الدولة العثمانية : السلطان عبد العزيز

الشيخ عزالدين الكرجيه © البحوث والدراسات الإسلامية


السلطان عبد العزيز خان ابن السلطان محمود خان الثاني 1277 - 1293 هـ
 
لما صعد السلطان عبد العزيز خان على كرسي الخلافة وجد الدولة في حاجة إلى إتمام الاصلاحات التي سعى أخوه بهمة في إدخالها بالإدارات الملكية والعسكرية بأنواعها والتي كان توقف سيرها بالنسبة لحرب القريم خصوصاً وغيره من المشاكل العديدة التي منيت بها هذه الدولة منذ تداخل الأجانب في أعمالها وبعد أن تقلد السيف يوم الخميس في الثامن عشر من شهر ذي القعدة بجامع سيدي أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه كما جرت به العادة أبقى الوزراء في مناصبهم ما عدا السر عسكر رضا باشا فإنه عزله وعين بدله نامق باشا ثم أصدر فرماناً إلى الصدر محمد أمين عالي باشا الذي خلف قبرصلي محمد باشا مظهراً حسن قصده ومزيد رغبته في متابعة السير بالجدّ والاجتهاد لتنفيذ الاصلاحات الضرورية لترقية حال الدولة وإيجاد المساواة بين جميع أفراد الرعايا بلا تمييز.
 
وأسس في 6 محرم من سنة 1278مجلس الاحكام العدلية وعين لرياسته الوزير الشهير محمد فؤاد باشا وجعله ثلاثة أقسام:
 
أحدها : الإدارة الأمور الملكية.
 
والثاني : لسن القوانين والنظامات.
 
والثالث : للمحاكمات وكان لاهتمامه بذلك يحضر بنفسه في آخر كل سنة إلى الباب العالي ليبتلي في حضرته ملخص الاجراءات والأعمال التي قام بها المجلس المذكور مدّة السنة الماضية.
 
وبقي هذا المجلس يسير في أعماله إلى 8 ذي الحجة من سنة 1284 حيث صدر الأمر السلطاني بإلغائه وتعويضه بمجلسين آخرين يشكلان على نظاماته الأساسية وهما شورى الدولة وديوان الأحكام العدلية وقد نجح هذان المجلسان في أعمالهما حتى أنه لما أصدرت الدولة نظاماته منه سنتي 1281و 1287 وحدّدت فيهما وظائف جميع المأمورين من الولاة إلى صغار لخدمة اتضح أن بعض الذين تعودوا السير على طريقة التنظيمات الخيرية القديمة لم يقابلوا ذلك بالارتياح لأن التنظيمات الجديدة قيدت حركات المأمورين وغلت أيدي مطامعهم وكبحت شهواتهم فأصدر لذلك فرماناً بمحاكمة كل من يقاوم تلك التنظيمات ولهذا حاكموا عدّة من كبار الحكام مثل خسرو باشا وعاكف باشا وطاهر باشا ونافذ باشا وحسيب باشا جزاء لهم على ما صدر منهم وعبرة لغيرهم وبذلك ظهر للعموم حب السلطان للعدل والإصلاح.
 
واهتم السلطان أيضاً بإصلاح الأحوال المالية إذ بها قوام الدولة فأصدر فرماناً سنة إلى الصدر الأعظم محمد فؤاد باشا الذي خلف محمد أمين عالي باشا الذي وجهت إليه نظارة الخارجية بعمل ميزانية مضبوطة للمالية عن سنتي 1277و1278 وبعد ذلك صدر قرار من الدولة بإلغاء القوائم المالية وهي أوراق تتداول كالنقود كانت أصدرتها المالية في عهد المرحوم الغازي عبد المجيد دخان للعسر المالي الذي كانت وقعت فيه واقترضت الدولة لذلك ثمانية ملايين من الليرات فسوت جميع ديونها وألغت القوائم في نحو الشهرين وأصبحت المعاملة في كافة الولايات بالنقود وانتظمت أحوال المالية.
 
 
وقائع الجبل الأسود:
 
اعلم أن دول أوروبا لما كانت تسعى من زمن طويل في تقليص ظل نفوذ العثمانيين واستعملت لذلك جميع الألعاب والأساليب السياسية كما مر بك بعضه في هذا التاريخ ورأت في هذه المدة أن الدولة العثمانية قامت تبذل المساعي الحقة في إجراء التنظيمات المختلفة والتحسينات المتنوعة حتى ترقت بها البحرية والحربية والصنائع والمعارف واتسعت دائرة التجارة أخذت في عرقلة مساعي الدولة ببث الدسائس وبذر الفتن في جميع أنحائها توصلا إلى غرضها المشؤم وكان أوّل الأمر بخلع أميره نيقولا وتنصيب البرنس دانيلو مكانه سنة 1277.
 
إلا أن الاضطرابات لما كانت لا تزال سائدة بجهات الجبل المذكور أعدت الدولة أخيراً ثلاث فرق عسكرية الأولى تحت قيادة عبد الكريم نادر باشا المعروف بعبدي باشا والثانية تحت قيادة درويش باشا والثالثة تحت قيادة حسين عوني باشا وهاجم بها عمر باشا السردار الجبل من ثلاث جهات وبعد أن أوقعوا بالثوّار زحفوا على جتينة عاصمة الجبل فالتزم أميره دانيلو وأن يطلب الأمان وقد قبل ما اشترطته عليه الدولة من أبعاد ميركو والده من بلاد الجبل وأن تقيم الدولة حول حدود الجبل بعض الأبراج والحصون تحتلها جنودها للمحافظة على الراحة العمومية لمنع أهل الجبل من الثورة ثانية.
 
ولما تم ما أرادت عادت السكينة وقد صرفت الدولة على ذلك المصاريف الجسيمة إلا أن أمير الجبل لم يقم بعد ذلك بما تعهد به وأظهر العناد بتحريض بعض دول أوروبا ثم تداخلت فرانسا والروسيا في المسألة واستمرت المداخلات السياسية الأجنبية تلح على الباب العالي حتى قبل هدم تلك الأبراج والقلاع 1280هـ - 1864م ونال الجبل بمساعي أوروبا وتطفلها على موائد السياسة العثمانية استقلالا إدارياً.
 
 
وقائع الصرب:
 
إن الامتياز الذي نالته مقاطعة الصرب بمقتضى معاهدة باريس 1856م كما سبق جعلها ممتازة إدارة تحت سيادة الدولة العثمانية وجعل للدولة الحق في إبقاء حامية عثمانية في ست قلاع فقط من حصون تلك البلاد ثم بعد ثورة بوسنة وهرسك السابق ذكرها 1278 استمر الاضطراب ببلاد الصرب وأظهر أهلها العداوة العثمانيين في كثير من المسائل إلى أن تداخلت الدول في ذلك وعقد سفراؤهم مؤتمراً بالآستانة برضا الباب العالي كان عالي باشا الصدر الأعظم مندوبا به عن الدولة وبعد مداولات تقرر أن يخلي العثمانيون قلعتين من الست قلاع المذكورة وتبقى جنودهم في أربع فقط وهي بلغراد وسمندرة وفتح الإسلام وشيانس 1279هـ - 1862م .
 
ومع هذا فإن الروسيا لا زالت تلح على الدولة بترك بلاد الصرب تماماً لتغل يديها عن السير في طريق الإصلاح ولعب الجنرال اغناتيف سفيرها في الآستانة أدواره السياسية إلى أن تنازلت الدولة أيضاً للصرب عن القلاع الباقية وكانت حجة دولة أوروبا في ذلك أن بقاء الجنود العثمانية ببلاد الصرب تهديد لها فاضطرت الدولة إلى قبول هذه الأمور المجحفة بحقوقها التي اعترفت لها بها أوروبا سابقاً وذلك لاجتماع دولها عليها ولظهور الثورة بكريد 1283هـ - 1867م .
 
ولما خرجت العساكر العثمانية من بلاد الصرب معها جميع العائلات الإسلامية من سكان تلك البلاد لاستحالة الإقامة عليهم بعد خروج الجنود وتركوا أملاكهم في مقابلة تعويض دفعته الدولة لهم وهكذا استقلت الصرب ولم يبق للعثمانيين بها من أثر التابعية غير رفع العلم العثماني بقلعة بلغراد بجانب العلم الصربي فقط وقد تكدّر الرأي العام بالآستانة من ذلك جدّاً ولولا مراقبة الدولة الأحوال لحدثت فتنة داخلية شديدة.
 
 
ثورة جزيرة كريد 1283هـ:
 
قال الفاضل أحمد مدحت أفندي في القسم الأول من كتابه أسس الانقلاب ما ملخصه مترجماً أنه كلما سعت السلطنة العثمانية في الاصلاحات سعت دولة الروسيا في اختلاق المشاكل بداخلية الدولة لعرقلة مساعيها عن السير في طريقها ولذلك رأت سعي الدولة هذه المرة في الإصلاحات الداخلية العسكرية والبحرية دست إلى الأهالي غير المسلمين بجزيرة كريد المتعودين من القديم على الثورات بأن يقوموا ويطلبوا ضم جزيرتهم إلى اليونان وأوعزت إليهم بأن سيكون لهم من الروسيا واليونان نصير فانصاعوا لعذوية هذه المواعيد المحشوّة بالسم القتال وثاروا على الدولة بأجمعهم واستفحل أمرهم واستعدت الدولة لقمعهم بالقوة .
 
ثم ظهر أخيراً أن مصلحة الدول البحرية لا تساعدهم على نوال مطالبهم إذ كانت جميعها مضادة لسلخ كريد عن الدولة ثم ساقت الدولة عليهم الجيوش براً وبحراً تحت قيادة مصطفى باشا الكريدي وأمرته أن ينصح الثوّار أولاً بالإخلاد إلى السكينة كما هي عادتها حقناً للدماء ومع جده واجتهاده في ذلك لم يمكنه حملهم على الطاعة بل أصروا على العناد مع محبتهم لذلك القائد ولما لم تبق وسيلة إلا امتشاق الحسام أخذ يقاتلهم وأرسل المرحوم الخديوي إسماعيل باشا في ربيع الأول من السنة المذكورة قوة عسكرية مركبة من ستة آلايات بياده وبعض بطاريات طوبجية تحت قيادة شاهين باشا ثم تعين لقيادتها القائد الشهير إسماعيل سليم باشا الفريق ناظر الجهادية إذ ذاك وبعد وفاته خلفه عبد القادر باشا الطوبجي.
 
ثم لما دعت الدوة مصطفى باشا الكريدي إلى الآستانة بعد أن استقال محمد رشدي باشا من الصدراة وخله محمد أمين عالي باشا 6 شوّال سنة 1283 تعين لقيادة الجنود العثمانية عمر باشا وهو صربي الأصل وقد أظهر النشاط في مطاردة الثائرين أوّلاً ولما كانت الذخائر الحربية تصل إلى الثائرين من الخارج خصوصاً من بلاد اليونان لدعم تيقظ بعض عمال الدولة هناك وإهمالهم مع أن الأساطيل العثمانية كانت تحاصر الجزيرة المذكورة من جيمع جوانبها أصدرت له الدولة الأوامر بتشديد الحصار البحري حول الجزيرة وأعلنت بذلك عموم الدول التي أمرت سفنها الحربي المتجوّلة في تلك الأطراف بنقل العائلات التي رغبت في المهاجرة من الجزيرة فكانت تنقلها بتصريح من الدولة العثمانية.
 
 
المشاكل والارتباكات الداخلية:
 
قال العلامة أحمد مدحت أفندي في كتابه أس الانقلاب ملخصا:إن العناية التي بذلها السلطان عبد العزيز خان في السنين الأولى من جلوسه على سرير الخلافة في إتمام الإصلاحات التي أدخلها على جميع دوائر الحكومة كما مر جعلت الأمة العثمانية تأمل خيراً كثيراً في المستقبل إلا أنه لما قرب جلالته إليه بعض أصحاب المطامع وقضت الغلطات السياسية هدم القلاع التي شيدتها الدولة حول الجبل الأسود كما سبق وتخليته قلاع الصرب التي فتحت بدماء أبطال العثمانيين والأموال الوافرة وغير ذلك مما أصاب الدولة من تراخي من أشرنا إليهم من الرجال وظهور ثورة كريد التي لم يهتم الوزراء بإطفائها بسرعة تحزب ضد هذه السياسة سراً أكثر من الوزراء خصوصاً لما رأوا أن جلالته ميال إلى تغيير هيئة الوراثة في السلطنة العثمانية.
 
ولما كان تغيير طريقة الوراثة بالخديوية المصرية التي نالها المرحوم إسماعيل باشا برضا السلطان منعت المرحوم مصطفى فاضل باشا من حقوقه مال إلى الحزب المذكور والتفت حوله بعض شبان العثمانيين الذين ثارت في قلوبهم الحمية الوطنية والمحبة الملية ونخص بالذكر من هؤلاء علي سعاوي بك وضيابك ونامق كمال بك وغيرهم ورحل الكل إلى أوروبا وأخذوا يذيعون هناك بما ينشرونه من المكاتبات والجرائد الأغلاط الحاصلة في سياسة الدولة وينتقدون عليها وعلى أعمال فؤاد باشا وعالي باشا وأصدروا كثيراً من الرسائل الهجومية تحاملوا فيها على بعض رجال الدولة الذين تبرهم أعمالهم الحسنة ومساعيهم المشكورة مثل عالي باشا وفؤاد باشا وغيرهما.
 
ولما توفي عالي باشا الذي كان موته فاتحة باب شرور على الدولة وجلس مكانه محمود نديم باشا 1288 في مسند الصدارة انتهج طريقاً معوجاً ساءت به الأحوال عن ذي قبل فاختلت الأمور المالية واقترضت الدولة من أوروبا أموالاً كثيرة لم يعد منها على مستقبلها فائدة عظيمة واستبدّ العمال في الأحكام حيث لا رقيب ولذلك صدر أمر سلطاني بمحاكمة ثلاثة من المشيرين وهم حسين عوني باشا وشيرواني زاده رشدي باشا ومشير الضبطية حسني باشا وصارنفيهم بدون أن تطبق محاكماتهم على القانون ولذلك اندهشت رجال الدولة من هذه الأحوال وكثير التغيير والتبديل في الولاة بحيث صاروا يستبدلون بعد مضي خمسة عشر يوماً تقريباً من تنصيبهم فزادت الأحوال ارتباكاً ولما لاحظ السلطان سوء الحالة عزل محمود نديم باشا من الصدارة بعد أن تولاها أحد عشر شهراً وقد طعنت فيه الجرائد العثمانية وأظهرت ما أتاه من الأعمال المضرة بالدولة.
 
وقد كثر تغيير الصدور بعده حيث تولى الصدارة مدحت باشا 1292هـ ورشدي باشا الكبير وأسعد باشا وشيرواني رشدي باشا وحسين عوني باشا وأسعد باشا ثانية في مدة ثلاث سنوات ولما انتخب السلطان للصدارة محمود نديم باشا ثانية خطر في فكر رجال الحزب المضاد لسياسة الحكومة أن السلطان راض عن أعمال الوزير المذكور خصوصاً وأن الجنرال أغناتيف سفير الروسيا بالدولة نال مكانة عالية عند جلالته فصار لا يعمل عملاً إلا بعد استشارته حتى وصلت الحالة بالدولة إلى ما لا تحمد عاقبته وقد تمكن السفير الروسي المذكور من نوال مقصده خصوصاً وأن دولته كانت تمكنت أثناء حرب فرانسا وألمانيا 1871م من تعديل بعض بنود معاهدة باريس المعقودة سنة المختصة بالبرح الأسود ورضيت الدولة بأن يكون للروسيا بالبحر المذكرو أساطيل حربية ودور صناعة.
 
ولما حصلت الروسيا على ذلك أوجدت هناك الأساطيل القوية ثم طرقت أبواب السياسة الشرقية بترويج جماعات الصقالبة التي كانت مراكزها بمدينة بطرسبورغ عاصمتها فينا عاصمة النمسا فحركت الثورات في ولايتي بوسنه وهرسك 1875م وبثت بين أهالي البلغار بذور الفتن فثارت بعض جهاتهم م إلا أن عمال الدولة هناك تمكنوا من إطفاء الفتنة بسرعة وبعد مدة قليل هيج البلغاريون بعض دعاة الثورة والفساد الذين أرسلتهم جمعيات وبأنه فقاموا ثانية مايو سنة 1876م وأخذوا في قتل المسلمين وحدثت عدة مذابح في جملة قرى خصوصاً في باتاق.
 
واستمر هذا الهياج إلى21 يوليو من السنة المذكورة وعند ذلك قام بعض رجال السياسة بأوروبا وفي مقدمتهم غلادستون يطعنون في في الدولة بأغلظ الألفاظ وأشنع التعبيرات وينسبونحصول تلك المذابح إلى شوكت باشا وحافظ باشا وغيرهما من المأمورين وتمكنت الدولة هذه المرة أيضاً من إعادة النظام إلى الولاية وفي تلك الأثناء اشتعل لهيب الثورة في بلاد بوسنه وهرسك بتحريضات أهل الصرب والجبل الأسود وغيرهما فأصدرت الدولة الأوامر لقواد الجيوش بسرعة إعادة السكينة فأخذت تطارد العصاة.
 
ولما خافت الدولة من أن تقوى الدسائس الأجنبية على مساعيه أصدر السلطان في12 ديسمبر سنة 1875م فرمانا بمنح تلك الولايات بعض نظامات لتسكين الخواطر إلا أنها لم تفد بل استمر العصاة يعبثون فساداً وطلبوا من الدولة سحب جيوشها من البلاد كما أخرجتها قبل ذلك من قلاع بلاد الصرب فاشتد بذلك الأمر وقدّم الكونت أندراسي لائحته المشهورة في أواخر السنة المذكورة وكان من مشتملاتها إنفاذ ما جاء بالفرمان السلطاني من الامتيازات فقبل السلطان وأصدر عفواً عن جميع المجرمين إلا أن الأهالي لوثوقهم بمساعدة أوروبا لهم على نوال مرغوبهم كما كانت تلقيه عليهم عمال الثورة أصروا على طلبهم الأول من إخراج العساكر العثمانية من بلادهم أو تقيم في القلاح فقط خصوصاً بعد حادثة سلانيك التي وقعت في5 مايو سنة 1876م.
 
وسببها أن فتاة بلغارية اعتنقت الديانة الإسلامية وأتت سلانيك لإثبات إسلامها فتصدى لها بعض سفلة الأروام حين توجهها إلى دار الحكومة واختطفوها من أيدي المحافظين عليها بالقوة وأخفوها أوّلاً في بيت قنصل أمريكا ثم نقلوها إلى دار أحد كبرائهم ولما أشيع ذلك بين المسلمين هاجت نفوسهم وتجمع منهم نحو ثلاثة آلاف أمام سراي الحكومة وطلبوا إحضار البنت المذكورة وتخليصها من أيدي الذين استولوا عليها حفظاً لناموس الأمة العثمانية.
 
ولما لم يحضروها تجمعوا في اليوم الثاني داخل الجامع المعروف بجامع سليم باشا القريب من سراي الحكومة للمداولة فيما يمكن به إرجاع الفتاة وبينما هم كذلك إذ حضر الموسيو مولين قنصل فرانسا والموسيو هنري أبود قنصل ألمانيا وأرادوا دخول المسجد عنوة فتصدى الناس لمنعهما أوّلاً إلا أنهما دخلا بالرغم عنهم وكان المتداول على الألسنة أن البنت في بيت قنصل ألمانيا المذكور ومما زاد الهياج عند المسلمين أن القنصلين المذكورين تفوّها بألفاظ غير لائقة فاشتد حنقهم وهجموا عليهم وقتلوهما.
 
كان الوالي محمد رأفت باشا استنجد بقوة عسكرية من القرة قولات ومن ملاحي السفن العثمانية الراسية بالمينا إلا أن تلك القوة لم تحضر سريعاً فحصل ما حصل.
 
ولما بلغ الباب العالي ما حدث أرسل في الحال لجنة بينها مستشار نظارة العدلية لتحقيق المسألة وأرسلت دولتا فرانسا وألمانيا أسطولين بعث كل من إنكلترة وإيطاليا والنمسا والروسيا واليونان سفنا حربية ثم انتهت المسألة بعمل تراض للدولتين المذكورتين وهي أن ينفى الوالي وبعض المأمورين وأن يقتل الذين تجارؤا على سفك الدماء وأن يضرب باسم كل دولة من الدولتين مدافعاً وترتب على ذلك أن اتفقت الروسيا والنمسا وألمانيا وقدموا للدولة لائحة برلين المشهورة بعد أن صادقت عليها إيطاليا وفرانسا.
 
ومآله أنهم طلبوا من الباب العالي تنفيذ فرمان 12 ديسمبر سنة 1875م وتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذ الإصلاحات فرفض الباب العالي ذلك لأنه ماس بحقوقه فارتبكت الأحوال ولما كانت الأمة ترى أن الصدر الأعظم محمود نديم باشا لا يعمل عملاً إلا برأي السفير الروسي نسبت هذه الأمور إلى هذا الوزير العلقمي فكرهه الناس وشنعوا عليه خصوصاً لما أشيع أن السفير الروسي أشار على السلطان بإحضار قدر من الخرواتيين للمحافظة على قصره حينما داخله الريب في إخلاص الجنود والأمة وصار لا يثق بحراسة الخصوصيين وشاع خبر استقدامه ثلاثين ألف من العساكر الروسية للمحافظة على حياته.
 
وعند ذلك اضطربت الأفكار وهاجت الخواطر وأوّل الناس تلك الإشاعات تأويلات كل على حسب غرضه ورموا الصدر المذكور بالخيانة الكبرى لأفعاله المذمومة وأنه يريد أن يسلم للروس أعدائهم البلاد غنيمة باردة فقامت طلبة العلم الصفطا والتفت عليهم كثير من الأهالي في أواسط ربيع الأوّل سنة 1293هـ وأرسل السلطان لشيخ الإسلام يطلب منه السعي في تسكين أفكار الطلب وإرجاعهم إلى مدارسهم وكان الناس يشيعون أيضاً أن شيخ الإسلام وقتئذ حسن فهمي أفندي يميل إلى سفير الروسيا وينزله منزلة ولده فأشركوه أيضاً في الخيانة.
 
ولما خلف السلطان تفاقم الخطوب عزل محمود نديم باشا من الصدارة وحسن فهمي أفندي من المشيخة 16 ربيع الأوّل ووجه مسند الصدارة إلى محمد رشدي باشا الكبير المعروف بالمترجم والمشيخة الإسلامية إلى خير الله أفندي والسر عسكرية إلى حسين عوني باشا.
 
 
خلع السلطان عبد العزيز ووفاته:
 
لقد تباينت الأقوال كثيراً في سبب خلع السلطان فمن قائل أن الجنرال أغناتيف سفير الروسيا لما رأى تغيظ السلطان وتأثره من إلزام الأمة إياه بطرد الوزير محمود نديم باشا صار يحرضه على الانتقام من المتسببين وإبعاد كثير من الذين يكرههم السفير المذكور ليخلو له جوّ السياسة فينال ما يشاء فهاجت الأفكار لذلك .
 
ومن قائل أن السياسة الإنكليزية التي تخاف تقرّب الدولة من الروسيا قضت بالتحريض على خلع السلطان لما رأت أن جلالته يميل إلى محالفة الروسيا ولذلك كان يرتكن كثيراً على آراء سفيرها في الآستانة .
 
ومن قائل أن الوزراء خافوا من أن يبطش السلطان بهم فتآمروا عليه وغير ذلك من الروايات والحاصل أنه اجتمع كل من رشدي باشا ومدحت باشا وحسين عوني باشا وأحمد باشا القيصرية لي وشيخ الإسلام حسن خير الله أفندي وأمثالهم من رجال الدولة وأركانها وقرروا خلع السلطان عبد العزيز فيما بينهم وبقي هذا الأمر سراً لا يذيعونه حتى تمكنهم الفرصة من إجرائه وكتبوا يستفتون شيخ الإسلام فأفتى بالجواز وعلى ذلك حاصروا السراي السلطانية براً وبحراً بالجنود قبل غروب يوم الاثنين 6 جمادى الأولى سنة 1292هـ - 28 مايو 1876م .
 
ومن الغريب أن الجنود كلها لم تكن تعلم شيئاً من سبب تجتمعها بهذه الصفة ولما تم الحصار ذهب السر عسكر حسين عوني باشا إلى مقر السلطان مرادخان وطلب مواجهته فخرج إليه وقد اعتراه الخوف لإيقاظه من النوم في تلك الساعة وبعد أن هدأ روعه أركبه معه في العربة وسلمه غدّارة بست طلقات لتكون معه ولما أتى به إلى باب السر عكسرية أجلسه في الحجرة التي أعدّت لمبايعته وفي الحال حضر الشريف عبد المطلب وغيره من أعيان الدولة ورجالها وعظمائها وبايعوا السلطان في الساعة الثالثة بعد نصف الليل.
 
ثم أرسلت الفتوى إلى رديف باشا وكان الموكل بأمر الحصار فأحضر لديه رئيس أغوات السراي جوهر أغا وأبلغه بأن الأمة قد خلعت السلطان عبد العزيز وبايعت السلطان مرادخان وأنه مأمور بإرسال السلطان المخلوع إلى سراي طوبقبو ولما بلَّغ جوهر أغا هذه الرسالة كان يضطرب ويرتعد فقال له السلطان عبد العزيز ارجع إليه وقل له هل خلعي أمر هين فقال له رديف باشا إن العساكر محيطة بالسراي بحراً وبراً فإذا امتنع عن الخروج والذهاب إلى سراي طوبقبو طوعاً أخرج كرهاً وأرسل له فتوى شيخ الإسلام القاضية بخلعه.
 
فلما نظر السلطان إلى العساكر والفتوى لم يجد بداً من الخروج فخرج وأنزل في زورق ومعه ابنه الأمير يوسف عز الدين أفندي ونقلت عائلته أيضاً إلى تلك السراي وكانت محاطة بالعساكر كذلك وفي الصباح أطلقت المدافع من المرامي البرية والبحرية فهب الناس من مضاجعهم وهم يسمعون صوت المنادي يقول أن السلطان مراد الخامس جلس على سرير السلطانة السنية فخرجوا أفواجاً وتوجهوا إلى سراي يشكطاش فقيل لهم أن السلطان في سراي السر عسكرية فقصدوها ودخلوا عليه وبايعوه وكانت تلوح على وجوههم علامات السرور والفرح وفي نحو الساعة الثالثة ركب السلطان مراد مركبته وقصد سراي بشكطاش وأقبلت إليه الجموع هناك تبايعه وقد استمرت المبايعة ثلاثة أيام.
 
أما السلطان عبد العزيز فإنه لم يمكث بعد خلعه إلا أربعة أيام على قيد الحياة ثم مات وللناس في أسباب موته أقوال ظاهرة وأخرى خفية تداولوها فيما بينهم أما الأولى فهي أن هذا السلطان العظيم اعتراه من يوم خلعه مرض في رأسه صيره كالمجنون فاضطربت أحواله وحركاته فكان يتخيل تخيلات زاد بها قلقاً حتى أنه لم يعد يستطيع الرقاد ليلة وفاتة هي ليلة الأحد الموافق 11 من شهر جمادى الأولى ولما أصبح الصباح دخل الحمام كعادته ثم خرج إلى بستان السراي ثم عاد إلى حجرته وأمر بفتح الشبابيك والأبواب وأخذ يتمشى بها ثم عاد وخرج ثانية إلى البستان وكأنّ الدنيا ضاقت عليه ثم حاول الخروج إلى شاطىء البحر فمنعه ضابط الحرس بكل أدب وقال له يا مولاي لا آذن بالخروج فأبى وشتمه.
 
فحضر ضابط آخر وأشار إليه بالدخول فدخل وقد زاد بلباله واضطرابه حتى ظهرت عليه علامات الاختلال وأخيراً طلب من إحدى الجواري مقصا يقص به أطراف لحيته كعادته فخرجت الجارية وأخبرت والدته بذلك فأعطتها مقصاً ومرآة فتناول المقص وأخذ يقص به أطراف ليحته ووالدته تنظر إليه من وراء الباب ولما رآها أمرها بالانصراف ثم جلس على متكأ ونادى أحد الأغوات وخاطبه بمحاربة العدوّ الذي كان يتوهمه في كل لحظة.
 
ثم أخذ المقص وشرع يقطع به عرقاً في وسط ذراعه الأيمن فحاول الخادم أخذ المقص منه فمانعه فذهب إلى والدته صارخاً في تلك الأثناء جلس السلطان على المتكأ وقطع عرق يده اليسرى قطعاً بليغاً وقيل إنه قبل أن يفعل ذلك أحكم غلق الباب ولما جاءت والدته والجواري طفقن يصرخن ويبكين وكسرن زجاج الشبابيك ولما أقبل الضباط بلغهم الخبر وقيل إنه كان يفتكر في مدّة في الانتحار.
 
ولما وصل خبر ذلك إلى السلطان أصدر أمراً بتشكيل لجنة طبية لتحقيق سبب الوفاة ولما كشفوا عن الجثة حرروا مضبطة وقع عليها الأطباء وكانوا 19 طبيباً من أكبر أطباء الآستانة بينهم أطباء بعض السفارات ومآل تلك المضبطة لا يخرج عما ذكرناه هذه هي الرواية الظاهرة إلا أن بعض الواقفين على خفايا الأمور قالوا بتأكيد أن وفاة السلطان عبد العزيز لا بدّ وأن تكون بفعل فاعل ونسبوا ذلك إلى أن مدحت باشا وحسين عوني باشا وغيرهما من الذين اتفقوا على قتله منعاً لحصول القلاقل المستقبلة ما دام على قيد الحياة وليكونوا في مأمن من الانتقام فيما بعد وقالوا إنهم وكلوا بقتله اثنين من الفداوية بعد أن اتفقوا على ذلك مع أحد البكوات الذي كان انتخبه السلطان عبد العزيز لمرافقته أثناء عزلته.
 
وكان يعتمد عليه كثيراً ولا يخاف منه شراً وقد أوعز هذه البك إلى والدة السلطان أن تأخذ من السلطان خنجر السلطان عثمان وكان يتقلده دائماً وقال لها أنه لا يصح أن يبقى هذا الخنجر مع السلطان خوفاً من أن يضرب به نفسه فصدّقت قوله لعلمها بمحبتها الشديدة لابنها واحتالت حتى أخذت الخنجر المذكور في تلك الليلة أقفل ذلك المأمور الأبواب ودخلت الفداوية من شبابيك البستان وتمكنوا من قتل السلطان بمرت خصيتيه ثم حصل ما حصل والله أعلم بالحقائق وذلك كان سبباً في قيام الضابط حسن الجركسي وقتله بعض الوزراء كما سيأتي أم السلطان فشيعت جنازته ودفن بجوار أبيه السلطان محمود رحمهما الله رحمة واسعة.
 
وكان رحمه الله قوي البنية يحب السير على خطة أسلافه من إصلاح أحوال المملكة ومعاملة جميع الرعايا على السواء محباً للعمارة شيد كثيراً من المباني والقصور الفاخرة والمعامل المفيدة في جملة ولايات فقويت بها المملكة براً وبحراً ومدّجلة خطوط حديدية في بعض ولايات الروم إيلي وأصلح فم نهر الطونة ومهد عدة طرق بالأناضول فاتسعت دائرة التجار ولولا الدسائس الأجنبية لكانت أيامه تعد من أعظم الأيام وكان ميالاً إلى السياسة الروسية كثيراً وهذا ما أمال الأمة عنه لأنه كان يرى في موالاته للروسيا تحقيقاً لمآربه وغاياته كما كان يوعز إليه بذلك سفير الروسيا الجنرال أغناتيف ولذا كان السلطان يتظاهر بالميل إليه كثيراً.