صيدا ما بعد الفتح الاسلامي
صيدا تاريخها قديماً وحديثاً:
تقع صيدا على ساحل البحر المتوسط، وتبعد عن عاصمة الجمهورية اللبنانية بيروت حوالى 45 كلم. وهي عاصمة جنوب لبنان، وبوابته الكبرى وإحدى المدن الفينيقية ذات التاريخ العريق. اشتهرت قديماً بالتجارة والملاحة والصباغ الأرجواني وصناعة الخزف، فجابت سفنها أكثر موانىء حوض البحر المتوسط.
خضعت لحكم المصريين والآشوريين والفرس وأصبحت جزءاً من إمبراطورتيهم.
ويروي التاريخ أن ملك الفرس أرتحششتا الثالث جاءها بجيش عظيم ليخمد ثورة أهلها فحاصرها، وعندما وجد أهلها أن لا قبل لهم على رده، أقدم الرجال على قتل نسائهم وأطفالهم، ثم أغلقوا أبواب منازلهم وأحرقوها على أنفسهم مفضلين الموت على الذل والاستسلام.
ووقعت تحت حكم الإسكندر المقدوني، وظلت مع خلفائه حتى فتحها القائد الروماني بومباي وضمها إلى الإمبراطورية الرومانية.
وفي عام 14 هـ/638م فتحها القائد يزيد بن أبي سفيان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وخلال الحكم العربي الإسلامي خضعت صيدا تارة لدمشق أيام الأمويين، وتارة لبغداد أيام العباسيين، وطوراً للقاهرة أيام الفاطميين، وكذلك خضعت لحكم الطولونيين والأخشيديين.
ثم جاءها الصليبيون، واحتلوها عام 1107م بعد حصار أربعين يوماً، وذبحوا حاميتها الفاطمية، وظلت خاضعة لحكم الصليبيين حتى عام 1187م بعد انتصار القائد صلاح الدين الأيوبي، ولكن الصليبيين عادوا لاحتلالها عام 1198م وظلوا فيها حتى طردهم الملك الأشرف خليل عام1291م.
وبعد الصليبيين خضعت صيدا لحكم المماليك وظلت تحت حكمهم مئتين وخمس وعشرين سنة. وبعد انتصار السلطان سليم الأول العثماني على المماليك في معركة مرج دابق عام 1516م أصبحت صيدا جزءاً من الإمبراطورية العثمانية.
ازدهرت صيدا في عهد الأمير فخر الدين الثاني الذي جعلها عاصمة لإمارته، ولا تزال بعض آثاره قائمة في المدينة، منها مسجد البراني وسراي المعني وحمام المير الذي أتت عليه صواريخ إسرائيل عام 1982م عندما اجتاحت لبنان.
دراسة المعالم الإسلامية في صيدا هي دراسة صعبة وشاقة، وقد وجرت محاولات ناجحة لإبراز تاريخ المدينة الإسلامي.
لذلك تعتبر هذه الدراسات محاولة لإلقاء الضوء على المعالم الإسلامية في صيدا تمهد الطريق أمام الباحثين كي يتعمقوا في دراسة هذه المعالم، ووضع الدراسات العلمية التي تعالج الموضوع من الزاوية الموضوعية البعيدة عن الأهواء والغاية منها التعرف على مساجد المدينة وتاريخها الإسلامي والطابع التراثي القديم منه والحديث.
ورغم الدراسات التي توضع عن مدينة صيدا بهدف تحريف معالمها، فإن هذه المعالم تضفي على صيدا طابعها الإسلامي المنفتح والمحب للآخرين.
وتضم هذه الموسوعة الإسلامية مواضيع عديدة، إضافة إلى مواكبة أي جديد على الناحية الاسلامية في صيدا... وهي أول دراسة شاملة تتحدث عن المعالم الإسلامية على شبكة الإنترنت.
الفتح العربي وتحصين صيدا بالقلاع:
تُعتبر مدينة صيدا في مقدمة مدن الساحل الشامي التي افتتحها يزيد ابن أبي سفيان بعد أن استخلفه أبو عُبيدة بن الجرّاح على دمشق. وكانت صيدا من أعمال دمشق ولذلك عهد إليه أبو عبيدة بفتحها مع غيرها من المدن الساحلية التي تتبع إقليم دمشق مثل عرقة وجبيل وبيروت ثم طرابلس التي افتُتِحت فيما بعد في خلافة عثمان بن عفان. أما سواحل الأردن فقد تعاون في فتحها كل من يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، واشترك معهما معاوية، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً. وتشير المصادر العربية إلى أن معاوية بن أبي سفيان اشترك في فتح صيدا وسواحل دمشق، وأنه كان في مقدمة الجيش العربي الإسلامي الذي توجه لفتح الساحل، فالبلاذري يذكر أن " يزيد أتى بعد فتح مدينة دمشق صيدا وعرقة وجبيل وبيروت وهي سواحل، وعلى مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحاً يسيراً وجلا كثير من أهلها".
ويورد ابن الأثير نفس النص مع بعض التغيير الطفيف، فيشير فقط إلى مضي أبي عُبيدة إلى فحل وقيام يزيد بغزو صيدا وصور وسواحل دمشق الأخرى. ويؤكد البلاذري أن يزيد ابن أبي سفيان وجه معاوية إلى سواحل دمشق، باستثناء طرابلس التي لم يكن يطمع فيها وقتذاك، ففتح معاوية هذه السواحل فتحاً يسيراً، " فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة، فربما قوتل قتالاً غير شديد، وربما رمى، ففتحها".
ويختلف المؤرخون في تحديد تاريخ فتح صيدا، فابن الأثير يذكر هذا الحدث في جملة حوادث سنة 13 ه (634م). والبلاذري لايذكر تاريخ قيام يزيد ابن أبي سفيان بهذا الفتح، وإنما يشير إلى أن ذلك تم بعد فتح دمشق. "ومن المعروف أن فتح دمشق تم في رجب سنة 14 ه /635م. وذكر الطبري نقلاً عن ابن اسحق والواقدي أن دمشق فتحت في سنة 14 ه. أما فيما عدا ذلك فليس لدينا من النصوص ما يشير إلى تاريخ محدد لهذا الفتح. ومن الثابت أن فتح سواحل دمشق باستثناء طرابلس، تم الفراغ منه في آخر سنة 16 ه أو أوائل سنة 17 ه، لأن عام 18 ه/ 639م شهد طاعون عمواس الذي توفي به نحو خمس وعشرين ألفاً من المسلمين، ولذلك لا نستبعد أن يكون يزيد قد فرغ من فتح صيدا في سنة 15 ه /636م.
ولم يلبث البيزنطيون في عهد قنسطانز الثاني، أن تغلبوا على بعض سواحل الشام في بداية خلافة عثمان بن عفان سنة 23 ه/644 م، ولكن معاوية، تصدى لهم واستردها، ثم رمم قلاعها، وشحنها بالمقاتلة، ووزع عليهم القطائع. وليس لدينا ما يؤكد أن صيدا كانت في جملة هذه المدن الساحلية التي تغلب عليها اليزنطيون، ثم استردها معاوية، على أننا لا نشك في أن صيدا حظيت باهتمام معاوية، فعني بتحصينها في خلافة كل من عمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان فما أن توفي أخوه يزيد في عام عمواس حتى أسند إليه الخليفة الراشد عمر ولاية دمشق بسواحلها بالإضافة إلى فلسطين ولكن عمر فصل القضاء عن السلطة الإدارية، فولي مع معاوية أبا الدرداء الصحابي قضاء دمشق والأردن وصلاتهما، وعُبادة بن الصامت قضاء حمص وقنسرين وصلاتهما.
وكانت معظم سواحل دمشق قد خُربت قلاعها ودُثرت تحصيناتها، فكتب معاوية إلى عمر بعد أن أسندت إليه ولاية الشام بطبيعة الحال في سنة 18 ه يصف له حال السواحل، وما تحتاج إليه حصونها وقلاعها من ترميم وتجديد، فأمره عمر بترميم حصونها " وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظرها واتخاذ المواقيد لها". ويبدو أيضاً أن معاوية تباطأ في ترميم هذه القلاع، وأنه لم يكن قد فرغ من هذه المهمة عندما داهمه البيزنطيون بغزوهم لهذه السواحل في بداية خلافة عثمان بن عفان. فلما تمكن معاوية من إجلائهم عنها كتب إليه عثمان بن عفان يأمره "بتحصين السواحل وشحنها وإقطاع من ينزله إياه القطائع ففعل". ومنذ ذلك الحين كثرت وفود المسلمين إلى السواحل الشامية للرباط.
وهكذا التزم معاوية بادئ ذي بدء بتطبيق سياسة دفاعية عن السواحل لمواجهة الخطر البيزنطي على الثغور الشامية تمهيداً لتطبيق سياسة بحرية هجومية دعامتها الأساطيل، فاهتم بتحصين السواحل متوسلاً في ذلك بوسائل برية، عن طريق ترميم حصونها وأسوارها وترتيب المقاتلة فيها، وتنظيم الحراس على مناظرها، وإقامة الأربطة أو المسالح أو المناظر وشحنها بالمرابطة لمراقبة النواحي التي يقبل منها البيزنطيون في البحر والإنذار باقتراب العدو ليلاً عن طريق إيقاد النار في مواقيد بأعلاها، تنبيهاً للمرابطة والحراس بالخطر الوشيك.
وليس لدينا من النصوص التاريخية ما يشير إلى قيامه بترميم تحصينات صيدا بوجه خاص، ولكننا نفهم ضمناً أن صيدا كانت من بين المدن الساحلية التي حظيت باهتمامه، فقد كانت على الأقل من أهم ثغور دمشق، على أن البلاذري عندما يعدد أسماء المدن التي رممها معاوية لا يذكر صيدا من بينها، وإنما يذكر مدينتين رئيسيتين هما عكا وصور اهتم بترميم قلاعهما قبيل ركوبه البحر غازياً إلى قبرص. ولعل إغفاله لذكر صيدا يرجع إلى أنها لم تكن على مستوى مدينتي عكا وصور من حيث الأهمية الدفاعية ومن حيث الاتساع العمراني، وإن كان يعمم نزول جند العرب في جميع سواحل الشام.
ونستخلص من كل ما سبق أن صيدا _ شأنها في ذلك شأن غيرها من مدن الساحل الفينيقي القديم _ لقيت اهتماماً خاصاً من الخليفتين الراشدين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بترميم قلاعها وأبراجها، وأن ذلك تم بنظر معاوية وهو بعد عامل على الشام. ولا ينبغي أن ننسى أن صيدا بالذات تعرضت للتخريب والتدمير في كثير من مراحل تاريخها القديم، وأنها ظلت بدون أسوار تحميها فترة طويلة من الزمن منذ أن أحرقها أهلها في سنة 346ق.م. أما صور فقد تركها الإسكندر الأكبر في سنة 332ق.م. أطلالاً دارسة بعد أن خرّب بنيانها ودمر تحصيناتها. ثم إن الصراع طويل الأمد الذي نشب بين خلفائه في مصر وسورية من أجل التنافس في السيطرة على الساحل الفينيقي واستمر حتى قدوم الرومان في سنة 64ق.م، وتعرُّض صيدا للغزو من قبل السلوقيين حيناً والبطالمة حيناً آخر لم يفسح المجال أمام ولاتها ليرمموا ما خربته الحروب ويعيدوا بناء المدينة التعسة التي نزلت في العصر الروماني من عداد المدن الكبرى إلى مصاف المدن الصغرى، وفقدت أهميتها، وذابت شخصيتها حتى الفتح العربي عندما ألحقت بكورة دمشق وأصبحت من الثغور الهامة في العصر الإسلامي. ولا يمكننا أن نقبل بأي حال من الأحوال مزاعم بعض الباحثين الذين يجردون من العرب كل فضل في إعادة تحصينها، ومن بينهم الأستاذ فيليب حتي الذي يؤكد أن حصونها لم تبن ثانية منذ استحالة المدينة إلى ركام من رماد في عهد أرتحششتا الثالث أوخوس حتى زمن الصليبييين، وروبين فيدين الذي يذهب إلى القول بأن صيدا الفينيقية "في رقعة أرضها بنيت وأعيد بناؤها قرناً بعد قرن وتخرّبت مراراً، ولكن درجات تخريبها ووسائل ذلك تغيرت عبر التاريخ، فالآشوريون سووها بالأرض، والفرس أحرقوها بالنار والعرب في حالتين أزالوا أسوارها".
وليس لدينا ما نرد به على هذه الافتراءات والأقوال الظالمة سوى أن نذكر نصاً كتابياً هاماً عثر عليه في صيدا يشير إلى بناء برج بأمر من الوزير الأفضل شاهنشاه وزير الخليفة الفاطمي المستعلي بالله على يد الأمير سعد الدولة أبو منصور أشتكين الأفضلي في سنة 491 ه/ 1097م أي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام بعام واحد، أو الرجوع إلى نص المقدسي البشاري الذي يؤكد أنها مدينة حصينة على الساحل في زمنه ت387 ه. وما ذكره الدمشقي الذي كتب في سنة 1300م إذ يذكر أن مملكة دمشق كانت تضم تسعين إقليماً من بينها صيدا في "الدمشقي، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر. أو إلى نص ورد في سفر نامة للرحالة الفارسي ناصر خسرو في النصف الأول من القرن الخامس الهجري أي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى بنحو نصف قرن يذكر فيه أن لصيدا سور حجري محكم، أو إلى ما ذكره الجغرافي المغربي الإدريسي ت560 الذي شاهد على صيدا سوراً من الحجارة.