الدولة العثمانية : السلطان احمد الثالث
السلطان أحمد خان الثالث ابن السلطان محمد خان الرابع 1115 - 1143 هـ
لما تبوّأ هذا السلطان التخت العثماني بعد تنازل أخيه له كان عمره ثلاثين سنة واستمرت الفتنة في أوّل حكمه ولم يتمكن من إخمادها وبقيت نحو ستة أسابيع وقتل فيها أكبر أولاد شيخ الإسلام فيض الله أفندي المقتول ثم نفوا باقي عائلته إلى قبرس وخرب الثائرون جملة منازل وقتلوا جاليق أحمد باشا أغاة اليكجرية وكان نال رتبة الوزارة وعزلوا الصدر الجديد قوانوز أحمد باشا وشيخ الإسلام إمام محمد أفندي وغيرها لتساهل السلطان لهم خوفاً على مركز السلطنة من أن يكون ألعوبة في يد أرباب الغايات وما زالت عوامل الثورة قائمة حتى تمكن السلطان ووزراؤه من نفي بعض أرباب المفاسد فهدأت الأحوال نوعاً.
وبينما كانت الاضطرابات بالآستانة تعدت عربان الحجاز على قوافل الحجاج بالنهب والقتل فاهتمت الدولة بتأديبهم وسيرت عليهم العساكر من طرابلس الشام وبيروت وجبل عجلون والقدس فأوقعت بهم وعادت الأمنية إلى ربوعها وأبقت الدولة الشريف سعد شريفاً لمكة المكرمة كما كان مع قيام الأدلة على اشتراكه مع العرب 1116 هـ ولما رأت الدولة سعي دولة الروسيا في مد نفوذها بجهات البحر الأسود شيدت بباطوم وبغداد جك وطمرق قلاعاً لحماية البلاد الآسيوية وعزل السلطان الصدر داماد أحمد باشا لخلاف وقع بينه وبين أوزون سليمان أغا أغادار السعادة وقد اهتم هذا الصدر كثيراً بنافع الإصلاحات فنظم دار الصناعة وأكثر من إنشاء المدارس والمعامل وغيرها وخلفه في الصدارة قلايلي قوز أحمد باشا فلم يلبث بها طويلاً.
بطرس الأكبر وشارل الثاني عشر وبالطه جي محمد باشا وواقعة بروت:
اعلم أنه من يوم أن تبوّأ السلطان أحمد الثالث التخت والحروب قائمة بين دولة السويد ودولة الروسيا ولما دخل شارل الثاني عشر المعروف عند العثمانيين بتيمور باش رأس الحديد بجيشه الجسيم في بلاد الرسوم وانتصر عليهم في واقعة ناروا (NARVA) وقهر جيوش الساقسون واليولونيين المتفقين واستولى على بلدتي لمبرغ ووارسوفا ونصب أحد ضباطه المدعو أستانسلاس ولهجنكي (STANISLAS LECZINSKI) أميراً على اللهستان ثم اقتفى أثر ملكها السابق أغست الثاني (AUGUSTE II DE SAXE) حتى أغار على ساكسونيا واضطره إلى طلب الصلح والتنازل عن دعواه في مملكة اللهستان.
وكانت دولة الروسيا من منذ معاهدة قارلوفجه أخذت تبني قلاعاً في بحر أزاق وحدود أوزي وبندر وتشيد سفناً لأنها كانت تنوي الضرر للدولة العثماينة وغفلت الدولة عن مراقبة حركاتها مراقبة شديدة دقيقة لاستصغار العثمانيين شأن هذا العدوّ الجديد وكانت الدولة لما وقعت الحرب بين شارل وبطرس افتكرت أن شارل ربما قام بتنفيذ ما يجب عليها هي من إضعاف شأ الروسيا وأرسلت له يوسف باشا محافظ باباطاغ ووالي أوزي يشجعه على دوام القتال ويعده بأن الدولة أمرت خان القريم بمساعدته متى دخلت عساكره داخل بلاد الروسيا ويروي أيضاً أنها كانت تريد أن تعقد معه اتفاقية سرية مبنية على الهجوم والدفاع لولا معارضة الصدر الأعظم جورليلي علي باشا الذي كان يرغب التمسك بشروط المعاهدة الصلحية المعقودة بين الدولة والروسيا وخير البقاء على الحيادة مدة المحاربات المذكورة.
ثم لما انتصر بطرس الأكبر على شارل الثاني عشر في ملحمة بلطاوة (POLTAWA) وانهزم مجروحاً التجأ للممالك العثمانية 1121 هـ 1709 م وتوسط له يوسف باشا المتقدم الذكر حتى تحصل على رخصة من السلطان تجيز لشارل الإقامة بمدينة بندر ولما تعدت فرسان الروسيا الذين كانوا يتعقبونه حدود الدولة من جهة أوزي وبغدان وكانت الروسيا أدخلت تحت سلطتها جميع القوزاق وهددت الحدود السلطانية بما شيدته من الحصون والمعاقل وكانت دائبة على إثارة أهالي المملكتين على العثمانيين عدت الدولة كل ذلك من الأسباب الشرعية لمحاربة الروسيا وسجنت سفيرها في قلعة يدي قله كالمعتاد لأن هذه العادة في الوقت المذكور كانت بمثابة أخذ السفير رهينة حتى تخرج تجار العثمانيين ورعاياهم من أراضي الدولة المراد محاربتها.
ثم أعلنت الدولة الحرب على بطرس الأكبر1122 هـ وتقدم الصدر الأعظم بالطه جي محمد باشا يقود جيشاً عظيماً يزيد عن مائة ألف مقاتل إلى جهة الطونة في أوائل سنة1123 هـ ولما عبر مضيق إيساقجي وخرج إلى صحراء قارتال بلغه خبر وصول جيش الروس وعدده أربعون ألف جندي من جهة حدود البغدان فتقدم الجيش العثماني وأحاط بجيش الروس بقرب قرية قالجي في المستنقعات الكائنة بجانب نهر بروت حتى أضحى بطرس الأكبر بجيشه في قبضة العثمانيين ونفد منهم الزاد والذخيرة وقطعوا الأمل من النجاة إلا بالاستسلام.
ولولا إن زوجته كاترينا تداركت الأمر بفطنتها وحيلتها لكان قضى على الروس سياسياً وذلك إنها عمدت إلى ما معها من المجوهرات والنفائس وما مع من برفقتها من الأميرات والوصائف فجمعتها وأرسلتها إلى الصدر الأعظم بالطه جي محمد باشا فتقبلها منها لخسة نفسه ودناءة أصله وأفرج عن الجيش وعقد معهم صلحاً من شروطه تنازلهم عن قلعة أزاق بما فيها من المدافع والآلات للدولة وأن يهدموا جميع القلاع التي شيدوها حديثاً في حدود الدولة وأن لا يتداخلوا فيما بعد في أحوال القوزاق وأن لا يتعرضوا لشارل الثاني عشر عند عودته إلى وطنه.
وهذا الصلح وإن كان صلحاً مجيداً يناسب مقام العثمانيين إلا أنه كان أكثر فائدة للروس لأنه خلصهم من ورطة لو وقعوا بها لما كانت تقوم لهم بعدها قائمة وتسمى هذه المعاهدة بمعاهدة فلكزن (FALKSEN) ولما سمع شارل ملك السويد بما فعله بالطه جي باشا اغتاظ جداً واجتهد في أعلام السلطان بخيانته ويقال إنه لما لام الصدر على عدم قبضه على بطرس الأكبر قال معتذراً من الذين كان يحكم بلاده بالنيابة عنه وليس من الصواب أن يكون كل الملوك خارج بلادهم.
وبعد التصديق على المعاهدة المذكورة 1122 هـ 1711 م استولى العثمانيون على قلعة أزاق بلا قتال ثم إن ملك السويد ورجاله اشتكوا للسلطان مما فعله الوزير بلطه جي محمد باشا وكيف إنه أخذ الرشوة من كترينه وأطلق السراح لجيش الروس وقد صادق خان القريم على أقوال ملك السويد المذكورة وثبتت هذه الأقوال حينما توقف مأموراوالروسيا عن تنفيذ بعض بنود المعاهدة المذكورة فعزل الوزير بلطه جي محمد باشا ونفي إلى ليمنى وأحيل مسند الصدارة على يوسف باشا ولما رأى السلطان منه استحساناً للمعاهدة التي عقدها بلطه جي باشا عزله وولى مكانه سليمان باشا واستعد السلطان بنفسه لمحاربة الروسيا فقصد أدرنة في الشتاء وعزل الصدر لأنه لم يوافقه على الحروب ونصب بدله القبودان خواجه إبراهيم باشا 1124 هـ وأصله قبودان غليون ونال القبودانية بعد حاجي محمد باشا ثم تداخلت دولتا إنكلترا وهولاندة في حسم الخلاف الذي بين الروسيا والدولة لأن الحرب يضر بمصالحهما التجارية وانتهى الأمر بعقد معاهدة أدرنة1125 هـ 1713م .
وكان من مقتضاها أن تنازلت الروسيا عن كافة ما لها من الأراضي على البحر الأسود بحيث لم يبق لها عليه ولا مينا واحدة ورفع عن عاتقها نظير ذلك المبلغ الذي كانت تدفعه سنوياً لخانات القريم وعزل سليمان باشا من القبودانية ووجهت إلى خواجه سليمان باشا ووجهت الصدارة العظمى للداماد علي باشا بعد عزل خواجه إبراهيم باشا لجهله بالأمور السياسية ثم إن شارل لما لم يتحصل على مرغوبه عاد إلى بلاده ثانية بعد أن أقام بأراضي الدولة ست سنوات.
حالة البحرية في الوقت المذكور:
إن النظامات التي كان أدخلها في البحرية ميزه مورتو حسين باشا عادت على الدوننما بالنجاح والفلاح وصيرتها قوية مهيبة ووصلت إلى درجة عظيمة من الاتقان والانتظام حتى أوقعت الرعب في قلوب الأعداء ولما تعين جانم خواجه محمد باشا1126هـ قبوداناً عاماً للدوننما تلقى الضباط والأفراد عموماً تعينه بالسرور والانشراح لأنه أول قبودان عام تخريج من الوجاقات البحرية ولما كان السلطان شديد الغيرة على إرجاع ما كان للدولة من البلاد أراد استرداد جزيرة مورة وكان البنادقة استولوا عليها كما سبق وتأيد حكمهم لها بمعاهدة قارلوفجه.
وفي مدة الحروب المتقدمة كانت الدولة مهتمة بتقوية أساطيلها كاهتمامها في تنظيم جيوشها وتقوية قلاعها وكانت دار الصناعة تبني ثلاثة غلايين كبيرة ولما كملت احتفلوا بإنزالها في البحر احتفالاً شائقاً حضره السلطان بنفسه وخلع على الصدر الأعظم والقبودان باشا ومدحهما على اهتمامها 1122 هـ .
ثم أرسلت الدولة أسطولاً مؤلفاً من ثمان سفن حربية للمحافظة على جزائر الأرخبيل من تعديات البنادقة خصوصاً وقد قبض هذا الأسطول على فرقاطة ابن مانيات أحد مشاهير قرصان البحر وكان بها نحو ستين شخصاً وبذلك عادالا من نوعاً إلى تلك الجهات لكثرة تعدى هذا الشقي على سفن التجارة العثمانية ثم عاد القبودان إلى استانبول وبعد عودته باشر بناء عدة سفن من النوع الخفيف لتكون صحبة العمارة عند استرداد مدينة أزاق من الروسيين ولما تمت التجهيزات خرجت العمارة 1123هـ 1711 م وكانت مركبة من22 قطيرة من قطائر أمراء البحرية و27 غليوناً و60 فرقاطة و120 سفينة خفيفة لنقل المهمات ومائة صندل من النوع المسمى قانجه باش وبروليق وغيرها فكان الجميع360 سفينة بها نحو ثلاثين ألف مقاتل تحت قيادة الحاج محمد باشا ومع ذلك فإن الدولة استولت على المدينة المذكورة بموجب معاهدة يروت السابق ذكرها بلا احتياج لحركات حربية وبعد ذلك أبحر أسطول مركب من ثمانية غلايين تحت قيادة خواجه إبراهيم باشا للمحافظة على سواحل الدولة في البحر الأبيض المتوسط.
حرب البنادقة واسترداد مورة:
لما كانت الدولة العلية لا يقر لها قراراً إلا باسترداد موره لما في تملكها من المنافع السياسية والتجارية واهتمام السلطان بهذا الأمر كثيراً أرسلت سنة 1127 هـ 1715 م دوننما مركبة من ثلاثين غليوناً وأربعين غراباً يقودها القبودان العام جانم خواجه محمد باشا وكانت العساكر البرية في تلك الأطراف يقودها الصدر الأعظم داماد علي باشا ولما وصلت العمارة إلى سلانيك استأذن القبودان الصدر الأعظم في فتح جزيرة إستنديل (TINOS) : فلما صرح له ذهب وحاصرها من كل جانب وبعد قليل من الزمن استولى عليها وطرد حامية البنادقة منها وكانت هذه الجزيرة في قبضة البنادقة مدة أربعة قرون تقريباً وكثيراً ما حاولت الأساطيل العثمانية افتتاحها فلم يتيسر لها فلما افتتحوها هذه المرة فرحوا واستبشروا وقويت آمالهم ثم تقدم الجيش البري تحت قيادة السردار المذكور وحاصر قلعة أنايولي وساعدته الدوننما بحراً فتم له الاستيلاء عليها بعد أن مكث على حصارها ثمانية أيام وما زالت الجنود العثمانية بعد ذلك تتقدم غانمة منصورة حتى أخضعت مدن متون وقرون وكردوس (CORINTHES) وغيرها في زمن يسير وفتحت العمارة جزيرة جوقه (SERIGO) بحيث لم يمض إلا القليل من الزمن حتى استردت الدولة شبه جزيرة مورة مع ملحقاتها من الجزائر وأسست فيها إدارة منتظمة كما كانت قبل تعدي البنادقة عليها هذا.
وقد أمرت الدولة الوزير محمد باشا محافظ قلعة خانية وأزميرلي علي باشا محافظ قلعة قندية من جزيرة كريد بالاستيلاء على قلعة سودة وأسبر لونغه وكورا بوزه وكانت لا تزال باقية تحت يد البنادقة بالجزيرة المذكورة من حين فتح قندية وقد تمكن القائدان المذكوران من تنفيذ ما عهد إليهما تماماً ومن ذلك الوقت صارت كريد بأجمعها تابعة للدولة العثمانية وزال من تلك الأطراف ما كان يأتيه قرصان البنادقة من المفاسد والأضرار بالأرواح والأموال إذ كانت تلك الجهات مركزاً لأعمالهم ومأوى لمفاسدهم ولما عادت الراحة والطمأنينة إلى هاتيك المعالم والمعاهد وانقشعت غياهب المظالم قفلت الدوننما عائدة إلى استانبول وذهب الصدر الأعظم إلى أدرنة لمقابلة السلطان.
وقائع النمسا ومحاصرة كورفو ومحاربة وارداين:
لما عاد الصدر الأعظم شهيد على باشا من مورة اهتم كثيراً في إصلاح الأمور الداخلية بينما كان يجهز أسطولاً وجيشاً لفتح جزيرة كورفو وفي تلك الأثناء كانت انتهت الحروب التي حدثت بسبب وراثة الملك بإسبانيا وعقد الأمبراطور شارل السادس أمبراطور ألمانيا مع ملك فرانسا لويس الرابع عشر معاهدة وإرشتاد 1125 هـ ولهذا أمكن لجمهورية البنادقة الاستغاثة بإمبراطور ألمانية المذكور لأنه المحامي عن معاهدة كارلوفجه ولما عزم على الأخذ بناصرها بعث إلى الدولة العثمانية يطلب منها أن ترسل معتمداً مرخصاً من قبلها إلى حدود المجر للمفاوضة معه في مسألة البنادقة وأن تكف عن القتال وترد للبنادقة ما أخذته منهم وقال إذا لم ترسل الدولة معتمدها وتقبل ما ذكر فهو لا يتأخر عن إشهار الحرب عليها ولما وصل رسول الأمبراطور جمع السلطان الوزراء والعظماء للمشاورة فأقروا على رفض مقترحات الأمبراطور وأمر السلطان ببذل الجهد في الاستعدادات الحربية لاسترداد ما أخذته النمسا قبلاً من الجهات وأخرج الدوننما إلى البحر ولما استعرضها سر من استعدادها.
وفي سنة 1128 هـ أقلع القبودان إبراهيم باشا بأسطول الطونة وكان مؤلفاً 15 من غاليته 25وفرقاطة وعشرة زوارق من النوع المسمى قانجه باش وثمانية أباريق ثم أعلنت الدولة الحرب على النمسا وأمر السلطان سر عسكر مورة قره مصطفى باشا والقبودان باشا بمحاصرة جزيرة كورفو وهي المكان الوحيد الباقي للبنادقة بتلك الأطراف ثم تقدّمت الجيوش العثمانية نحو قلعة وارادين وابتدأت المناوشات الحربية بين الجندين وتجاوزت الجنود العثمانية مدينة قارلوفجه (CARLOWITZ) ولما وصلت إلى وارادين مع الصدر الأعظم فاجأتها الجنود النمساوية تحت قيادة البرنس أوجين دوسافوا وحدثت بينهما واقعة شديدة قتل فيها الصدر الأعظم علي باشا وبعض القواد وانهزم الجيش العثماني تاركاً ميدان القتال ولهذا صدر الأمر بعد ذلك للعساكر الذين كانوا على حصار كورفو بتركها ولما عادت العساكر المنهزمة إلى بلغراد تقدمت جيوش النمسا وفتحت مدينة طمشوار من يد محافظها الحاج مصطفى باشا واستولت على أكثر إقليم البغدان 1129 هـ وتولي الصدارة خليل باشا محافظ بلغراد ثم وصلت جيوش النمسا وحاصرت بلغراد ولما تقهقر الصدر الجديد استولت الأعداء أيضاً على بلغراد 1717م .