الدولة العثمانية : السلطان محمد الثالث
السلطان محمد خان الثالث ابن السلطان مرادخان الثالث 1003 - 1012 هـ
لما مات السلطان مرادخان كان ولده السلطان محمد بمغنيسيا والياً لما حضر جلس على تخت أجداده بلا منازع وعمره إذ ذاك 29سنة ولما تمت له البيعة كان أول أمر اهتم به أن أمر بقتل جميع إخوته الذكور وكانوا تسعة عشرة أميراً وكان لأبيه عشر نساء حبالى فأمر بإغراقهن في البحر ثم التفت إلى أتباع السراي السلطانية فشتت شملهم وحل نظامهم وكان يقصد بذلك استئصال الفتنة والوساوس حسبما وصل إليه عقله وأشار به عليه أخصاؤه وغير أيضاً الوزراء فعين فرهاد باشا للصدارة وخليل باشا قبودانا للبحرية بدلاً عن سنان باشا.
محاربات النمسا:
قد سبق ذكر حوادث الحرب التي اشتعلت نيرانها بين الدولة والنمسا وعصيان ميخائيل بك أمير الأفلاق وسجسموند ملك الأردل ولما رأت الدولة استفحال أمر ميخائيل المذكور سيرت عليه جيشاً تحت قيادة سنان باشا الكبيرة وعينت ابنه محمد باشا قائداً لجيوش المجر لصد النمساويين عن التقدم ومع ذلك فلم تأت هذه الاستعدادات بفائدة لأن ميخائيل تقدم منصوراً واستولى على قلعتي بكرش (BUCHAREST) وترغووشته (TERGOVIST) بعد أن قتل حاميتهما وكان العثمانيون اهتموا بتحصينهما تحصيناً جيداً وفي أثناء رجوع الجيش العثماني كمن له جيش من جيوش الأفلاق في الطريق وخرح عليه فجأة فبدد نظامه وهزمه هزيمة منكرة ومن جهة أخرى فإن الجيش الذي كان خرج لصد عساكر النمسا قهر وغلب لجهل قواده واستولى النمساويون على قلعة استرغون1004 هـ .
ولما وقعت هذه الهزيمات بجيش السلطنة العثمانية رأى الوزراء وأرباب الدولة أن ذلك مخل بشأنها ووقارها سيما وأن العساكر العثمانية التي دوخت جيوش أوروبا مدّة قرون لا يتأتى لها الآن التغلب على أميراً فلاقي صغير فالح سنان باشا الصدر الأعظم وسعد الدين أفندي شيخ الإسلام على السلطان وحرضاه على الخروج إلى الحرب بنفسه فقبل وأمر بالاستعدادات وقبل خروجه من إستانبول توفي سنان باشا وتولى الصدارة مكانه إبراهيم باشا وكان متهماً بالمداخلة في قتل فرهادباشا وبغير ذلك مما يشين بمقامه ولما وصل الجيش السلطاني إلى بلغراد صار يقصد قلعة أكرى (ERLAU) وبعد أن حاصرها نحو عشرين يوماً تم له الاستيلاء عليها 1005م .
ولما علم ملك النمسا مكسيميليان وسيجسموند ملك الأردل بخروج السلطان إلى الحرب بنفسه جمعا عسكريهما وزحفا لملاقاة الجنود العثمانية ثم وقع بين الطرفين محاربة عظيمة بالمكان المدعو خاج أوه (KERESTEZ) سنة 1005هـ 1596 م وقد استمر القتال طول النهار ولم تخرج جنود المتفقين من استحكاماتهم لقتال العثمانيين بل كانوا يراقبون حركات الجيوش العثمانية ثم انتهزوا فرصة في الجيش العثماني وخرجوا عليه على حين غفلة فاخترقوا صفوفه وبددوا جموعه وفرّ معظم الجيش وتقدمت خيالة الأعداء حتى صارت على مقربة من خيمة السلطان عند ذلك قابلهم خدام الخيمة وحراسها وقاوموهم أشد المقاومة.
وأخذ الأمراء يعملون الحيلة في خلاص السلطان من هذه الورطة إلا أن الشيخ سعد الدين أفندي شيخ الإسلام أخذ يحرض السلطان والأمراء على الصبر والثبات الواجبين في هذا الوقت وأنهما سبب الفوز والنجاة ويشجع الوزراء حتى فاضت قلوبهم حمية وامتلأت أبدانهم جسارة ومقاومة أما الأعداء فإنهم اغتروا بما نالوه من النصرة وأخذوا في تعقب الفارين فكمن لهم قائد المقدمة جغاله زاده سنان باشا واسعتد السلطان فيمن معه من الجنود وحصروهم في وسطهم وأعملوا فيهم السيف والنار حتى أبادوهم عن آخرهم تقريباً وانقلب الحال عليهم من الغلبة إلى الهزيمة.
ثم عاد بعد ذلك السلطان إلى استنابول غانماً منصوراً قال إبراهيم أفندي في تاريخه وكان حاضراً في تلك الواقعة: أنه لو أمضت العساكر العثمانية شتاء ذلك العام بالحدود ثم تقدمت في الربيع لكان أمكنها افتتاح مدينة فينّا وكانت تمكنت الدولة من عقد مصالحة كما تحب إلا أن عودة السلطان إلى إستانبول جعل للنمسا الوقت الكافي للاستعداد وملافاة ما خسرته في الهزيمة المذكورة.
واقعة قنيجة الشهيرة:
أنه بعد حدوث الحوادث السابق ذكرها اضطر الصدر الأعظم إبراهيم باشا المذكور لقيادة الجيوش بنفسه وكان هذا الوزير سافل الأخلاق من ذوي المطامع والأغراض إلا أنه كان جسوراً ذا لياقة واقتدار فتقدم بالجيوش سنة 1008هـ وفتح قلعة قنيجة (KANESCHA) وهي من أشهر وأحصن قلاع بلاد النمسا وتقدم أيضاً سر عسكر الطونة كوزلجة محمود باشا وهزم جيوش ميخائيل بك هزيمة تامة بعد أن قاوم عساكر الدولة وتمرد عليها مدّة خمس سنوات.
ولما رأى الشاه عباس ملك إيران 1012هـ اشتغال الدولة بمحاربات النمسا نقض معاهدة الصلح كان عقدها مع فرهاد باشا 998هـ وقصد استرداد مقاطعات آزربيجان وشيروان فأعلن الحرب سنة 1012 على الدولة ثم تقدّم واستولى على تبريز من زنجير قزان علي باشا ثم أغار على جهات روان.
وفاته:
وفي خلال ذلك توفي السلطان محمد خان الثالث ولم يتجاوز سنه 37 سنة وكان رحمه الله سلطاناً عظيم القدر عالي الهمة مظفراً في وقائعه تقياً محباً للعدل والإنصاف يميل إلى العلماء والصلحاء محباً للعلوم والصنائع راغباً في ترقية أسبابها ورواج سوقها وكان عادلاً مستقيماً غير أن طول زمن الحروب مع دولة النمسا أوجب اشتغاله بها وعدم الاهتمام بغيرها.