الدولة العباسية : المقتدر

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


ترجمته:
 
هو جعفر المقتدر با بن المعتضد بن أحمد بن المتوكل وهو أخو المكتفي وأمه أم ولد اسمها شغب ولد سنة282 وبويع بالخلافة بعد وفاة أخيه ولم يزل خليفة إلى أن قتل في28 شوال سنة320 (1 نوفمبر سنة 932) فتكون مدته24 سنة و 11 شهراً و 16 يوماً.
 
 
كيف انتخب:
 
لما ثقل المكتفي كان في منصب الوزارة العباس بن الحسين ففكر فيمن يتولى الخلافة بعده لأنه لم يكن ولى أحداً العهد في صحته وكان من عادة الوزير أن يسايره إذا ركب واحد من هؤلاء الأربعة الذين يتولون الدواوين وهم أبو عبد اللَّه محمد بن داود بن الجراح وأبو الحسن محمدبن عبد اللَّه وأبو الحسن علي بن محمد بن الفرات وأبو الحسن علي بن عيسى فاستشار الوزير يوماً محمد بن داود بن الجراح في ذلك فأشار بعبد اللَّه بن المعتز ووصفه بالعقل والأدب والرأي واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات فقال: هذا شيء ما جرت به عادتي أن أشير فيه وإنما أشاور في العمال لا في الخلفاء فغضب الوزير وقال: هذه مقاطعة باردة وليس يخفى عليك الصحيح وألح عليه فقال: إن كان رأي الوزير قد استقر على أحد بعينه فليفعل فعلم الوزير أنه يعني ابن المعتز لاشتهار خبره فقال: لا أقنع إلا أن تمحضني النصيحة فقال ابن الفرات: فليتق اللَّه الوزير ولا ينصب إلا من قد عرفه واطلع على جميع أحواله ولا ينصبه بخيلاً فيضيق على الناس ويقطع أرزاقهم ولا طماعاً فيشره في أموالهم فيصادرهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم ولا قليل الدين فلا يخاف العقوبة والآثام ويرجو الثواب فيما يفعله ولا يولي من عرف نعمة هذا وبستان هذا وضيعة هذا وفرس هذا ومن قد لقي الناس ولقوه وعاملهم وعاملوه ويتخيل ويحسب حساب نعم الناس وعرف وجوه دخلهم وخرجهم فقال الوزير: صدقت ونصحت فبمن تشير؟ قال أصلح الموجودين جعفر بن المعتضد فقال: ويحك هو صبي قال: ابن الفرات إلا أنه ابن المعتضد ولم نأت برجل كامل يباشر الأمور بنفسه غير محتاج إلينا. 

فمالت نفس الوزير إلى مشورة ابن الفرات وانضاف إلى ذلك وصية المكتفي فإنه أوصى لما اشتد مرضه بتقليد أخيه الخلافة فلما مات المكتفي اختار الوزير جعفراً للخلافة بالاتفاق مع صافي الحرمي ولقب المقتدر بالله وسنه إذ ذاك ثلاث عشرة سنة.
 
 
الوزراء في عهده:
 
كان أول وزرائه أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن الفرات استوزره يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة296 فنظر في الأمور نظر جد واهتمام وأمر جماعة من القواد بطواف البلد ليلاً والإيقاع بأهل الدعارة ومن يرونه متعرضاً لنهب دار وأخذ مال وعلى يد ابن الفرات كانت عقوبات جميع من خرجوا مع ابن المعتز فصادر من صادر وقتل من قتل.

مضى ابن الفرات في وزارته هذه ثلاث سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً اختلفت عليه الأمور فيها وحدثت الحوادث وحضر عيد النحر من سنة298 فاحتيج فيه من النفقات إلى ما جرت العادة به وكانت المواد قصرت والمؤن قد تضاعفت وطلب المقتدر أن يعطيه من بيت مال الخاصة ما يصرفه في نفقات هذا العيد فمنعه من ذلك وألزمه القيام به من جهته فوجد بذلك أعداؤه الطريق إلى الوقيعة فيه.
 
 
أمر القرامطة:
 
كان رئيس القرامطة بالبحرين أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي فقتل سنة301 بعد أن استولى على هجر والأحساء والقطيف وسائر بلاد البحرين فولى بعده ابنه أبو طاهر سليمان الجنابي وكانت له غزوات متتابعة إلى جهة البصرة يريد الاستيلاء عليها وأشد غزواته لها سنة311 فإنه سار إليها في ألف وسبعمائة من القرامطة ودخلها وقتل حاميتها ووضع السيف في أهلها وأقام بها سبعة عشر يوماً يحمل منها ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان ثم عاد إلى بلده ومنها توجه إلى طريق الحاج ليلقاهم عند رجوعهم إلى مكة فأوقع بقافلة تقدمت معظم الحاج وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد وغيرهم فنهبهم واتصل الخبر بباقي الحاج وهم بفيد فأقاموا بها حتى فني زادهم فارتحلوا مسرعين إلى طريق الكوفة فأوقع بهم القرامطة وأخذوا جمال الحجاج جميعها وما أرادوا من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان ثم عاد الجنابي إلى هجر وترك الحاج في مواضعهم فمات أكثرهم جوعاً وعطشاً من حر الشمس فانقلبت بغداد من سوء تأثير هذا الخبر وكان وصوله في الوقت الذي قتل فيه المحسن بن الفرات من قتل من المصادرين فازدوجت المصيبة وكان ابن الفرات يتهم بالتشيع فذكر بكل قبيح على ألسنتهم.

اضطر المقتدر أن يكاتب أبا طاهر يطلب منه أن يطلق من عنده من أسرى الحاج فأطلقهم وطلب ولاية البصرة والأهواز فلم يجبه المقتدر فسار من هجر يريد الحاج وكان جعفر بن ورقاء الشيباني متقلداً أعمال الكوفة وطريق مكة فلما سار الحاج من بغداد سار جعفر بين أيديهم خوفاً من أبي طاهر ومعه ألف رجل من بني شيبان وسار معهم أيضاً قواد السلطان ومعهم ستة آلاف رجل فلقي أبو طاهر القرمطي جعفراً الشيباني فقاتله جعفر فبينما هو يقاتله إذ طلع جمع من القرامطة عن يمينه فانهزم من بين أيديهم فلقي القافلة الأولى فردها إلى الكوفة ومعها عسكر الخليفة وتبعهم أبو طاهر إلى باب الكوفة فقاتلهم فانهزم عسكر الخليفة ودخل أبو طاهر الكوفة وأقام ستة أيام بظاهرها يدخل البلد نهاراً فيقيم في الجامع إلى الليل ثم يخرج فيبيت في عسكره وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب وغير ذلك ثم عاد إلى هجر وكان أهل بغداد قد خافوا أن يهجم القرامطة عليهم.
 
 
سرقة الحجر الأسود:
 
وفي سنة317 فعل أبو طاهر ما هو أشنع وأدهى وذلك أنه سار بجنده إلى مكة فوافاها يوم التروية فلم يرع حرمة البيت الحرام، بل نهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه وقلع الحجر الأسود وأنفذه إلى هجر فخرج إليه أمير مكة في جماعة من الأشراف فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم فقاتلوه فقتلهم أجمعين وقلع باب البيت وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قتلوا بغير غسل ولا كفن ولا صلى على أحد منهم وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه ونهب دور أهل مكة. 

ولم يحصل في التاريخ أن انتهكت حرمة هذا البيت إلى هذا الحد حتى أن المهدي عبيد اللَّه العلوي لما علم ذلك كتب إلى أبي طاهر ينكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت وإن لم ترد على أهل مكة وعلى الحجاج وغيرهم ما أخذت منهم وترد الحجر الأسود إلى مكانه وترد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة ولما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود واستعاد ما أمكنه من أموال أهل مكة فرده، وقال: إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم.
 
 
المتغلبون وما كان منهم:
 
في عهد المقتدر اشتد سلطان المتغلبين بأطراف المملكة وهذه نتيجة طبيعية لما أصاب الدولة من الخلل.

كان في دولة المقتدر قائدان هما في أرفع الدرجات أولهما مؤنس المظفر وهو القائد العام للجيوش وعليه المعول في تسييرها ويليه في المرتبة محمد بن ياقوت وكان بينهما شيء من المنافسة.

ففي سنة319 قوي أمر محمد بن ياقوت وقلد مع الشرطة الحسبة وضم إليه رجال فقوي بهم فعظم ذلك على مؤنس وسأل المقتدر صرف محمد عن الحسبة وقال: هذا شغل لا يجوز أن يتولاه غير القضاة والعدول فأجابه المقتدر وصرف محمداً عن الحسبة وصرف ابنه عن الشرطة وأبعدها عن الحضرة فأخرجا إلى المدائن حسبما طلبه مؤنس وولى بدلهما إبراهيم بن رائق وأخاه محمداً الحسبة والشرطة وهذا كان بدء الوحشة بين المقتدر ومؤنس ومتى وجدت الوحشة ساءت الظنون وكان للوهم في النفوس أكبر الآثار.

بلغ مؤنساً أن الوزير الحسين بن القاسم قد وافق جماعة من القواد في التدبير عليه فتنكر له مؤنس وطلب من المقتدر عزله ومصادرته فأجاب إلى عزله ولم يصادره فلم يقنع مؤنس بذلك فبقي الحسين في الوزارة وكتب إلى هرون بن غريب أحد القواد وهو بدير العاقول أن يحضر إلى بغداد وكذلك كتب إلى محمد بن ياقوت يستقدمه فزادت الوحشة عند مؤنس وصح عنده أن الحسين يسعى في التدبير عليه ثم صح عنده أنه قد جمع الرجال والغلمان الحجرية في دار الخليفة فأظهر الغضب وذهب نحو الموصل وأرسل غلاماً له إلى المقتدر برسالة فطلب الوزير منه أن يسلمها إليه فأبى فسبه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلثمائة ألف دينار وأخذ خطه بها وحبسه ونهب داره فلما بلغ مؤنساً الخبر سار نحو الموصل في أصحابه ومماليكه وتقدم الوزير بقبض أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه فحصل من ذلك مال عظيم وزاد في محل الوزير عند المقتدر فلقبه عميد الدولة وضرب اسمه على الدينار والدرهم وتمكن من الوزارة وولى وعزل.

أما مؤنس فإنه استولى على الموصل من يد بني حمدان واستولى على أموالهم وديارهم وخرج إليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر لإحسانه كان إليهم وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان فصار معه. فلما اجتمعت إليه العساكر انحدر إلى بغداد في شوال سنة320 فلما بلغ خبره جند بغداد شغبوا وطلبوا أرزاقهم ففرق المقتدر فيهم مالاً عظيماً إلا أنه لم يشبعهم وسير العساكر لمقابلة مؤنس في طريقه فلم يقدروا على رده فجاء حتى نزل بباب الشماسية فحل الخوف في قلب المقتدر وجنده وكان يريد ترك بغداد لمؤنس والرحيل إلى واسط فرده عن ذلك محمد بن ياقوت وزين له اللقاء وقوي نفسه بأن القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه فرجع إلى قوله وهو كاره ثم أشار عليه بحضور الحرب فخرج وهو كاره وبين يديه الفقهاء والقراء معهم المصاحف مشهورة وعليه البردة والناس حوله فوقف على تل بعيد من المعركة فأرسل قواد أصحابه إليه يسألونه التقدم مرة بعد أخرى وهو لا يريم مكانه فلما ألحوا عليه تقدم من موضعه فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم فلقيه علي بن بليق من أصحاب مؤنس فترجل وقبل الأرض وقال له: أين تمضي ارجع فلعن اللَّه من أشار عليك بالحضور فأراد الرجوع فلقيه قوم من المغاربة والبربر فشهروا عليه سيوفهم وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم ثم رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه وأخذ جميع ما عليه حتى سراويله وتركوه مكشوفاً إلى أن مر به رجل من الأكرة فستره بحشيش ثم حفر له موضعه ودفن وكان عمره حين قتل28 سنة ثم تقدم مؤنس وأنفذ إلى دار الخليفة من يمنعها من النهب.