معبد اشمون في صيدا
معبد أشمون:
أشمون هو إله الصحة والشفاء وشفيع صيدون، بني له معبد في عهد الملك أشمون عازار في القرن الخامس قبل الميلاد، أواخر الحكم الفارسي لفينيقيا.
يقع «معبد أشمون» على تلة تبعد مسافة 3 كلم شمال شرقي المدينة على الضفة اليسـرى لنهر الأولي، في المنطقة المعروفة اليوم باسم بستان الشيخ. كرّس هذا البناء الديني لأشمون. ويحتمل أن الأعمال البنائية الأولى في هذا المكان سابقة للعهد الفارسي (أي من أواخر القرن السابع ق.م.)، بيد أن هذا الصرح الديني لم يكتمل ولم يأخذ شكله النهائي إلا في القرن السادس ق. م. خلال حكم أسرة أشمون عزر الصيدونية. وقد بني في جوار نبع مهم ما زالت مياهه تجري شرق الموقع، وهو النبع الذي عرف في النصوص الفينيقية باسم «عين يدل». غير أن تطور طقوس العبادة وتبدلها كانا من عوامل استمرار أعمال البناء طوال قرون عدة.
إلا أن ما بقي قائماً من المعبد الأساسي (من القرنين السادس والخامس ق.م.) يكاد يقتصر على الضفّة العالية (القاعدة)، حيث كان يرتفع هيكل بناه الملك الصيدوني «بود عشترت» في أواخر القرن السادس ق.م. ويبدو أنه تعاقب في هذا المكان نفسه معبدان من مرحلتين مختلفتين: الأول من القرن الخامس ق.م. وقد نقلت منه إلى المتحف في بيروت عناصر معمارية جميلة من الرخام هي عبارة عن تيجان أعمدة على شكل مقدمَي ثورين رابضين متدابرين، وقواعد أعمدة منحوتة. ويرجح أن يكون هذا المعبد المبني وفق الطراز المعماري الفارسي، دمر أثناء ثورة المرازبة عام 351 ق.م. أما المعبد الثاني فهو من الطراز الكورنثي ولم يبق منه سوى أطلال مبعثرة.
وثمة مصطبة أخرى مبنية بحجارة كلسية أصغر حجماً من تلك المستخدمة في المعبد السابق، ربما تعود أيضاً إلى أواخر القرن السادس ق.م. من عهد أشمون عزر الثاني الذي شيد فوقها على ما يبدو معبداً لم يبق منه سوى قاعدتي عمود من الحجر الكلسي وبعض العناصر الزخرفية المعمارية. وتعود إلى هذا العهد أيضاً تلك البنى المعمارية المميزة التي يفترض أنها كانت جزءاً من مساكن خصصت للقيمين على المعبد ولزواره من الحجاج.
وهنالك مجموعة من تماثيل رخامية صغيرة تمثل أطفالاً وتحمل إهداءات طقوسية باللغة الفينيقية نقلت بدورها إلى المتحف. أما ذلك النظام المعقد من أقنية المياه في جوار المعبد فما زالت آثاره باقية في أماكنها إلى اليوم.
وفي العهد الهلينستي، استمرت ممارسة الطقوس في المعبد حيث أضيفت إليه أبنية جديدة منها المصلى الذي ما زلنا نرى فيه عرشاً كبيراً من الحجر، جانباه على شكل أبي الهول ويعرف باسم عشتروت. وفي جوار هذه القاعة آثار بناء كبير من المرحلة التاريخية نفسها تزينه منحوتات ناتئة تستلهم الميثولوجيا اليونانية.
أما في الشمال الشرقي من المصطبة الرئيسية، فبنيت في القرن الرابع ق.م. منصة أشمون المزينة بمشاهد مستوحاة من الميثولوجيا اليونانية هي اليوم في المتحف. وأمام هذه المصطبة شُيد في القرن الثاني الميلادي بناءان لم تحدد هويتهما بدقة يفصل بينهما صف من الأعمدة (من القرن الثالث) وزينت أرضيتهما بالفسيفساء الجميلة. وعلى مقربة منهما بناء مقدس يعرف باسم معبد هيجيا. وهنالك صف آخر من الأعمدة بني والكنيسة البيزنطية في القرن الرابع. بيد أن لم يبق من هذه الأخيرة سوى الأساسات وأرضية من الفسيفساء.
بُني هذا المعبد الوثني الفينيقي القديم على الضفة الجنوبية لنهر "بسترانوس" المسمى حالياً نهر الأولي، على مسافة قصيرة من مصبه في البحر الأبيض المتوسط يدعى المكان "بستان الشيخ" ولربما جاء هذا الاسم من تعريب محرف لإسم النهر "بستراتوس".
بدأت اكتشافات هذا المعبد الوثني في مطلع القرن العشرين في العصر العثماني. وتطورت وتكثفت في زمن الإنتداب الفرنسي، وبلغت أوجها بين سنتي 1963 و 1975. توقف التنقيب بعد ذلك التاريخ بسبب الحرب اللبنانية التي عرضت الموقع للنهب والإهمال.
ويعتبر هذا الموقع من أهم الآثار الفينيقية (الكنعانية) في لبنان، إذ يحوي معبداً وثنياً قديماً تُشير الإكتشافات إلى المباشرة ببنائه في القرن السابع قبل الميلاد، حين كانت مدينة صيدون (صيدا) تحت النفوذ البابلي. ولقد جرى توسيع الموقع لاحقاً وإضافة برك وأماكن للعلاج والصلاة فيه.
وفي العصرين الهيليني والروماني أُضيفت مسالك داخلية وأبنية تزينها أعمدة رخامية رومانية الطراز، ثم رُصفت أرض من القاعات والغرف بالفسيفساء في العصر البيزنطي. وبقي المكان مأهولاً وصالحاً للعبادة طوال عدة قرون، إلى أن أضرت به الزلازل الأرضية العنيفة التي ضربت فينيقيا الساحلية، وأهمها زلزال 551 الذي دمر المدن الساحلية وفي طليعتها مدينة بيروت.
وجاء الغزو الفارسي في عهد الملك هيراقيلوس ليساهم في تدمير هذا الموقع وتهجير كافة أهل الساحل الفينيقي. إذ عبرت الجيوش الفارسية المنطقة من الشمال إلى الجنوب باتجاه مدينة أُورشليم والأراضي المقدسة، ولم يكد الإستقرار يعود بعد تحرير البلاد من الفرس بجهد الملك الرومي "هيراقيلوس" حتى أطل الفتح الإسلامي سنة 634م برأسه فأفرغ مدن فينيقيا من أهلها وهجرهم إلى الريف أو دفعهم إلى الخارج عبر البحار.
وبقي هذا الموقع مهجوراً ومنسياً لثلاثة عشر قرناً ونيف، إلى أن اكتشفه لاحقاً علماء الآثار في مطلع القرن العشرين. وتخللت هذه الحقبة الطويلة من الهجر عمليات سلب ونقل لحجارة المعبد التي استعملت في تشييد أبنية مختلفة في منطقة الشوف المجاورة لمدينة صيدا.
وأهم ما في هذا الموقع الأثري معبد كان قائماً على مصطبة مرتفعة في وسط المكان، يشرف على برك الماء المقدسة والطريق الداخلية التي تعبر في أسفله بجوار نهر "بستراتوس".ومن أبرز بقايا الموقع، معبد سفلي لعشتارت يحوي عرشاً إلهياً يحيط به أسدان حجريان. وفي جوار معبد عشتار تتمدد عدة برك عميقة تُجمع فيها الماء المستقاة من نبع مجاور كان يُدعى يدلال، والتي كانت تُستخدم في طقوس التقديس وتستقبل المؤمنين الوثنيين للإغتسال والتبرك والشفاء من الأمراض. كان أشمون أحد الآلهة الثلاثة الرئيسيين عند سكان صيدون الفينيقيين، وكان ملوك صيدون وسكانها يجلونه ويقدمون له الذبائح والعطايا، ويبنون له الهياكل. يظن بأن اشمون الصيدوني مرادف للإله أدونيس في بيبلوس (جبيل) وللإله ملكارت في صور، وللإله أسكليبيوس اليوناني وللإله إسكولابيو الروماني.
وُلد أشمون من علاقة زنى بين الإله الأكبر بعل وإحدى الصبايا، فكان وسيماً وفارساً شهماً وسُمي نعمان باللغة الكنعانية (الفينيقية). وقعت الإلهة عشتارت في هواه لكنه هشم جسده وضحى بذاته ومات. لكن عشتارت الهائمة به أعادت إليه الحياة بسلطتها الإلهية، فصار إلهاً عطوفاً رحيماً يهب الملتجئين إليه السعادة ويعيد عليهم الصحة. وكان الفينيقيون يحتفلون بذكرى آلامه وموته ثم بعيد قيامته في مطلع كل ربيع.
وكان معبد أشمون بالقرب من صيدون على ضفة "بوسترينوس" مقصد حج واستشفاء يؤمه الصيداويون للتبرك بالماء المقدسة والحصول على الزيت المقدس الشافي، ويقدمون له الأضاحي والهدايا، ومنها تماثيل حجرية ومعدنية عربون شكر ووفاء لفضل أشمون الإلهي ولقد وجد المنقبون في موقع المعبد تماثيل عديدة لأطفال وإشارات للأمراض التي كانوا يعانون منها، مما دفع العلماء للقول بأن اشمون كان شافي الأطفال بامتياز. يُرمز إلى أشمون في صوره ومنحوتاته القديمة بشخص يحمل عصا تحيط بها أفعوان ذات أجنحة وبما أنه اعتبر مرادفاً لإله الطب الإغريقي اسكليبيوسن فإن رسومه اعتبرت مقدمة لشعار الأطباء المعاصر ذي العصا وألافعوان.
وتعني كلمة أشمون بالكنعانية وبالعبرية أيضاً الثامن ذلك أن هذا الإله كان في معتقد الكنعانيين أصغر أولاد الإله بعل الثمانية وكان لصيرورته إلهاً بعد موته وقيامته علة الخلاص والشفاء بعد الأيام السبعة للأسبوع التي يرمز إليها أشقاؤه السبعة. وفي هذه الصورة الميثولوجية القديمة التي سبقت المسيحية في بلاد كنعان وأرض إسرائيل نبوءة وثنية مستوحاة من الناموس الطبيعي مبشرة بخلاص البشر بالمسيح من بين الأموات.
كنيسة الموقع:
بنى المسيحيون في العصر الرومي الذي تبع انتصار قسطنطين في مطلع القرن الرابع كنيسة كبيرة أُقيمت عند مدخل المعبد الوثني، وزينت أرضها والمساحات التي بجوارها بالفسيفساء. وجد المنقبون بالقرب من آثار الكنيسة لوحة فسيفسائية شهيرة ورائعة الجمال تمثل الفصول الأربعة .فُقدت هذه اللوحة في فترة الحرب اللبنانية حين سطى اللصوص على الموقع وسرقوه.
لا يُعرف إلى اليوم شفيع هذه الكنيسة والدور الذي لعبه في العصر الرومي. لكن وجود البرك المائية بكثافة في جوارها، وظاهرة انتقال التقاليد الدينية واستمرارها من عصر إلى آخر تُرجح الإعتقاد بأنها لربما خدمت سر العماد المقدس وكانت محجاً للمرضى والمعوقين.
هُجرت الكنيسة بعد أن فرغ المكان من أهله وأفل دور مدينة صيدون. استعملت حجارة الكنيسة، كمثل حجارة المعبد الوثني، في أبنية عديدة شوفية وصيداوية. ولم تبق من الكنيسة إلا آثار قليلة مبعثرة تُشير إلى رسم أساساتها وتحمل إشارات الصليب، وفسيفساء تضم كتابات باللغة اليونانية.