الدولة العثمانية : السلطان مراد الرابع

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


السلطان مراد خان الرابع ابن السلطان أحمد خان الأول 1032 - 1049 هـ

جلس هذا السلطان على التخت وعمره 14سنة ولما علم أن الصدر الأعظم كمنكش علي باشا أخفى عليه خبر سقوط بغداد في يد العجم عده خائناً وعزله وعين بدله جركس محمد باشا، أول شيء أجراه هذا الصدر أنه توجه بجيش جرار لإطفاء ثورة أبازه باشا وبعد واقعتين حصلت بينهما تمكن الوزير من تشتيت شمل جموع أبازه باشا واستأمن من كثير من قواده وبعد ذلك أرسل أبازه باشا يلتمس العفو من السلطان فعفا عنه وجعل بكلر بك أرضروم كما كان 1034هـ .

ولما خمدت نيران هذه الفتنة من جهات أرضروم وسيواس أخذ الصدر المذكور يجهز الجيوش بعد عودته إلى توقات لاستراد بغداد إلا أنه مات بعد عودته بقليل ولما وجه مسند الصدارة إلى حافظ أحمد اشا جهز جيشاً بديار بكر يبلغ عشرين ألف مقاتل ثم سار به وحاصر بغداد وانتشب القتال ودام أياماً ولما طال الحصار وسئمت العساكر وأخذوا يهزأون بحافظ باشا لأنه قال لهم: إن مفاتيح بغداد في جيبه ثم تآمروا عليه وعزلوه وحبسوه في قلعة خارج بغداد وأقاموا عليهم مراد باشا ثم عزلوه هو أيضاً وأرجعوا حافظ أحمد باشا ثم قاموا عليه أيضاً يريدون قتله وأخيراً اتفقوا معه ثم نهض بهم راجعاً عن حصار بغداد بعد أن دفن في الأرض ما كان بجيشه من المدافع وآلات الحصار وأرسل الشاه عباس خلفه فرقة من الجنود تتعقبه فعاد إليها وأوقع بها ثم قتل مراد باشا لأنه السبب في تحريك طوائف السياهية وتمردهم ثم تقدم إلى الموصل وأقام به حتى أتاه السلطان بالتقدم إلى حلب حيث يصله المددو بعد ذلك عزل حافظ باشا ووجهت الصدارة إلى خليل باشا.

ولما عاد حافظ باشا مهزوماً تقدّمت الأعجام واستولت على قلعة أخسخه وحاصروا قارص ولما وصل الصدر الجديد خليل باشا مركز الجيش بتوقات عين أبازه باشا والي أرضروم المتقدم الذكر لاسترداد أخسخه إلا أنه بينما كان يستعد للسفر أتى أمر بتعيين قائد آخر بدله يدعي حسين باشا فحنق لذلك أبازه باشا وداخله الخوف واحتال حتى اغتال حسين باشا وأتباعه شاقاً عصا الطاعة ثم تحصن في أرضروم وأتى الصدر خليل باشا وحاصره إلا أنه لم يتمكن من عمل شيء لنقص ذخائره الحربية ولما توفي خليل باشا بعد ذلك ولي الصدارة خسروباشا ولما كان من رجال اليكجرية ومن ذوي التدبير والشدّة تمكن من تنظيم الجيوش قمع من تمرد منها وبعد أن أصلح ذات البين بين شريف مكة ووالي اليمن ووالي مصر قاد جيشاً يبلغ 150000مقاتل وتقدّم لحصار بغداد وأرسل وهو في الطريق جيشاً مع جعفر باشا بكلر بك قارص فهزم جيش العجم الذي كان يقصد مساعدة أبازه باشا ثم أخضع أبازه باشا 1038هـ ولما حاصر الصدر المذكور بغداد لم يتمكن من فتحها فعاد إلى الموصل وهناك صنع وليمة لبعض طوائف الجنود ولما اجتمعوا خرج عليهم من أكمنهم لهم فقتلوهم لأنهم السبب في عدم نجاح حصار بغداد ثم طلب الإمداد من الدولة لإعادة حصار بغداد.

وبعد حوادث طويلة مات الشاه عباس بعد أن حكم 43 سنة فأرسل حفيده الشاه صفين الذي جلس مكانه جيشاً عجمياً يبلغ 40 ألف مقاتل تحت قيادة زينل خان للمحافظة على الحدود فقابله الصدر الأعظم وباشا وهزمه أمام قلعة مهربان وقتل من الإيرانيين30 ألف نفس واستأمن من زينل خان بمن معه إلا أنه قتل أيضاً وهرب الشاه وأغار الصدر الأعظم خسروباشا على جهات همذان ودركزين ونهاوند 1040هـ وبينما كان يقصد مهاجمة أصفهان مقر الدولة الصفوية أتاه مرسوم السلطان بالعودة إلى حصار بغداد ولما كان يستعد لإنفاذ الأمر عزل من الصدارة وولي مكانه الصدر الأسبق حافظ أحمد باشا 1041هـ .


سفر السلطان إلى آذربيجان وفتح روان:

لما كانت سوق الحرب قائمة بين الدولة ومملكة العجم منذ زمن طويل لم تنقطع وإن كانت توقفت في بعض الأحيان أي عقب موت الشاه عباس للأسباب السابق ذكرها صمم السلطان على قيادة الجيش بنفسه لفتح بغداد واستعدّ للحملة على العراق إلا أنه حوّل بعد ذلك عزمه وأراد فتح مدينة روان فقصدها 1044هـ بعد أن ترك بيرام باشا للمحافظة على دار الخلافة وفي أثناء ذهابه قتل كثيراً من الأمراء الجلالية الذين تحقق له ارتكابهم المفاسد والتعديات ثم تقدم وفتح روان وكان قصده تمضية فصل الشتاء في حدود العجم ثم يقصد أصفهان في الربيع إلا أنه أصيب بالنقرس في ركبتيه فعاد إلى الاستانة وترك مرتضى باشا للمحافظة على روان وأخذ معه خان روان المدعو أميركون وكان استسلم للدولة 1045هـ .

ولما أقبل الشتاء جمع الشاه جيشاً وحاصر روان واستردّها بعد حصار جرح فيه مرتضى باشا جرحاً بليغاً مات به ولما كان الصدر الأعظم محمد باشا بالجيش في أرضروم ولم يمدّ مرتضى باشا قصداً كما ظهر من التحقيقات التي أجريت بعد ذلك لكراهية الصدر لمرتضى باشا عزل الصدر المذكور وولي مكانه بيرام باشا 1046هـ .


استرداد بغداد:

لما كانت مدينة بغداد من المراكز المهمة التي يجب أن تكون في يد الدولة وكان السلطان صمم على استردادها بنفسه ولم يصرفه عنه إلا فتح مدينة روان أمر سنة 1047 هـ بالتجهيزات ثم قصد العراق على رأس جيش يبلغ مائة ألف مقاتل ورافقه شيخ الإسلام يحيى أفندي والقبودان قره مصطفى باشا وقبض وهو في الطريق على رجل كان يدعى المهدوية ويسمى بالشيخ كامل وقتله بعد أن أفتى له العلماء وأراح من بدعته العباد ولما وصل إلى الموصل قدم عليه سفراء من قبل ملك الهند شهاب الدين جهان شاه وأعلموه أن ملكهم سيهجم على بلاد العجم من جهات قندهار ثم بعد أيام توفي الصدر الأعظم بيرام باشا فتولى الصدارة طيار محمد باشا ولما قرب السلطان من حدود العجم كان انضم إلى جيشه جميع الجنودالمعسكرة ببلاد الأناضول حتى بلغ جيشه فيما قيل 300 ألف مقاتل.

ثم وصل الجيش أخيراً إلى بغداد بعد خروجه بمائة يوم وسبعة وتسعين يوماً وفي الحال أحاطت العساكر بأطرافها وكان الشاه لما بلغه تقدّم الجيش السلطاني أتى من تبريز بالجيوش والتقى بعساكر الدولة على شاطئ الدجلة فقاتلوه قتالًا شديداً ثم هزموه هزيمة منكرة ثم شددوا الحصار على بغداد وسلطوا المدافع على الأبراج وكانت مائتي برج فخربت وهدمت كثيراً منها وأمر المهندسون بعمل لغم عظيم وملؤه بالبارود ولما أطلقوه هدم جانباً عظيماً من الأسوار فلما رأى أهل بغداد ما دهمهم بعثوا إلى الشاه بأنهم سيضطرون إلى التسليم إن لم ينجدهم فبعث الشاه إلى السلطان في طلب الصلح فلم يقبل منه ثم شدّد الحصار وأكثر من الهجوم ليلاً ونهاراً حتى قتل الصدر الأعظم وبعد مضي أربعين يوماً من حصار المدينة استأمن محافظها بكتاش خان فدخلها الفاتحون يوم الجمعة الثامن من شعبان سنة 1048هـ وقتلوا في ذلك اليوم من العجم أكثر من عشرين ألفاً وأسروا كثيراً منرؤسائهم.

ولما كان مرض النقرس يشتد بالسلطان ترك أمر الصلح والحرب بيد الصدر الأعظم قره مصطفى باشا الذي تولى بعد محمد باشا ورجع هو إلى دار السلطنة سالماً غانماً منصوراً وكان لدخوله فيها احتفال عظيم وكان معه خمسون من خانات العجم بملابسهم مكبلين بالسلاسل وكان حاملاً بيده حزمة من الأسلحة مشتملاً جلد نمر كما فعل اسكندر الأكبر حينما فتح مدينة بابل وبعد عودة السلطان طلب شاه العجم الصلح من الصدر الأعظم وأرسل لذلك سفراء على شرط أن تستولي الدولة على بغداد وترد لإيران مدينة روان وبعد أن نقل الصدر هذه الشروط إلى السلطان وتبودلت المخابرة فيها بين الطرفين تمّ أمر الصلح وأمضيت شروطه 1049هـ 1631م .


وفاته:

ثم اشتد المرض بالسلطان فعاجلته الوفاة في السادس عشر من شوّال من السنة المذكورة وكان رحمه الله عاقلاً ثاقب الرأي شجاعاً له قوّة يفوق بها أعظم الأبطال حتى لقبه المؤرخون باسكندر الثاني وكان على جانب عظيم من الاقتدار والهمة قبض مع صغر سنه على زمام الإدارة وهي على ما هي عليه من الاختلال فأحسنها وقهر المفسدين وقمع العصاة واستأصل الطغاة من جنود اليكجرية الذين قتلوا أخاه ومدحته الشعراء وقد لقب هذا السلطان بمؤسس الدولة الثاني لأنه أحياها بعد السقوط ونشرها بعد الحشر بسبب تلك الثورات وأكثر من الفتوحات وأصلح حال ماليتها حتى أمست في يسر وسن لها النظامات العادلة والقوانين الموافقة.