الاحاديث النبوية : ازالة المنكر فريضة - اخوة الاسلام وحقوق المسلم

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


الحديث الرابع والثلاثون: إزَالَةُ المُنْكَرِ فَريضَةٌ

عن أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقوُل :

"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لمَْ يَسْتَطِعْ فَبلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ اْلإِيمَانِ". رواه مسلم.

مفردات الحديث:

"منكم": أي من المسلمين المكلَّفين، فهو خطاب لجميع الأمة.

"منكراً": وهو ترك واجب أو فعل حرام ولو كان صغيرة.

"فليغيره": فليزله ويذهبه ويغيره إلى طاعة.

"بيده": إن توقف تغييره عليها ككسر آلات اللهو وإراقة الخمر ومنع ظالم عن ضرب ونحوه.

المعنى العام:

مجاهدة أهل الباطل: إن الحق والباطل مقترنان على وجه الأرض منذ وجود البشر، وكلما خمدت جذور الإيمان في النفوس بعث الله عز وجل من يزكيها ويؤججها، وهيأ للحق رجالاً ينهضون به وينافحون عنه، فيبقى أهل الباطل والضلال خانعين، فإذا سنحت لهم فرصة نشطوا ليعيثوا في الأرض الفساد، وعندها تصبح المهمة شاقة علىمن خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، ليقفوا في وجه الشر يصفعونه بالفعل والقول، وسخط النفس ومقت القلب.

أخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كانت له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلوا، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

حواريون: خلصاء أصفياء، تخلف : تحدث.

خلوف: جمع خَلْف وهو الذي يخلف بشر.

إنكار المنكر: لقد أجمعت الأمة على وجوب إنكار المنكر، فيجب على المسلم أن ينكر المنكر حسب طاقته، وأن يغيره حسب قدرته على تغييره، بالفعل أو القول، بيده أو بلسانه أو بقلبه:

الإنكار بالقلب: من الفروض العينية التي يُكَلَّف بها كل مسلم، ولا تسقط عن أحد في حال من الأحوال، معرفة المعروف والمنكر، وإنكار المنكر في القلب، فمن لم يعرف المعروف والمنكر في قلبه هلك، ومن لم ينكر المنكر في قلبه دل على ذهاب الإيمان منه. قال ابن مسعود : هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر.

إنكار القلب عند العجز: إنكار القلب يُخَلِّص المسلم من المسؤولية إذا كان عاجزاً عن الإنكار باليد أو اللسان. قال ابن مسعود رضي الله عنه : يوشك من عاش منكم أن يرى منكراً لا يستطيع له غير أن يَعلم اللهُ من قلبه أنه له كاره.

والعجز أن يخاف إلحاق ضرر ببدنه أو ماله، ولا طاقة له على تحمل ذلك، فإذا لم يغلب على ظنه حصول شيء من هذا لا يسقط عنه الواجب بإنكار قلبه فقط، بل لابد له من الإنكار باليد أو اللسان حسب القدرة.

الرضا بالمعصية كبيرةٌ: من علم بالخطيئة ورضي بها فقد ارتكب ذنباً كبيراً، وأتى أقبح المحرمات، سواء شاهد فعلها أم غاب عنه، وكان إثمه كإثم من شاهدها ولم ينكرها. روى أبو داود عن العُرْسِ بن عميرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عُمِلَت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة: أنكرها - كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فَرَضِيَها كمن شهدهها". وذلك لأن الرضا بالخطيئة يفوت به إنكار القلب، وقد علمنا أنه فرض عين، وترك فرض العين من الكبائر.

الإنكار باليد أو اللسان له حكمان:

فرض كفاية: إذا رأى المنكر أو علمه أكثر من واحد من المسلمين وجب إنكاره وتغييره على مجموعهم، فإذا قام به بعضهم ولو واحداً كفى وسقط الطلب عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثم كل من كان يتمكن منه بلا عذر ولا خوف، ودل على الوجوب على الكفاية قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. والأمة الجماعة، وهي بعض المسلمين.

فرض عين: وإذا رأى المنكر أو علمه واحد، وهو قادر على إنكاره أو تغييره، فقد تعين عليه ذلك. وكذلك إذا رآه أو علمه جماعة، وكان لا يتمكن من إنكاره إلا واحد منهم، فإنه يتعين عليه، فإن لم يقم به أثم.

عاقبة ترك إزالة المنكر مع القدرة عليها: إذا تُرِكَ النهي عن المنكر استشرى الشر في الأرض، وشاعت المعصية والفجور، وكثر أهل الفساد، وتسلطوا على الأخيار وقهروهم، وعجز هؤلاء عن ردعهم بعد أن كانوا قادرين عليهم، فتطمس معالم الفضيلة، وتعم الرذيلة، وعندها يستحق الجميع غضب الله تعالى وإذلاله وانتقامه، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79]. لا يتناهون: لا ينهى بعضهم بعضاً إذا رآه على المنكر. والأحاديث في هذا كثيرة، منها:

ما أخرج أبو داود: عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب".

تصحيح لفهم خاطئ: يخطئ الكثير من المسلمين حين يرغبون في تبرير انهزامهم وتقصيرهم في إنكار المنكر، فيحتجون بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. على أن الآية نفسها توجب القيام بإنكار المنكر إذا فُهِمت الفهمَ الصحيح، فقد روى أبو داود وغيره عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب".

قال النووي رحمه الله في (( شرح مسلم )) : المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية : إنكم إذا فعلتم ما كُلِّفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب، فلا عتب بعد ذلك على الناهي أو الآمر، لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي، لا القبول، والله أعلم.

ترك الإنكار خشية وقوع مفسدة: إذا كان المكلف قادراً على إنكار المنكر الذي رآه أو علمه، لكنه غلب على ظنه أن تحدث نتيجة إنكاره مفسدة ويترتب عليه شر، هو أكبر من المنكر الذي أنكره أو غيره، فإنه في هذه الحالة يسقط وجوب الإنكار، عملاً بالأصل الفقهي: يُرَتَكَبُ أَخَفُّ الضررين تفادياً لأشدهما.

على أنه ينبغي أن يتنبه هنا إلى أن الذي يسقط وجوب الإنكار غالبية الظن، لا الوهم والاحتمال الذي قد يتذرع به الكثير من المسلمين، ليبرروا لأنفسهم ترك هذا الواجب العظيم من شرع الله عز وجل.

ذهب العلماء إلى القول بوجوب الأمر والنهي حتى لمن علم أنه لا يقبل، ليكون في هذا معذرة للمسلم الآمر الناهي، ولأن المطلوب منه هو الإنكار لا القبول، لأن الله تعالى يقول: {فذكِّرْ إنما أنتَ مذكر} [الغاشية: 21] ويقول: {إنْ عليكَ إلا البلاغ} [الشورى: 48].

وفي ذلك رد صريح على أولئك الذين يجبنون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون أن يصدوا غَيرهم عن القيام بواجبه، فيقولون: لا تُتْعِب نفسك، ودع الأمور، لا فائدة من الكلام، وربما احتجوا خاطئين بقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56]. ويغيب عن ذهنهم أنها نزلت في شأن أبي طالب، الذي مازال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، حتى لَفَظَ الأنفاس الأخيرة وهو على شركه، فنزلت الآية تواسي النبي صلى الله عليه وسلم لحزنه على عمه الذي دافع عنه وناصره، مبينة له: أنه لا يستطيع أن يجعل الهداية في قلب من أحب، لا أنها تنهاه عن الأمر والنهي.

قول الحق دون خوف أو رهبة: على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلتفت إلى شأن من يأمره أو ينهاه، من منصب أو جاه أو غنى، ودون أن يلتفت إلى لوم الناس وعبثهم وتخذيلهم، ودون أن يأبه بما قد يناله من أذى مادي أو معنوي يقدر على تحمله ويدخل في طاقته، على أن يستعمل الحكمة في ذلك، ويخاطب كُلاًّ بما يناسبه، ويعطي كل موقف ما يلائمه. أخرج الترمذي وابن ماجه، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة: "ألا لا يَمْنَعَنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه".

أمر الأمراء ونهيهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمة، كما أنه حق لها. والأمة رئيس ومرؤوس، فكما يجب على الأمراء أن يأمروا وينهَوا الرعية كذلك يجب على الأمة أن تأمر وتنهى أمراءها، قياماً بالواجب وأداءً للحق.

ورضي الله عن أبي بكر، إذ وقف عقب استخلافه ليضع المنهج السوي الذي يستقيم عليه أمر الراعي والرعية، فقال: وُليِّت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.

يجب أن يكون تغيير المنكر بداية الدين. قال عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم.

الغِلظة واللِّين في الأمر والنهي: ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكمة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]. وتختلف الحكمة حسب حال المأمور والمنهي، وما يؤمر به أو ينهى عنه، وما يكون أنفع وأبلغ في الزجر، فتارة ينبغي استعمال اللين في القول والمجاملة والمداراة، وتارة لا تصلح إلا القسوة والغلظة.

ولذلك كان من يأمر وينهى لا بد فيه من صفات، أهمها: الرفق، والحلم، والعدل، والعلم.

كرامة لا ذلة: ليس فيما ينال المسلم من أذى في سبيل أمره ونهيه ذلة أو مهانة، وإنما هي عزة وشرف ورفعة في الدنيا والآخرة، وشهادة في سبيل الله عز وجل، بل أعظم شهادة.

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر". رواه أبو داود والترمذي.

يجب على المسلم أن ينكر المنكر إذا كان ظاهراً وشاهَدَهُ ورآه، دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً". فإذا داخله ريبة وشك في منكر خفي مستور عنه، فإنه لا يتعرض له ولا يفتش عنه، لأن هذا النوع هو من التجسس المنهي عنه. ويقوم مقام الرؤية علمه بالمنكر، وتحققه عن وقوعه ومعرفة موضعه، كما إذا أخبره ثقة بذلك، أو كانت هنالك قرائن تجعل الظن غالباً بوجود المنكر، ففي هذه الحالة يجب عليه الإنكار بالطريقة المناسبة التي تكفل القضاء على المنكر، واستئصال جذور الشر والفساد من المجتمعات.

لا إنكار لما اختُلِفَ فيه: لقد قرر العلماء أن الإنكار يكون لفعلٍ ما أجمع المسلمون على تحريمه، أو ترك ما أجمعوا على وجوبه، كشرب الخمر والتعامل بالربا وسفور النساء ونحو ذلك، أو ترك الصلاة أو الجهاد ونحو ذلك أيضاً.

أما ما اختلف العلماء في تحريمه أو وجوبه فلا ينكر على فعله أو تركه، شريطة أن يكون هذا الاختلاف ممن يعتد بهم من العلماء، وأن يكون ناشئاً عن دليل.

عموم المسؤولية وخصوصها: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الأمة جمعاء، فكل مسلم علم بالمنكر وقدر على إنكاره وجب عليه ذلك على الوجه الذي علمت، لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم، أو عالم وعامي. ولكن هذه المسؤولية تتأكد على صنفين من الناس، وهما: العلماء والأمراء.

أما العلماء: فلأنهم يعرفون من شرع الله تعالى ما لا يعرفه غيرهم من الأمة، ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب، مما يجعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول.

والخطر الكبير عندما يتساهل علماء الأمة بهذه الأمانة التي وضعها الله تعالى في أعناقهم، روى أبو داود والترمذي واللفظ له، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، فقال: "لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً ". أي تحملوهم عليه وتحبسوهم وتعطفوهم وتردوهم إليه.

وأما الأمراء: أي الحكام، فإن مسؤوليتهم أعظم، وخطرهم إن قصروا في الأمر والنهي أكبر، لأن الحكام لهم ولاية وسلطان، ولديهم قدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهَون عنه وحمل الناس على الامتثال، ولا يخشى من إنكارهم مفسدة، لأن القوة والسلاح في أيديهم والناس ما زالوا يحسبون حساباً لأمر الحاكم ونهيه.

فإذا قصر الحاكم في الأمر والنهي طمع أهل المعاصي والفجور، ونشطوا لنشر الشر والفساد، دون أن يراعوا حرمة أو يقدسوا شرعاً، ولذا كان من الصفات الأساسية للحاكم الذي يتولى الله تأييده ونصرته، ويثبت ملكه ويسدد خطته، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

فإذا أهمل الحكام هذا الواجب العظيم فقد خانوا الأمانة التي وضعها الله تعالى في أعناقهم، وضيعوا الرعية التي استرعاهم الله تعالى عليها.

من آداب الآمر والناهي: أن يكون ممتثلاً لما يأمر به، مجتنباً لما ينهى عنه، حتى يكون لأمره ونهيه أثر في نفس من يأمره وينهاه، ويكون لفعله قبول عند الله عز وجل، فلا يكون تصرفه حجة عليه توقعه في نار جهنم يوم القيامة.

النية والقصد في الأمر والنهي: ينبغي أن يكون الحامل على الأمر والنهي هو ابتغاء رضوان الله تعالى وامتثال أمره، لا حب الشهرة والعلو وغير ذلك من الأغراض الدنيوية. فالمؤمن يأمر وينهى غضباً لله تعالى إذا انتهكت محارمه، ونصيحة للمسلمين ورحمة بهم إذا رأى منهم ما يُعَرِّضهم لغضب الله عز وجل وعقوبته في الدنيا والآخرة، وإنقاذاً لهم من شر الويلات والمصائب عندما ينغمسون في المخالفات وينقادون للأهواء والشهوات. يبتغي من وراء ذلك كله الأجر والمثوبة عند الله سبحانه، ويقي نفسه من أن يناله عذاب جهنم إن هو قصر في أداء الواجب، وترك الأمر والنهي.

العبودية الحقة: قد يكون الباعث لدى المؤمن على الأمر والنهي إجلاله البالغ لعظمة الله سبحانه، وشعوره أنه أهل لأن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا ينسى، ويُشكر فلا يكفر. ويزكي ذلك في نفسه محبته الصادقة لله عز وجل، التي تمكنت من قلبه وسرت في آفاق روحه سريان الدم في العروق، ولذلك تجده يؤثر أن يستقيم الخلق ويلتزموا طاعة الحق، وأن يفتدي ذلك بكل غال ونفيس يملكه، بل حتى ولو ناله الأذى وحصل له الضرر، يتقبل ذلك بصدر رحب، وربما تضرع إلى الله عز وجل أن يغفر لمن أساء إليه ويهديه سواء السبيل. وهذه مرتبة لا يصل إليها إلا من تحققت في نفسه العبودية الخالصة لله عز وجل، وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد آذاه قومه وضربوه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".


الحديث الخامس والثلاثون: أخُوَّةُ الإِسلامِ وحُقوقُ المُسْلِم

عن أبي هُريرةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رسوُل الله صلى الله عليه وسلم : "لا تَحَاسَدُوا، ولا تَنَاجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبعْ بَعْضُكُمْ على بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوَاناً، المُسْلمُ أَخُو المُسْلمِ: لا يَظْلِمُهُ، ولا يَكْذِبُهُ، ولا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى ههُنا - ويُشِيرُ إلى صَدْرِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أن يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمِ، كُلُّ المُسْلِمِ على الْمسْلِم حَرَامٌ: دَمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ" رواه مسلم.

أهمية الحديث:

لا يقتصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتأكيد الأخوة الإسلامية على رفعها كشعار، بل يحيطها بأوامر ونواهٍ تجعلها حقيقة ملموسة بين أفراد المجتمع المسلم، وهذا الحديث اشتمل على أحكام كثيرة وفوائد عظيمة لبلوغ هذه الغاية الإسلامية النبيلة، وحمايتها من كل عيب أو خلل حتى لا تصبح الأخوة كلاماً يهتف به الناس، وخيالاً يحلمون به ولا يلمَسُون له في واقع حياتهم أي أثر، ولذلك قال النووي في " الأذكار" عن هذا الحديث: وما أعظم نفعه، وما أكثر فوائده.

مفردات الحديث:

"لا تحاسدوا": أي لا يتمنى بعضكم زوال نعمة بعض.

"لا تناجشوا": والنجش في اللغة: الخداع أو الارتفاع والزيادة. وفي الشرع: أن يزيد في ثمن سلعة ينادي عليها في السوق ونحوه ولا رغبة له في شرائها، بل يقصد أن يضر غيره.

"لا تدابروا": لا تتدابروا، والتدابر: المصارمة والهجران.

"لا يخذله": لا يترك نصرته عند قيامه بالأمر بالمعروف أو نهيه عن المنكر، أو عند مطالبته بحق من الحقوق، بل ينصره ويعينه ويدفع عنه الأذى ما استطاع.

"لا يكذبه": لا يخبره بأمر على خلاف الواقع.

"لا يحقره": لا يستصغر شأنه ويضع من قدره.

"بحسب امرئ من الشر": يكفيه من الشر أن يحقر أخاه، يعني أن هذا شر عظيم يكفي فاعله عقوبة هذا الذنب.

"وعرضه": العرض هو موضع المدح والذم من الإنسان.

المعنى العام:

النهي عن الحسد:

تعريفه: الحسد لغة وشرعاً: تمني زوال نعمة المحسود، وعودها إلى الحاسد أو إلى غيره. وهو خُلُقٌ ذميم مركوز في طباع البشر، لأن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل.

حكمه: أجمع الناس من المشرعين وغيرهم على تحريم الحسد وقبحه.

حكمة تحريمه: أنه اعتراض على الله تعالى ومعاندة له، حيث أنعم على غيره، مع محاولته نقض فعله تعالى وإزالة فضله.

أقسام أهل الحسد:

قسم يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل.

وقسم آخر من الناس، إذا حسد غيره لم يبغ على المحسود بقول ولا بفعل.

وقسم ثالث إذا وجد في نفسه الحسد سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإبداء الإحسان إليه والدعاء له ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحنته، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

النهي عن النجش:

تعريفه: تضمن الحديث النهي عن النجش، وهو أن يزيد في ثمن سلعة ينادى عليها في السوق ونحوه، ولا رغبة له في شرائها، بل يقصد أن يضر غيره.

وحكمه: حرام إجماعاً على العالم بالنهي، سواء كان بمواطأة البائع أم لا، لأنه غش وخديعة، وهما محرمان، ولأنه ترك للنصح الواجب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا"، وفي رواية:"من غشَّ ". [رواه مسلم].

أما حكم عقد البيع من النجش: فقد اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال: إنه فاسد، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه. وأكثر الفقهاء على أن البيع صحيح مطلقاً، إلا أن مالكاً وأحمد أثبتا للمشتري الخيار إذا لم يعلم بالحال وغُبِنَ غبناً فاحشاً يخرج عن العادة، فإن اختار المشتري حينئذ الفسخ فله ذلك، وإن أراد الإمساك فإنه يحط ما غبن به من الثمن.

النهي عن التباغض:

تعريفه: البغض هو النفرة من الشيء لمعنى فيه مستقبح، ويرادفه الكراهة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى، فإن المسلمين إخوة متحابون، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

حكمه: وهو لغير الله حرام.

تحريم ما يوقع العداوة والبغضاء: حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء، فحرم الخمر والميسر، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة: 91] وحَرَّم الله المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ورَخَّصَ في الكذب في الإصلاح بين الناس.

النهي عن التدابر: التدابر هو المصارمة والهجران، وهو حرام إذا كان من أجل الأمور الدنيوية، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم _ في البخاري ومسلم عن أبي أيوب _ "لا يَحِلُّ لمسلم أن يَهْجُرَ أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".

أما الهجران في الله، فيجوز أكثر من ثلاثة أيام إذا كان من أجل أمر ديني، وقد نص عليه الإمام أحمد، ودليله قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا في عزوة تبوك، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرانهم خمسين يوماً، تأديباً لهم على تخلفهم، وخوفاً عليهم من النفاق. تنظر القصة كاملة في السيرة.

كما يجوز هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء والمبادئ الضالة. ويجوز هجران الوالد لولده، والزوج لزوجته، وما كان في معنى ذلك تأديباً، وتجوز فيه الزيادة على الثلاثة أيام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهراً.

النهي عن البيع على البيع: وقد ورد النهي عنه كثيراً في الحديث، وصورته أن يقول الرجل لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو خيار الشرط: افسخ لأبيعك خيراً منها بمثل ثمنها، أو مثلها بأنقص، ومثل ذلك الشراء على الشراء، كأن يقول للبائع: افسخ البيع لأشتري منك بأكثر، وقد أجمع العلماء على أن البيع على البيع والشراء على الشراء حرام.

قال النووي: وهذا الصنيع في حالة البيع والشراء، صنع آثم، منهي عنه.

أما السوم على السوم: فهو أن يتفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع، وقبل أن يعقداه يقول آخر لصاحبها: أنا أشتريها بأكثر، أو للراغب: أنا أبيعك خيراً منها بأقل ثمناً، فهو حرام كالبيع على البيع والشراء على الشراء، ولا فرق في هذا بين الكافر والمؤمن، لأنه من باب الوفاء بالذمة والعهد.

والحكمة في تحريم هذه الصورة ما فيها من الإيذاء والإضرار، وأما بيع المزايدة وهو البيع ممن يزيد فليس من المنهي عنه، لأنه قبل الاتفاق والاستقرار، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض بعض السلع وكان يقول: "من يزيد ؟".

الأمر بنشر التآخي: يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنشر التآخي بين المسلمين فيقول: "وكونوا عباد الله إخواناً "، أي اكتسبوا ما تصيرون به إخواناً من ترك التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضكم على بعض، وتعاملوا فيما بينكم معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلوب. ولا تنسوا أنكم عباد الله، ومن صفة العبيد إطاعة أمر سيدهم بأن يكونوا كالإخوة متعاونين في إقامة دينه وإظهار شعائره، وهذا لا يتم بغير ائتلاف القلوب وتراص الصفوف، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 62-63].

ولابد في اكتساب الأخوة من أداء حقوق المسلم على المسلم، كالسلام عليه، وتشميته إذا عطس، وعيادته إذا مرض، وتشييع جنازته، وإجابة دعوته، والنصح له.

ومما يزيد الأخوة محبة ومودة الهدية والمصافحة، ففي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تهادَوا فإن الهدية تذهب وَحَرَ الصدر" أي غشه وحقده.

واجبات المسلم نحو أخيه:

تحريم ظلمه : فلا يُدخل عليه ضرراً في نفسه أو دينه أو عرضه أو ماله بغير إذن شرعي، لأن ذلك ظلم وقطيعة محرَّمة تنافي أخوة الإسلام.

تحريم خذلانه: الخذلان للمسلم محرم شديد التحريم، لا سيما مع الاحتياج والاضطرار قال الله تعالى: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] وروى أبو داود: "ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص من عرضه إلا خذله الله في موضع يحب نصرته".

والخذلان المحرم يكون دنيوياً، كأن يقدر على نصرة مظلوم ودفع ظالمه فلا يفعل. ويكون دينياً، كأن يقدر على نصحه عن غيه بنحو وعظ فلا يفعل.

تحريم الكذب عليه أو تكذيبه: ومن حق المسلم على المسلم أن يصدق معه إذا حدثه، وأن يصدقه إذا سمع حديثه، ومما يُخِلّ بالأمانة الإسلامية أن يخبره خلاف الواقع، أو يحدثه بما يتنافى مع الحقيقة، وفي مسند الإمام أحمد عن النواس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كَبُرَت خيانة أن تُحَدِّث أخاك حديثاً هو لك مُصَدِّقٌ وأنت به كاذب".

تحريم تحقيره: يحرم على المسلم أن يستصغر شأن أخيه المسلم وأن يضع من قدره، لأن الله تعالى لما خلقه لم يحقره بل كرمه ورفعه وخاطبه وكلفه، فاحتقاره تجاوز لحد الربوبية في الكبرياء، وهو ذنب عظيم. والاحتقار ناشئ من الكبر.

التقوى مقياس التفاضل وميزان الرجال: التقوى هي اجتناب عذاب الله بفعل المأمور وترك المحظور، والله سبحانه وتعالى إنما يكرم الإنسان بتقواه وحسن طاعته، لا بشخصه أو كثرة أمواله. فالناس يتفاوتون عند الله في منازلهم حسب أعمالهم، وبمقدار ما لديهم من التقوى.

ومكان التقوى: القلب، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [ الحج: 32]. وإذا كانت التقوى في القلوب فلا يطلع أحد على حقيقتها إلا الله. كما أن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى، إنما تحصل بما يقع في القلب من عظيم خشية الله ومراقبته.

فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة أو مال أو جاه أو رياسة في الدنيا قلبه خراب من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوء من التقوى، فيكون أكرم عند الله تعالى، ولذلك كان التحقير جريمة كبرى، لأنه اختلال في ميزان التفاضل وظلم فادح في اعتبار المظهر، وإسقاط التقوى التي بها يوزن الرجال.

حرمة المسلم: للمسلم حرمة في دمه وماله وعرضه، وهي مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بها في المجامع العظيمة، فإنه خطب بها في حجة الوداع: يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم الثاني من أيام التشريق وقال: "إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ...".

وهذه هي الحقوق الإنسانية العامة التي يقوم عليها بناء المجتمع المسلم الآمن، حيث يشعر المسلم بالطمأنينة على ماله، فلا يسطو عليه لص أو يغتصبه غاصب، والطمأنينة على عرضه، فلا يعتدي عليه أحد، وحفاظاً على ذلك كله شرع الله تعالى القصاص في النفس والأطراف، وشرع قطع اليد للسارق، والرجم أو الجلد للزاني الأثيم.

ومن كمال الحفاظ على حرمة المسلم عدم إخافته أو ترويعه، ففي سنن أبي داود : أخذ بعض الصحابة حَبْلَ آخرَ ففزع، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يُرَوع مسلماً "، وروى أحمد وأبو داود والترمذي: " لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعباً ولا جاداً ". وفي البخاري ومسلم: "لا يتناجى اثنان دون الثالث فإنه يُحزنه" وفي رواية: "فإن ذلك يؤذي المؤمن والله يكره أذى المؤمن".

ما يستفاد من الحديث:

أن الإسلام ليس عقيدة وعبادة فحسب، بل هو أخلاق ومعاملة أيضاً.

الأخلاق المذمومة في شريعة الإسلام جريمة ممقوتة.

النية والعمل هي المقياس الدقيق الذي يزن الله به عباده، ويحكم عليهم بمقتضاه.

القلب هو منبع خشية الله والخوف منه.