صيدا والدولة العثمانية

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


صيدا والدولة العثمانية:

حسمت موقعة مرج دابق رجب 922 ه / 1561 م مصير الشام ومصر فأصبحتا تابعتين للدولة العثمانية، وأصبحت دمشق التي أسندت نيابتها إلى جان بردي الغزالي إيالة عثمانية تضم عشر سنجقيات، من بينها صيدا.

وزاد اضمحلال صيدا في العصر العثماني وفقدت أهميتها، وأصبحت أقرب ما تكون إلى القرية منها إلى المدينة، وقد اعتبرها صاحب الكواكب السائرة قرية عندما ترجم للشيخ كمال الدين محمد الخطيب، سبط الشيخ البرهان الباعوني المتوفي في صيدا في 12 جمادى من سنة 923 ه.

وفي بداية العصر العثماني خرج الأمير ناصر الدين محمد بن الحنش صاحب صيدا والبقاعين عن طاعة السلطان العثماني، فاستولى جان بردي الغزالي على صيدا، وفر الأمير ابن الحنش، ثم قتل. فولى السلطان سليم الأمير محمد بن قرقماس على بيروت وصيدا بالإضافة إلى التقدمة على بلاد البقاع، وذلك في 28 ذي الحجة سنة 923 ه / 1517 م.

بعد دخول صيدا تحت الحكم العثماني أصبحت عبارة عن قرية صغيرة، وعندما تولى الأمير فخر الدين المعني الإمارة ضم صيدا إليه، وخصها بالعناية، فازدهرت صيدا ازدهاراً لم تشهده منذ العهد الفاطمي، وعمل الأمير فخر الدين على تجديد رسومها، وترميم أبنيتها وقلاعها، وتحسين مرفئها وترويج تجارتها، وشجع على الصناعة فيها، وخاصة صناعة الحرير والصابون والصباغة.

وبلغت صيدا ذروة ازدهارها منذ أن اتخذها الأمير فخر الدين المعني الثاني بن قرقماز بن فخر الدين الأول في سنة 1594 حاضرة لإمارته ومقراً له.

ولم تلبث إمارة الشوف التي يتولاها أن اتسعت بعد أن ضم إليها بيروت وكسروان لمدة عام واحد، وذلك بعد انتصاره على يوسف باشا سيفا والي طرابلس في موقعة جرت عند نهر الكلب في سنة 1598، ثم تركها له برضائه.

وفي فترة رحلته إلى توسكانا بإيطاليا فيما بين عامي 1612 – 1617 م انتزع أحمد باشا الحافظ ولاية بيروت وكسروان من أتباع فخر الدين وسلمها إلى حسين باشا بن يوسف سيفا، كما أسند سنجقية صيدا إلى ابن البستنجي. ولما عزل الحافظ من منصبه في أواخر سنة 1614 بعد صدور فرمان العفو عن فخر الدين، أنعم جركس محمد باشا نائب دمشق الجديد على المير يونس المعني، شقيق فخر الدين، بسنجقية صيدا وبيروت وبلدانهما كما أنعم على الأمير علي بن فخر الدين بسنجقية صفد في سنة 1614.

وعندما عاد فخر الدين من رحلته في إيطاليا عمد إلى توسيع منطقة نفوذه، ففي سنة 1618 استولى على جبيل وهدمها وولى عليها الشيخ أبا نادر الخازن، وتمكن من استعادة عدة سنجقيات مثل صيدا وصفد ونابلس وبعلبك والبقاع وطرابلس وحوران وعجلون والكرك، فاتسع سلطانه وأدخل في إمارته أنواعاً جديدة من الزراعة كالتوت اللازم لتربية دود القز، كما طوّر الصناعات ونشّط التجارة البحرية، فكثرت موارده. وفي سنة 1620، حاصر فخر الدين قلعة طرابلس وكاد ينتزعها من يوسف باشا سيفا، وفي العام التالي ولاّه محمد باشا الكرجي على جبيل والبترون وبشرّي والضنية وعكار بالإضافة إلى إمارة الشوف وسنجقية صيدا. ولم يمض على ذلك عامان 1624 حتى أنعم عليه السلطان بولاية عربستان وتمتد من حدود حلب إلى حدود العريش. وتلقب بلقب "سلطان البر" وهو اللقب الذي كان يحمله جده فخر الدين الأول. وإلى هذه الفترة ترجع معظم منشآته وأعماله الداخلية، فقد شيد القصور وغرس الحدائق وأسس الفنادق، وحصّن القلاع، ونهض بالزراعة والصناعة والتجارة، وعقد المعاهدات التجارية مع قناصل الإفرنج.

غير أن الدولة العثمانية لم تلبث أن ارتابت في نوايا الأمير فخر الدين بسبب سعيه المتواصل لتخليص الشام من السيطرة العثمانية وإقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى ارتباطه بصلات سياسية مع بعض الدول المناهضة للدولة العثمانية، فعمدت إلى محاربته والقضاء عليه. وعهد السلطان مراد إلى الوزير الكجك أحمد باشا بقيادة حملة هدفها القبض على الأمير فخر الدين. وتم أسره في آخر جمادى الثاني سنة 1633، وحمل إلى القسطيطينية مع ثلاثة من أولاده هم منصور وحيدر وبلك وزوجاته الأربعة، ثم قتل بأمر السلطان مراد هو وأولاده الثلاثة وزوجاته في 13 مارس سنة 1635.

وشهدت صيدا في عهد الأمير فخر الدين الثاني ازدهاراً لم تشهده منذ أيام الدولة الفاطمية، فقد اهتم بها الأمير وخصّها بعنايته مذ اتخذها قاعدة لولايته، وكانت صيدا قبل ذلك مجرد قرية صغيرة تقوم في نواحيها أطلال دارسة من تاريخها القديم والوسيط، فعمل على تجديد رسومها وترميم ما عفى من أبنيتها وقلاعها وتحسين مرفئها وترويج تجارتها، واهتم بتنمية مواردها عن طريق تنشيط الحركة التجارية وحماية التجار من القراصنة، وتشجيع الصناعة وعلى الأخص صناعة الحرير والصابون والصباغة، وربط صيدا تجارياً بتوسكانا وغيرها، وزودها بالفنادق والخانات لنزول تجار الإفرنج.

ومن أهم منشآت فخر الدين المدنية والاقتصادية: إنشاء جسرين أحدهما على نهر الأولي من عقد واحد أقامه المهندس فرنسيسكو شيولي، والثاني على نهر القاسمية جنوبي صيدا، بينها وبين بلدة الصرفند، وإنشاء الخانات لنزول التجار الأجانب وأهمها خان الإفرنج أو الخان الفرنساوي الذي أصبح اليوم داراً لليتيمات تحت إدارة راهبات مار يوسف، وخان الرز. كذلك أسس قصراً لم يستكمل بناؤه يقع بإزاء خان الإفرنج، وأسس قصوراً أخرى تحيط بها الحدائق والبساتين. ومن أهم منشآته المدنية أيضاً توسيعه لمرفأ صيدا، وإنشائه الحمام البراني المعروف بحمام المير. أما أعماله الحربية فتقتصر على ترميم قلعة البحر وإقامة مسجد بها بقيت كثير من عناصره في وقتنا الحاضر. وقد اجتذبت هذه الإنشاءات وما أجراه من تسهيلات، التجار الأجانب وعلى الأخص التجار الفرنسيين.

ولكن كل هذا الإزدهار الذي نعمت به صيدا لمدة ثلاثين سنة لم يلبث أن غربت شمسه عندما طمر فخر الدين الميناء بالرمال والحجارة وحطام السفن حتى يوعر على الأتراك الطريق إلى اقتحامها بأساطيلهم.

ثم تولى على صيدا وبيروت بعد آل معن أحمد آغا الشمالي، ولكنه لم يلبث أن قتل في أرض خلدة على يد ابن علم الدين في سنة 1638 إبان الصراع بين القيسية واليمنية، ثم تسلمها محمد باشا الأرناؤوط والي طرابلس الذي أسند حكمها إلى زلفى آغا، ثم ولي عليها محمد باشا الأرناؤوط إسماعيل آغا.

وفي سنة 1068هـ ( 1658م) أصبحت صيدا نيابة يتولاها الباشا فتولاها في سنة 1170هـ (1660م) علي باشا الدفتردار ثم بعد عزله تولاها محمد باشا الأرناؤوط وذلك سنة1172هـ (1662م)، ولكن صيدا بعد مقتل الأمير فخر الدين اضمحلت اضمحلاً شاملاً.

في سنة 1187هـ ( 1773م) عين عثمان باشا والي الشام أحمد باشا الجزار متسلماً من قبله على بيروت، وجعل معه طائفة من المغاربة، فخان أحمد باشا الجزار الأمير، وصمم على مبارزته، ثم بدأ يجهز نفسه لحرب عثمان باشا، واستعان عثمان باشا بحسن باشا، واستطاعا أن يخرجا أحمد باشا الجزار من بيروت، ولكن الجزار توجه نحو مدينة صيدا بستمائة فارس، وأرسل الأمير من يكمن للجزار ومن معه، ولكن الكمين فشل، واستطاع الجزار أن يقتل عدداً من الجنود ويقبض على بقيتهم، وبدأ الأمير يفاوضه لإطلاق سراحهم مقابل مائة ألف قرش، ولما لم يستطع الأمير سداد ما عليه، توجه الجزار من صيدا إلى بيروت وقطع أشجارها وقتل عدداً من رجالها، وأصبحت بيروت تحت سيطرة الجزار، ثم عاد إلى صيدا ومنها انطلق إلى بعلبك.

ثم أنعم عليه ظاهر العمر وقلده قيادة جيشه، ولكن الجزار خانه وتأمر عليه وقتله بيده، وكان ظاهر العمر عدواً للدولة العثمانية، بعد مقتله أنعمت الدولة العثمانية على الجزار بولاية صيدا وعكا.

في سنة 1256هـ (1840م) أنشأت ولاية صيدا، وفي 9 جمادى الآخرة 1281هـ ( 8 تشرين الثاني 1864م) أجرى العثمانيون تعديلات إدارية ألغوا فيها آيلة (ولاية) صيدا وأتبعوها بولاية الشام وسميت قضاء صيدا، وفي سنة 1285هـ ( 1868م) كان قضاء صيدا يتكون من 48 قرية.

وكانت التقسيمات الإدارية غير منسجمة مع التضاريس الجغرافية، فكانت قرية عبرا ربعها يتبع لصيدا وثلاثة أرباعها لجبل لبنان، وإقليم التفاح بيت واحد فيها يتبع صيدا وجميع البيوت تتبع جبل لبنان، ومغدوشة نصفها يتبع صيدا ونصفها يتبع جبل لبنان، وكان أهل صيدا غير مرتاحين لهذه التشكيلات الإدارية فتقدموا بعريضة إلى السلطات العثمانية يطالبون بانضمام صيدا إلى متصرفة جبل لبنان حتى يستفيدوا من الامتيازات الضريبية وغيرها، وكان يقف وراء العريضة ثلاث شخصيات في المدينة من عائلات الأسير والزين والبزري، ولكن السلطات لم تستجب لتلك العريضة.

وفي سنة 1306هـ ( 1888م) صدر الفرمان السلطاني بإنشاء ولاية بيروت وجعل صيدا إحدى أقضيتها الخمسة، وكان قضاء صيدا يمتد بين قضائي جزين مرجعيون وقضاء صور، وكان يضم 128 قرية، وكانت مساحة قضاء صيدا 355كلم.

وفي سنة 1307هـ (1889م) ضمت نواحي الشقيف وجباع والشومر إلى قضاء صيدا وازدادت القرى 137قرية، وأقيم على هذا القضاء 9826 محلاً ومنزلاً.

وفي سنة 1310هـ ( 1893م) اقتطع بعض النواحي من صيدا وأصبح قضاء صيدا يتألف من 149 قرية.

كانت الحقبة الزمنية من تاريخ العهد العثماني في صيدا مليئة بالأحداث، مميزة بالوعي القومي العربي والتخلص من ظلم الحكام الأتراك الذين تعاقبوا على الحكم.

في الحرب العالمية الأولى ( 1914ـ 1918م) قاوم الشعب الصيداوي النقص في الأموال والأنفس، إذ أُجبر الكثير من أبناء صيدا على الخروج مع الجيش العثماني للقتال، وكان عاقبة الرافضين الاعتقال، والاعدام لمن وقف ضد العثمانيين.

وكان الكثير من الذين يفرون من الخدمة العسكرية يختبأون في أماكن آمنة، أو يتجولون وهم يلبسون ثياب النساء، ويسدلون على وجوههم النقاب.

وأيد أبناء صيدا كغيرهم من شعوب العالم الإسلامي الثورات المناهضة للحكم التركي، وكان عاقبة هؤلاء عند جمال باشا الإعدام كحال توفيق البساط وغيره، ونُصبت مشانق الإعدام للعملاء والخونة (كما يقول الأتراك) في 6 أيار 1916م.

وكان الجنود الأتراك يصادرون البغال والحمير والمواشي والقمح والذرة والشعير ويرسلوا بها إلى جبهات القتال وبلغ الجوع عند الكثير من الأهالي ذروته.

كما انتشرت في تلك الحقبة من الزمن الأمراض وبخاصة حمى التيفوس وداء الجرب، وجاءت موجات من الجراد الزاحف والطيار، أتت على الأخضر واليابس.

وبانتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الجيش العثماني في الحرب، بدأ بالانسحاب من البلاد التي كانت تحت سيطرته، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل القهر والعدوان ألا وهي مرحلة الاحتلال الغربي أو ما عُرف بالإنتداب.


لمحة تاريخية لمدينة صيدا ضمن الحقبة العثمانية:

من المعلوم أن دولة بني عثمان ابتدأ أمرها على يد مؤسسها السلطان عثمان غير أن أمورها توطدت وأملاكها اتسعت في زمن السلطان سليم وذلك سنة 1517م فكانت سورية لم تزل في حكم مماليك مصر إلا أن سليماً استولى عليها وجعلها في حوزته وعيّن لها عمالاً من قبله.

كانت سوريا خاضعة لدولة المماليك المصرية وحكومتها طراز حكومة الإقطاع المعروفة في أوروبا بالفيدالزم ذلك أن سكان الجبال والسهول الداخلية كانوا عشائر وقبائل يدينون لأحكام شيوخهم وأمرائهم. أما الثغور والمعاقل وأمهات المدن فكانت تدين لسلطة عمال الدولة الذين يلقى إليهم الحبل على الغارب ولم يكونوا يسألون عما يعملون اللهم إلا إذا قطعوا الخطبة للسلطان وأرادوا التملص من طاعته ولذلك كان حكم الدولة في سوريا وسماً ظاهراً ليس إلا.

وما برح هذا شأن القطر السوري إزاء دولة المماليك حتى غلبت على البلاد بالفتح العثماني سنة 923هـ/1517م فلم يرَ السلطان سليم أن يغير شيئاً من أحكام البلاد الأساسية بل أقرها على نظامها ومناحيها فظل أمراء سوريا ولبنان ومقدموها ومشايخها على ما كان لهم من السلطة والأمر لم يتبدل لهم حال إلا أنَّ طاعتهم انتقلت من سلاطين مصر إلى سلاطين آل عثمان.

فأصبح عمال الدولة في حلب والشام وطرابلس وعكا وصيدا ينالون مناصبهم من الآستانة بعد إذ كان يحرزها أسلافهم من مصر، على أن هؤلاء العمال أو الولاة كانوا يحرزون مناصبهم بالإلتزام، أي أنهم يتعهدون لخزينة الدولة بمال معين. يؤدون بعضه عاجلاً ويؤجلون منه شطراً. وقد يُطلب منهم الأداء كاملاً ويُزاد عليه مقدار من المال أيضاً لبعض المقربين والنافذين فيؤدى ويسمى خدمة.

وللوالي لقاء هذا الإلزام أن يجبي المال السلطاني من عمالته إما باستيفائه مباشرة أو بتلزيم المقاطعات لأربابها من الأمراء والمقدمين فيجري هؤلاء الملتزمون منه على خطته في الجباية والتلزيم. مثال ذلك أن أمراء بني معن كانوا يتولون لبنان من الشمال إلى الجنوب فيلتزمون من والي طرابلس الأنحاء الشمالية حتى كسروان ومن والي صيدا بلاد الشوف وهو أي الأمير يعطي التزام الأنحاء لرجاله فيتولونها على مال يؤدونه له.

أما المال المعين على الولاة لخزينة الدولة فإنه قبيل ختام القرن الثامن عشر الميلادي قد ورد أن والي طرابلس كان يؤدي في السنة ألف وخمسماية كيس (الكيس عبارة عن 500 غرش) يعطي نصفها لخزينة الدولة وينفق النصف الآخر على أعداد أهبة الجردة (أي مرافقة الحجاج). ويتعين عليه فوق هذا أن يجهز سرية من الجند تناهز الـ 500 فارس لترافقه إلى الحج وأن ينفق عليها من ماله. وكانت رايته ممتدة من اللاذقية إلى كسروان وله أن يجبي أموالها من ضرائب الأملاك والمكوس وتلزيم بلاد النصيرية وكسروان.

أما ولاية صيدا وهي التي نُسبت بعد حين إلى عكا، فإنها كانت متسعة النطاق بحيث تمتد من حدود ولاية طرابلس عند المعاملتين في كسروان إلى جنوبي المتصرفية في فلسطين وتعطى لملتزمها بمال يماثل مال طرابلس ويشترط عليه أن يصحب الحج الشامي مثله وأن يجند 900 فارس و 1000 راجل. وله لقاء ذلك أن يستوفي الأموال والضرائب ويعطي بالالتزام بلاد الدروز والمتاولة وبعض قبائل البدو.

وذكر الأمير حيدر في تاريخه بحوادث سنة 1026هـ/1617م بأن الأمير علي بن معن بعد رجوعه إلى صيدا ولّى على حكم بلاد الشوف وبلاد بشارة الأمير يونس وعدد الأمراء الذين ولاّهم على المقاطعات إلى أن قال: "وأعطى حكم مدينة صيدا وتوابعها إلى الشيخ حسين الطويل وذكر بأنه في تلك الأيام آخر شهر محرم وصل أحمد آغا التوتنجي مندوباً من قبل الصدر الأعظم محمد باشا في طلب المال الأميري وقدره 25 ألفاً. والمال الذي تعهد به هبة مائة ألف غرش. وبقي في صيدا أربعة أشهر ولم يحصل على شيء.. وذكر بعد ذلك عود الأمير فخر الدين من سفره واستقباله استقبالاً باهراً من ولده الأمير علي الذي كان يحكم صيدا وملحقاتها وبقية الأمراء.

وفي حوادث سنة 1028هـ/1718م أنه وصل في أواخر رجب إلى ثغر صيدا علي باشا القبطان وصحبه خمسين مركباً وأقام في صيدا ثلاثة أيام وقدَّم له الأمير فخر الدين وولده 50 ألف غرش كهبة ما عدا الذخائر. وخرج إلى صيدا وطلب الأمير أن يحضر إليه فردَّ له الجواب مصطفى آغا إنه إذا حضرنا إلى مقابلتك فما هو لائق بشأنك أن تمسكنا، وإن أطلقتنا ربما يصير عليك ملامة من الدولة. فاستحسن علي باشا جوابه. وكان موجود في صيدا مركب فلامنكي احتج عليه الباشا أنه قرصان (مركب يحوي لصوص البحر فيأتون للسرقة والنهب) وأخذه وكان فيه أربعون ألف غرش.

وفي حوادث سنة 1031هـ/1621م ذكر أنه في هذه السنة وردت إلى ميناء صيدا المراكب السلطانية وكان خليل باشا الوزير السابق قبطاناً عليها. وخرج إلى البر وجال في صيدا متفقداً. وفي الحال لاقاه الأمير علي بن معن وقبّل ذيل ثيابه ودعاه إلى دارته وقدم له الإكرام وخمسة آلاف غرش وحصان فقبلها، وأولم له وليمة في دارته فحضر وأكل معه ورجع إلى المركب.

لم يحدث في القرن الحادي عشر الميلادي في صيدا حوادث ذات بال وفي الإجمال إن حاكمها كان آنئذٍ الأمير فخر الدين وولده علي وقد حدث بها سنة 1033هـ/1623م "أنه قدمها ثمانية مراكب مغاربة من جهة تونس وكان في ميناء صيدا مراكب فرنساوية وفلامنكية فطلبوا منهم 10.000 غرش فامتنعوا عن إعطائهم وقربوا مراكبهم لتحت قلعة البلدة فأتت المغاربة على نية الحرب وضربوهم بالمدافع فالشواطئ حمت نفسها واستمر إطلاق المدافع بينهم ذلك النهار بطوله وعند الغروب ذهبت المغاربة ورست المراكب بعيدة عن الميناء وهذا جرى بين المغاربة والفرنساويين، أما مراكب الفلامنك فلم يتعرضوا لها فلمَّا سمع الأمير فخر الدين ذلك الخبر رحل من صور إلى صيدا ليلاً فوصلها عند طلوع الشمس وأرسل إلى المغاربة قوارب تسألهم عن مرادهم فلما علموا بوصول الأمير والعسكر أقلعوا وأبعدوا في البحر وأقام الأمير في صيدا ثلاثة أيام. وأخذ معه نصف السكان وتوجه إلى بيروت وأبقى ولده مع الباقين في صيدا". هكذا ذكر الأمير حيدر في تاريخه.

وفي سنة 1043هـ/1633م حضر كجك أحمد إلى صيدا وكتب للأمير يونس بن معن بالأمان فنزل من دير القمر إلى صيدا. وفي حال وصوله قتله، ثم إنه ذهب لحصار مغارة جزين التي اختبأ بها الأمير فخر الدين وهي مغارة منيعة في وسط الجبل لا يسلك إليها أحد إلا على الأخشاب والماء من داخل المغارة وابتدأت النقَّابين تنقب الجبل من أسفل وصاعد وما زالوا يقطعون في الصخر حتى بلغوا المغارة وملكوها وأوثق الكجك أحمد الأمير فخر الدين وأولاده منصور وحيدر وبلك مع مدبريهم ورجع بهم إلى الشام وقد أمر السلطان بعد ذلك بقتله وقتل أولاده لكثرة الشكايات عليه.

وفي سنة 1048هـ/1638م تعين أحمد باشا الشمالي حاكماً على صيدا وبيروت فكمن له الأمير علي بن علم الدين وقتله في أرض خلدة وفي سنة 1066هـ/1655م تولى صيدا وبيروت اسماعيل آغا وفيها مرض الأمير ملحم بن معن في عكا فأحضر بهودج إلى صيدا وتوفي بها وتولى صيدا وبيروت سنة 1071هـ/1660م محمد باشا الأرناؤوط.

وقد جعلت صيدا باشاوية في تلك السنة وكان أول من تولاها علي باشا الدفتردار وكانت فتنة عظيمة بينه وبين مشايخ المتاولة كما ذكر الأمير حيدر، وفي سنة 1073هـ/1662م عزل منها وتولى مكانه محمد باشا وفي سنة 1086هـ/1675م كانت إيالة صيدا بيد إسماعيل باشا وفي سنة 1090هـ/1679م تولاها خليل بن كيوان فبدا منه ظلم عظيم، وفيها توفي الشيخ حمد بن علي الصغير شيخ المتاولة وفي سنة 1092هـ/1681م تولاها أحمد باشا التفتجي. وفي سنة 1095هـ/1683م عزل عنها وتولاها بعد ذلك مصطفى باشا.

وفي سنة 1110هـ/1698م تولاها قبلان باشا وفي سنة 1119هـ/1707م توفي الأمير بشير الشهابي الشهير في بلاد صفد وحملوه إلى مدينة صيدا ودفنوه في مدفن آل معن.

وفي سنة 1120هـ/1708م كان والياً على صيدا بشير باشا. وفي سنة 1130هـ/1717م تولاها عثمان باشا أبو طوق للمرة الثانية.

وفي سنة 1143هـ/1730م كان والياً على صيدا أسعد باشا العظم وكان يبغض الأمير ملحم الشهابي بغضاً شديداً حتى قيل أنه كان لمَّا يصل إليه كتاب من الأمير ملحم يضع يده على إسمه لئلا يقع نظره عليه ومع ذلك لم يقدر عليه أن يضره ولا يغيره من حكمه.

وفي عام 1147هـ/1734م انتقل أسعد باشا العظم من إيالة صيدا إلى إيالة دمشق وتولى إيالة صيدا أخوه سعد الدين باشا والي طرابلس.

وفي سنة 1156هـ/1743م تولى سعد الدين باشا الموصى إليه دمشق وقام مقامه عثمان باشا المحصل.

وفي سنة 1163هـ/1749م كان والياً على صيدا مصطفى باشا القواص ولقب بالقواص لأنه كان ماهراً في إطلاق البنادق حتى قيل أنه كان يرمي الرصاص من دار الأمير ملحم في الدير إلى قاطع بعقلين فيصيب الهدف المنصوب له وقد دعى هذا الوالي الأمير ملحم إلى دير القمر ثم إلى الباروك وقدم له كل إكرام.

وفي عام 1175هـ/1761م كان والياً على صيدا رجل اسمه نعمان باشا، وفي عام 1177هـ/1763م كان والياً عليها محمد باشا العظم.

وفي عام 1174هـ/1760م تولى عليها درويش باشا بن عثمان باشا الصادق ولما انكسر عسكر أبيه في الجولة انهزم من صيدا إلى دمشق وأقام بها أياماً وبعد رجوعه إلى صيدا عصت عليه مشايخ المتاولة وأرسلوا يتهددونه كي يقوم من صيدا فأعلم بذلك الأمير يوسف الشهابي فأرسل له عسكراً ليحافظ على المدينة فترك له مقابل ذلك مطلوب بيروت والجبل تلك السنة ثم رأى أن الشيخ ظاهر العمر ومشايخ المتاولة متشددين في العصيان فخاف على نفسه لأنه كان جباناً وأخلى صيدا ورجع إلى دمشق.

وفي سنة 1175هـ/1761م قدم الأمير يوسف الشهابي بعشرين ألف مقاتل إلى جبل عامل وأثناء وصوله إلى جسر صيدا أرسل عقَّال الدروز للمحافظة على صيدا مع الشيخ علي جنبلاط وقد انكسر الأمير يوسف كسرة هائلة لأن المتاولة تغلبت عليه ومزًقت مقاتلته كل ممزق مع كثرتهم ولما بلغ ذلك الشيخ علي جنبلاط والعقَّال الذين معه فروا من صيدا إلى بلادهم، ولما انصرفوا وخلت صيدا من الرجال أرسل الشيخ ظاهر العمر من قبله متسلماً يقال له أحمد آغا الدنكزلي فأرسل عثمان باشا المصري الذي جاء ساري عسكر على عربستان الدالي خليل وجاء معه أحمد بك الجزار ومعهما ألف فارس ومدافع وزنبركات وذخيرة وعند وصولهم إلى عين السوق التقاهم الأمير يوسف بكل إكرام وجمع عساكر بلاده وساروا جميعاً إلى حصار مدينة صيدا. وكانت عساكرهم أكثر من 20 ألفاً فأقاموا على حصار صيدا سبعة أيام وتضايق أحمد اغا الدنكزلي وعزم أن يسلمهم المدينة ويطلب الأمان، وفي أثناء ذلك رجع أكثر عسكر الدروز إلى البلاد فسكن روع أحمد آغا بذلك وكان الأمير علي بك والشيخ ظاهر العمر أرسلا إلى ملكة المسكوب أن تمدهما بالمراكب إلى بلاد العرب واتفق في ذلك الوقت وصول المراكب إلى عكا وهي خمسة مراكب كبار وجملة مراكب صغار وعند وصولها إلى هناك أرسلها الشيخ ظاهر إلى صيدا، وكان عسكر الأمير يوسف عسكر الدولة لم يزل على حصار صيدا فأطلقت المراكب عليهم المدافع فرحلوا إلى حارة صيدا وحضر إلى الأمير يوسف رسالة من الشيخ ظاهر العمر أن يرجع بعسكره إلى جسر صيدا وهناك يصير الاتفاق بينهما وأن لا تصل إليهم العساكر فأبى الأمير يوسف الرجوع، ولما وصل جوابه إلى الشيخ ظاهر سار بعساكره وعسكر المتاولة وجملة من خيل من الغز التي حضرت مع علي بك من مصر فكان عسكراً ينيف عن عشرة آلاف نفس حتى وصل إلى براك التل التي في أول سهل الغازية بالقرب من مدينة صيدا فبات هناك.

وعند صباح 22 أيار الموافق شهر رجب نهار الثلاثاء التقى العسكران في سهل الغازية، فكان عسكر الدولة مغلوباً وأما المراكب المسكوبية فإنها بعد كسرة العساكر في صيدا سارت إلى مدينة بيروت.

ثم طلب الشيخ ظاهر العمر الأمان من والي الشام عثمان باشا المصري فكتب الوالي المشار إليه كتاباً إلى الأمير يوسف جاء فيه ما يلي:

"وقد انتهت الأمور إلى استكشاف ما في الصدور وألهم الله كلاً من ذوي العقول رشده وطلب نجاحه وسعده فمن أجل من طلب النجاح وغرَّد طائر سعده بحي على الفلاح قدوة المشايخ الكرام وعين أعيان العقلاء الفخام صاحب المقام المعتبر أخونا الشيخ ظاهر العمر، وقد حرَّر إلى نادينا الدستوري وسأل الدعاء وتمسك بحبل العهود والوفاء وأعلن الطاعة لحضرة مولانا السلطان ظل الله في أرضه نصره العزيز الرحمن على شروط وعهود معلومة، واستعطف أن ينعم عليه بإيالة صيدا على وجه الملكية ويرسل البقايا الباقية عليه في إيالة صيدا خمسمائة ألف قرش من المال السلطاني ويؤدي خدمة حراسة ولوازم المحمل الشريف كجاري المعتاد".

وقد وصل هذا الكتاب سنة 1187هـ/1773م فأجاب الأمير يوسف جواباً حسناً لكنه كان يكره باطناً ذلك لأنه يعز عليه أن يكون الشيخ ظاهر العمر والياً على إيالة صيدا ويكون هو حاكماً من تحت يده.

غير أن هذه النعمة لم تدم للشيخ ظاهر لأن الدولة كانت واجدة عليه مستاءة من غروره بنفسه، فطلب محمد بك أبو الذهب المصري أن يكفي الدولة شره وكشف لها سر أحد أنصاره علي بك المصري وسره فأذنت له بذلك فكانت العاقبة قتل الشيخ ظاهر خارج عكا وكان متسلم صيدا آنئذ من طرف الشيخ ظاهر أحمد آغا الدنكزلي فقدَّم معروضاً لمحمد بك أبي الذهب فأقره على ولايته. وفي ذلك الحين نهب الشيخ علي بن الشيخ ظاهر العمر الأموال الموجودة في خان الإفرنج.

وفي سنة 1191هـ/1777م حضر أحمد باشا الجزار والياً على إيالة صيدا وعزل منها محمد باشا الذي كان والياً من قبل حسن باشا غازي وجاء عسكر تلك السنة من الآستانة فأرسلهم الجزار إلى بيروت. ولما علم بذلك الأمير يوسف الشهابي أرسل ليلاً المشايخ النكدية وصحبهم مائتي فارس ليقطعوا على العسكر الطريق عند السعديات فانتشب بين الفريقين القتال وأسفر عن قتل بعض مشايخ النكديين وانكسار عسكرهم فرجع عسكر الجزار إلى صيدا ومعهم الأسرى الذين قبضوا عليهم فسجنوهم هناك وأبلغ الأمير يوسف حسن باشا والي عربستان في واقعة الأمر وكان يكره الجزار لتعيينه والياً على صيدا بدون رأيه فحضر بالمراكب من عكا إلى صيدا ولما خرج إلى البر التقاه الجزار وتقدم ليقبِّل ذيل ثيابه فنفر منه حسن باشا وأصاب الخنجر وجه الجزار فجرحه.

وفي سنة 1192هـ/1778م هرب الشيخ واكد نكد وابن عمه الشيخ محمود من قلعة صيدا بواسطة رجل من ساحل صيدا اسمه حنا بيدر كان يتردد عليهما ففك قيودهما وأنزلهما من كوة القلعة ليلاً فوهباه قرية الوردانية وصار لقدومهما فرح عظيم في البلاد ثم نقل الجزار مركز الولاية إلى عكا لحصانتها فضعف أمر صيدا لكن بقيت الإيالة يطلق عليها إيالة صيدا وإن كان المركز عكا. وكانت صيدا غالباً مركز بعض العساكر ويتردد عليها جماعة من الأمراء الشهابية والمشايخ الجنبلاطية.

وفي سنة 1206هـ/1791م حصل بها وباء شديد وحضر ماية رجل مع حنا بيدر الذي أطلق المشايخ النكدية إلى جسر صيدا فأخذوا ذخيرة عسكر الدولة وكانت 28 بغلاً.

وما زال الجزار يُخاطب بوالي صيدا وقد حضر له فرمان سنة 1212هـ/1797م من السلطان سليم يحثه به على قتال الفرنساويين يقول له به بعد الديباجة (والي صيدا الحاج أحمد باشا الجزار) وفي الإجمال إن جعل الجزار عكا مركز ولاية عجَّل على سقوط صيدا وقد طرد الفرنسيين منها عام 1791م/1206هـ وابتدأت بيروت منذ ذلك الحين أن تكون ميناء البلدان السورية.