الحج : الجنايات
الجنايات:
قرر الفقهاء وجوب الجزاء على من ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، ما دام فعل محظور الإحرام قبل التحلل ولو بقليل، حسبما عرفت من نوعي التحلل. أو أخل بما يجب عليه من الأعمال في الحج أو العمرة، وأنه إن فعل ذلك عامداً فقد أثم، ويجب عليه الجزاء والتوبة، ولا يخرجه العزم على الفدية عن كونه عاصياً آثماً.
وربما ارتكب بعض الناس شيئاً من هذه المحرمات، وقال: أنا أفتدي، متوهماً أنه بالتزام الفدية يتخلص من وبال المعصية، وذلك خطأ صريح وجهل قبيح .. وليست الفدية مبيحة للإقدام على فعل المحرَّم ومَن فعل شيئاً مما يحكم بتحريمه فقد أخرج حجَّة عن أن يكون مبروراً.
ضوابط عامة في أنواع جزاءات الجنايات:
أ- فساد الحج والعمرة، وما يترتب عليه من القضاء والهدي، وذلك بالجماع قبل الوقوف بعرفة إجماعاً، وبالجماع بعد الوقوف قبل التحلل الأول عند الأئمة الثلاثة، خلافاً للحنفية، كذلك تفسد العمرة بالجماع قبل أداء ركنها.
ب- الهَدْي : وربما عُبِّرَ عنه بالدم، وكل موضع أطلق فيه الدم أو الهَدْي تجزيء الشاة، إلا من جامع قبل الوقوف بعرفة، فعليه بدَنة عند الأئمة الثلاثة وشاة عند الحنفية، وإلا من جامع بعد الوقوف قبل التحلل الأول فعليه بدنة اتفاقاً.
ج- الصدقة: حيث أُطْلِقَ وجوب "صدقة" عند الحنفية من غير بيان مقدارها، فإنه يجب نصفُ، صاع من بُرِّ "قمح" أو صاعٌ من شعير أو تمر، ويصح دفعها أين شاء، ولو في غير الحرم، وقيدها الشافعية بالحرم وأوجبوا صاعاً من البُرِّ أو غيره، وتكون الصدقة من أصناف زكاة الفطر، ويجوز إخراج القيمة عند الحنفية خلافاً للأئمة الثلاثة. والصاع يساوي /3640/ غراماً عند الحنفية و /1730/ غراماً عند غيرهم على التقريب. والمُدُّ يساوي ربع صاع.
د- الصيام: يجب الصيام مقابل الطعام، أو على التخيير في الفدية كما هو مفصل فيما يأتي، والصوم لا يتقيد بالحرم ولا بالزمان والتتابع باتفاقهم، إلا الصيام لمن عجز عن هَدْي القِران والتمتع، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. والصوم إنما يقع بدلاً عن دم الشكر لا عن دم الجبر، فاحفظ هذه الكلية في نفسك.
هـ- الضمان بالمثل: وذلك في جزاء الصيد، على ما سنذكر من التفصيل.
و- الفدية: حيث أطلق وجوبها عند المالكية والشافعية والحنبلية فالمقصود الفدية المخيرة التي نص عليها القرآن : {فَفِدْيةٌ مِن صِيامٍ أوْ صدَقةٍ أوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
ز- لا ينقص حظ كل مسكين في الصدقة عند الحنفية عن نصف صاع بُرٍّ أو صاع من شعير أو تمر إلا ما يفضل في كفارة الصيد أو كان الواجب أقلّ من أصله.
ومذهب المالكية والشافعية لا ينقص في الفدية عن مُدَّيْن ولا يزيد لكل واحد من غالب قوت البلد، وأما في جزاء فمُدٌّ كامل لا يزيد ولا ينقص، ونحوهم مذهب الشافعية.
ومذهب الحنابلة: إطعام الفدية إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مُدُّ بُرٍّ أو نصف صاع من تمر أو شعير أو غيرهما مما يجزئ في صدقة الفطر، وكذا الحكم في الإطعام لكفارة الصيد.
ح- الجنايات على الإحرام بالحج أو بالعمرة عقوبتها واحدة، إلا من جامع في العمرة قبل أداء ركنها، فتفسد اتفاقاً:
قال الحنفية والحنابلة: عليه شاة.
وقال الشافعية والمالكية عليه بدنة. وحيثما ذكرنا ودجوب الدم دون تقييد فهو شاة.
المبحث الأول: في الجنايات في اللبس وما يتعلق ببدن المحرم
يتناول هذا المبحث جناياتِ اللبس وتغطية الرأس، والحلق، وقلم الظفر، والطيب،والأدهان.
والأصل في عقوبة هذه الجنايات كلها قوله تعالى :
{وَلاَ تَحْلِقُوا رُوؤُسَكُمْ حَتَّى يَبّلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكمُ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
والنص وارد في جناية الحلق، لكن اتفقوا على إلحاق سائر الجنايات الآنفة به، وأوجبوا فيها الفداء، لأنها ترفه وزينة فهي كالحلق.
أ- الآية واردة في جناية المعذور الذي حلق لمرض أو أذى، وهي صريحة في أن فديته واجبة على التخيير بين الأمور الثلاثة. وهذا موضع اتفاق بين العلماء، إذا كانت جنايته كاملة : إما أنْ يذبحَ شاة، أو يتصدق بثلاثة أصوع، على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام. وإنْ كانتْ قاصرةً يجب عليه صدقة يأتي بيان قدرها في كل موضع بحسبه، ويتخير بينها وبين أنْ يصوم يوماً عن كل نصف صاع عند الحنفية.
ب- أما العامد الذي لا عذر له:
ذهب ا لحنفية إلى أنه أن لا يتخير، بل يجب عليه الدم عيناً أو الصدقة عيناً حسب جنايته مما سيأتي تفصيله، واستدلوا على ذلك بالآية، لأن التخيير شرع فيها عند العذر من مرض أو أذى، وغير المعذور جنايته أغلظ فتتغلظ عقوبته، وذلك بنفي التخيير في حقه.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يتخير أيضاً، كالمعذور، واستدلوا بالآية أيضاً.
ج- وأما المعذور بغير المرض والأذى، كالناسي والمُكْرَهِ والجاهل والنائم.
ذهب الحنفية إلى إلحاقه بالعامد، وقالوا إنه لا يتخير، لأن الارتفاق حصل له، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه.
ذهب المالكية إلى أنه يجب الفداء مُخَيَّراً كالعامد.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى التمييز بين جناية فيها إتلاف، وجنايةٍ ليس فيها إتلاف، فأوجبوا عليه الفدية في الاتلاف يستوي عمده وسهوه، ولم يوجبوا فدية في غير الاتلاف، وهو اللبس وتغطية الرأس والطيب.
المذاهب في الفدية لكل من جنايات:
أولاً: اللباس:
ذهب الحنفية إلى أنه مَن لبس شيئاً من الألبسة المحظورة في الإحرام نهاراً كاملاً أو ليلة، كأَنْ لبس مخيطاً، أو غطى الرجل رأسه أو وجهه وجب عليه الدم، وكذا المرأة إذا غطت وجهها غطاء يمسه. وإن كان أقل من يوم أو ليلة فعليه صدقة.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه يجب الفداء بنفس اللبس، ولو لم يستر زمناً.
وذهب المالكية إلى أنه يشترط لوجوب الفدية من لبس الثوب أو الخف أن ينتفع به من حر أو برد، فإنْ لم ينتفع به من حر أو برد، بأنْ لبسَ قميصاً رقيقاً لا يقي حراً ولا برداً يجب الفداء إن امتد لبسُه مدةً كاليوم، لأنه يحصل فيه ارتفاق.
ثانياً: الطيب:
فرّق الحنفية بين تطييب المحرم بدنه وبين تطييب ثوبه:
أ- أما البدن فقالوا: تجب شاة إن طيب المحرم عضواً كاملاً، مثل الرأس، واليد، والساق، أو ما يبلغ عضواً كاملاً. والبدن كله كعضو واحد إن اتحد مجلس التطيب، وإن تفرق المجلس فلكل طيب كفارة، وتجب إزالة الطيب، فلو ذبح ولم يُزِلْهُ لزمه دم آخر.
وإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة، لقصور الجناية.
ولم يشترط الحنفية استمرار الطيب على البدن لوجوب الجزاء، بل يجب بمجرد التطيب.
ب- وأما تطييب الثوب فيجب فيه الدم بشرطين:
1) أن يكون كثيراً، وهو ما يصلح أن يغطي مسافة تزيد على شبر في شبر.
2) أن يستمر نهاراً أو ليلة.
فإن اختل أحد الشرطين وجبت الصدقة، وإن اختل الشرطان معاً وجب التصدق بقبضة من القمح.
ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة وجوب الفداء في الطيب، ولم يقيدوه بأن يطيب عضواً كاملاً، أو مقداراً من الثوب معيناً، بل إن أي تطيب يوجب الفداء.
ثالثاً: الدهن:
لو دهن بزيت غير مطيب، فحكمه حكم الطيب عند أبي حنيفة ومالك، إذا استعمله في أي موضع من جسمه لغير مرض، لأنه أصل الطيب، فهو يلين الشعر وينميه ويحسنه، ويلين الجسم، ويزيل عنه الهوام.
أما إن استعمله للتداوي، كأن وضعه على جرحه، أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه.
وقال الشافعي وأحمد - في رواية - إن استعمله في شعر الرأس واللحية وجب الفداء، لأنه يزيل الشعث، وإن كان في غيره جاز ولا شيء فيه، سواء شعره وبشره، والمعتمد عند الحنبلية إباحة الادّهان بدهن غير مطيب في أي موضع ولا فداء فيه إطلاقاً.
رابعاً الحلق أو التقصير:
أ- مذهب الحنفية أن من حلق ربع رأسه، أو ربع لحيته يجب عليه الفداء، لأن الربع يقوم مقام الكل على ما سبق في بحث الحلق، فيجب فيه الفداء الذي دلت عليه الآية الكريمة إن كان معذوراً أو الدم إن لم يكن معذوراً، ويجب على الحلاق صدقة إذا كان محرماً، وكذا لو حلق لحلال.
وإن حلق خصلة من شعره أقل من الربع يجب عليه الصدقة، أما إن سقط من رأسه أو لحيته عند الوضوء أو الحك ثلاث شعرات، فعليه بكل شعرة صدقة كف من طعام. وإن تساقط أكثر من مرة في أكثر من مجلس فلكل مجلس مُوْجَبُه.
وإن حلق رقبته كلها أو إبطيه أو أحدهما يجب الدم، أما إن حلق بعض واحد منهما وإن كثر فتجب الصدقة، لأن حلق جزء عضو من هذه الأشياء ليس ارتفاقاً كاملاً، لعدم جريان العادة بحلق البعض فيها، فلا يجب إلا الصدقة.
وقرر الحنفية أن في حلق الشارب حكومة عدل، بأن ينظر إلى هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية ؟ فيجب عليه بحسابه من الطعام.
مثاله: لو أخذ من الشارب قدر نصف ثُمُنِ اللحية يجب عليه من الطعام ما يساوي ربع الدم.
وذهب المالكية إلى أنه إن أخذ اثنتي عشرة شعرة فأقل ولم يقصد إزالة الأذى يجب عليه أن يتصدق بحفنة قمح، وإن أزالها بقصد إماطة الأذى تجب الفدية، ولو كانت شعرة واحدة. وتجب الفدية إذا أزال أكثر من اثنتي عشرة شعرة لأي سبب كان. وشعر البدن كله سواء.
وإن سقط من شعره في وضوء أو غسل فلا شيء عليه عندهم.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه تجب الفدية لو حلق ثلاث شعرات، كما تجب لو حلق جميع الرأس بشرط اتحاد المجلس أي الزمان والمكان.
ولا يجب على المحرم الجزاء إذا حلق لمحرم آخر بإذنه، لأنه كالآلة، فلا يضاف إليه الحلق. لكنه يأثم لمساعدته فيه.
ولو حلق شعرة أو شعرتين ففي شعرة مُدٌّ، وفي شعرتين مُدَّان من القمح، وسواء في ذلك كله شعر الرأس وشعر البدن.
ب- أما إذا سقط شعر المحرم بنفسه من غير صنع آدمي فلا فدية باتفاق المذاهب.
خامساً: تقليم الأظفار:
ذهب الحنفية إلى أنه: إذا قص أظفار يديه ورجليه جميعها في مجلس واحد تجب عليه شاة، وكذا إذا قص أظفار يد واحدة، أو رجل واحدة تجب شاة. وإن قص أقل من خمسة أظفار من يد واحدة، أو خمسة متفرقة من أظفاره تجب عليه صدقة لكل ظفر.
وذهب المالكية أنه إن قلم ظفراً واحداً عبثاً أو ترفهاً يجب عليه صدقة حفنة من طعام، فإن فعل ذلك لإماطة الأذى أو الوسخ ففيه فدية، وإنْ قلّمه لكسره فلا شيء عليه إذا تأذَّى منه، ويقتصر على ما كُسِر منه. وإن قلّم ظفرين في مجلس واحد فَفِدْية، ولو لم يقصدْ إماطةَ الأذى.
وذهب الشافعية والحنابلة يجب الفداء في تقليم ثلاثة أظفار فصاعداً في مجلس واحد، ويجب في الظفر والظفرين ما يجب في الشعرتين.
سادساً: قتل القُمَّلِ أو إلقاؤه:
لأن فيه إزالة الأذى، وقتله في غير الإحرام لا شك مطلوب شرعاً، لكنه كره حال الإحرام: فقال الحنفية: يجب أن يتصدق بما شاء.
وقال الشافعية: يستحب أن يتصدق ولا يجب.
وقال المالكية فقالوا: إنه يجري مجرى الشعر تماماً.
المبحث الثاني: في الصيد وما يتعلق به
الأصل في جزاء الصيد قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة : 95].
وقد أجمع العلماء على وجوب الجزاء في قتل الصيد، واختلفوا في بعض التفاصيل.
أولاً: قتل الصيد
أ- نصت الآية على وجوب الجزاء في قتل الصيد عمداً، ولم تنص على قتله خطأ، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن الخطأ في هذا الباب كالعمد، لأن العقوبة شرعت ضماناً للمُتْلفَ، وذلك يستوي فيه العمد والخطأ والجهل والسهو والنسيان.
ب- هذا الجزاء نصب الآية على أنه {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وأنه يُخَيَّر فيه بين الخصال الثلاث. واختلف العلماء في تفسير هذين الأمرين:
ذهب الحنفية إلى أنه تقدر قيمة الصيد بتقويم رجلين عَدْلين، وتعتبر القيمة في موضع قتله، ثم يخير الجاني بين ثلاثة أمور:
1) أن يشتري هدياً ويذبحه في الحرم إن بلغت القيمة هدياً.
2) أن يشتري طعاماً ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بُرٍّ أو صاعاً من شعير، أو تمر، كما في صدقة الفطر، ولا يجوز أن يعطي أقل مما ذكرنا، إلا إن فضل من الطعام أقل منه فيجوز أن يتصدق به، ولا يختص التصدق بمساكين الحرم.
-3) أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وعن أقل من نصف صاع إذا فضل - يوماً أيضاً.
وذهب الأئمة الثلاثة -المالكية والشافعية والحنبلية- إلى التفصيل فقالوا:
الصيد ضربان : مثلي : وهو ماله مثل من النَّعَم، أي مشابه في الخِلقِة من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وغير مثلي وهو ما لا يشبه شيئاً من النعم.
أما المثلي: فجزاؤه على التخيير والتعديل، أي إن القاتل يخير بين ثلاثة أشياء على الوجه التالي:
1) أَنْ يذبَح المثل المشابه من النعم في الحرم، ويتصدق به على مساكين الحرم.
2) أن يقوِّم المثلَ دراهم ثم يشتري بها طعاماً، ويتصدق به على مساكين الحرم. ولا يجوز تفرقة الدراهم عليهم.
وقال مالك بل يقوِّمُ الصيدَ نفسه ويشتري به طعاماً يتصدق به على مساكين موضع الصيد، فإن لم يكن فيه مساكين فعلى مساكين أقرب المواضع إليه ويعطى كل مسكين مُدٌّ، وإن فضل بعض مُدٍّ أعطي لمسكين.
3) إنْ شاء صام عن كل مُدٍّ يوماً، ويجوز الصيام في الحرم وفي جميع البلاد. وإن انكسر مُدٌّ وجب صيام يوم.
وأما غير المثلي: فيجب فيه قيمته ويتخير فيها بين أمرين:
أنْ يشتريَ بها طعاماً يتصدق به على مساكين الحرم، وعند مالك على المساكين في موضع الصيد.
2) أنْ يصومَ عن كل مُدٍّ يوماً كما ذكرنا سابقاً.
ثم قالوا في بيان المثلي: المعتبر فيه التشابه في الصورة والخلْقَة، وكل ما ورد فيه نقل عن السلف فيتبع، لقوله تعالى : {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وما لا نقل فيه يحكم بمثله عدلان ذكيان بهذا الأمر عملاً بالآية.
والكلام عليه في الدواب، ثم في الطيور.
أما الدواب: ففي النعامة بدنة وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرة إنسية، وفي الغزال عَنْز، وفي الأرنب عَناق، وفي اليَرْبُوعِ جَفْرة.
وقال مالك: في الأرنب واليربوع والضب القيمة.
وأما الطيور: ففي أنواع الحمام شاة، والمراد بالحمام كل ما عبّ في الماء وهو أن يشربه جَرْعاً، فيدخل فيه اليمام اللواتي يألفن البيوت، والقُمْرِيُّ، والقطاة، والعرب تسمي كل مطوَّق حماماً.
وإن كان الطائر أصغر من الحمام جثة ففيه القيمة، وإن كان أكبرَ من الحمام كالبطة والأوزة فالأصح أنه يجب فيه القيمة إذ لا مثل له.
وقال مالك: تجب شاة في حمام مكة والحرم ويمامهما، وفي حمام ويمام غيرهما تجب القيمة وكذا في سائر الطيور.
واتفق الجمهور على أن في الجرادة صدقة تمْرَة.
وقال الشافعية والحنابلة: الواجب في الصغير من الصيد المثلي صغير مثله من النعم. لقوله: {فَجزاءٌ مِثْلُ ما قتل} وهذا مثل فيجزيء.
وقال مالك: يجب فيه كبير لقوله تعالى: {هَدْياً بالغَ الكعبة}، والصغير لا يكون هدياً، وإنما يجزيء في الهدي ما يجزيء في الأضحية.
ثانياً: إصابة الصيد:
ذهب الحنفية والشافعية والحنبلية إلى أنه إذا أصابَ المحرم الصيدَ بضرر ولم يقتلْه يجبُ عليه الجزاء بحسب تلك الإصابة:
قال الحنفية: إنْ جَرَح المحرم صيداً أو نتف شعره ضمن قيمة ما نقص منه، اعتباراً للجزء بالكل، فكما تجب القيمة بالكل تجب الجزء، وهذا الجزاء يجب إذا بريء الحيوان وظهر أثر الجناية عليه، أما إذا لم يبق لها أثر فلا يضمن لزوال الموجب.
وقال الشافعية والحنابلة: إن جرح صيداً يجب عليه قدر النقص من مثله من النعم، إن كان مثلياً، وإلا يقدر ما نقص من قيمته، وإذا أحدث به عاهة مستديمة فوجهان عندهم، أصحهما يلزمه جزاء كامل.
قال الحنفية وهو أحد قولين للشافعي أما إذا أصابه أزالت امتناعه عمن يريد أخذه وجب الجزاء كاملاً، لأنه فوّت عليه الأمن بهذا.
وفي قول عند الشافعية: يضمن النقص فقط.
وذهب المالكية إلى أنه لا يضمن ما غلب على ظنه سلامته من الصيد بإصابته بنقص ولا جزاء فيه، ولا يلزمه فرق ما بين قيمته سليماً وقيمته بعد إصابته.
هذا ويجب بسبب حلب الصيد وكسر بيضة قيمة كل من اللبن والبيض.
ثالثاً: جناية الحلال على صيد الحرم وشجره:
مذهب الحنفية: إن ذبح الحلال صيد الحرم وجب عليه قيمته يتصدق بها، ولا يجوز الصوم في هذه المسألة عندهم، لأن الواجب هو الضمان بقتله، والصوم لا يصلح ضماناً.
ومذهب مالك والشافعي وأحمد: يجب عليه ما يجب على المحرم إذا قتل صيداً قياساً له عليه.
- أما قطع شجر الحرم أو حشيشه الرطب مما ليس مملوكاً لأحد وليس مما يستنبته الناس:
ذهب الحنفية: إلى أنه يضمن القاطع القيمة ويتصدق بها، ولا مدخل للصوم في هذا الجزاء أيضاً، لأنه ضمان متلف.
وذهب مالك: إلى أنه يأثم ولا ضمان عليه، لأن الضمان قدر زائد على التحريم يحتاج لدليل، بل يستغفر الله.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنَّ الأصح وجوب الضمان فيه من النعم، وفي الشجرة الكبيرة بقرة، والصغيرة شاة، والحشيش الرطب يضمن بالقيمة إن لم يُخْلِفْ فإن أخلف فلا ضمان.
والمضمون هنا على التخيير والتعديل عند الشافعية كما في الصيد.
المبحث الثالث: في الجماع ودواعيه
أ- الجماع في إحرام الحج:
اتفق العلماء على أن الجماع حالة الإحرام جناية، ويصدق ذلك على هذه الأحوال الثلاث الآتية :
-1 قبل الوقوف بعرفة.
-2 بعد الوقوف قبل التحلل الأول.
-3 بعد الوقوف بعرفة والتحلل الأول فقط.
1) الجماع قبل الوقوف بعرفة:
مَنْ جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه بإجماع العلماء، ووجب عليه ثلاثة أمور:
الأول : الاستمرار في حجة الفاسد إلى نهايته، لقوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله} وجه الاستدلال أنه "لم يفرق بين صحيح وفاسد".
الثاني : أداء حج جديد في المستقبل قضاء للحجة الفاسدة، ولو كانت نافلة، ويستحب أن يفترقا في حجة القضاء هذه، عند الأئمة الثلاثة منذ الإحرام، وأوجب المالكية الافتراق منذ خروجها من المنزل في سفر حجة القضاء، سداً لذريعة الوقوع في هذا المحظور الذي أفسد حجمها، وعملاً بما ورد من أقوال الصحابة في ذلك. واستدل على عدم الوجوب بأن الافتراق ليس بنسك في الأداء، فكذلك في القضاء، فلا يكون واجباً بل مستحباً.
الثالث : ذبح الهدي في حجة القضاء:
قال الحنفية: يذبح شاة.
وقال الأئمة الثلاثة: لا تجزئ الشاة، بل يجب عليه بدنة أي من الجمال ذَكَراً أو أنثى.
استدل الحنفية بما ورد أن رجلاً جامع امرأته وهما محرمان، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: "اقْضِيا نُسْكَكُما وأَهْدِيا هَدْياً" رواه أبو داود في المراسيل، والبيهقي، وبما رُوِيَ من الآثار عن الصحابة أنه يجب عليه شاة.
واستدل الشافعية ومن معهم بفتوى جماعة من الصحابة، ولم يُعْرَفْ لهم مخالف.
2) الجماع بعد الوقوف قبل التحلل الأول:
ذهب الحنفية إلى أنَّ من جامع بعد الوقوف بعرفة قبل التحلل الأول فلا يفسد حجه، ويجب عليه أن يهدي بدنة عندهم.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يفسد حجه ما دام قد واقع قبل التحلل الأول، وعليه بدنة أيضاً.
3) الجماع بعد التحلل الأول:
وقد اتفقوا المذاهب الأربعة على أن الجماع بعده لا يفسد الحج، وألحق المالكية به الجماع بعد طواف الإفاضة ولو قبل رمي جمرة العقبة، والجماعَ بعد يوم النحر ولو قبل رمي العقبة والإفاضة.
ووقع الخلاف في الجزاء الواجب:
فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه يجب عليه شاة. قالوا في الاستدلال : إنه لخفة الجناية لوجود التحلل في حق غير النساء.
وقال مالك وهو قول عند الشافعية والحنابلة إنه يجب عليه بدنة، وعُلِّلَ ذلك بأنه لعظم الجناية على الإحرام.
وأوجب مالك والحنابلة على من فعل هذا الجناية بعد التحلل قبل الإفاضة أنْ يخرج إلى الحل ويأتي بعمرة، لقول ابن عباس بذلك.
وذلك أنه لما أدخل النقص على طوافه للإفاضة بما أصابه من الوطء كان عليه أنْ يقضيَه بطوافٍ سالم إحرامُه من ذلك النقص، ولا يصلح أن يكون الطواف في إحرام إلا في حج أو عمرة.
ب- الجماع في إحرام العمرة:
1) ذهب الحنفية إلى أنه لو جامع قبل أن يؤدّي ركن العمرة وهو الطواف أربعة أشواط تفسد عمرته، أما لو وقع المفسد بعد ذلك لا تفسد العمرة، لأنه بأداء الركن أمن الفساد.
وذهب المالكية إلى أن المفسد إن حصل قبل تمام سعيها ولو بشوط فسدت، أما لو وقع بعد تمام السعي قبل الحلق فلا تفسد، لأنه بالسعي تتم أركانها، والحلق من شروط الكمال عندهم.
ومذهب الشافعية والحنبلية أنه إذا حصل المفسد قبل التحلل من العمرة فسدت.
والتحلل بالحلق وهو ركن عند الشافعية واجب عند الحنفية.
2) يجب في إفساد العمرة ما يجب في إفساد الحج من الاستمرار فيها ثم القضاء، والفداء باتفاق العلماء.
لكن اختلفوا في فداء إفساد العمرة:
فمذهب الحنفية والحنبلية وأحد القولين عند الشافعية أنه يلزمه شاة لأنها أحط رتبة من الحج، فخفت جنايتها، فوجبت شاة.
ومذهب المالكية والشافعية أنه يلزمه بدنة قياساً على الحج.
3) أما فداء الجماع الذي لا يفسد العمرة:
ذهب الحنفية إلى أنه شاة.
وذهب المالكية إلى أنه بدنة.
مقدمات الجماع:
مقدمات الجماع على قسمين: مباشرة وبعيدة.
المقدمات المباشرة: كاللمس بشهوة، والتقبيل، والمباشرة بغير جماع:
ذهب الحنفية والشافعية والمالكية إلى أنه يجب على من فعل شيئاً منها الدم سواء أنزل منياً أو لم ينزل، ولا يفسد حجه، إلا أن الحنابلة قالوا: إن أنزل وجب عليه بدنة.
وقال المالكية: إنْ أَنزلَ مَنِّياً فسد حجه وعليه ما على المجامع، وإنْ لم يُنْزِل لْيُهْدِ بَدَنَةً.
المقدمات البعيدة: كالنظر والفكر بشهوة:
قال الحنفية والشافعية أنه لا يجب في شيء منهما الفداء، ولو أدى إلى الانزال. وهو مذهب الحنابلة في الفكر.
وقال المالكية: إذا فعل أي واحد منها بقصد اللذة واسْتَدامَه حتى خرج المني فسدَ الحج، وإن خرج بمجرد الفكر أو النظر من غير استدامة فلا يفسد، وإنما فيه الهَدْيُ بدنة.
وقال الحنابلة : إنْ نظرَ فصرفَ بصره فأمنى فعليه دمٌ، وإنْ كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة.
المبحث الرابع: في ترك الواجبات
حكم الواجب في الحج أنه يطلب فعله ويحرم تركه، لكنه لا يفسد الحج بتركه، بل يكون مسيئاً، وقرر الفقهاء أنه يجب على من ترك واجباً الفداء (ذبح شاة) لجبر النقص الحادث بهذا الترك، إلا إذا تركه لعذر معتبر شرعاً.
ومما صرح الفقهاء بثبوت العذر فيه: ترك المشي في الطواف، وفي السعي، لمرض أو كِبَر سِنٍّ، فإنه يجوز له أن يطوف أو يسعى محمولاً ولا فداء عليه.
أولاً: ترك الوقوف بالمزدلفة:
اتفق الفقهاء على أن من ترك الوقوف بالمزدلفة لعذر أنه لا فداء عليه.
ذهب الحنفية إلى ثبوت العذر في ترك الوقوف بالمزدلفة كالمرض وضَعَفَةِ الأهل، والضعف الجسماني كما هو الحال في الشيخ الفاني، وكذا خوف الزحام على المرأة، كل ذلك عذر يسقط الفداء عمن ترك الوقوف.
وذهب الشافعية والمالكية إلى إجازة ترك الوقوف بالمزدلفة للعذر مع سقوط الفداء.
وذهب الحنبلية إلى جواز الدفع قبل نصف الليل من المزدلفة للرعاة وسقاة الماء، أما غيرهم من النساء والضَّعَفَة فأوجبوا عليهم الدم.
ثانياً: ترك المبيت بمنى:
ذهب الحنفية إلى أنه إذا ترك الحاج المبيت بمنى ليالي التشريق بلا عذر فقد أساء ولا يجب عليه الفداء، لأن المبيت بها سنة وليس بواجب عندهم.
ذهب الجمهور -المالكية والشافعية والحنبلية- إلى إيجاب الجزاء، لأنه واجب عندهم.
قال المالكية: إن ترك المبيت بها جُلَّ ليلة فدَمٌ، وكذا ليلة كاملة أو أكثر، وظاهره ولو كان الترك لضرورة.
ولم يسقطوا الدم لترك المبيت بمنى إلا للرعاء وأهل السقاية.
وقال الشافعية: الواجب في ترك المبيت كله دم واحد، وفي ترك ليلة واحدة مُدّاً من الطعام، وفي ترك ليلتين مُدَّيْن، إذا بات ليلة واحدة. إلا إذا ترك المبيت لعذر فلا شيء عليه.
كأهل سقاية العباس، ورعاء الإبل، فلهم ترك المبيت لياليى منى من غير دم.
فمثلهم من يخاف على نفس أو مال، أو ضياع مريض بلا متعهد أو موت نحو قريب في غيبته ..
وعن أحمد بن حنبل رحمه الله روايتان قريباً من مذهبي الحنفية والشافعية.
ثالثاً: ترك الرمي:
ذهب الحنفية إلى أنه يجب الدم إن ترك الحاج رمي الجمار كلها في الأيام الأربعة، أو ترك رمي يوم كامل، ويلحق به ترك أكثر حصيات يوم أيضاً، لأن للأكثر حكم الكل فيلزم فيه الدم.
أما إذا ترك الأقل من حصيات يوم فعليه صدقة، ومعنى وجوب الصدقة أن يجب عليه لكل حصاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير.
وذهب المالكية أنه يلزمه دم في ترك حصاة أو في ترك الجميع.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى إجراء رمي الحصى على قياس أخذ الشعر، فأوجبوا الدم في ترك الرمي كله، وفي ترك يوم أو يومين وفي ترك ثلاث حصيات أيضاً على المذهب. أما في الحصاة فيجبُ مدٌّ من الطعام، وفي الحصاتين ضعف ذلك.
رابعاً: طواف المحدث:
والبحث في فديته خاص بمذهب الحنفية، فإنهم يرون الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس والحدث الأصغر واجباً في الطواف.
أما المالكية والشافعية والحنبلية فإن الطهارة من الأحداث المذكورة كلها فرض من شروط صحة الطواف عندهم، فحكم طواف من طاف محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر حكم عدم الطواف عندهم.
قال الحنفية: طواف المحدث صحيح، ويجب عليه الفداء لجبر النقص الحاديث بترك واجب الطهارة في الطواف كما يلي :
من طاف للركن - أي الزيارة - جنباً أو حائضاً أو نُفسَاء يجب عليه بدنة، وجب عليه إعادة الطواف، فإنْ أعاده أيام النحر سقط الجزاء عنه، وإن أعاده بعد أيام النحر، فإن كان قد طافه أيام النحر محدثاص حدثاً أصغر فلا شيء عليه، وإن كان قد طافه أيام النحر جنباً فعليه الدم شاة عند أبي حنيفة، وإن طافه محدثاً حدثاً أصغر ولم يُعِدْه وجب عليه شاة. أما إذا كان محدثاً حدثاً أكبر ولم يعده فعليه بدَنة وقد تحلل من إحرامه.
ولو طاف للقدوم أو الوداع جنباً أو حائضاً أو نُفَساء وجب عليه الدم، ولو طاف للقدوم أو الوداع محدثاً حدثاً أصغر فعليه صدقة، وكذا إن طاف تطوعاً محدثاً أصغر.
وإن طاف للعمرة جنباً أو محدياً أصغر وجب عليه شاة. فإن أعاده أو أي طواف مما سبق سقط عنه الجزاء.
ومذهب الحنفية في هذه الفروع رخصة مفيدة جداً في رفع الحرج عن الحائض والنفساء إذ اضطرت للسفر قبل الطهر ولم تكن طافت للإفاضة، فإنها تطوف وينجبر ترك الطهارة ببدنة عند الحنفية.
رخصة وثمة أوسع عند المالكية حيث قالوا : وأما إن انقطع - الدم - عنها يوماً وعلمت أنه لا يعود قبل انقضاء وقت الصلاة أو لم تعلم بعوده ولا بعدمه فيصح طوافها. لأن المذهب أن النقاء أيام التقطع طهر، فيصح طوافها في هاتين الحالتين أي بعد الغسل.
وعلى ذلك تستطيع المرأة عند المالكية إذاحاضت قبل الإفاضة أو نُفِسَتْ أن تأخذ دواء يقطع الحيض مدة يوم كامل على الصفة المذكورة، فتغتسل وتطوف طواف الإفاضة، وتسعى إن لم تكن قدّمت السعي، ثم تسافر، ولا جزاء عليها.
أما عند الحنفية فعليها الجزاء لكنهم لا يشترطون انقطاع الدم، ولا يعتبرون تقطعه طهراً.
خامساً: مجاوزة الميقات بغير إحرام:
من جاوز موضعاً يجب الإحرام منه وهو غير محرم أثم، ويجب عليه العود إليه والإحرام منه.
وللعود إلى الميقات ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يعود إليه قبل الإحرام، فيحرم منه، فهذا لا يجب عليه الفداء، عند جماهير العلماء، سواء كان دخل مكة أم لا.
الصورة الثانية: أن يحرم بعد مجاوزة الميقات ثم يعود إلى الميقات محرماً قبل أن يتلبس بالنسك.
واختلف الفقهاء في ذلك:
ذهب أبو حنيفة إلى أنه عاد ولبى من الميقات سقط عنه الدم، وإن لم يلب من الميقات لم يسقط الدم.
وذهب مالك وأحمد إلى أنه لا يسقط عنه الدم بالعود، لأن جنايته لم ترتفع بالعود فوجب الدم. وأجيب بأنه تدارك المتروك في أوانه، وذلك قبل الشروع في الأفعال فيسقط الدم.
وذهب الشافعية إلى أنه يسقط عنه الدم سواء عاد ملبياً أم غير ملب، لأن التدارك قد حصل بعوده محرماً، لأنه أظهر حق الميقات، كما إذا مرَّ به محرماً ساكتاً.
الصورة الثالثة: أن يعود إليه بعد التلبُّس بنسك من أعمال الحج، كطواف، القدوم، أو وقوف عرفة، أو من أعمال العمرة كطواف العمرة، ومثله في الحكم من لم يرجع إلى الميقات، بل أحرم بعده واستمر في أداء النسك، فهذان يجب عليهما الدم.
ولا فرق في لزوم الدم بين مجاوزة الميقات عامداً عالماً، أو جاهلاً، أو ناسياً، ولا فرق أيضاً بين ترك العود لعذر أو لغير عذر، لكن من ترك العود لعذر لا يأثم بترك الرجوع، ومن العذر خوف فوات الوقوف بعرفة لضيق الوقت، أو المرض الشاق، وهذا كله موضع اتفاقاً بين الأئمة.
تنبيه: في جنايات القارن:
قال الحنفية: كل شيء فعله القارن - بين الحج والعمرة - مما ذكرنا أن فيه على المفرد بسبب جنايته على إحرامه دماً، فعلى القارن فيه دمان، لجنايته على الحج والعمرة، فيجب عليه دم لحجته، ودم لعمرته، وكذا الصدقة.
وهذا إنما يُعْنى به الجنايات التي لا اختصاص لها بأحد النسكين، كلبس المخيط، والتطيب، والحلق، والتعرض للصيد. أما ما يختص بأحدهما - فلا يجب إلا جزاء واحد - كترك الرمي وطواف الصدر.
قرر الفقهاء وجوب الجزاء على من ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، ما دام فعل محظور الإحرام قبل التحلل ولو بقليل، حسبما عرفت من نوعي التحلل. أو أخل بما يجب عليه من الأعمال في الحج أو العمرة، وأنه إن فعل ذلك عامداً فقد أثم، ويجب عليه الجزاء والتوبة، ولا يخرجه العزم على الفدية عن كونه عاصياً آثماً.
وربما ارتكب بعض الناس شيئاً من هذه المحرمات، وقال: أنا أفتدي، متوهماً أنه بالتزام الفدية يتخلص من وبال المعصية، وذلك خطأ صريح وجهل قبيح .. وليست الفدية مبيحة للإقدام على فعل المحرَّم ومَن فعل شيئاً مما يحكم بتحريمه فقد أخرج حجَّة عن أن يكون مبروراً.
ضوابط عامة في أنواع جزاءات الجنايات:
أ- فساد الحج والعمرة، وما يترتب عليه من القضاء والهدي، وذلك بالجماع قبل الوقوف بعرفة إجماعاً، وبالجماع بعد الوقوف قبل التحلل الأول عند الأئمة الثلاثة، خلافاً للحنفية، كذلك تفسد العمرة بالجماع قبل أداء ركنها.
ب- الهَدْي : وربما عُبِّرَ عنه بالدم، وكل موضع أطلق فيه الدم أو الهَدْي تجزيء الشاة، إلا من جامع قبل الوقوف بعرفة، فعليه بدَنة عند الأئمة الثلاثة وشاة عند الحنفية، وإلا من جامع بعد الوقوف قبل التحلل الأول فعليه بدنة اتفاقاً.
ج- الصدقة: حيث أُطْلِقَ وجوب "صدقة" عند الحنفية من غير بيان مقدارها، فإنه يجب نصفُ، صاع من بُرِّ "قمح" أو صاعٌ من شعير أو تمر، ويصح دفعها أين شاء، ولو في غير الحرم، وقيدها الشافعية بالحرم وأوجبوا صاعاً من البُرِّ أو غيره، وتكون الصدقة من أصناف زكاة الفطر، ويجوز إخراج القيمة عند الحنفية خلافاً للأئمة الثلاثة. والصاع يساوي /3640/ غراماً عند الحنفية و /1730/ غراماً عند غيرهم على التقريب. والمُدُّ يساوي ربع صاع.
د- الصيام: يجب الصيام مقابل الطعام، أو على التخيير في الفدية كما هو مفصل فيما يأتي، والصوم لا يتقيد بالحرم ولا بالزمان والتتابع باتفاقهم، إلا الصيام لمن عجز عن هَدْي القِران والتمتع، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. والصوم إنما يقع بدلاً عن دم الشكر لا عن دم الجبر، فاحفظ هذه الكلية في نفسك.
هـ- الضمان بالمثل: وذلك في جزاء الصيد، على ما سنذكر من التفصيل.
و- الفدية: حيث أطلق وجوبها عند المالكية والشافعية والحنبلية فالمقصود الفدية المخيرة التي نص عليها القرآن : {فَفِدْيةٌ مِن صِيامٍ أوْ صدَقةٍ أوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
ز- لا ينقص حظ كل مسكين في الصدقة عند الحنفية عن نصف صاع بُرٍّ أو صاع من شعير أو تمر إلا ما يفضل في كفارة الصيد أو كان الواجب أقلّ من أصله.
ومذهب المالكية والشافعية لا ينقص في الفدية عن مُدَّيْن ولا يزيد لكل واحد من غالب قوت البلد، وأما في جزاء فمُدٌّ كامل لا يزيد ولا ينقص، ونحوهم مذهب الشافعية.
ومذهب الحنابلة: إطعام الفدية إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مُدُّ بُرٍّ أو نصف صاع من تمر أو شعير أو غيرهما مما يجزئ في صدقة الفطر، وكذا الحكم في الإطعام لكفارة الصيد.
ح- الجنايات على الإحرام بالحج أو بالعمرة عقوبتها واحدة، إلا من جامع في العمرة قبل أداء ركنها، فتفسد اتفاقاً:
قال الحنفية والحنابلة: عليه شاة.
وقال الشافعية والمالكية عليه بدنة. وحيثما ذكرنا ودجوب الدم دون تقييد فهو شاة.
المبحث الأول: في الجنايات في اللبس وما يتعلق ببدن المحرم
يتناول هذا المبحث جناياتِ اللبس وتغطية الرأس، والحلق، وقلم الظفر، والطيب،والأدهان.
والأصل في عقوبة هذه الجنايات كلها قوله تعالى :
{وَلاَ تَحْلِقُوا رُوؤُسَكُمْ حَتَّى يَبّلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكمُ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
والنص وارد في جناية الحلق، لكن اتفقوا على إلحاق سائر الجنايات الآنفة به، وأوجبوا فيها الفداء، لأنها ترفه وزينة فهي كالحلق.
أ- الآية واردة في جناية المعذور الذي حلق لمرض أو أذى، وهي صريحة في أن فديته واجبة على التخيير بين الأمور الثلاثة. وهذا موضع اتفاق بين العلماء، إذا كانت جنايته كاملة : إما أنْ يذبحَ شاة، أو يتصدق بثلاثة أصوع، على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام. وإنْ كانتْ قاصرةً يجب عليه صدقة يأتي بيان قدرها في كل موضع بحسبه، ويتخير بينها وبين أنْ يصوم يوماً عن كل نصف صاع عند الحنفية.
ب- أما العامد الذي لا عذر له:
ذهب ا لحنفية إلى أنه أن لا يتخير، بل يجب عليه الدم عيناً أو الصدقة عيناً حسب جنايته مما سيأتي تفصيله، واستدلوا على ذلك بالآية، لأن التخيير شرع فيها عند العذر من مرض أو أذى، وغير المعذور جنايته أغلظ فتتغلظ عقوبته، وذلك بنفي التخيير في حقه.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يتخير أيضاً، كالمعذور، واستدلوا بالآية أيضاً.
ج- وأما المعذور بغير المرض والأذى، كالناسي والمُكْرَهِ والجاهل والنائم.
ذهب الحنفية إلى إلحاقه بالعامد، وقالوا إنه لا يتخير، لأن الارتفاق حصل له، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه.
ذهب المالكية إلى أنه يجب الفداء مُخَيَّراً كالعامد.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى التمييز بين جناية فيها إتلاف، وجنايةٍ ليس فيها إتلاف، فأوجبوا عليه الفدية في الاتلاف يستوي عمده وسهوه، ولم يوجبوا فدية في غير الاتلاف، وهو اللبس وتغطية الرأس والطيب.
المذاهب في الفدية لكل من جنايات:
أولاً: اللباس:
ذهب الحنفية إلى أنه مَن لبس شيئاً من الألبسة المحظورة في الإحرام نهاراً كاملاً أو ليلة، كأَنْ لبس مخيطاً، أو غطى الرجل رأسه أو وجهه وجب عليه الدم، وكذا المرأة إذا غطت وجهها غطاء يمسه. وإن كان أقل من يوم أو ليلة فعليه صدقة.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه يجب الفداء بنفس اللبس، ولو لم يستر زمناً.
وذهب المالكية إلى أنه يشترط لوجوب الفدية من لبس الثوب أو الخف أن ينتفع به من حر أو برد، فإنْ لم ينتفع به من حر أو برد، بأنْ لبسَ قميصاً رقيقاً لا يقي حراً ولا برداً يجب الفداء إن امتد لبسُه مدةً كاليوم، لأنه يحصل فيه ارتفاق.
ثانياً: الطيب:
فرّق الحنفية بين تطييب المحرم بدنه وبين تطييب ثوبه:
أ- أما البدن فقالوا: تجب شاة إن طيب المحرم عضواً كاملاً، مثل الرأس، واليد، والساق، أو ما يبلغ عضواً كاملاً. والبدن كله كعضو واحد إن اتحد مجلس التطيب، وإن تفرق المجلس فلكل طيب كفارة، وتجب إزالة الطيب، فلو ذبح ولم يُزِلْهُ لزمه دم آخر.
وإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة، لقصور الجناية.
ولم يشترط الحنفية استمرار الطيب على البدن لوجوب الجزاء، بل يجب بمجرد التطيب.
ب- وأما تطييب الثوب فيجب فيه الدم بشرطين:
1) أن يكون كثيراً، وهو ما يصلح أن يغطي مسافة تزيد على شبر في شبر.
2) أن يستمر نهاراً أو ليلة.
فإن اختل أحد الشرطين وجبت الصدقة، وإن اختل الشرطان معاً وجب التصدق بقبضة من القمح.
ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة وجوب الفداء في الطيب، ولم يقيدوه بأن يطيب عضواً كاملاً، أو مقداراً من الثوب معيناً، بل إن أي تطيب يوجب الفداء.
ثالثاً: الدهن:
لو دهن بزيت غير مطيب، فحكمه حكم الطيب عند أبي حنيفة ومالك، إذا استعمله في أي موضع من جسمه لغير مرض، لأنه أصل الطيب، فهو يلين الشعر وينميه ويحسنه، ويلين الجسم، ويزيل عنه الهوام.
أما إن استعمله للتداوي، كأن وضعه على جرحه، أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه.
وقال الشافعي وأحمد - في رواية - إن استعمله في شعر الرأس واللحية وجب الفداء، لأنه يزيل الشعث، وإن كان في غيره جاز ولا شيء فيه، سواء شعره وبشره، والمعتمد عند الحنبلية إباحة الادّهان بدهن غير مطيب في أي موضع ولا فداء فيه إطلاقاً.
رابعاً الحلق أو التقصير:
أ- مذهب الحنفية أن من حلق ربع رأسه، أو ربع لحيته يجب عليه الفداء، لأن الربع يقوم مقام الكل على ما سبق في بحث الحلق، فيجب فيه الفداء الذي دلت عليه الآية الكريمة إن كان معذوراً أو الدم إن لم يكن معذوراً، ويجب على الحلاق صدقة إذا كان محرماً، وكذا لو حلق لحلال.
وإن حلق خصلة من شعره أقل من الربع يجب عليه الصدقة، أما إن سقط من رأسه أو لحيته عند الوضوء أو الحك ثلاث شعرات، فعليه بكل شعرة صدقة كف من طعام. وإن تساقط أكثر من مرة في أكثر من مجلس فلكل مجلس مُوْجَبُه.
وإن حلق رقبته كلها أو إبطيه أو أحدهما يجب الدم، أما إن حلق بعض واحد منهما وإن كثر فتجب الصدقة، لأن حلق جزء عضو من هذه الأشياء ليس ارتفاقاً كاملاً، لعدم جريان العادة بحلق البعض فيها، فلا يجب إلا الصدقة.
وقرر الحنفية أن في حلق الشارب حكومة عدل، بأن ينظر إلى هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية ؟ فيجب عليه بحسابه من الطعام.
مثاله: لو أخذ من الشارب قدر نصف ثُمُنِ اللحية يجب عليه من الطعام ما يساوي ربع الدم.
وذهب المالكية إلى أنه إن أخذ اثنتي عشرة شعرة فأقل ولم يقصد إزالة الأذى يجب عليه أن يتصدق بحفنة قمح، وإن أزالها بقصد إماطة الأذى تجب الفدية، ولو كانت شعرة واحدة. وتجب الفدية إذا أزال أكثر من اثنتي عشرة شعرة لأي سبب كان. وشعر البدن كله سواء.
وإن سقط من شعره في وضوء أو غسل فلا شيء عليه عندهم.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه تجب الفدية لو حلق ثلاث شعرات، كما تجب لو حلق جميع الرأس بشرط اتحاد المجلس أي الزمان والمكان.
ولا يجب على المحرم الجزاء إذا حلق لمحرم آخر بإذنه، لأنه كالآلة، فلا يضاف إليه الحلق. لكنه يأثم لمساعدته فيه.
ولو حلق شعرة أو شعرتين ففي شعرة مُدٌّ، وفي شعرتين مُدَّان من القمح، وسواء في ذلك كله شعر الرأس وشعر البدن.
ب- أما إذا سقط شعر المحرم بنفسه من غير صنع آدمي فلا فدية باتفاق المذاهب.
خامساً: تقليم الأظفار:
ذهب الحنفية إلى أنه: إذا قص أظفار يديه ورجليه جميعها في مجلس واحد تجب عليه شاة، وكذا إذا قص أظفار يد واحدة، أو رجل واحدة تجب شاة. وإن قص أقل من خمسة أظفار من يد واحدة، أو خمسة متفرقة من أظفاره تجب عليه صدقة لكل ظفر.
وذهب المالكية أنه إن قلم ظفراً واحداً عبثاً أو ترفهاً يجب عليه صدقة حفنة من طعام، فإن فعل ذلك لإماطة الأذى أو الوسخ ففيه فدية، وإنْ قلّمه لكسره فلا شيء عليه إذا تأذَّى منه، ويقتصر على ما كُسِر منه. وإن قلّم ظفرين في مجلس واحد فَفِدْية، ولو لم يقصدْ إماطةَ الأذى.
وذهب الشافعية والحنابلة يجب الفداء في تقليم ثلاثة أظفار فصاعداً في مجلس واحد، ويجب في الظفر والظفرين ما يجب في الشعرتين.
سادساً: قتل القُمَّلِ أو إلقاؤه:
لأن فيه إزالة الأذى، وقتله في غير الإحرام لا شك مطلوب شرعاً، لكنه كره حال الإحرام: فقال الحنفية: يجب أن يتصدق بما شاء.
وقال الشافعية: يستحب أن يتصدق ولا يجب.
وقال المالكية فقالوا: إنه يجري مجرى الشعر تماماً.
المبحث الثاني: في الصيد وما يتعلق به
الأصل في جزاء الصيد قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة : 95].
وقد أجمع العلماء على وجوب الجزاء في قتل الصيد، واختلفوا في بعض التفاصيل.
أولاً: قتل الصيد
أ- نصت الآية على وجوب الجزاء في قتل الصيد عمداً، ولم تنص على قتله خطأ، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن الخطأ في هذا الباب كالعمد، لأن العقوبة شرعت ضماناً للمُتْلفَ، وذلك يستوي فيه العمد والخطأ والجهل والسهو والنسيان.
ب- هذا الجزاء نصب الآية على أنه {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وأنه يُخَيَّر فيه بين الخصال الثلاث. واختلف العلماء في تفسير هذين الأمرين:
ذهب الحنفية إلى أنه تقدر قيمة الصيد بتقويم رجلين عَدْلين، وتعتبر القيمة في موضع قتله، ثم يخير الجاني بين ثلاثة أمور:
1) أن يشتري هدياً ويذبحه في الحرم إن بلغت القيمة هدياً.
2) أن يشتري طعاماً ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بُرٍّ أو صاعاً من شعير، أو تمر، كما في صدقة الفطر، ولا يجوز أن يعطي أقل مما ذكرنا، إلا إن فضل من الطعام أقل منه فيجوز أن يتصدق به، ولا يختص التصدق بمساكين الحرم.
-3) أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وعن أقل من نصف صاع إذا فضل - يوماً أيضاً.
وذهب الأئمة الثلاثة -المالكية والشافعية والحنبلية- إلى التفصيل فقالوا:
الصيد ضربان : مثلي : وهو ماله مثل من النَّعَم، أي مشابه في الخِلقِة من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وغير مثلي وهو ما لا يشبه شيئاً من النعم.
أما المثلي: فجزاؤه على التخيير والتعديل، أي إن القاتل يخير بين ثلاثة أشياء على الوجه التالي:
1) أَنْ يذبَح المثل المشابه من النعم في الحرم، ويتصدق به على مساكين الحرم.
2) أن يقوِّم المثلَ دراهم ثم يشتري بها طعاماً، ويتصدق به على مساكين الحرم. ولا يجوز تفرقة الدراهم عليهم.
وقال مالك بل يقوِّمُ الصيدَ نفسه ويشتري به طعاماً يتصدق به على مساكين موضع الصيد، فإن لم يكن فيه مساكين فعلى مساكين أقرب المواضع إليه ويعطى كل مسكين مُدٌّ، وإن فضل بعض مُدٍّ أعطي لمسكين.
3) إنْ شاء صام عن كل مُدٍّ يوماً، ويجوز الصيام في الحرم وفي جميع البلاد. وإن انكسر مُدٌّ وجب صيام يوم.
وأما غير المثلي: فيجب فيه قيمته ويتخير فيها بين أمرين:
أنْ يشتريَ بها طعاماً يتصدق به على مساكين الحرم، وعند مالك على المساكين في موضع الصيد.
2) أنْ يصومَ عن كل مُدٍّ يوماً كما ذكرنا سابقاً.
ثم قالوا في بيان المثلي: المعتبر فيه التشابه في الصورة والخلْقَة، وكل ما ورد فيه نقل عن السلف فيتبع، لقوله تعالى : {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وما لا نقل فيه يحكم بمثله عدلان ذكيان بهذا الأمر عملاً بالآية.
والكلام عليه في الدواب، ثم في الطيور.
أما الدواب: ففي النعامة بدنة وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرة إنسية، وفي الغزال عَنْز، وفي الأرنب عَناق، وفي اليَرْبُوعِ جَفْرة.
وقال مالك: في الأرنب واليربوع والضب القيمة.
وأما الطيور: ففي أنواع الحمام شاة، والمراد بالحمام كل ما عبّ في الماء وهو أن يشربه جَرْعاً، فيدخل فيه اليمام اللواتي يألفن البيوت، والقُمْرِيُّ، والقطاة، والعرب تسمي كل مطوَّق حماماً.
وإن كان الطائر أصغر من الحمام جثة ففيه القيمة، وإن كان أكبرَ من الحمام كالبطة والأوزة فالأصح أنه يجب فيه القيمة إذ لا مثل له.
وقال مالك: تجب شاة في حمام مكة والحرم ويمامهما، وفي حمام ويمام غيرهما تجب القيمة وكذا في سائر الطيور.
واتفق الجمهور على أن في الجرادة صدقة تمْرَة.
وقال الشافعية والحنابلة: الواجب في الصغير من الصيد المثلي صغير مثله من النعم. لقوله: {فَجزاءٌ مِثْلُ ما قتل} وهذا مثل فيجزيء.
وقال مالك: يجب فيه كبير لقوله تعالى: {هَدْياً بالغَ الكعبة}، والصغير لا يكون هدياً، وإنما يجزيء في الهدي ما يجزيء في الأضحية.
ثانياً: إصابة الصيد:
ذهب الحنفية والشافعية والحنبلية إلى أنه إذا أصابَ المحرم الصيدَ بضرر ولم يقتلْه يجبُ عليه الجزاء بحسب تلك الإصابة:
قال الحنفية: إنْ جَرَح المحرم صيداً أو نتف شعره ضمن قيمة ما نقص منه، اعتباراً للجزء بالكل، فكما تجب القيمة بالكل تجب الجزء، وهذا الجزاء يجب إذا بريء الحيوان وظهر أثر الجناية عليه، أما إذا لم يبق لها أثر فلا يضمن لزوال الموجب.
وقال الشافعية والحنابلة: إن جرح صيداً يجب عليه قدر النقص من مثله من النعم، إن كان مثلياً، وإلا يقدر ما نقص من قيمته، وإذا أحدث به عاهة مستديمة فوجهان عندهم، أصحهما يلزمه جزاء كامل.
قال الحنفية وهو أحد قولين للشافعي أما إذا أصابه أزالت امتناعه عمن يريد أخذه وجب الجزاء كاملاً، لأنه فوّت عليه الأمن بهذا.
وفي قول عند الشافعية: يضمن النقص فقط.
وذهب المالكية إلى أنه لا يضمن ما غلب على ظنه سلامته من الصيد بإصابته بنقص ولا جزاء فيه، ولا يلزمه فرق ما بين قيمته سليماً وقيمته بعد إصابته.
هذا ويجب بسبب حلب الصيد وكسر بيضة قيمة كل من اللبن والبيض.
ثالثاً: جناية الحلال على صيد الحرم وشجره:
مذهب الحنفية: إن ذبح الحلال صيد الحرم وجب عليه قيمته يتصدق بها، ولا يجوز الصوم في هذه المسألة عندهم، لأن الواجب هو الضمان بقتله، والصوم لا يصلح ضماناً.
ومذهب مالك والشافعي وأحمد: يجب عليه ما يجب على المحرم إذا قتل صيداً قياساً له عليه.
- أما قطع شجر الحرم أو حشيشه الرطب مما ليس مملوكاً لأحد وليس مما يستنبته الناس:
ذهب الحنفية: إلى أنه يضمن القاطع القيمة ويتصدق بها، ولا مدخل للصوم في هذا الجزاء أيضاً، لأنه ضمان متلف.
وذهب مالك: إلى أنه يأثم ولا ضمان عليه، لأن الضمان قدر زائد على التحريم يحتاج لدليل، بل يستغفر الله.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنَّ الأصح وجوب الضمان فيه من النعم، وفي الشجرة الكبيرة بقرة، والصغيرة شاة، والحشيش الرطب يضمن بالقيمة إن لم يُخْلِفْ فإن أخلف فلا ضمان.
والمضمون هنا على التخيير والتعديل عند الشافعية كما في الصيد.
المبحث الثالث: في الجماع ودواعيه
أ- الجماع في إحرام الحج:
اتفق العلماء على أن الجماع حالة الإحرام جناية، ويصدق ذلك على هذه الأحوال الثلاث الآتية :
-1 قبل الوقوف بعرفة.
-2 بعد الوقوف قبل التحلل الأول.
-3 بعد الوقوف بعرفة والتحلل الأول فقط.
1) الجماع قبل الوقوف بعرفة:
مَنْ جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه بإجماع العلماء، ووجب عليه ثلاثة أمور:
الأول : الاستمرار في حجة الفاسد إلى نهايته، لقوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله} وجه الاستدلال أنه "لم يفرق بين صحيح وفاسد".
الثاني : أداء حج جديد في المستقبل قضاء للحجة الفاسدة، ولو كانت نافلة، ويستحب أن يفترقا في حجة القضاء هذه، عند الأئمة الثلاثة منذ الإحرام، وأوجب المالكية الافتراق منذ خروجها من المنزل في سفر حجة القضاء، سداً لذريعة الوقوع في هذا المحظور الذي أفسد حجمها، وعملاً بما ورد من أقوال الصحابة في ذلك. واستدل على عدم الوجوب بأن الافتراق ليس بنسك في الأداء، فكذلك في القضاء، فلا يكون واجباً بل مستحباً.
الثالث : ذبح الهدي في حجة القضاء:
قال الحنفية: يذبح شاة.
وقال الأئمة الثلاثة: لا تجزئ الشاة، بل يجب عليه بدنة أي من الجمال ذَكَراً أو أنثى.
استدل الحنفية بما ورد أن رجلاً جامع امرأته وهما محرمان، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: "اقْضِيا نُسْكَكُما وأَهْدِيا هَدْياً" رواه أبو داود في المراسيل، والبيهقي، وبما رُوِيَ من الآثار عن الصحابة أنه يجب عليه شاة.
واستدل الشافعية ومن معهم بفتوى جماعة من الصحابة، ولم يُعْرَفْ لهم مخالف.
2) الجماع بعد الوقوف قبل التحلل الأول:
ذهب الحنفية إلى أنَّ من جامع بعد الوقوف بعرفة قبل التحلل الأول فلا يفسد حجه، ويجب عليه أن يهدي بدنة عندهم.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يفسد حجه ما دام قد واقع قبل التحلل الأول، وعليه بدنة أيضاً.
3) الجماع بعد التحلل الأول:
وقد اتفقوا المذاهب الأربعة على أن الجماع بعده لا يفسد الحج، وألحق المالكية به الجماع بعد طواف الإفاضة ولو قبل رمي جمرة العقبة، والجماعَ بعد يوم النحر ولو قبل رمي العقبة والإفاضة.
ووقع الخلاف في الجزاء الواجب:
فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه يجب عليه شاة. قالوا في الاستدلال : إنه لخفة الجناية لوجود التحلل في حق غير النساء.
وقال مالك وهو قول عند الشافعية والحنابلة إنه يجب عليه بدنة، وعُلِّلَ ذلك بأنه لعظم الجناية على الإحرام.
وأوجب مالك والحنابلة على من فعل هذا الجناية بعد التحلل قبل الإفاضة أنْ يخرج إلى الحل ويأتي بعمرة، لقول ابن عباس بذلك.
وذلك أنه لما أدخل النقص على طوافه للإفاضة بما أصابه من الوطء كان عليه أنْ يقضيَه بطوافٍ سالم إحرامُه من ذلك النقص، ولا يصلح أن يكون الطواف في إحرام إلا في حج أو عمرة.
ب- الجماع في إحرام العمرة:
1) ذهب الحنفية إلى أنه لو جامع قبل أن يؤدّي ركن العمرة وهو الطواف أربعة أشواط تفسد عمرته، أما لو وقع المفسد بعد ذلك لا تفسد العمرة، لأنه بأداء الركن أمن الفساد.
وذهب المالكية إلى أن المفسد إن حصل قبل تمام سعيها ولو بشوط فسدت، أما لو وقع بعد تمام السعي قبل الحلق فلا تفسد، لأنه بالسعي تتم أركانها، والحلق من شروط الكمال عندهم.
ومذهب الشافعية والحنبلية أنه إذا حصل المفسد قبل التحلل من العمرة فسدت.
والتحلل بالحلق وهو ركن عند الشافعية واجب عند الحنفية.
2) يجب في إفساد العمرة ما يجب في إفساد الحج من الاستمرار فيها ثم القضاء، والفداء باتفاق العلماء.
لكن اختلفوا في فداء إفساد العمرة:
فمذهب الحنفية والحنبلية وأحد القولين عند الشافعية أنه يلزمه شاة لأنها أحط رتبة من الحج، فخفت جنايتها، فوجبت شاة.
ومذهب المالكية والشافعية أنه يلزمه بدنة قياساً على الحج.
3) أما فداء الجماع الذي لا يفسد العمرة:
ذهب الحنفية إلى أنه شاة.
وذهب المالكية إلى أنه بدنة.
مقدمات الجماع:
مقدمات الجماع على قسمين: مباشرة وبعيدة.
المقدمات المباشرة: كاللمس بشهوة، والتقبيل، والمباشرة بغير جماع:
ذهب الحنفية والشافعية والمالكية إلى أنه يجب على من فعل شيئاً منها الدم سواء أنزل منياً أو لم ينزل، ولا يفسد حجه، إلا أن الحنابلة قالوا: إن أنزل وجب عليه بدنة.
وقال المالكية: إنْ أَنزلَ مَنِّياً فسد حجه وعليه ما على المجامع، وإنْ لم يُنْزِل لْيُهْدِ بَدَنَةً.
المقدمات البعيدة: كالنظر والفكر بشهوة:
قال الحنفية والشافعية أنه لا يجب في شيء منهما الفداء، ولو أدى إلى الانزال. وهو مذهب الحنابلة في الفكر.
وقال المالكية: إذا فعل أي واحد منها بقصد اللذة واسْتَدامَه حتى خرج المني فسدَ الحج، وإن خرج بمجرد الفكر أو النظر من غير استدامة فلا يفسد، وإنما فيه الهَدْيُ بدنة.
وقال الحنابلة : إنْ نظرَ فصرفَ بصره فأمنى فعليه دمٌ، وإنْ كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة.
المبحث الرابع: في ترك الواجبات
حكم الواجب في الحج أنه يطلب فعله ويحرم تركه، لكنه لا يفسد الحج بتركه، بل يكون مسيئاً، وقرر الفقهاء أنه يجب على من ترك واجباً الفداء (ذبح شاة) لجبر النقص الحادث بهذا الترك، إلا إذا تركه لعذر معتبر شرعاً.
ومما صرح الفقهاء بثبوت العذر فيه: ترك المشي في الطواف، وفي السعي، لمرض أو كِبَر سِنٍّ، فإنه يجوز له أن يطوف أو يسعى محمولاً ولا فداء عليه.
أولاً: ترك الوقوف بالمزدلفة:
اتفق الفقهاء على أن من ترك الوقوف بالمزدلفة لعذر أنه لا فداء عليه.
ذهب الحنفية إلى ثبوت العذر في ترك الوقوف بالمزدلفة كالمرض وضَعَفَةِ الأهل، والضعف الجسماني كما هو الحال في الشيخ الفاني، وكذا خوف الزحام على المرأة، كل ذلك عذر يسقط الفداء عمن ترك الوقوف.
وذهب الشافعية والمالكية إلى إجازة ترك الوقوف بالمزدلفة للعذر مع سقوط الفداء.
وذهب الحنبلية إلى جواز الدفع قبل نصف الليل من المزدلفة للرعاة وسقاة الماء، أما غيرهم من النساء والضَّعَفَة فأوجبوا عليهم الدم.
ثانياً: ترك المبيت بمنى:
ذهب الحنفية إلى أنه إذا ترك الحاج المبيت بمنى ليالي التشريق بلا عذر فقد أساء ولا يجب عليه الفداء، لأن المبيت بها سنة وليس بواجب عندهم.
ذهب الجمهور -المالكية والشافعية والحنبلية- إلى إيجاب الجزاء، لأنه واجب عندهم.
قال المالكية: إن ترك المبيت بها جُلَّ ليلة فدَمٌ، وكذا ليلة كاملة أو أكثر، وظاهره ولو كان الترك لضرورة.
ولم يسقطوا الدم لترك المبيت بمنى إلا للرعاء وأهل السقاية.
وقال الشافعية: الواجب في ترك المبيت كله دم واحد، وفي ترك ليلة واحدة مُدّاً من الطعام، وفي ترك ليلتين مُدَّيْن، إذا بات ليلة واحدة. إلا إذا ترك المبيت لعذر فلا شيء عليه.
كأهل سقاية العباس، ورعاء الإبل، فلهم ترك المبيت لياليى منى من غير دم.
فمثلهم من يخاف على نفس أو مال، أو ضياع مريض بلا متعهد أو موت نحو قريب في غيبته ..
وعن أحمد بن حنبل رحمه الله روايتان قريباً من مذهبي الحنفية والشافعية.
ثالثاً: ترك الرمي:
ذهب الحنفية إلى أنه يجب الدم إن ترك الحاج رمي الجمار كلها في الأيام الأربعة، أو ترك رمي يوم كامل، ويلحق به ترك أكثر حصيات يوم أيضاً، لأن للأكثر حكم الكل فيلزم فيه الدم.
أما إذا ترك الأقل من حصيات يوم فعليه صدقة، ومعنى وجوب الصدقة أن يجب عليه لكل حصاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير.
وذهب المالكية أنه يلزمه دم في ترك حصاة أو في ترك الجميع.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى إجراء رمي الحصى على قياس أخذ الشعر، فأوجبوا الدم في ترك الرمي كله، وفي ترك يوم أو يومين وفي ترك ثلاث حصيات أيضاً على المذهب. أما في الحصاة فيجبُ مدٌّ من الطعام، وفي الحصاتين ضعف ذلك.
رابعاً: طواف المحدث:
والبحث في فديته خاص بمذهب الحنفية، فإنهم يرون الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس والحدث الأصغر واجباً في الطواف.
أما المالكية والشافعية والحنبلية فإن الطهارة من الأحداث المذكورة كلها فرض من شروط صحة الطواف عندهم، فحكم طواف من طاف محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر حكم عدم الطواف عندهم.
قال الحنفية: طواف المحدث صحيح، ويجب عليه الفداء لجبر النقص الحاديث بترك واجب الطهارة في الطواف كما يلي :
من طاف للركن - أي الزيارة - جنباً أو حائضاً أو نُفسَاء يجب عليه بدنة، وجب عليه إعادة الطواف، فإنْ أعاده أيام النحر سقط الجزاء عنه، وإن أعاده بعد أيام النحر، فإن كان قد طافه أيام النحر محدثاص حدثاً أصغر فلا شيء عليه، وإن كان قد طافه أيام النحر جنباً فعليه الدم شاة عند أبي حنيفة، وإن طافه محدثاً حدثاً أصغر ولم يُعِدْه وجب عليه شاة. أما إذا كان محدثاً حدثاً أكبر ولم يعده فعليه بدَنة وقد تحلل من إحرامه.
ولو طاف للقدوم أو الوداع جنباً أو حائضاً أو نُفَساء وجب عليه الدم، ولو طاف للقدوم أو الوداع محدثاً حدثاً أصغر فعليه صدقة، وكذا إن طاف تطوعاً محدثاً أصغر.
وإن طاف للعمرة جنباً أو محدياً أصغر وجب عليه شاة. فإن أعاده أو أي طواف مما سبق سقط عنه الجزاء.
ومذهب الحنفية في هذه الفروع رخصة مفيدة جداً في رفع الحرج عن الحائض والنفساء إذ اضطرت للسفر قبل الطهر ولم تكن طافت للإفاضة، فإنها تطوف وينجبر ترك الطهارة ببدنة عند الحنفية.
رخصة وثمة أوسع عند المالكية حيث قالوا : وأما إن انقطع - الدم - عنها يوماً وعلمت أنه لا يعود قبل انقضاء وقت الصلاة أو لم تعلم بعوده ولا بعدمه فيصح طوافها. لأن المذهب أن النقاء أيام التقطع طهر، فيصح طوافها في هاتين الحالتين أي بعد الغسل.
وعلى ذلك تستطيع المرأة عند المالكية إذاحاضت قبل الإفاضة أو نُفِسَتْ أن تأخذ دواء يقطع الحيض مدة يوم كامل على الصفة المذكورة، فتغتسل وتطوف طواف الإفاضة، وتسعى إن لم تكن قدّمت السعي، ثم تسافر، ولا جزاء عليها.
أما عند الحنفية فعليها الجزاء لكنهم لا يشترطون انقطاع الدم، ولا يعتبرون تقطعه طهراً.
خامساً: مجاوزة الميقات بغير إحرام:
من جاوز موضعاً يجب الإحرام منه وهو غير محرم أثم، ويجب عليه العود إليه والإحرام منه.
وللعود إلى الميقات ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يعود إليه قبل الإحرام، فيحرم منه، فهذا لا يجب عليه الفداء، عند جماهير العلماء، سواء كان دخل مكة أم لا.
الصورة الثانية: أن يحرم بعد مجاوزة الميقات ثم يعود إلى الميقات محرماً قبل أن يتلبس بالنسك.
واختلف الفقهاء في ذلك:
ذهب أبو حنيفة إلى أنه عاد ولبى من الميقات سقط عنه الدم، وإن لم يلب من الميقات لم يسقط الدم.
وذهب مالك وأحمد إلى أنه لا يسقط عنه الدم بالعود، لأن جنايته لم ترتفع بالعود فوجب الدم. وأجيب بأنه تدارك المتروك في أوانه، وذلك قبل الشروع في الأفعال فيسقط الدم.
وذهب الشافعية إلى أنه يسقط عنه الدم سواء عاد ملبياً أم غير ملب، لأن التدارك قد حصل بعوده محرماً، لأنه أظهر حق الميقات، كما إذا مرَّ به محرماً ساكتاً.
الصورة الثالثة: أن يعود إليه بعد التلبُّس بنسك من أعمال الحج، كطواف، القدوم، أو وقوف عرفة، أو من أعمال العمرة كطواف العمرة، ومثله في الحكم من لم يرجع إلى الميقات، بل أحرم بعده واستمر في أداء النسك، فهذان يجب عليهما الدم.
ولا فرق في لزوم الدم بين مجاوزة الميقات عامداً عالماً، أو جاهلاً، أو ناسياً، ولا فرق أيضاً بين ترك العود لعذر أو لغير عذر، لكن من ترك العود لعذر لا يأثم بترك الرجوع، ومن العذر خوف فوات الوقوف بعرفة لضيق الوقت، أو المرض الشاق، وهذا كله موضع اتفاقاً بين الأئمة.
تنبيه: في جنايات القارن:
قال الحنفية: كل شيء فعله القارن - بين الحج والعمرة - مما ذكرنا أن فيه على المفرد بسبب جنايته على إحرامه دماً، فعلى القارن فيه دمان، لجنايته على الحج والعمرة، فيجب عليه دم لحجته، ودم لعمرته، وكذا الصدقة.
وهذا إنما يُعْنى به الجنايات التي لا اختصاص لها بأحد النسكين، كلبس المخيط، والتطيب، والحلق، والتعرض للصيد. أما ما يختص بأحدهما - فلا يجب إلا جزاء واحد - كترك الرمي وطواف الصدر.