صيدا والدولة الايوبية
صيدا في المرحلة الانتقالية بين الاسترداد الإسلامي الأول والاحتلال الصليبي الثاني:
( أ ) الاسترداد الإسلامي لصيدا في 21 جمادى الأول سنة 583 ه/1187م.
(ب)هدم أسوار صيدا وتحصيناتها في سنة 586 ه / 1190 م.
(ج) صيدا في عصر خلفاء صلاح الدين.
الاسترداد الإسلامي لصيدا في 21 جمادى الأول سنة 583 ه / 1187 م:
صمم صلاح الدين في سنة 583 ه / 1187 م على وضع حد لأعمال القرصنة التي كان يمارسها الإبرنس أرناط، وهو رينو دي شاتيّو صاحب حصن الكرك، ومهاجمة مملكة بيت المقدس، وذلك عندما أقدم أرناط المذكور على نقض معاهدة الصلح المبرمة بينه وبين صلاح الدين قبل نفاذ مدتها بعامين، وكانت تنص على حرية مرور القوافل ما بين الشام ومصر دون أن يتعرض لها عسكر أرناط، فهاجم أرناط في سنة 582 ه قافلة كبيرة مشحونة بالمتاجر والأموال في حراسة جماعة من الجند المسلمين، فغدر بهم أرناط وغنم أموالهم ودوابهم وأسلحتهم، وأودع من أسره منهم في السجون، وفي ذلك يقول ابن واصل في كتابه مفرج الكروب: كان الإبرنس أرناط صاحب الكرك كثير الغدر والخبث، وكان قد هادن السلطان وسالمه، فأمنت الطريق بين مصر والشام، وتواصلت القفول حتى كان يمكن الذاهب والجائي، ثم إنه لاحت له فرصة في الغدر، فغدر بقافلة عظيمة فيها نعم جليلة فأخذها بأسرها، وكان معهم جماعة من الأجناد فأسرهم وحملهم إلى الكرك وأخذ خيلهم وعدتهم، فأرسل إليه السلطان وقبّح فعله، فأسامه إطلاقهم، فامتنع وأصر على عصيانه، فنذر السلطان دمه، وأعطى عهداً إن ظفر به أن يستبيح مهجته.
وفي نفس الوقت نكث ريمون الثالث صاحب طرابلس بالاتفاقية التي أبرمها مع صلاح الدين في سنة 581 ه / 1185 م ودخل في طاعة جي دي لوزنيان ملك بيت المقدس، وأزال بذلك أسباب الخلاف الذي كان قائماً بينه وبين جي، وعندئذ بادر صلاح الدين بالعمل، فزحف إلى طبرية وكانت ملكاً لأشيفا زوجة ريمون الثالث في 21 ربيع الآخر سنة 583 ه / يوليو 1187 م، ودخلها المسلمون ونهبوها ثم أحرقوها. فلما بلغ الفرنج ذلك عزموا على السير لقتال المسلمين بتحريض من أرناط صاحب الكرك، واشتبك الفريقان في 25 ربيع الآخر سنة 583 ه في حطين، وأحط المسلمون بالفرنج من كل جانب، فلما أيقن ريمون بالهزيمة تحايل على النجاة بنفسه، ففتح له تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين ثغرة خرج منها مع نفر من أصحابه، كذلك شق باليان أبلين صاحب بيروت وأرناط صاحب صيدا لنفسيهما طريقاً خارج أرض المعركة. وهكذا انهزمت قوى الصليبيين مجتمعة بعد أن قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً، ووقع في أسر المسلمين ملك الفرنج وأخوه والبرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل ومقدم الداوية وجماع من الداوية والاسبتارية، واستغل صلاح الدين هذا الانتصار الحاسم، فأخذ يستولي على قلاع الصليبيين ومدنهم، فسقطت مدينة عكا في أيدي المسلمين في مستهل جمادى الأول، واستولى المسلمون بعد ذلك على العديد من المدن والحصون هي على الترتيب: الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف شقيف تيرون والفولة ومجدليابة ويافا. ثم عهد صلاح الدين إلى تقي الدين عمر بمنازلة قلعة تبنين، ولكن هذه القلعة كانت من المناعة والحصانة بحيث استعصى على تقي الدين عمر فتحها وحده دون الاستعانة بعمه، فأرسل إليه يحثه على الوصول إليه، فقدم إليه صلاح الدين وحاصرها حصاراً شديداً حتى سقطت في 16 جمادى الأول.
وما إن سقطت تبنين في يد صلاح الدين حتى زحف نحو صيدا في حشود هائلة تجر وراءها آلات الحصار من جروخ لرمي السهام والنفط المشتعل، وجفاتي وهي حواجز لإعاقة تقدم العدو ويستتر وراءها الجند الرماة أثناء القتال، والدبابات وهي أشبه بأبراج متحركة على عجلات وبها طبقات من خشب أو حديد أو رصاص تستقر بداخلها الجنود لمهاجمة الحصون أو لتسلق السوار، والصبابات وهي آلات لقذف السهام. ثم اجتاز صلاح الدين وهو في طريقه إلى صيدا ببلدة الصرفند فأخذها صفواً عفواً بغير قتال. ثم واصل زحفه من هناك إلى صيدا، فلما علم أرناط صاحب صيدا بمسيره إليه بادر بالانسحاب منها وتركها فارغة من غير مانع ولا مدافع، وجاءت رسل صاحبها بمفاتيحها إلى السلطان، وارتفعت أعلامه الصفر على أسوارها في 21 من جمادى الأول / 29 يوليو 1187. ويذكر صاحب البستان الجامع أن صلاح الدين فتحها في 28 جمادى الأول سنة 582، وهو تاريخ غير موثوق به. ويعلق العماد الأصفهاني على فتحها بقوله: وسنحت له صيدا، فتصدى لصيدها، وكانت همته في قيدها، وبادرها إشفاقاً من مكر العداة وكيدها…
وأقام صلاح الدين بصيدا يوماً ريثما قرر قواعدها، ثم واصل زحفه إلى بيروت، فتحصن الفرنج بها، وصعدوا على سورها، وناشبوه القتال عدة أيام، فنصب صلاح الدين عليها المجانيق، ودخلها صلحاً في 29 جمادى الأول أي بعد ثمانية أيام من شروعه في حصارها. ثم مر صلاح الدين بصيدا بعد أن فرغ من فتح بيروت وجبيل في طريقه إلى عسقلان.
أما أرناط صاحب صيدا والشقيف، فقد فر إلى قلعة شقيف أرنون، وأقام فيها منذ أن انتزع منه صلاح الدين صيدا حتى أتبعها بالشقيف في سنة 585.
هدم أسوار صيدا وتحصيناتها في سنة 586 ه / 1190 م:
أسند صلاح الدين ولاية صيدا وبيروت بعد أن افتتحهما في سنة 583 ه إلى الأمير سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب الهكاري، وكان أميراً جليل القدر وقائداً شجاعاً أبلى بلاءً حسناً في الفتوحات الصلاحية، وتوفي ابن المشطوب في سنة 588 ه / 1192 م. وقد أسهم ابن المشطوب في أثناء ولايته لصيدا في إمداد مسلمي عكا بالطعام والقوات من صيدا عندما اشتد عليهم الغلاء في شتاء سنة 586 ه، ولولا ذلك لهلكوا جوعاً. واستغل ابن المشطوب وغيره من أمراء صلاح الدين فرصة حلول الشتاء، وخلو ميناء عكا من سفن الصليبيين المحاصرة له ودخل المدينة متسللاً في بداية سنة 587 ه، وكان من بين الأسرى الذين أسرهم الصليبيون عند استيلائهم على عكا في 17 جمادى الثاني سنة 587 ه.
إهتم صلاح الدين بعد أن فرغ من فتح صيدا وتبنين بتحصينهما بقصد حمايتهما من الأخطار المحيطة بهما والممثلة في فرنج صور، ويعبر العماد الأصفهاني عن ذلك بقوله: ولما فرغ من شغل صيداء وتبنين وجمع لهما التحصين والتحسين قال لعصمة الله: شيدي ما بصيداء وتبنين تبنين، وألحفيهما رداء الحماية فما يضيع ما تحفظين، ولا يطرق ما تحمين، ثم نقل إلى صيدا بعض الآلات التي كان قد استخدمها في حصار صور.
وحدث أثناء الفترة التي أقامها صلاح الدين في مرج عيون في انتظار اللحظة التي يسلمه أرناط حصن شقيف أرنون، أن جاءته كتب من قواده الذين كان قد عهد إليهم بمهمة مواجهة الفرنج في صور يبلغونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور جسر صور، وأنهم عزموا على السير نحو صيدا ومحاصرتها، فخرج صلاح الدين في فرقة من أصحابه لمواجهة الفرنج، ولكنه وصل في أعقاب معركة نشبت بين قواته المعسكرة خارج صور وبين حشود الفرنج، دارت فيها الدائرة على الفرنج، وعجزوا عن الوصول إلى صيدا. ويرجع السبب في خروج الفرنج نحو صيدا إلى أن ضاقت عليهم باطنها وظاهرها، وامتلأت بالرجال والأقوات والذخائر، فلما فشلوا في خطتهم بالنسبة لصيدا تحولوا إلى عكا.
صيدا في عصر خلفاء صلاح الدين:
1- صلح سنة 588 ه:
أثار سقوط بيت المقدس في يد صلاح الدين في 27 رجب سنة 583 ه / 12 أكتوبر سنة 1187 ثائرة العالم المسيحي، وكان حافزاً على قيام الحملة الصليبية الثالثة 1189 – 1191 م التي اشترك فيها الإمبراطور فريدريك بربروسة والملك فيليب أغسطس والملك ريتشارد قلب الأسد. أما فريدريك فقد مات غريقاً عقب وصوله إلى نهر سلوقية وذلك أثناء عبوره لأحد الأنهار ولم يصل من قواته إلى عكا إلا أعداد قليلة، في حين تمكن ريتشارد وفيليب من الاستيلاء على عكا بعد حصار طويل وذلك في 17 جمادى الآخر سنة 587 ه / 1191 م. وكان ريتشارد قد سئم القتال خاصة بعد رحيل الملك فيليب إلى بلاده، ولكن ذلك لم يمنعه عند قيامه بمفاوضة الملك العادل أخي صلاح الدين من الإصرار على المطالبة بكل فلسطين، وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون مطالبه، فاستؤنفت الحرب من جديد بين المسلمين والصليبيين، وحدثت موقعة أرسوف سنة 1191 م التي أسفرت عن هزيمة للجيش الإسلامي، وتبع ذلك سير الصليبيين نحو يافا، ثم عاود ريتشارد بالاتصال العادل في أكتوبر من نفس السنة لإجراء مفاوضات جديدة لعقد الهدنة، وفي هذه المفاوضات الثانية طالب ريتشارد ببيت المقدس والإقليم الواقع غربي نهر الأردن، كما طالب باستعادة صليب الصلبوت، ولكن صلاح الدين اعترض على هذه المطالب، وتمسك بالاحتفاظ ببيت المقدس في أيدي المسلمين. وكان ريتشارد قد أبدى إعجابه بالعادل، لما لمسه فيه من روح الفروسية وبراعة دبلوماسية، فاقترح على الجانب الإسلامي أن يتزوج العادل من أخته جوانا ملكة صقلية التي ينوي ريتشارد أن يخصها بكل ما فتحه من مدن الساحل بما فيها عسقلان، على أن يقيم الزوجان في بيت المقدس التي يجب أن تفتح أبوابها للمسيحيين، كما اشترط على المسلمين إعادة صليب الصلبوت، وإطلاق الأسرى من الجانبين وأن ترد إلى الداوية والاسبتارية ممتلكاتهم في فلسطين. ولكن جوانا لم تقبل الزواج من مسلم، وفي هذه الآونة قدم إلى معسكر صلاح الدين أرناط صاحب صيدا وقلعة الشقيف السابق رسولاً من قبل كنراد صاحب صور، يعرض على صلاح الدين أن يتنازل له عن صيدا وبيروت وتكون الجبليات كلها أو تكون مناصفة، وشرط على نفسه في مقابل ذلك مجاهرة الفرنج بالعداوة واستعداده لقصد عكا ومحاصرتها واستخلاصها للمسلمين، وبحث صلاح الدين الاقتراحين في مجلس عقده لذلك الغرض، تقرر فيه قبول اقتراح ريتشارد من حيث المبدأ وذلك لعدم ثقة المسلمين بكنراد غير أن حاشية همفري رسول ريتشارد ساءهم ما شهدوه من خروج أرناط صاحب صيدا السابق للصيد في صحبة العادل، فتوقفت مفاوضات الصلح فترة من الوقت ثم استؤنفت من جديد، ومضى العادل في 20 مارس سنة 1192م إلى معسكر ريتشارد يحمل عرضاً محدداً بمقتضاه يحتفظ الصليبيون بما سبق أن فتحوه، وأن يحق لهم الحج إلى بيت المقدس، وإضافة بيروت إليهم بعد أن يقوم المسلمون بتخريب تحصيناتها، واقترح ريتشارد تتويج كنراد ملكاً على بيت المقدس، ولكن كنراد لم يلبث أن قتل على أيدي الفداوية الاسماعيلية في أبريل سنة 1192، وأخيراً عقدت معاهدة الصلح في 2 سبتمبر سنة 1192 م / 20 شعبان سنة 588 ه بين الجانب الصليبي والجانب الإسلامي على أساس أن تكون المدن الساحلية حتى يافا في الجنوب للصليبيين، على أن يحتفظ المسلمون بصيدا وبيروت وجبيل مع إتاحة حرية الحج للمسيحيين وتدمير عسقلان.
2- تهديم أسوار صيدا في عهد العادل:
توجه السلطان صلاح الدين بعد عقد الصلح إلى القدس، حيث أقام عدة منشآت، ثم رحل في 5 من شوال إلى دمشق ماراً بالثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين، وقصد بيروت، وأقام بها عدة أيام. ويشير المؤرخون إلى أنه تعهد هذه المدن بعنايته وأمر بإحكامها وتحصينها. ولا شك أنه مر بصيدا في طريقه إلى بيروت، وأن صيدا كانت من بين المدن التي حظيت باهتمامه. ثم توفي صلاح الدين في 27 من صفر سنة 589 ه/ 1193 م، وخلفه ابنه العزيز عثمان أبو الفتح على مصر والأفضل نور الدين علي على دمشق والساحل وبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين وجميع الأعمال إلى الداروم، والظاهر على حلب وأعمالها جميعاً، وعلى حماة محمود بن تقي الدين عمر. وكان العزيز عثمان قد أسند ولاية صيدا وأعمالها إلى فارس الدين وشمس الدين سنقر، وزادهما نابلس وبلادها بعد ذلك. ثم آلت ولاية صيدا إلى الأفضل ملك دمشق الذي أقطعها إلى ولده الملك المعظم، فأنعم بها هذا الأخير بدوره إلى أخيه الملك المغيث يوسف في سنة 592 ه / 1195 م، وظلت صيدا في حوزة المغيث يوسف حتى وفاته في سنة 630 ه / 1232 م.
وشغل خلفاء صلاح الدين بنزاعاتهم الصغيرة وخلافاتهم الداخلية حول مناطق النفوذ، وهيأوا بذلك للفرنج الفرصة لكي ينعموا بفترة من السلام، ولكي يجنوا مكاسب جديدة على حساب المسلمين. وكان يتولى بيروت الأمير عز الدين أسامة بن منقذ الذي كان يرسل الشواني!! في البحر ليقطع الطريق على الإفرنج، فاشتكى الإفرنج أكثر من مرة إلى كل من العادل بدمشق والعزيز عثمان بالقاهرة، فلم يمنعا أسامة عن عملياته البحرية، فاضطروا إلى الاستنجاد بملوك المسيحية في أوروبا، فوصلتهم إمدادات من الغرب معظمها من الألمان، فلما بلغ العادل ذلك استولى على يافا قهراً بالسيف. وفي نفس الوقت توفي هنري ملك بيت المقدس الكندهري وخلفه أملريك الثاني ملك قبرص الذي صمم على استرجاع جميع الأراضي التي كان صلاح الدين قد انتزعها من الصليبيين على أثر انتصاره في حطّين، بقدر استطاعته، ووجد في نفاذ أمد الهدنة المنعقدة مع المسلمين مبرراً لاستئناف الاشتباكات الحربية، لا سيما بعد أن وصلت حملة هنري الرابع الألماني، فأصدر أملريك أمره إلى الإفرنج بالتجمع في عكا والزحف شمالاً نحو بيروت، وعندما علم العادل بهذه التحركات عزم على تخريب المواقع الساحلية الإسلامية التي يخاف ألا يتمكن من إحكام الدفاع عنها، على ألا يتم تخريبها إلا بعد إجلاء الأهالي عنها إلى مناطق داخلية مأمونة. فسيّر لهذا الغرض فرقة من عسكره إلى بيروت، هدموا سور المدينة في 7 ذي الحجة سنة 593 ه / أكتوبر سنة 1197 م، وشرعوا في تخريب دورها وتدمير قلعتها ومرافقها عندما عارضهم أسامة ابن منقذ متولي بيروت، ومنعهم من إنجاز مهمتهم بحجة قدرته على الدفاع عنها وتعهده بحفظها. ثم رحل الإفرنج الألمان من عكا إلى صيدا، في نفس الوقت الذي عاد فيه عسكر المسلمين من بيروت، فاشتبك الجانبان في نواحي صيدا في 9 ذي الحجة سنة 593 ه / 22 أكتوبر سنة 1197 م ولكن هذه الاشتباكات لم تسفر عن نتائج حاسمة، وبادر الإفرنج بمواصلة الزحف نحو بيروت، فلما اقتربوا منها أسرع أسامة وجميع من معه من المسلمين بالفرار عنها إلى صيدا ظناً منهم بأن الإفرنج استولوا على بيروت، تاركين هذه المدينة الأخيرة غنيمة باردة للإفرنج الذين تمكنوا من دخولها من غير قتال في 10 من ذي الحجة سنة 593 ه / 23 أكتوبر.
أما أسامة فقد لامه الناس على تفريطه في الدفاع عن بيروت، وأصبح تسليم المدن الإسلامية للإفرنج منذ ذلك الحين بدون حرب تقليداً سنّه أسامة، وفي ذلك يقول أحد الشعراء متهكماً عندما حاصر الإفرنج حصن تبنين في سنة 595 ه / 1198 م، موجهاً القول إلى صاحب الحصن:
سلّم الحصن ما عليك ملامـة لا يلام الذي يروم السلامة
فعطاء الحصون من غير حرب سنّة سنّها ببيروت أسامـة.
3- معاهدتا صلح سنة 594 ه / وسنة 600 ه:
وعندما علم السلطان الملك العادل بسقوط بيروت في أيدي الإفرنج أرسل إلى صيدا طائفة من عسكره لتخريب "ما كان بقي منها، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها، وقد تم ذلك في ذي الحجة سنة 593 ه. وسارت عساكر المسلمين إلى صور بعد ذلك، فقطعوا أشجارها وخربوا أبراجها وقراها. ثم قدم الإفرنج إلى صيدا وتبنين وشرعوا في حصارهما في يناير سنة 1198 م، وازداد الضغط على الحامية الإسلامية في صيدا إلى حد أنهم أوشكوا على تسليمها للإفرنج، ولكن اقتراب تعزيزات إسلامية بقيادة العزيز عثمان بنفسه للدفاع عنها أرغم اللاتين على رفع الحصار عنها وعن تبنين في 2 فبراير سنة 1198 م / 595 ه، ثم أبحر جماعة من الإفرنج الألمان إلى بلادهم بعد أن جاءت الأنباء بوفاة إمبراطورهم. وهكذا كان الجانبان الإسلامي والصليبي متلهفين على عقد الصلح، فقد كان اللاتين من الضعف، والمسلمون من الانقسام والتفرق بحيث لم يكن من الممكن أن يواصل أي منهما الحرب، وعلى هذا النحو تم الاتفاق بين الجانبين الإسلامي والصليبي في أول يوليو سنة 1198 م / شعبان 594 ه على أن يسود السلام حتى ربيع سنة 1204 م إلا إذا قدمت حملة صليبية جديدة إلى الأراضي المقدسة. وأقر الجانبان الأوضاع الراهنة، فظلت يافا التي كان العادل قد هدم أسوارها، تابعة للمسلمين، وفي مقابل ذلك وافق العادل على أن يحتفظ اللاتين ببيروت وجبيل، كما وافق على مناصفة صيدا بين الإفرنج والمسلمين.
ثم قدم إلى عكا في سنة 598 ه / 1202 م جماعة من الفلمنكيين، ولحق بهم في العام التالي جماعات قليلة من الفرنسيين، فطالبوا أملريك بالسير لمقاتلة المسلمين، ولكن أملريك آثر الانتظار بعض الوقت ريثما تواتيه الفرصة لشن هجوم شامل على المسلمين. وحدث بعد ذلك أن تمكن الأسطول الإسلامي من أسر سفينتين صليبيتين من سفن قبرص بالقرب من صيدا، وأدى هذا الاعتداء من جانب المسلمين إلى تجدد الاشتباكات، ونقض معاهدة 1198م. واتخذ أملريك من هذا الحادث ذريعة لبث الغارات على الأراضي القريبة من عكا. وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بانحراف الحملة الصليبية الرابعة عن مقصده إلى الاستيلاء على القسطنطينية في سنة 600 ه / 1204 م، وأدى ذلك إلى خروج كثير من الإفرنج إلى بيزنطة. وكان من الطبيعي أن يسعى أملريك إلى طلب الصلح، ولم يكن العادل بأقل منه رغبة في ذلك، إلى حد دعاه إلى أن يقبل تنازلات إسلامية جديدة لصالح الصليبيين، إذ كان يخشى أن تتعرض مصر لهجوم موجه من القسطنطينية. وتم عقد الصلح في سنة 601 ه / سبتمبر 1204 م، وبمقتضاه تنازل للصليبيين "عن جميع المناصفات في صيدا والرملة وغيرهما، وأعطاهم ناصرة وغيرها". وهكذا قضت معاهدة سنة 1204 بأن يتقاسم الصليبيون والمسلمون موارد صيدا.
4- صيدا في عهد الملك الكامل محمد:
تجدد القتال بين المسلمين والصليبيين في سنة 614 ه / 1217م بسبب وصول إمدادات أوروبية جديدة إلى هؤلاء الصليبيين ممثلة في الحملة الصليبية الخامسة، ثم اجتمع الصليبيون في عكا، فبادر الملك العادل بالقدوم من مصر إلى الشام، فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد، وزحف الصليبيون من عكا نحوه، فتحركت قوات العادل نحو بيسان، فسار إليه الإفرنج بقصد محاربته، ولكن العادل تجنب لقاءهم لقلة عسكره، وانسحب إلى مرج الصفر بالقرب من دمشق لحشد مزيد من الجند، وفسح المجال بذلك أمال الإفرنج للعبث في البلاد، فبثوا السرايا في الأراضي الممتدة من بيسان إلى بانياس، ونهبوا القرى والحصون، ثم قصدوا صور، ومنها زحفوا إلى الشقيف، فنهبوا صيدا والشقيف، وعادوا بعد ذلك إلى عكا. وأقام الإفرنج في عكا حتى طليعة سنة 615 ه / 1218 م حيث أعدوا حملة موجهة إلى دمياط بقيادة جان دي بريين، حملتها سفن فريزية نزلت على بر الجيزة، شرقي النيل، أمام دمياط في صفر سنة 615 ه / 21 مايو 1218 م. وسقطت دمياط في أيدي الصليبيين في 27 شعبان سنة 616 ه / 5 نوفمبر سنة 1219م، وتحرج موقف السلطان الجديد الملك الكامل محمد بن العادل، فعرض على الصليبيين خلال ذلك أن يتخلوا عن دمياط ويرحلوا عن مصر في مقابل تنازله عن بيت المقدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين من مدن الساحل ما عدا الكرك، فرفضوا هذا العرض السخي، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضاً عن تخريب القدس ليعمروه بها، كما طالبوا بالكرك، فاضطر المسلمون إلى مواصلة القتال، ولم يلبث الموقف أن تحول لصالح المسلمين، وتم الصلح على أساس أن يسلم الإفرنج دمياط في 7 رجب سنة 618 ه / 1221 م. وعندما بلغت الغرب المسيحي أنباء الخسائر التي مني بها الصليبيون في مصر، صمموا على إرسال إمدادات جديدة، إلا أنه لم يصل إلى الأراضي المقدسة أعداد كبيرة من حجاج الإفرنج قبل سنة 624 ه / 1227 م، وهم الطلائع الأولى للحملة الصليبية السادسة، الذين أقاموا في عكا ينتظرون قدوم الإمبراطور فردريك الثاني الذي تولى قيادة هذه الحملة. وكانت هذه الطلائع تتلهف على القيام بعمل هام يضمن تدعيم الدفاع عن الأراضي المقدسة وذلك عن طريق إقامة تحصينات، وبينما كانت العناصر الألمانية منهم تؤسس قلعة الشقيف كانت جماعة أخرى من فرسان الاسبتارية وصليبيي الإنجليز والفرنجة والإسبان يشيّدون حصناً على جزيرة صغيرة تقع عند مدخل مدينة صيدا التي استولوا عليها بعد أن كانت مناصفة، وهذا الحصن هو المعروف اليوم بقلعة البحر، ويتكون من برجين رئيسيين يجمعهما سور. واعتبر المسلمون هذا التصرف خرقاً سافراً لشروط الهدنة التي تقضي بمناصفة صيدا. ويذكر مؤرخو الحركة الصليبية بأن البناء استغرق الفترة من يوم القديس مارتين حتى منتصف عيد الكاريم وهو الصوم الكبير، أي من 11 نوفمبر 1227 إلى 2 مارس 1228 م. وفي استيلاء الإفرنج على صيدا يقول ابن الأثير: وفي هذه السنة 625 ه خرج كثير من الإفرنج من بلادهم التي هي في الغرب من صقلية وما وراءها من البلاد إلى بلادهم التي بالشام: عكا وصور وغيرهما من ساحل الشام، فكثُر جمعهم، وكان قد خرج قبل هؤلاء جمع آخر أيضاً إلا أنهم لم تمكنهم الحركة والشروع في أمر الحرب لأجل أن ملكهم الذي هو المقدم عليهم هو ملك الألمان ولقبه أنبرور قيل معناه ملك الأمراء، ولأن المعظم كان حياً، وكان شهماً مقداماً، فلما توفي المعظم كما ذكرناه وولي بعده ابنه، وملك دمشق، طمع الإفرنج، وظهروا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين، وسورها خراب، فعمروها واستولوا عليها، وإنما تم لهم ذلك، بسبب تخريب الحصون القريبة منها: تبنين وهونين وغيرهما. ويقول المقريزي في السلوك: وفي سنة 625 ه شرع الإفرنج في عمارة صيداء وكانت مناصفة بين المسلمين والإفرنج وسورها خراب فعمروها وأزالوا من فيها من المسلمين.
لم يسع السلطان الملك الكامل محمد بعد أن بلغته هذه الأخبار السيئة إلا أن يرحل من مصر ويصل إلى نابلس، ويكتب من هناك إلى الملك الأشرف موسى وابن أخيه الناصر داوود بن المعظم عيسى يبرر لهما سبب مجيئه بقوله: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الإفرنج فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه وقد عمروا صيدا وبعض قيسارية ولم يمنعوا. ثم وصل رجال الإمبراطور فريدريك الثاني إلى عكا في إبريل سنة 1228 م / 626 ه في حين تخلَّف الإمبراطور في قبرص بعض الوقت. ثم قدم إلى عكا في سبتمبر سنة 1228، وكان الكامل محمد قد صالح أخاه الملك الأشرف، واتحدا أمام الخطر المشترك، وترددت الرسل بينهما وبين فردريك عدة مرات، واستقر الأمر في ربيع الأول سنة 626 ه / 18 فبراير سنة 1229 م على أن تتقرر الهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات، على أن يقوم الكامل بتسليم بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وتبنين وصيدا بأكملها إلى الصليبيين، واشترط الكامل أن تبقى القدس كما هي عليه من الخراب وألا يجدد الإفرنج سورها، ومنذ ذلك الحين آلت صيدا للمرة الثانية إلى الصليبيين.
( أ ) الاسترداد الإسلامي لصيدا في 21 جمادى الأول سنة 583 ه/1187م.
(ب)هدم أسوار صيدا وتحصيناتها في سنة 586 ه / 1190 م.
(ج) صيدا في عصر خلفاء صلاح الدين.
الاسترداد الإسلامي لصيدا في 21 جمادى الأول سنة 583 ه / 1187 م:
صمم صلاح الدين في سنة 583 ه / 1187 م على وضع حد لأعمال القرصنة التي كان يمارسها الإبرنس أرناط، وهو رينو دي شاتيّو صاحب حصن الكرك، ومهاجمة مملكة بيت المقدس، وذلك عندما أقدم أرناط المذكور على نقض معاهدة الصلح المبرمة بينه وبين صلاح الدين قبل نفاذ مدتها بعامين، وكانت تنص على حرية مرور القوافل ما بين الشام ومصر دون أن يتعرض لها عسكر أرناط، فهاجم أرناط في سنة 582 ه قافلة كبيرة مشحونة بالمتاجر والأموال في حراسة جماعة من الجند المسلمين، فغدر بهم أرناط وغنم أموالهم ودوابهم وأسلحتهم، وأودع من أسره منهم في السجون، وفي ذلك يقول ابن واصل في كتابه مفرج الكروب: كان الإبرنس أرناط صاحب الكرك كثير الغدر والخبث، وكان قد هادن السلطان وسالمه، فأمنت الطريق بين مصر والشام، وتواصلت القفول حتى كان يمكن الذاهب والجائي، ثم إنه لاحت له فرصة في الغدر، فغدر بقافلة عظيمة فيها نعم جليلة فأخذها بأسرها، وكان معهم جماعة من الأجناد فأسرهم وحملهم إلى الكرك وأخذ خيلهم وعدتهم، فأرسل إليه السلطان وقبّح فعله، فأسامه إطلاقهم، فامتنع وأصر على عصيانه، فنذر السلطان دمه، وأعطى عهداً إن ظفر به أن يستبيح مهجته.
وفي نفس الوقت نكث ريمون الثالث صاحب طرابلس بالاتفاقية التي أبرمها مع صلاح الدين في سنة 581 ه / 1185 م ودخل في طاعة جي دي لوزنيان ملك بيت المقدس، وأزال بذلك أسباب الخلاف الذي كان قائماً بينه وبين جي، وعندئذ بادر صلاح الدين بالعمل، فزحف إلى طبرية وكانت ملكاً لأشيفا زوجة ريمون الثالث في 21 ربيع الآخر سنة 583 ه / يوليو 1187 م، ودخلها المسلمون ونهبوها ثم أحرقوها. فلما بلغ الفرنج ذلك عزموا على السير لقتال المسلمين بتحريض من أرناط صاحب الكرك، واشتبك الفريقان في 25 ربيع الآخر سنة 583 ه في حطين، وأحط المسلمون بالفرنج من كل جانب، فلما أيقن ريمون بالهزيمة تحايل على النجاة بنفسه، ففتح له تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين ثغرة خرج منها مع نفر من أصحابه، كذلك شق باليان أبلين صاحب بيروت وأرناط صاحب صيدا لنفسيهما طريقاً خارج أرض المعركة. وهكذا انهزمت قوى الصليبيين مجتمعة بعد أن قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً، ووقع في أسر المسلمين ملك الفرنج وأخوه والبرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل ومقدم الداوية وجماع من الداوية والاسبتارية، واستغل صلاح الدين هذا الانتصار الحاسم، فأخذ يستولي على قلاع الصليبيين ومدنهم، فسقطت مدينة عكا في أيدي المسلمين في مستهل جمادى الأول، واستولى المسلمون بعد ذلك على العديد من المدن والحصون هي على الترتيب: الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف شقيف تيرون والفولة ومجدليابة ويافا. ثم عهد صلاح الدين إلى تقي الدين عمر بمنازلة قلعة تبنين، ولكن هذه القلعة كانت من المناعة والحصانة بحيث استعصى على تقي الدين عمر فتحها وحده دون الاستعانة بعمه، فأرسل إليه يحثه على الوصول إليه، فقدم إليه صلاح الدين وحاصرها حصاراً شديداً حتى سقطت في 16 جمادى الأول.
وما إن سقطت تبنين في يد صلاح الدين حتى زحف نحو صيدا في حشود هائلة تجر وراءها آلات الحصار من جروخ لرمي السهام والنفط المشتعل، وجفاتي وهي حواجز لإعاقة تقدم العدو ويستتر وراءها الجند الرماة أثناء القتال، والدبابات وهي أشبه بأبراج متحركة على عجلات وبها طبقات من خشب أو حديد أو رصاص تستقر بداخلها الجنود لمهاجمة الحصون أو لتسلق السوار، والصبابات وهي آلات لقذف السهام. ثم اجتاز صلاح الدين وهو في طريقه إلى صيدا ببلدة الصرفند فأخذها صفواً عفواً بغير قتال. ثم واصل زحفه من هناك إلى صيدا، فلما علم أرناط صاحب صيدا بمسيره إليه بادر بالانسحاب منها وتركها فارغة من غير مانع ولا مدافع، وجاءت رسل صاحبها بمفاتيحها إلى السلطان، وارتفعت أعلامه الصفر على أسوارها في 21 من جمادى الأول / 29 يوليو 1187. ويذكر صاحب البستان الجامع أن صلاح الدين فتحها في 28 جمادى الأول سنة 582، وهو تاريخ غير موثوق به. ويعلق العماد الأصفهاني على فتحها بقوله: وسنحت له صيدا، فتصدى لصيدها، وكانت همته في قيدها، وبادرها إشفاقاً من مكر العداة وكيدها…
وأقام صلاح الدين بصيدا يوماً ريثما قرر قواعدها، ثم واصل زحفه إلى بيروت، فتحصن الفرنج بها، وصعدوا على سورها، وناشبوه القتال عدة أيام، فنصب صلاح الدين عليها المجانيق، ودخلها صلحاً في 29 جمادى الأول أي بعد ثمانية أيام من شروعه في حصارها. ثم مر صلاح الدين بصيدا بعد أن فرغ من فتح بيروت وجبيل في طريقه إلى عسقلان.
أما أرناط صاحب صيدا والشقيف، فقد فر إلى قلعة شقيف أرنون، وأقام فيها منذ أن انتزع منه صلاح الدين صيدا حتى أتبعها بالشقيف في سنة 585.
هدم أسوار صيدا وتحصيناتها في سنة 586 ه / 1190 م:
أسند صلاح الدين ولاية صيدا وبيروت بعد أن افتتحهما في سنة 583 ه إلى الأمير سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب الهكاري، وكان أميراً جليل القدر وقائداً شجاعاً أبلى بلاءً حسناً في الفتوحات الصلاحية، وتوفي ابن المشطوب في سنة 588 ه / 1192 م. وقد أسهم ابن المشطوب في أثناء ولايته لصيدا في إمداد مسلمي عكا بالطعام والقوات من صيدا عندما اشتد عليهم الغلاء في شتاء سنة 586 ه، ولولا ذلك لهلكوا جوعاً. واستغل ابن المشطوب وغيره من أمراء صلاح الدين فرصة حلول الشتاء، وخلو ميناء عكا من سفن الصليبيين المحاصرة له ودخل المدينة متسللاً في بداية سنة 587 ه، وكان من بين الأسرى الذين أسرهم الصليبيون عند استيلائهم على عكا في 17 جمادى الثاني سنة 587 ه.
إهتم صلاح الدين بعد أن فرغ من فتح صيدا وتبنين بتحصينهما بقصد حمايتهما من الأخطار المحيطة بهما والممثلة في فرنج صور، ويعبر العماد الأصفهاني عن ذلك بقوله: ولما فرغ من شغل صيداء وتبنين وجمع لهما التحصين والتحسين قال لعصمة الله: شيدي ما بصيداء وتبنين تبنين، وألحفيهما رداء الحماية فما يضيع ما تحفظين، ولا يطرق ما تحمين، ثم نقل إلى صيدا بعض الآلات التي كان قد استخدمها في حصار صور.
وحدث أثناء الفترة التي أقامها صلاح الدين في مرج عيون في انتظار اللحظة التي يسلمه أرناط حصن شقيف أرنون، أن جاءته كتب من قواده الذين كان قد عهد إليهم بمهمة مواجهة الفرنج في صور يبلغونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور جسر صور، وأنهم عزموا على السير نحو صيدا ومحاصرتها، فخرج صلاح الدين في فرقة من أصحابه لمواجهة الفرنج، ولكنه وصل في أعقاب معركة نشبت بين قواته المعسكرة خارج صور وبين حشود الفرنج، دارت فيها الدائرة على الفرنج، وعجزوا عن الوصول إلى صيدا. ويرجع السبب في خروج الفرنج نحو صيدا إلى أن ضاقت عليهم باطنها وظاهرها، وامتلأت بالرجال والأقوات والذخائر، فلما فشلوا في خطتهم بالنسبة لصيدا تحولوا إلى عكا.
صيدا في عصر خلفاء صلاح الدين:
1- صلح سنة 588 ه:
أثار سقوط بيت المقدس في يد صلاح الدين في 27 رجب سنة 583 ه / 12 أكتوبر سنة 1187 ثائرة العالم المسيحي، وكان حافزاً على قيام الحملة الصليبية الثالثة 1189 – 1191 م التي اشترك فيها الإمبراطور فريدريك بربروسة والملك فيليب أغسطس والملك ريتشارد قلب الأسد. أما فريدريك فقد مات غريقاً عقب وصوله إلى نهر سلوقية وذلك أثناء عبوره لأحد الأنهار ولم يصل من قواته إلى عكا إلا أعداد قليلة، في حين تمكن ريتشارد وفيليب من الاستيلاء على عكا بعد حصار طويل وذلك في 17 جمادى الآخر سنة 587 ه / 1191 م. وكان ريتشارد قد سئم القتال خاصة بعد رحيل الملك فيليب إلى بلاده، ولكن ذلك لم يمنعه عند قيامه بمفاوضة الملك العادل أخي صلاح الدين من الإصرار على المطالبة بكل فلسطين، وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون مطالبه، فاستؤنفت الحرب من جديد بين المسلمين والصليبيين، وحدثت موقعة أرسوف سنة 1191 م التي أسفرت عن هزيمة للجيش الإسلامي، وتبع ذلك سير الصليبيين نحو يافا، ثم عاود ريتشارد بالاتصال العادل في أكتوبر من نفس السنة لإجراء مفاوضات جديدة لعقد الهدنة، وفي هذه المفاوضات الثانية طالب ريتشارد ببيت المقدس والإقليم الواقع غربي نهر الأردن، كما طالب باستعادة صليب الصلبوت، ولكن صلاح الدين اعترض على هذه المطالب، وتمسك بالاحتفاظ ببيت المقدس في أيدي المسلمين. وكان ريتشارد قد أبدى إعجابه بالعادل، لما لمسه فيه من روح الفروسية وبراعة دبلوماسية، فاقترح على الجانب الإسلامي أن يتزوج العادل من أخته جوانا ملكة صقلية التي ينوي ريتشارد أن يخصها بكل ما فتحه من مدن الساحل بما فيها عسقلان، على أن يقيم الزوجان في بيت المقدس التي يجب أن تفتح أبوابها للمسيحيين، كما اشترط على المسلمين إعادة صليب الصلبوت، وإطلاق الأسرى من الجانبين وأن ترد إلى الداوية والاسبتارية ممتلكاتهم في فلسطين. ولكن جوانا لم تقبل الزواج من مسلم، وفي هذه الآونة قدم إلى معسكر صلاح الدين أرناط صاحب صيدا وقلعة الشقيف السابق رسولاً من قبل كنراد صاحب صور، يعرض على صلاح الدين أن يتنازل له عن صيدا وبيروت وتكون الجبليات كلها أو تكون مناصفة، وشرط على نفسه في مقابل ذلك مجاهرة الفرنج بالعداوة واستعداده لقصد عكا ومحاصرتها واستخلاصها للمسلمين، وبحث صلاح الدين الاقتراحين في مجلس عقده لذلك الغرض، تقرر فيه قبول اقتراح ريتشارد من حيث المبدأ وذلك لعدم ثقة المسلمين بكنراد غير أن حاشية همفري رسول ريتشارد ساءهم ما شهدوه من خروج أرناط صاحب صيدا السابق للصيد في صحبة العادل، فتوقفت مفاوضات الصلح فترة من الوقت ثم استؤنفت من جديد، ومضى العادل في 20 مارس سنة 1192م إلى معسكر ريتشارد يحمل عرضاً محدداً بمقتضاه يحتفظ الصليبيون بما سبق أن فتحوه، وأن يحق لهم الحج إلى بيت المقدس، وإضافة بيروت إليهم بعد أن يقوم المسلمون بتخريب تحصيناتها، واقترح ريتشارد تتويج كنراد ملكاً على بيت المقدس، ولكن كنراد لم يلبث أن قتل على أيدي الفداوية الاسماعيلية في أبريل سنة 1192، وأخيراً عقدت معاهدة الصلح في 2 سبتمبر سنة 1192 م / 20 شعبان سنة 588 ه بين الجانب الصليبي والجانب الإسلامي على أساس أن تكون المدن الساحلية حتى يافا في الجنوب للصليبيين، على أن يحتفظ المسلمون بصيدا وبيروت وجبيل مع إتاحة حرية الحج للمسيحيين وتدمير عسقلان.
2- تهديم أسوار صيدا في عهد العادل:
توجه السلطان صلاح الدين بعد عقد الصلح إلى القدس، حيث أقام عدة منشآت، ثم رحل في 5 من شوال إلى دمشق ماراً بالثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين، وقصد بيروت، وأقام بها عدة أيام. ويشير المؤرخون إلى أنه تعهد هذه المدن بعنايته وأمر بإحكامها وتحصينها. ولا شك أنه مر بصيدا في طريقه إلى بيروت، وأن صيدا كانت من بين المدن التي حظيت باهتمامه. ثم توفي صلاح الدين في 27 من صفر سنة 589 ه/ 1193 م، وخلفه ابنه العزيز عثمان أبو الفتح على مصر والأفضل نور الدين علي على دمشق والساحل وبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين وجميع الأعمال إلى الداروم، والظاهر على حلب وأعمالها جميعاً، وعلى حماة محمود بن تقي الدين عمر. وكان العزيز عثمان قد أسند ولاية صيدا وأعمالها إلى فارس الدين وشمس الدين سنقر، وزادهما نابلس وبلادها بعد ذلك. ثم آلت ولاية صيدا إلى الأفضل ملك دمشق الذي أقطعها إلى ولده الملك المعظم، فأنعم بها هذا الأخير بدوره إلى أخيه الملك المغيث يوسف في سنة 592 ه / 1195 م، وظلت صيدا في حوزة المغيث يوسف حتى وفاته في سنة 630 ه / 1232 م.
وشغل خلفاء صلاح الدين بنزاعاتهم الصغيرة وخلافاتهم الداخلية حول مناطق النفوذ، وهيأوا بذلك للفرنج الفرصة لكي ينعموا بفترة من السلام، ولكي يجنوا مكاسب جديدة على حساب المسلمين. وكان يتولى بيروت الأمير عز الدين أسامة بن منقذ الذي كان يرسل الشواني!! في البحر ليقطع الطريق على الإفرنج، فاشتكى الإفرنج أكثر من مرة إلى كل من العادل بدمشق والعزيز عثمان بالقاهرة، فلم يمنعا أسامة عن عملياته البحرية، فاضطروا إلى الاستنجاد بملوك المسيحية في أوروبا، فوصلتهم إمدادات من الغرب معظمها من الألمان، فلما بلغ العادل ذلك استولى على يافا قهراً بالسيف. وفي نفس الوقت توفي هنري ملك بيت المقدس الكندهري وخلفه أملريك الثاني ملك قبرص الذي صمم على استرجاع جميع الأراضي التي كان صلاح الدين قد انتزعها من الصليبيين على أثر انتصاره في حطّين، بقدر استطاعته، ووجد في نفاذ أمد الهدنة المنعقدة مع المسلمين مبرراً لاستئناف الاشتباكات الحربية، لا سيما بعد أن وصلت حملة هنري الرابع الألماني، فأصدر أملريك أمره إلى الإفرنج بالتجمع في عكا والزحف شمالاً نحو بيروت، وعندما علم العادل بهذه التحركات عزم على تخريب المواقع الساحلية الإسلامية التي يخاف ألا يتمكن من إحكام الدفاع عنها، على ألا يتم تخريبها إلا بعد إجلاء الأهالي عنها إلى مناطق داخلية مأمونة. فسيّر لهذا الغرض فرقة من عسكره إلى بيروت، هدموا سور المدينة في 7 ذي الحجة سنة 593 ه / أكتوبر سنة 1197 م، وشرعوا في تخريب دورها وتدمير قلعتها ومرافقها عندما عارضهم أسامة ابن منقذ متولي بيروت، ومنعهم من إنجاز مهمتهم بحجة قدرته على الدفاع عنها وتعهده بحفظها. ثم رحل الإفرنج الألمان من عكا إلى صيدا، في نفس الوقت الذي عاد فيه عسكر المسلمين من بيروت، فاشتبك الجانبان في نواحي صيدا في 9 ذي الحجة سنة 593 ه / 22 أكتوبر سنة 1197 م ولكن هذه الاشتباكات لم تسفر عن نتائج حاسمة، وبادر الإفرنج بمواصلة الزحف نحو بيروت، فلما اقتربوا منها أسرع أسامة وجميع من معه من المسلمين بالفرار عنها إلى صيدا ظناً منهم بأن الإفرنج استولوا على بيروت، تاركين هذه المدينة الأخيرة غنيمة باردة للإفرنج الذين تمكنوا من دخولها من غير قتال في 10 من ذي الحجة سنة 593 ه / 23 أكتوبر.
أما أسامة فقد لامه الناس على تفريطه في الدفاع عن بيروت، وأصبح تسليم المدن الإسلامية للإفرنج منذ ذلك الحين بدون حرب تقليداً سنّه أسامة، وفي ذلك يقول أحد الشعراء متهكماً عندما حاصر الإفرنج حصن تبنين في سنة 595 ه / 1198 م، موجهاً القول إلى صاحب الحصن:
سلّم الحصن ما عليك ملامـة لا يلام الذي يروم السلامة
فعطاء الحصون من غير حرب سنّة سنّها ببيروت أسامـة.
3- معاهدتا صلح سنة 594 ه / وسنة 600 ه:
وعندما علم السلطان الملك العادل بسقوط بيروت في أيدي الإفرنج أرسل إلى صيدا طائفة من عسكره لتخريب "ما كان بقي منها، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها، وقد تم ذلك في ذي الحجة سنة 593 ه. وسارت عساكر المسلمين إلى صور بعد ذلك، فقطعوا أشجارها وخربوا أبراجها وقراها. ثم قدم الإفرنج إلى صيدا وتبنين وشرعوا في حصارهما في يناير سنة 1198 م، وازداد الضغط على الحامية الإسلامية في صيدا إلى حد أنهم أوشكوا على تسليمها للإفرنج، ولكن اقتراب تعزيزات إسلامية بقيادة العزيز عثمان بنفسه للدفاع عنها أرغم اللاتين على رفع الحصار عنها وعن تبنين في 2 فبراير سنة 1198 م / 595 ه، ثم أبحر جماعة من الإفرنج الألمان إلى بلادهم بعد أن جاءت الأنباء بوفاة إمبراطورهم. وهكذا كان الجانبان الإسلامي والصليبي متلهفين على عقد الصلح، فقد كان اللاتين من الضعف، والمسلمون من الانقسام والتفرق بحيث لم يكن من الممكن أن يواصل أي منهما الحرب، وعلى هذا النحو تم الاتفاق بين الجانبين الإسلامي والصليبي في أول يوليو سنة 1198 م / شعبان 594 ه على أن يسود السلام حتى ربيع سنة 1204 م إلا إذا قدمت حملة صليبية جديدة إلى الأراضي المقدسة. وأقر الجانبان الأوضاع الراهنة، فظلت يافا التي كان العادل قد هدم أسوارها، تابعة للمسلمين، وفي مقابل ذلك وافق العادل على أن يحتفظ اللاتين ببيروت وجبيل، كما وافق على مناصفة صيدا بين الإفرنج والمسلمين.
ثم قدم إلى عكا في سنة 598 ه / 1202 م جماعة من الفلمنكيين، ولحق بهم في العام التالي جماعات قليلة من الفرنسيين، فطالبوا أملريك بالسير لمقاتلة المسلمين، ولكن أملريك آثر الانتظار بعض الوقت ريثما تواتيه الفرصة لشن هجوم شامل على المسلمين. وحدث بعد ذلك أن تمكن الأسطول الإسلامي من أسر سفينتين صليبيتين من سفن قبرص بالقرب من صيدا، وأدى هذا الاعتداء من جانب المسلمين إلى تجدد الاشتباكات، ونقض معاهدة 1198م. واتخذ أملريك من هذا الحادث ذريعة لبث الغارات على الأراضي القريبة من عكا. وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بانحراف الحملة الصليبية الرابعة عن مقصده إلى الاستيلاء على القسطنطينية في سنة 600 ه / 1204 م، وأدى ذلك إلى خروج كثير من الإفرنج إلى بيزنطة. وكان من الطبيعي أن يسعى أملريك إلى طلب الصلح، ولم يكن العادل بأقل منه رغبة في ذلك، إلى حد دعاه إلى أن يقبل تنازلات إسلامية جديدة لصالح الصليبيين، إذ كان يخشى أن تتعرض مصر لهجوم موجه من القسطنطينية. وتم عقد الصلح في سنة 601 ه / سبتمبر 1204 م، وبمقتضاه تنازل للصليبيين "عن جميع المناصفات في صيدا والرملة وغيرهما، وأعطاهم ناصرة وغيرها". وهكذا قضت معاهدة سنة 1204 بأن يتقاسم الصليبيون والمسلمون موارد صيدا.
4- صيدا في عهد الملك الكامل محمد:
تجدد القتال بين المسلمين والصليبيين في سنة 614 ه / 1217م بسبب وصول إمدادات أوروبية جديدة إلى هؤلاء الصليبيين ممثلة في الحملة الصليبية الخامسة، ثم اجتمع الصليبيون في عكا، فبادر الملك العادل بالقدوم من مصر إلى الشام، فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد، وزحف الصليبيون من عكا نحوه، فتحركت قوات العادل نحو بيسان، فسار إليه الإفرنج بقصد محاربته، ولكن العادل تجنب لقاءهم لقلة عسكره، وانسحب إلى مرج الصفر بالقرب من دمشق لحشد مزيد من الجند، وفسح المجال بذلك أمال الإفرنج للعبث في البلاد، فبثوا السرايا في الأراضي الممتدة من بيسان إلى بانياس، ونهبوا القرى والحصون، ثم قصدوا صور، ومنها زحفوا إلى الشقيف، فنهبوا صيدا والشقيف، وعادوا بعد ذلك إلى عكا. وأقام الإفرنج في عكا حتى طليعة سنة 615 ه / 1218 م حيث أعدوا حملة موجهة إلى دمياط بقيادة جان دي بريين، حملتها سفن فريزية نزلت على بر الجيزة، شرقي النيل، أمام دمياط في صفر سنة 615 ه / 21 مايو 1218 م. وسقطت دمياط في أيدي الصليبيين في 27 شعبان سنة 616 ه / 5 نوفمبر سنة 1219م، وتحرج موقف السلطان الجديد الملك الكامل محمد بن العادل، فعرض على الصليبيين خلال ذلك أن يتخلوا عن دمياط ويرحلوا عن مصر في مقابل تنازله عن بيت المقدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين من مدن الساحل ما عدا الكرك، فرفضوا هذا العرض السخي، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضاً عن تخريب القدس ليعمروه بها، كما طالبوا بالكرك، فاضطر المسلمون إلى مواصلة القتال، ولم يلبث الموقف أن تحول لصالح المسلمين، وتم الصلح على أساس أن يسلم الإفرنج دمياط في 7 رجب سنة 618 ه / 1221 م. وعندما بلغت الغرب المسيحي أنباء الخسائر التي مني بها الصليبيون في مصر، صمموا على إرسال إمدادات جديدة، إلا أنه لم يصل إلى الأراضي المقدسة أعداد كبيرة من حجاج الإفرنج قبل سنة 624 ه / 1227 م، وهم الطلائع الأولى للحملة الصليبية السادسة، الذين أقاموا في عكا ينتظرون قدوم الإمبراطور فردريك الثاني الذي تولى قيادة هذه الحملة. وكانت هذه الطلائع تتلهف على القيام بعمل هام يضمن تدعيم الدفاع عن الأراضي المقدسة وذلك عن طريق إقامة تحصينات، وبينما كانت العناصر الألمانية منهم تؤسس قلعة الشقيف كانت جماعة أخرى من فرسان الاسبتارية وصليبيي الإنجليز والفرنجة والإسبان يشيّدون حصناً على جزيرة صغيرة تقع عند مدخل مدينة صيدا التي استولوا عليها بعد أن كانت مناصفة، وهذا الحصن هو المعروف اليوم بقلعة البحر، ويتكون من برجين رئيسيين يجمعهما سور. واعتبر المسلمون هذا التصرف خرقاً سافراً لشروط الهدنة التي تقضي بمناصفة صيدا. ويذكر مؤرخو الحركة الصليبية بأن البناء استغرق الفترة من يوم القديس مارتين حتى منتصف عيد الكاريم وهو الصوم الكبير، أي من 11 نوفمبر 1227 إلى 2 مارس 1228 م. وفي استيلاء الإفرنج على صيدا يقول ابن الأثير: وفي هذه السنة 625 ه خرج كثير من الإفرنج من بلادهم التي هي في الغرب من صقلية وما وراءها من البلاد إلى بلادهم التي بالشام: عكا وصور وغيرهما من ساحل الشام، فكثُر جمعهم، وكان قد خرج قبل هؤلاء جمع آخر أيضاً إلا أنهم لم تمكنهم الحركة والشروع في أمر الحرب لأجل أن ملكهم الذي هو المقدم عليهم هو ملك الألمان ولقبه أنبرور قيل معناه ملك الأمراء، ولأن المعظم كان حياً، وكان شهماً مقداماً، فلما توفي المعظم كما ذكرناه وولي بعده ابنه، وملك دمشق، طمع الإفرنج، وظهروا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين، وسورها خراب، فعمروها واستولوا عليها، وإنما تم لهم ذلك، بسبب تخريب الحصون القريبة منها: تبنين وهونين وغيرهما. ويقول المقريزي في السلوك: وفي سنة 625 ه شرع الإفرنج في عمارة صيداء وكانت مناصفة بين المسلمين والإفرنج وسورها خراب فعمروها وأزالوا من فيها من المسلمين.
لم يسع السلطان الملك الكامل محمد بعد أن بلغته هذه الأخبار السيئة إلا أن يرحل من مصر ويصل إلى نابلس، ويكتب من هناك إلى الملك الأشرف موسى وابن أخيه الناصر داوود بن المعظم عيسى يبرر لهما سبب مجيئه بقوله: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الإفرنج فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه وقد عمروا صيدا وبعض قيسارية ولم يمنعوا. ثم وصل رجال الإمبراطور فريدريك الثاني إلى عكا في إبريل سنة 1228 م / 626 ه في حين تخلَّف الإمبراطور في قبرص بعض الوقت. ثم قدم إلى عكا في سبتمبر سنة 1228، وكان الكامل محمد قد صالح أخاه الملك الأشرف، واتحدا أمام الخطر المشترك، وترددت الرسل بينهما وبين فردريك عدة مرات، واستقر الأمر في ربيع الأول سنة 626 ه / 18 فبراير سنة 1229 م على أن تتقرر الهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات، على أن يقوم الكامل بتسليم بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وتبنين وصيدا بأكملها إلى الصليبيين، واشترط الكامل أن تبقى القدس كما هي عليه من الخراب وألا يجدد الإفرنج سورها، ومنذ ذلك الحين آلت صيدا للمرة الثانية إلى الصليبيين.