا وأحرقوا هناك أسواراً من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة.
وبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعاً. وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق. وقعت في ذي الحجة سنة 2هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة وأبا لبابة بن عبد المنذر.
غزوة ذي أَمر:
وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 2هـ.
وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.
وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو.
وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى "بذي أمر" فأقام هناك صفراً كله - من سنة 53هـ - أو قريباً من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة.
قتل كعب بن الأشرف:
كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقاً على الإسلام والمسلمين، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتظاهرا بالدعوة إلى حربه.
كان من قبيلة طيء - من بني نبهان - وأمه من بني النضير، وكان غنياً مترفاً معروفاً بجماله في العرب، شاعراً من شعرائها، وكان حصنه في شرق جنوب المدينة في خلفيات ديار بني النضير.
ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، واللَّه إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو اللَّه يهجو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم، ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلاً، وأفضل، وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} [النساء: 51]
ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء.
وحينئذ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى اللَّه ورسوله، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وأبو نائلة - واسمه سلكان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة - والحارث بن أوس، وأبو عبس بن حبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة.
وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما قال: من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى اللَّه ورسوله، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول اللَّه، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئاً. قال: قل.
فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا.
قال كعب واللَّه لتملنه.
قال محمد بن مسلمة فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟ وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين.
قال كعب نعم أرهنوني.
قال ابن مسلمة أي شيء تريد؟
قال: ارهنوني نساءكم.
قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟
قال: فترهنوني أبناءكم.
قال: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين. هذا عار علينا. ولكنا نرهنك اللأمة، يعني السلاح.
فواعده أن يأتيه.
وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعباً فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة، ثم قال له ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني.
قال كعب أفعل.
قال أبو نائلة كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة، وقال أبو نائلة أثناء حديثه إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك.
وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصدا، فإن كعباً لن ينكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار.
وفي ليلة مقمرة - ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 53هـ. اجتمعت هذه المفرزة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فشيعهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم قائلاً انطلقوا على اسم اللَّه، اللهم أعنهم، ثم رجع إلى بيته، وطفق يصلي ويناجي ربه.
وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته - وكان حديث العهد بها أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم.
قال كعب إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفخ رأسه.
وقد كان أبو نائلة قال لأصحابه إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت منه من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق ما رأيت كالليلة طيباً أعطر، وزهى كعب بما سمع فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه.
ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال كعب نعم، فعاد لمثلها، حتى اطمأن.
ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟قال: نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم عدو اللَّه، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئاً، فأخذ محمد بن مسلمة معولاً فوضعه في ثنته، ثم تحامل عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو اللَّه قتيلاً، وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران.
ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذباب بعض سيوف أصحابه فجرج ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حرة العريض، رأت أن الحارث ليس معهم فوقفت ساعة حتى أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه حتى إذا بلغو بقيع الغرقد كبروا وسمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر فلما انتهوا إليه قال: أفلحت الوجوه، قالوا: ووجهك يا رسول اللَّه. ورموا برأس الطاغية بين أيديه، فحمد اللَّه على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده.
ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يرى أن النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبىء فيها.
وهكذا تفرع الرسول صلى الله عليه وسلم - إلى حين - لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخرى.
غزوة بحران:
وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3هـ إلى أرض يقال لها بحران - وهي معدن بالحجاز في ناحية الفرع - فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى (من السنة الثالثة من الهجرة) ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً.
سرية زيد بن حارثة:
وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد، وتفصيلها أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف واقترب موسم رحلتها إلى الشام فأخذها هم آخر.
قال صفوان بن أمية لقريش - وهو الذي انتخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام -: إن محمداً وصحبه عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء.
ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل - فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فرات بن حيان - من بني بكر بن وائل - دليلاً له، يكون رائده في هذه الرحلة.
وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة. وذلك أن سليط بن النعمان - وكان قد أسلم - اجتمع في مجلس شرب - وذلك قبل تحريم الخمر - مع نعيم بن مسعود الأشجعي - ولم يكن أسلم إذ ذاك - فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم يروي له القصة.
وجهز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادة زيد بن حارثة الكلبي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة - على حين غرة - وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له قردة - بالفتح فالسكون - فاستولى عليها كلها ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أي مقاومة.
وأسر المسلمون دليل القافلة - فرات بن حيان، وقيل: ورجلين غيره - وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف قسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم فرات ابن حيان على يديه صلى الله عليه وسلم .
وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، اشتد لها قلق قريش وزادتها هماً وحزناً، ولم يبق أمامها إلا طريقان، إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين بحيث لا يبقى لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد.